تفسير سورة الرعد

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

وعبرة فى العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته.
وعبرة فى ثمرة الصبر، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوما بلقاء يوسف عليه السلام «١».
السورة التي يذكر فيها «الرَّعْدُ»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يورث لقوم طلبا ثم طربا، ولقوم. حزنا ثم هربا، فمن سمع بشاهد الرجاء طلب وجود رحمته فأذنه لها طرب، ومن سمع بشاهد الرهبة حزن من خوف عقوبته ثم إليه هرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إنّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنّى أنزّل عليك فالألف تشير إلى اسم «الله»، واللام تشير إلى اسم «اللطيف»، والميم تشير إلى اسم «المجيد»، والراء تشير إلى اسم «الرحيم». فقال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنى أنزله على محمد- صلى الله عليه وسلم. ثم عطف عليه بالواو قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» هو حق وصدق، لأنه أنزله على نبيّه- صلى الله عليه وسلم.
قوله جل ذكره: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به، فهم الأكثرون عددا، والأقلون قدرا وخطرا قوله جل ذكره: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
(١) أحسن القشيري إذ جعل خاتمة السورة بمتشابة خلاصة دقيقة لها، وأوضح العبرة المستفادة من دور كل شخصية فيها.
دلّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته، ومن جملتها رفع السماوات وليس تحتها عماد يشدّها، ولا أوتاد تمسكها. وأخبر فى غير هذه المواضع أنه زيّن السماء بكواكبها، وخصّ الأرض بجوانبها ومناكبها.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» : أي احتوى على ملكه احتواء قدرة وتدبير. والعرش هو الملك حيث يقال: اندكّ عرش فلان إذا زال ملكه.
قوله جل ذكره: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى...
كلّ يجرى فى فلك. ويدلّ كل جزء من ذلك على أنه فعل ملك فى ملكه غير مشترك.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
بسط الأرض ودحاها، والجبال أرساها، وفجّر عيونها، وأجرى أنهارها، وجنّس بحارها، ونوّع من الحيوانات ما جعل البحر قرارها، وأنبت أشجارها، وصنّف أزهارها وثمارها، وكوّر عليها ليلها ونهارها.. ذلك تقدير العزيز العليم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
فمن سبخ «١» ومن حجر ومن رمل.. أنواع مختلفة، وأزواج متفقة. وزروع ونبات وأشجار أشتات، وأصل الكل واحد، فأجزاؤها متماثلة، وأبعاضها متشاكلة، ولكن جعل بعضها غدقا «٢»، وبعضها قشرا، وبعضها غصنا، وبعضها جذعا، وبعضها أزهارا، وبعضها أوراقا.. ثم الكلّ واحد، وإن كان لكلّ واحد طبع مخصوص وشكل مخصوص، ولون مخصوص وقشر مخصوص مع أنها تسقى بماء واحد إذ يصل إلى كل جزء من الشجر من الماء مقدار ما يحتاج إليه، «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ».
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
وإن تعجب- يا محمد- لقولهم فهذا موضع يتعجّب منه الخلق، فالعجب لا يجوز فى صفة الحقّ «٣»، إذ أن التعجب الاستبعاد والحقّ لا يستبعد شيئا، وإنما أثبت موضع التعجب للخلق، وحسن ما قالوا: «إنما تعجّب من حجب» لأنّ من ينل عيون البصيرة لا يتعجّب من شىء.
وقوم أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له.
وإطلاق هذا- وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة- لا يجوز، والأدب السكوت عن أمثال هذا. والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا: أعجب العجب قول ما لا يجوز فى وصفه العجم.. وإن تعجّب.
وقوله تعالى: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» : استبعادهم النشأة الثانية- مع إقرارهم بالخلق الأول وهما فى معنى واحد- موضع التعجب، إذ هو صريح
(١) السبخ المكان يظهر فيه الملح وتسوخ فيه الأقدام (الوسيط).
(٢) الغدق من العشب بالله وريه (الوسيط)
(٣) إشارة إلى ما في الآية (فعجب قولهم..).
