تفسير سورة الأعراف

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول، فتعلق التحريم بها لفحشها، فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق. يدل على أنه هو العلة المقتضية له، وهذا دليل في جميع هذه الآيات التي ذكرناها، تدل على أنه حرمها لكونها فواحش، وحرم الخبيث لكونه خبيثا، وأمر بالمعروف لكونه معروفا، والعلة يجب أن تغاير المعلول، فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه، وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما : كانت العلة عين المعلول، وهذا محال، فتأمله.
وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم.
ومن هذا قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة. ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال : لا تقربوا الزنا ؛ فإنه يقول لكم لا تقربوه، أو فإنه منهي عنه، وهذا محال من وجهين :
أحدهما : أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة.
والثاني : أنه تعليل للنهي بالنهي !
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء : دعاء العبادة، ودعاء المسألة ؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة : هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن. كقوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقوله تعالى :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ﴾ [ يونس : ١٠٦ ] وقوله تعالى :﴿ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ﴾ [ المائدة : ٧٦ ] وقوله تعالى :﴿ أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله ﴾ [ الأنبياء : ٦٦. ٦٧ ] وقوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ﴾ [ الشعراء : ٦٩. ٧٣ ] وقوله تعالى :﴿ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ﴾ [ الفرقان : ٣ ] وقال تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ﴾ [ الفرقان : ٥٥ ].
فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمتعدي. فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم، وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يُدعَى للنفع ودفع الضر، ودعاء المسألة، ويدعي خوفا ورجاء، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
وعلى هذا فقوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ] يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية.
قيل : أعطيه إذا سألني. وقيل : أثيبه إذا عبدني، والقولان متلازمان.
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. فتأمله فإنه موضع عظيم النفع، قل من يفطن له.
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل.
ومثال ذلك : قوله :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ].
فسر «الدلوك » بالزوال، وفسره بالغروب، وحكيا قولين في كتب التفسير. وليسا بقولين، بل اللفظ يتناولهما معا. فإن الدلوك هو الميل. ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى. فمبدؤه الزوال، ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه. ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.
ومثاله أيضا : تفسير «الغاسق » بالليل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولهما لتلازمهما، فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة.
ومن ذلك : قوله عز وجل :﴿ قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ﴾ [ الفرقان : ٧٧ ].
قيل : لولا دعاؤكم إياه. وقيل : دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وعلى الأول مضافا إلى الفاعل، وهو الأرجح من القولين.
وعلى هذا : فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر، أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه، وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك : قوله تعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني أستحب لكم ﴾ [ غافر : ٦٠ ] فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر، ولهذا عقبة بقوله :﴿ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ﴾ فسر الدعاء في الآية بهذا، وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن زر نُسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر :«إن الدعاء هو العبادة ». ثم قرأ :﴿ ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ﴾ [ غافر : ٦٠ ] رواه الترمذي، وقال : حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ [ الحج : ٧٣ ] وقوله :﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا ﴾ [ النساء : ١١٧ ] وقوله :﴿ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ﴾ [ فصلت : ٤٨ ] وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة، المتضمن دعاء المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة :
أحدها : أنهم قالوا :﴿ إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.
الثاني : أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة. كقوله :﴿ وقيل لهم أينما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ﴾ [ الشعراء : ٩٢. ٩٣ ] وقوله :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] وقوله :﴿ قل يا أيها الكافرون * لا اعبد ما تعبدون ﴾ [ الكافرون : ١. ٢ ] وهو كثير في القرآن، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.
الثالث : أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله، فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها. ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.
وقوله تعالى :﴿ فادعوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ غافر : ١٤ ] هو دعاء العبادة، والمعنى : اعبدوه وحده، وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم الخليل عليه السلام :﴿ إن ربي لسميع الدعاء ﴾ [ إبراهيم : ٣٩ ] فالمراد بالسمع هنا : السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام ؛ لأنه سميع لكل مسموع.
وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب، وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب، فهو سميع لهذا ولهذا.
وأما قول زكريا عليه السلام :﴿ ولم أكن بدعائك رب شقيا ﴾ [ مريم : ٤ ] فقد قيل : إنه دعاء المسألة، والمعنى : إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال : أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا وكذا، فقال : مرحبا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته، وهذا ظاهر هنا.
ويدل عليه : أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده : من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.
وأما قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] فهذا الدعاء المشهور، وأنه دعاء المسألة، وهو سبب النزول، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا ربه، فيقول مرة : يا الله، ومرة : يا رحمن،
فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآية » قال ابن عباس رضي الله عنهما «سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده : يا رحمن يا رحيم فقالوا : هذا يزعم أنه يدعوا واحدا، وهو يدعوا مثنى مثنى، فأنزل الله هذه الآية :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾.
وقيل : إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية، كقولهم : دعوت ولدي سعيدا. وادعه بعبد الله ونحوه. والمعنى : سموا الله أو سموه الرحمن : فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري.
والذي حمله على هذا قوله :﴿ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ فإن المراد بتعدده : معنى «أي » وعمومها هاهنا تعدد الأسماء ليس إلا، والمعنى : أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما الله إما الرحمن فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمي سبحانه الأسماء الحسنى، والضمير في «له » يعود إلى المسمى، فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الآية على التسمية.
وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال، ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب.
فعلى هذا المعنى : يصح أن يكون في «تدعوا » معنى تسموا، فتأمله.
والمعنى : أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم. والله أعلم.
وأما قوله تعالى :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ﴾ [ الطور : ٢٨ ] فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة.
والمعنى : إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف :﴿ ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها ﴾ [ الكهف : ١٤ ] أي لن نعبد غيره.
وكذلك قوله تعالى :﴿ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ﴾ [ الصافات : ١٢٥ ].
وأما قوله تعالى :﴿ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوا فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾ [ القصص : ٦٤ ]. فهذا من دعاء المسألة، يبكتهم الله - عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم، وليس المراد اعبدوهم.
وهو نظير قوله تعالى :﴿ ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ﴾ [ الكهف : ٥٢ ].
وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة، وأنها : هل نقلت عن مسماها في اللغة، فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا، للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائعا ؟
وعلى ما قررناه : ولا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلى من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء : إما دعاء، عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع، فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله.
إذا عرفت هذا. فقوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه وإسراره.
قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم.
وذلك أن الله تعالى يقول :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله، وقال :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا ﴾ [ مريم : ٣ ].
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة :
أحدها : أنه أعظم إيمانا ؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال : إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
ثانيها : أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها : أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل

