تفسير سورة الرعد

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

قال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿ وما تغيض الأرحام ﴾ من التسعة أشهر ﴿ وما تزداد ﴾ ما تزيد فيها، ووافقه على هذا أصحابه، كمجاهد وسعيد ابن جبير.
وقال مجاهد أيضا : إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانا من الولد، وما تزداد، قال : إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها.
وقال أيضا : ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد، والزيادة ما زاد على تسعة أشهر وهو تمام النقصان.
وقال الحسن :﴿ ما تغيض الأرحام ﴾ : ما كان من سقط، ﴿ وما تزداد ﴾ : تلد المرأة تلد لعشرة أشهر.
وقال عكرمة :﴿ ما تغيض الأرحام ﴾ : الحيض بعد الحمل، فكل يوم رأت فيه الدم حاملا ازدادته في الأيام طاهرا، فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل.
وقال قتادة : الغيض : السقط، وما تزداد : فوق التسعة أشهر.
وقال سعيد بن جبير : إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد، فهو نقصان في غذاء الولد، وزيادة في الحمل.
«تغيض، وتزداد » فعلان متعديان مفعولهما محذوف، وهو العائد إلى «ما » الموصولة، والغيض : النقصان ومنه :﴿ وغيض الماء ﴾ [ هود : ٤٤ } وضده الزيادة.
والتحقيق في معنى الآية : أنه يعلم مدة الحمل، وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالم بذلك دونكم. كما هو العالم بما تحمل كل أنثى : هل هو ذكر أو أنثى ؟ وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، كما في «الصحيحين » عنه صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله » فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم، وعلم وقت إقامته فيه، وما يزيد من بدنه، وما ينقص.
وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام، ورؤية الدم وانقطاعه. والمقصود : ذكر مدة إقامة الحمل في البطن، وما يتصل بها من زيادة ونقصان.
شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير. يسع علما عظيما. كواد كبير يسع ماء كثيرا. وقلب صغير إنما يسع بحسبه، كواد صغير، فسالت أودية بقدرها.
واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها، وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا. فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات، ليقلعها ويذهبها، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه، فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهب بها ؛ فإنه لا يجامعها ولا يشاركها، وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال :﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾ وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتميزه، وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به، فيرمى ويطرح ويذهب جفاء، وكذلك الشهوات والشبهات يرميها العلم والهدى من قلب المؤمن ويطرحها، ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم.
كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره، ومن لم يلفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما. والله الموفق.
هذا هو المثل المائي، شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا، وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا، فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.
ولما كانت الأودية مجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل، فيطفو على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكما، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف الوادي ذالك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى ذلك منه شيء، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء، يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والضجر والدواب، والغثاء يذهب جفاء يجفى ويطرح على شفير الوادي، فكذلك العلم والإيمان، الذي أنزله في القلوب، فاحتمله، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة.
فيطفو في أعلاها، واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلوب. فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئا فشيئا حتى يزول كله ويبقى العلم النافع، والإيمان الخالص في هذا القلب، يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون.
( الطمأنينة ) : سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف :«الصدق طمأنينة والكذب ريبة » أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكونا إليه، والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«البر ما اطمأن إليه القلب » أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي «ذكر الله » ها هنا قولان :
أحدهما : أنه ذكر العبد ربه، فإنه يطمئن إليه قلبه، ويسكن، فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله.
ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه، فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين، إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه، واطمأنت، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه، يسكن إليه قلبه ويطمئن.
والقول الثاني : أن ذكر الله هاهنا القرآن، وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين. ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن. فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به، وهذا القول هو المختار.
وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى :﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ].
والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو كتابه من أعرض عنه قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل. وهو يحسب أنه على هدى.
وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى :﴿ ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ [ طه : ١٢٤ ] والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كتابه. ولهذا يقول المعرض عنه :﴿ رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه : ١٢٥. ١٢٦ ].
وأما تأويل من تأوله على الحلف ففي غاية البعد عن المقصود، فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر.
والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف، ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف.
وجعل الله سبحانه «الطمأنينة » في قلوب المؤمنين ونفوسهم، وجعل «الغبطة » و«المدحة » و«البشارة » بدخول الجنة لأهل الطمأنينة، فطوبى لهم وحسن مآب.
Icon