فى المناقضة، وكان القوم أصحاب تمييز وتحصيل، فقياس مثل هذا يدعو إلى العجب. ولكن لولا أن الله- سبحانه- لبّس عليهم كما قال: «فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «١» - وإلا ما كان ينبغى أن يخفى عليهم جواز هذا مع وضوحه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
الكناية فى: «لَهُ مُعَقِّباتٌ» راجعة إلى العبد، أي أن الله وكل بكلّ واحد منهم معقبات وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضا بالليل والنهار يحفظون هذا المكلّف وذاك «٣» من أمر الله، أي من البلاء الذي بقدرة الله. يحفظونهم بأمر الله من أمر الله، وذلك أن الله- سبحانه- وكل لكلّ واحد من الخلق ملائكة يدفعون عنهم البلاء إذا ناموا وغفلو، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا... وفى جميع أحوالهم.
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ إذا غيّروا ما بهم إلى الطاعات غيّر الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا فى نعمة فغيّروا ما بهم من الشكر لله تغيّر عليهم ما منّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا فى شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا فى التضرع، وأظهروا العجر غيّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل.
ويقال إذا غيروا ما بألسنتهم من الذّكر غير الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيان
(١) آية ٩ سورة يس.
(٢) هنا وضع الناسخ علامة على سقوط مساحة من النص، ومن المؤسف أنه لا يوجد استدراك لذلك فى الهامش ويقع فى هذه المساحة تفسير للآيات من (٥ إلى ١٠) من السورة.
(٣) فى النسخة (وهذا) ولكننا آثرنا أن نجعلها (وذاك) حتى نزيد السياق إيضاحا ونمنع الليس إذ ربما يظن أن (وهذا) الثانية مبتدأ.
والغفلة، فإذا كان العبد فى بسطة وتقريب، وكشف بالقلب وترقب.. فالله لا يغيّر ما بأنفسهم بترك أدب، أو إخلال بحق، أو إلمام بذنب.
ويقال لا يكفّ ما أتاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يترك ويغيّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور «١» القلب بالنسيان وما يطيح به من العصيان. أبدل الله تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسلبه ما كان يعطيه من الإحسان.
ويقال إذا توالت المحن وأراد العبد زوالها فلا يصل إليه النّفض «٢» منها إلّا بأن يغير ما هو به فيأخذ فى السؤال بعد السكوت، وفى إظهار الجزع بعد السكون، فإذا أخذ فى التضرع غيّر ما به من الصبر «٣».
قوله: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ» : يقال إذا أراد الله بقوم بلاء وفتنة فما تعلّقت به المشيئة لا محالة يجرى.
ويقال إذا أراد الله بقوم سوءا (... ) «٤» أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، ويسعون- فى الحقيقة- فى دمهم كما قال قائلهم:
إلى حتفى مشى قدمى... إذا قدمى أراق دمى
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٢]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
كما يريهم البرق- فى الظاهر- فيكونون بين خوف وطمع خوف من إحباس المطر وطمع فى مجيئه. أو خوف للمسافر من ضرر مجىء المطر، وطمع للمقيم فى نفعه..
كذلك يريهم البرق فى أسرارهم بما يبدو فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم كالبرق فى الصفاء، وهذه أنوار المحاضرة ثم أنوار المكاشفة.
(١) وردت (حصول) وقد آثرنا أن تكون (حضور) القلب حتى تقابل (النسيان).
(٢) يقال نقض فلان من مرضه أي برىء منه (الوسيط)
(٣) سيعود القشيري إلى الإجابة عن سؤالين: متى يجوز للعبد أن يشكو ويتضرع؟ وهل هذا آية نفاد صبره أم علامة ضعفه إزاء القوة الإلهية؟.. عند حديثه عن أيوب فى سورة الأنبياء.
(٤) مشتبهة وربما كانت لفظة بمعنى (أعمى)
«خَوْفاً» : من أن ينقطع ولا يبقى، «وَطَمَعاً» : فى أن يدوم فيه نقل صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود.