فصل


قال أكثر المفسرين : لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله.
فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ﴾ [ الروم : ٤١ ] وقال عطية في الآية : ولا تعصوا في الأرض، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقال غير واحد من السلف : إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم، وتقول : اللهم العنهم، فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر.
وبالجملة : فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره ومطاع متتبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين - وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل


وقوله تعالى :﴿ وادعوه خوفا وطمعا ﴾
إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع. فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية، ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا، وفصل بين الجملتين بجملتين :
إحداهما : خبرية ومتضمنة للنهي، وهي قوله :﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾.
والثانية : طلبية، وهي قوله :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾.
والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى، مؤكدتان لمضمونها.
ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا، ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية، وهي قوله :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ فتعلق هذه الجملة بقوله :﴿ وادعواه خوفا وطمعا ﴾ كتعلق قوله :{ إنه لا يحب المعتدين بقوله { ادعوا ربكم تضرعا وخفية.
ولما كان قوله تعالى :﴿ وادعوه خوفا وطمعا ﴾ مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان، وهي الحب والخوف والرجاء : عقبها بقوله : إن رحمة الله قريب من المحسنين } أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا، فهو المحسن والرحمة قريب منه ؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله :﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾.
وانتصاب قوله :«تضرعا، وخفية، وخوفا، وطمعا » قيل : هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين، وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره.
وقيل : هو نصب على المفعول له، وهذا قول كثير من النحاة.
وقيل : هو نصب على المصدر.
وفيه على هذا تقديران :.
أحدهما : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر، والمعنى : تضرعوا إليه تضرعا وأخفوا خفية.
الثاني : أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه ؛ لأنه في معنى المصدر، فإن الداعي متضرع طامع في حصول مطلوبه خائف من فواته، فكأنه قال : تضرعوا تضرعا.
والصحيح في هذا : أنه منصوب على الحال، والمعنى عليه، فإن المعنى ادعوا ربكم متضرعين إليه خائفين طامعين. ويكون وقوع المصدر موقع الاسم على حد قوله :﴿ ولكن البر من آمن بالله ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]. وقولهم : رجل عدل، ورجل صوم. قال الشاعر :
فإنما هي إقبال وإدبار ***. . .
وهو أحسن من أن يقال : ادعوه متضرعين خائفين وأبلغ. والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان : الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع. فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة، وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها، فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به.
فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت : اذكر ربك تضرعا فإنك تريد : أذكره متضرعا إليه، واذكره ذكر تضرع، فأنت مريد للأمرين معا.
ولذلك إذا قلت : ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله.
وكذلك إذا قلت : ادعه رغبة ورهبة، كقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ] كان المراد : ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة.
فتأمل هذا الباب تجده كذلك، فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال.
ومما يدل على هذا : أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف. فإذا قيل : كيف أدعوه ؟ قيل : تضرعا وخفية، وتجد اقتضاء «كيف » لهذا أشد من اقتضاء «لِمَ » ولو كان مفعولا له لكان جوابا للم، ولا تحسن هنا. ألا ترى أن المعنى ليس عليه، فإنه لا يصح أن يقال : لم أدعوه ؟ فيقول : تضرعا وخفية. وهذا واضح، ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا لكيف.
وبالجملة : فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال، بل الإتيان بالحال هاهنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال، فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما. والله أعلم.