ويقال «يُرِيكُمُ الْبَرْقَ» : من حيث البرهان، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان، ثم بصير إلى نهار العرفان. فإذا طلعت شموس التوحيد فلا خفاء بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس، كما قيل:
هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
ويقال تبدو لهم أنوار الوصال فيخافون أن تجنّ «١» عليهم ليالى الفرقة، فقلّما تخلو فرحة الوصال من أن تعقبها موجة الفراق «٢»، كما قيل:
أي يوم سررتنى بوصال لم «٣» تدعنى ثلاثة بصدود؟!
قوله جل ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحابَ «٤» الثِّقالَ إذا انتاب السحابة فى السماء ظلام فى وقت فإنه يعقبه بعد ذلك ضحك الرياض، فما لم تبك السماء لا يضحك الروض، كما قيل:
ومأتم فيه السماء تبكى والأرض من تحتها عروس
كذلك تنشأ فى القلب سحابة الطلب، فيحصل للقلب تردد الخاطر، ثم يلوح وجه الحقيقة، فتضحك الروح لفنون راحات الأنس، وصنوف أزهار القرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٣]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
أي الملائكة أيضا تسبح من خوفه تعالى.
قوله جل ذكره: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ
(١) مصوبة هكذا فى الهامش، والمعنى ينقبلها وبرفض (ثمن) التي فى المتن. [.....]
(٢) وردت (القرآن) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (كم)
(٤) وردت (الصحاب) بالصاد وهى خطأ.
يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قد يكون فى القلب حنين وأنين، وزفير وشهيق. والملائكة إذا حصل لهم على قلوب المريدين- خصوصا- اطلاع يبكون دما لأجلهم، لا سيّما إذا وقعت لواحد منهم فترة، والفترة فى هذه الطريقة الصواعق التي يصيب بها من يشاء، وكما قيل:
ما كان ما أوليت من وصلنا إلا سراجا لاح «١» ثم انطفا
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
دواعى الحق تصير لائحة فى القلوب من حيث البرهان فمن استمع إليها بسمع الفهم، استجاب لبيان العلم. وفى مقابلتها دواعى الشيطان «٢» التي تهتف بالعبد بتزيين المعاصي، فمن أصغى إليها بسمع الغفلة استجاب لصوت «٣» الغىّ، ومعها دواعى النّفس وهى قائدة للعبد بزمام الحظوظ، فمن ركن إليها ولاحظها وقع فى هوان الحجاب.
ودواعى الحقّ تكون بلا واسطة ملك، ولا بدلالة عقل، ولا بإشارة علم، فمن أسمعه الحقّ ذلك استجاب لا محالة لله بالله.
قوله جل ذكره: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ هواجس النّفس ودواعيها تدعو- فى الطريقة- إلى الشّرك، وذلك بشهود شىء منك، وحسبان أمر لك، وتعريح فى أوطان الفرق، والعمى عن حقائق الجمع.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
(١) وردت (راح) بالراء والمعنى لا يتقلبها فاخترنا (لاح) لأنها أقرب فى المعنى والخط.
(٢) وردت (السلطان) وهى خطأ في النسخ.
(٣) وردت (لصورت) والراء زائدة كما هو واضح.
المؤمن يسجد لله طوعا، وإذا نزل به ضر ألجأه إلى أن يتواضع ويسجد، وذلك معنى سجوده كرها- وهذا قول أهل التفسير. والكافر يسجد طائعا مختارا، ولكن لمّا كان سجوده لطلب كشف الضّرّ قال تعالى: إنه يسجد كرها وعلى مقتضى هذا كلّ من يسجد لابتغاء عوض أو لكشف محنة.
ويقال السجود على قسمين: ساجد بنفسه وساجد بقلبه فسجود النّفس معهود «١»، وسجود القلب من حيث الوجود.. وفرق بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه.
ويقال الكلّ يسجدون لله إمّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار: سجود من حيث الدلالة على الوحدانية فكلّ جزء من عين أو أثر فعلى الوحدانية شاهد، وعلى هذا المعنى لله ساجد. وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
سلهم- يا محمد- من موجد السماوات والأرض ومقدّرها، ومخترع ما يحدث فيها ومدبّرها؟ فإن أسكتهم عن الجواب ما استكنّ فى قلوبهم من الجهل فقل الله منشيها ومجريها.
ثم قال: «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» : يعنى الأصنام، وهى جمادات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، ويلتحق فى المعنى بها كلّ من هو موسوم برقم الحدوث، فمن علّق قلبه بالحدثان ساوى- من وجه- من عبد الأصنام، قال تعالى: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «٢».
(١) أي السجود فى الصلوات العادية بالنسبة للكافة، وأما سجود القلب فللخاصة.
(٢) آية ١٠٦ سورة يوسف.
قوله جل ذكره: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الأعمى من على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصير من كحلّ الحقّ بصيرة سرّه بنور التوحيد.. لا يستويان! ثم هل تستوى ظلمات الشّرك وأنوار التوحيد؟ ومن جملة النور الخروج إلى ضياء شهود التقدير.
قوله جل ذكره: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي لو كان له شريك لوجب أن يكون له ند مضاه، وفى جميع الأحكام له مواز، ولم يجد حينئذ التمييز بين فعليهما.
وكذلك لو كان له ند.. فإنّ إثباتهما شيئين اثنين يوجب اشتراكهما فى استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضا مستحقا له، وهذا يؤدى إلى ألا يعرف المحلّ.. وذلك محال.
قوله جل ذكره: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «كُلِّ شَيْءٍ» تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطب لا يدخل فى الخطاب.
«وَهُوَ الْواحِدُ» : الذي لا خلف عنه ولا بدل «١»، الواحد الذي فى فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلّ أحد، ويستعين به كل أحد.
و «الْقَهَّارُ» : الذي لا يجرى يخلاف حكمه- فى ملكه- نفس.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
(١) وردت (يدل) بالياء وهى خطأ فى النسخ.
223
هذه الآية تشتمل على أمثال ضربها الله لتشبيه القرآن المنزّل بالماء المنزّل من السماء، وشبّه القلوب بالأودية، وشبّه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بالزّبد الذي يعلو الماء، وشبّه الخلق «١» بالجواهر الصافية من الخبث كالذهب والفضة والنحاس وغيرها، وشبّه الباطل بخبث هذه الجواهر. وكما أن الأودية مختلفة فى صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء فى القلة والكثرة- كذلك القلوب تختلف فى الاحتمال على حسب الضعف والقوة. وكما أن السيل إذا حصل فى الوادي يطهّر الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حفظه فى القلوب نفى الوساوس والهوى عنها، وكما أنّ الماء، قد يصحبه ما يكدره، ويخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفهم القرآن فى قلوب المؤمنين حين تخلص من نزغات الشيطان ومن الخواطر الرّديّة، فالقلوب بين صاف وكدر.
وكما أنّ الجواهر التي تتخذ منها الأوانى إذا أذيبت خلصت من الخبث كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقّ ويضمحل الباطل.
ويقال إن الأنوار إذا تلألأت فى القلوب نفت آثار الكلفة، ونور «٢» اليقين ينفى ظلمة الشك، والعلم ينفى تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفى أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفى آثار البشرية،
(١) هكذا فى المصورة ونرجح أنها (الحق) ليقابل (الباطل) كما تقابل الجواهر الصوفية الخبث- ويزيد من قوة هذا الترجيح ما سيأتى بعد قليل عند (التمييز بين الحق والباطل).
(٢) وردت (ونون) وهى خطأ فى النسخ.
224
وأنوار الجمع تنفى آثار التفرقة. وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوع الشمس من حيث العرفان تنفى صدفة الليل من حيث حسبان أثر الأغيار.
ثم الجواهر التي تتخذ منها الأوانى مختلفة فمن إناء يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره- كذلك القلوب تختلف، وفى الخبر: إن لله تعالى أوانى وهى القلوب» فزاهد قاصد ومحب واجد، وعابد خائف وموحّد عارف، ومتعبّد متعفّف ومتهجّد متصوف، وأنشدوا:
ألوانها شتّي الفنون وإنما تسقى بماء واحد من منهل
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
«الْحُسْنى» «١» : الوعد بقبول استجابتهم، وذلك من أجلّ الأشياء عندهم فلا شىء أعزّ على المحبّ من قبول محبوبه منه شيئا.