فصل


تفسير قوله تعالى :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾.
فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته القريبة من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا، فقرب مطلوبكم منكم ( وهو الرحمة ) بحسب أدائكم لمطلوبه منكم ( وهو الإحسان ) الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم. فإن الله تعالى هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.
وقوله :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ له دلالة بمنطوقه، ودلالة بإيمائه وتعليله، ودلالة بمفهومه.
فدلالته بمنطوقه : على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمائه : على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه : على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة.
وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب، فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه.
والإحسان هاهنا هو : فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه.
فأعظم الإحسان : الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية، فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عن الإحسان ؟
فقال :«أن تعبد الله كأنك تراه »، وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمه الله قريب من صاحبه، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به، وإنما كتب رحمته ﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ]، والذين يتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم أهل الرحمة، كما أنهم هم المحسنون، وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان. و﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] يعني : هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؟
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :«قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ؟ »

فصل


وأما الإخبار عن الرحمة - وهي مؤنثة بالتاء - بقوله ﴿ قريب ﴾ وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب :
( المسلك الأول ) : أن فعيلا على ضربين :
أحدهما : يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم.
والثاني : يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح، وكف خضيب. وطرف كحيل وشعر دهين، كله بمعنى مفعول. فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيحه وصبي وصبية ومليح ومليحة وطويل وطويلة ونحوه. وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه. فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل، وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان. ومنه قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة - إلى قوله – والنطيحة ﴾ [ المائدة : ٣ ] هذا حكم فعيل، وفعول قريب منه لفظا ومعنى، فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول.
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا : جالل وعازز وذالل، فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة، ولم يأتوا في هذا بفعول ؛ لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول، فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور، والصبور، والودود، والعفو، ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة.
وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرناه وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا : رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ. فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامرأة كذلك، وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة.
فإذا تقرر ذلك : فقريب في الآية هو :«فعيل » بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام. فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء
أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه.
ثم ذكر قياسا آخر : أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة، فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضا خبيثة، لا تخرج نباتها إلا نكدا، أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض، بحصول الحياة بهذا وهذا.
وشبه القلوب بالأرض، إذا هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا تخرج نباتها به إلا قليلا، لا ينفع. .
وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر.
فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله، وتدبره بان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب، ويحسن أثر المطر عليه، فينبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه، والله الموفق.
إذا كان لا معنى عند نفاة الحكمة عند الرب، والحسنو القبح الفطريين – للمعروف : إلا ما أمر به، فصار معروفا بالأمر فقط، ولا للمنكر : إلا ما نهى عنه فصار منكرا بنهيه فقط فأي معنى لقوله تعالى :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ﴾ ؟
وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال : يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه ؟
وهذا كلام ينزه عنه كلام آحاد العقلاء، فضلا عن كلام رب العالمين.
وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحينه الفطر، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم. ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض أمره ونهيه على العقل السليم قبله أعظم قبول، وشهد بحسنه كما قال بعض الأعراب، وقد سئل : بم عرفت أنه رسول الله ؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل : ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال : ليته أمر به.
فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته.
ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل، بل كان يطلب له الدليل من غيره.
ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه.
ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به، والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه، وشواهد نبوته، ومن يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول له ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه، فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة، وجعلها مستدلا عليه فقط.
ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ [ الأعرف : ١٥٧ ] فهذا صريخ في أن الحلال كان طيبا قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه، ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم لوجهين اثنين :
أحدهما : أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال :
﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم ﴾ فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال : يحل لهم ما بحل، ويحرم عليهم ما يحرم. وهذا أيضا باطل ؛ فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.
فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيبا آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معا.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها، وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين : أن تكون بخلاف ما وردت به، وأن الله تعالى يتنزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما لا يليق به.
فشبه سبحانه من أتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق : فالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه : أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم، ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه : أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زرية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة : وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه : بالكلب في حال لهثه : سر بديع، وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه : إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له : إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت : مراده بانقطاع فؤاده : أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا : يلهث قائما، وقاعدا، وماشيا، وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.
فهكذا مشبهه : شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد : وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد إلى خيرا كالكلب إن كان رابضا، لهث، وإن طرد لهث.
وقال الحسن : هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طرد أو ترك. .
وقال عطاء : ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض، والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال : إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث. .
ونظيره قوله سبحانه :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ [ الأعراف : ١٩٣ ].
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني :
فمنها : قوله :﴿ آتيناه آياتنا ﴾ فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه ثم قال :﴿ فانسلخ منها ﴾ أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل : فسلخناه منها : ؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها : قوله سبحانه ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون :﴿ فأتبعوهم مشرقين ﴾ [ الشعراء : ٦٠ ] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته ﴿ فكان من الغاوين ﴾ العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها : أنه سبحانه قال :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم. فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى : لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولو شئنا لرفعناه بعمله.
بها وقالت طائفة : الضمير في قوله «لرفعناه » عائد على الكفر. والمعنى : لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
وقوله :﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ قال سعيد بن جبير : ركن إلى الأرض.
وقال مجاهد : سكن، وقال مقاتل رضي بالدنيا، وقال أبو عبيدة : لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال : هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب : التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.
وقال الزجاج : خلد وأخلد، وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء، ويقال :«أخلد فلان بالمكان »إذا أقام به، قال مالك بن نويرة
بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت : ومنه قوله تعالى :﴿ يطوف عليهم ولدان مخلدون ﴾ [ الواقعة : ١٧ ] أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا.
وقيل : هم المقرطون في آذانهم، والمسورون في أيديهم.
وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين.
وقوله :﴿ واتبع هواه ﴾ قال الكلبي : اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق : اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء : أراد الدنيا وأطاع شيطانه.
وقال ابن زيد : كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه.
وقال ابن يمان : اتبع امرأته، لأنها هي التي حملته على ما فعل.
فإن قيل : الاستدراك «بلكن » يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت، كما تقول : لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله :﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ بعد قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ ؟
قيل : هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات : من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وقال الزمخشري : المعنى : لو لزم آياتنا لرفعناه بها، فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها. قال : ألا ترى إلى قوله ﴿ ولكنه أخلد ﴾ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله. فوجب أن يكون : ولو شئنا في معنى : ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ.
فهذا من الزمخشري شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة، مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا.
فأين قوله :﴿ ولو شئنا ﴾ من قوله : ولو لزمها، ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله - وهو الحق - بطل أصله.
وقوله : إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات : من أفسد الكلام وأبطله، بل لزومه لآيات تابع لمشيئة الله، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة. وسبب لا مسبب، وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.
فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور، ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره، ولا يجد محيدا لقلبه عنه.
ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس، وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، فتفنى بفناءه.
Icon