أما الذين لم يستجيبوا له فلو أنّ لهم جميع ما فى الأرض وأنفقوه عمدا لا يقبل منهم، ولهم سوء الحساب، وهو المناقشة فى الحساب، ثم مأواهم جهنم ودوام العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٩]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
«٢» استفهام فى معنى النفي، أي لا يستوى البصير والضرير، ولا المقبول بالمردود بالحجبة، ولا المؤمّل بالتقريب بالمعرّض للتعذيب، ولا الذي أقصيناه عن شهودنا بالذي هديناه
(١) يرى النسفي أن (الحسنى) هنا صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى.
(٢) أخطأ الناسخ إذ جعلها (أفلم).
بوجودنا. إنما يتّعظ من عقله له تشريف، دون من عقله له سبب إقصاء وتعنيف.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٠]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠)
«١» الوفاء بالعهد باستدامة العرفان، والوفاء بشرط الإحسان، والتوقّى من ارتكاب العصيان بذلك أبرم العقد يوم الميثاق والضمان.
وميثاق قوم ألا يعبدوا شيئا سواه، وميثاق قوم ألا يسألوا سواه قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢١]
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
«٢» الذين يصلون الإيمان به بالإيمان بالأنبياء والرسل.
ويقال الذين يصلون أنفاسهم بعضا ببعض فلا يتخلّلها نفس لغير الله، ولا بغير الله، ولا فى شهود غير الله.
ويقال يصلون سيرهم بسراهم فى إقامة العبودية، والتبرّى من الحول والقوة.
وقوله: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» : الخشية لجام يوقف المؤمن عن الرّكض فى ميادين الهوى، وزمام يجرّ إلى استدامة حكم التّقى.
وقوله: «وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٢]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)
الصبر يختلف باختلاف الأغراض التي لأجلها يصبر الصابر، فالعبّاد يصبرون لخوف العقوبة، والزهاد يصبرون طمعا فى المثوبة، وأصحاب الإرادة هم الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وشرط هذا النوع من الصبر رفض ما يمنع من الوصول، واستدامة التوقي منه،
(١) أخطأ النساخ إذ جعلها (والذين). [.....]
(٢) هذه الآية مستدركة فى هامش الورقة بعد أن سقطت من المتن.
فيدخل فيه ترك الشهوات، والتجرد عن جميع الشواغل والعلاقات، فيصبر عن العلة والزّلة.
وعن كل شىء يشغّل عن الله.
ومما يجب عليه الصبر الوقوف على حكم تعزّز الحق، فإنّه- سبحانه- يتفضّل على الكافة من المجتهدين، ويتعزز- خصوصا- على المريدين، فيمنحهم الصبر فى أيام إرادتهم، فإذا صدقوا فى صبرهم جاد عليهم بتحقيق ما طلبوا.
قوله جل ذكره: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً.
الأغنياء ينفقون أموالهم. والعبّاد ينفقون نفوسهم ويتحملون صنوف الاجتهاد، ويصبرون على أداء الفرائض والأوراد. والمريدون ينفقون قلوبهم فيسرعون إلى أداء الفرائض والأوراد ويصبرون إلى أن يبوح علم من الإقبال عليهم. وأمّا المحبون فينفقون أرواحهم..
وهى كما قيل:
ألست لى خلفا؟ كفى شرفا فما وراءك لى قصد ومطلوب.
قوله جل ذكره: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ يعاشرون الناس بحسن الخلق فيبدأون بالإنصاف ولا يطلبون الانتصاف، وإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء، وإن أذنب إليهم قوم اعتذروا عنهم، وإن مرضوا عادوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
يتم النعمة عليهم بأن يجمع بينهم وبين من يحبون صحبتهم من أقاربهم وأزواجهم، وقد ورد فى الخبر: «المرء مع من أحبّ» فمن كان محبوبه أمثاله وأقاربه حشر معهم، ومن كان اليوم بقلبه مع الله، فهو غدا مع الله، وفى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى»، وهذا فى العاجل، وأمّا فى الآجل، ففى الخبر: «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة».
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٥]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
من كفر بعد إيمانه نقض عهد الإسلام فى الظاهر، ومن رجع إلى أحكام العادة بعد سلوكه طريق الإرادة، فقد نقض عهده فى السّرّاء فهذا مرتدّ جهرا، وهذا مرتدّ سرّا، والمرتد جهرا عقوبته قطع رأسه، والمرتد سرّا عقوبته قطع سرّه.
وقوله: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»، هو نقض قوله: «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ».
ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وترك الاكتفاء بالله الجبّار.
ويقال نقض العهد الرجوع إلى الاختبار والتدبير بعد شهود الأقدار، وملاحظة التقدير.
ويقال نقض العهد بترك نفسه، ثم يعود إلى ما قال بتركه.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
يبسط الرزق للأغنياء ويطالبهم بالشكر ويضيّق على الفقراء ويطالبهم بالصبر
وعد الزيادة للشاكرين، ووعد المعيّة للصابرين. للأغنياء الأموال بمزيدها، وللفقراء التجرد فى الدارين عن طريقها وتليدها.
قوله جل ذكره: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ فرح الأغنياء بزكاء أموالهم، وفرح الفقراء بصفاء أحوالهم.
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» قليل بالإضافة إلى ما وعدهم الله فأموال الأغنياء- وإن كثرت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من وجود أفضاله، وأحوال الفقراء- وإن صفت- قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
«يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» : وهم الذين لم يشهدوا ما أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الشواهد والبرهان حتى (... ) «١» الزيادة.
«وَيَهْدِي من يشاء» : وهم الذين أبصروا بعيون أسرارهم ما خصّ به من الأنوار فسكنوا بنور استبصارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٨]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
قوم اطمأنت قلوبهم بذكرهم الله، وفى الذكر وجدوا سلوتهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم. وقوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فذكرهم الله- سبحانه- بلطفه، وأثبت الطمأنينة فى قلوبهم على وجه التخصيص لهم.
(١) مشتبهة.
ويقال إذا ذكروا أنّ الله ذكرهم استروحت قلوبهم، واستبشرت أرواحهم، واستأنست أسرارهم، قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» لما نالت بذكره من الحياة، وإذا كان العبد لا يطمئن قلبه بذكر الله، فذلك لخلل فى قلبه، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٩]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
طابت أوقاتهم وطابت نفوسهم.
ويقال طوبى لمن قال له الحقّ: طوبى.
طوبى لهم فى الحال، وحسن المآب فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
لئن أرسلناك بالنبوة إليهم فلقد أرسلنا قبلك كثيرا من الرسل، ولئن أصابك منهم بلاء فلقد أصاب من قبلك كثير من البلاء، فاصبر كما صبروا تؤجر كما أجروا.
قوله جل ذكره: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ لئن كفروا بنا فآمن أنت، وإذا آمنت فلا تبال بمن جحد، فإنّك أنت المقصود من البريّة، والمخصوص بالرسالة والمحبة.
لو كان يجوز فى وصفنا أن يكون لنا غرض فى أفعالنا.
ولو كان الغرض فى الخلقة فأنت سيد البشر، وأنت المخصوص من بين البشرية بحسن الإقبال «١»، فهذا مخلوق يقول فى مخلوق:
(١) هذه أقصى درجة فى التصور لشخصية الرسول صلوات الله عليه- في نظر هذا الصوفي.. قارن ذلك بأقوال باحت آخر كابن عربى أو الجبلي عن «الإنسان الكامل»، لتلحظ الفرق الهائل بين الاتجاهين.
وكنت أخّرت أو طارى لوقت فكان الوقت وقتك والسلام
وكنت أطالب الدنيا بحبّ فكنت الحبّ.. وانقطع الكلام
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
لو كان شىء من المخلوقات يظهر بغيرنا فى الإيجاد لكان يحصل بهذا القرآن، ولكن المنشئ الله، والخير والشر جملة من الله، والأمر كله لله. فإذا لم يكن شىء من الحدثان بالقرآن- والقرآن كلام الله العزيز- فلا تكون ذرة من النفي والإثبات لمخلوق.. فإن ذلك محال.
قوله جل ذكره: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً معناه أفلم يعلم الذين آمنوا، ويقال أفلم ييأسوا من إيمانهم وقد علموا أنه من يهديه الحق فهو المهتدى؟
قوله جل ذكره: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ يعنى شؤم كفرهم لا يزال واصلا إليهم، ومقتص «١» فعلهم لاحق بهم أبدا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
(١) من (اقتص) والقصاص أن يوقع على الجاني مثل ماجنى.
أنزل هذه الآية على جهة التسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم- عما كان يلاقيه منهم.
وكما أن هؤلاء فى التكذيب جروا على نهجهم فنحن أدمنا سنّتنا فى التعذيب معهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٣]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
الجواب فيه مضمر أي أفمن هو مجرى ومنشئ الخلق والمطّلع عليهم، لا يخفى عليه منهم شىء كمن ليس كذلك؟ لا يستويان غدا أبدا.
قوله جل ذكره: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ قل لهم أرونى أي تأثير منهم، وأي نفع لكم فيهم، وأي ضرر لكم منهم؟ أتقولون ما يعلم الله بخلافه؟ وهذا معنى قوله: «بِما لا يَعْلَمُ».
قوله جل ذكره: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
أي قد تبين لكم أن ذلك من كيد الشيطان، وزين للذين كفروا مكرهم، وصاروا مصدودين عن الحق، مسدودة عليهم الطّرق، فإنّ من أضلّه حكمه- سبحانه- لا يهديه أحد قطعا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
المثل أي الصفة، فصفة الجنة التي وعد المتقون هى أنها جنة تجرى من تحتها الأنهار، وأكلها دائم وظلها دائم، أي أن اللذات فيها متصلة. وإنما لهم جنات معجلة ومؤجلة، فالمؤجّلة
ما ذكره الله- سبحانه- فى نص القرآن، والمعجلة جنة الوقت «١».. والدرجات- من حيث البسط- فيها متصلة، ونفحات الأنس لأربابها لا مقطوعة ولا ممنوعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
يريد بهم مؤمنى أهل الكتاب الذين كانوا يفرحون بما ينزل من القرآن لصدق يقينهم.
وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي الأحزاب الذين قالوا كان محمد يدعو إلى إله واحد، فالآن هو ذا يدعو إلى إلهين لمّا نزل: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» «٢».
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ.
قل يا محمد: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ». والعبودية المبادرة إلى ما أمرت به، والمحاذرة «٣» مما زجرت عنه، ثم التبرّى عن الحول والمنّة، والاعتراف بالطول والمنّة.
وأصل العبودية القيام بالوظائف، ثم الاستقامة عند روح اللطائف.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
أي حكما ببيان العرب لأنّ الله تعالى أرسل الرسل فى كلّ وقت كلا بلسان قومه ليهتدوا إليه.
ويقال من صفات العرب الشجاعة والسخاء ومراعاة الذّمام وهذه الأشياء مندوب إليها فى الشريعة.
(١) أي جنة أرباب الأحوال... هنا فى هذه الدنيا
(٢) آية ١١٠ سورة الإسراء ومنهم كعب بن الأشرف والسيد والعاقب وأشياعهم.
(٣) وردت (المحاضرة) بالضاد وهى خطا فى النسخ كما هو واضح من السياق.
«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» : أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووقعت على قلبك حشمة من غير الله- فمالك من واق من الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)
أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى قومهم، فلم يكونوا إلا من جنسك، وكما لكم أزواج وذرية كانت لهم أزواج وذرية، ولم يكن ذلك قادحا فى صحة رسالتهم، ولا تلك العلاقات كانت شاغلة لهم.
ويقال إن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الأشغال لا تؤثر فى حاله ولا يضره ذلك.
قوله جل ذكره: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ.
أي لكل شىء أجل مثبت فى كتاب الله وهو المحفوظ، وله وقت قسم له، وأنه لا اطلاع لأحد على علمه، ولا اعتراض لأحد على حكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٩]
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
المشيئة لا تتعلق بالحدوث، والمحو والإثبات متصلان بالحدوث.
فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، وقوله وحكمه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله المحو يرجع إلى العدم، والإثبات إلى الإحداث، فهو يمحو من قلوب الزّهاد حب الدنيا ويثبت بدله الزهد فيها، كما فى خبر حارثة: «عزفت نفسى عن الدنيا فاستوى عندى حجرها وذهبها» «١».
(١) سأل النبي (ص) حارثة. لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا...... ، خرجنا هذا الحديث فى هامش سابق.
234
ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظ، ويثبت بدلها حقوقه تعالى، ويمحو عن قلوب الموحّدين شهود غير الحق ويثبت بدله شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية.
ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق.
ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقّ فيكون محوا عن الخلق مثبتا بالحق للحق.
ويقال يمحو العبد فلا يجرى عليه حكم التدبير، ويكون محوا بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطان التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء.
ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذكر الحق، ويثبت بدله غلبات الغفلة وهواجم النسيان.
ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوع إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة.
ويقال يمحو أو ضار الزّلّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين (ويثبت) «١» يدل ذلك لوعة النّدم، وانكسار الحسرة، والخمود عن متابعة الشهوة.
ويقال يمحو عن ذنوبهم السيئة، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ».
ويقال يمحو الله نضارة الشباب ويثبت ضعف المشيب.
ويقال يمحو عن قلوب الراغبين فى مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلا منه الزهد فى صحبتهم والاشتتغال بعشرتهم.
ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صفت من الغيب «٢»، وليال كانت مضاءة بالزلفة والقربة ويثبت بدلا من ذلك أياما هى أشدّ ظلاما من الليالى الحنادس «٣»، وزمانا يجعل سعة الدنيا عليهم محابس.
(١) سقطت هذه اللفظة من الناسخ.
(٢) من (الغيب) يكون المعنى أن الأيام التي كانت تمنح لهم من الغيب صافية، ولكننا لا نستبعد أنها قد تكون (الغيم) على معنى خلو تلك الأيام من كل كدورة بدليل المقابلة التي وردت فيما بعد.
(٣) جمع حندس أي شديد السواد.
235
ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم فى وقت آخر بلطف جماله.
ويقال يمحوهم إذا تجلّى لهم، ويثبتهم إذا تعزّز عليهم.
ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار.
قوله جل ذكره: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به علمه وحكمه مما لا تبديل ولا تغيير فيه.
ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٠]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
نفى عنه الاستعجال أمرا، و (....) «١» فى قلوبهم أنه يوشك أن يجعل الموعود جهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
فى التفاسير: بموت العلماء، وفى كلام أهل المعرفة بموت الأولياء، الذين إذا أصاب الناس بلاء ومحنة فزعوا إليهم فيدعون الله ليكشف البلاء عنهم.
ويقال هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشد فى طريق الله لم يجد من يهديه إلى الله.
ويقال: فى كل زمان لسان ينطق عن الحقّ سبحانه «٢»، فإذا وقعت فترة سكن ذلك اللسان- وهذا هو النقصان فى الأطراف الذي تشير إليه الآية، وأنشد بعضهم:
طوى العصران ما نشراه منى وأبلى جدتى نشر وطيّ
(١) مشتبهة.
(٢) يتصل ذلك بفكرة القطب والأوتاد والأبدال.
أرانى كلّ يوم فى انتقاص ولا يبقى مع النقصان شىّ
ويقال ينقصها من أطرافها أي بفتح المدائن وأطراف ديار الكفار، وانتشار الإسلام، قال تعالى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «١».
ويقال ينقصها من أطرافها بخراب البلدان، قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» «٢» وقال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» «٣» فموعود الحقّ خراب العالم وفناء أهله، ووعده حقّ لأن كلامه صدقّ، والله يحكم لا معقّب لحكمه، ولا ناقض لما أبرمه، ولا مبرم لما نقضه، ولا قابل لمن ردّه، ولا رادّ لمن قبله، ولا معزّ لمن أهانه، ولا مذلّ لمن أعزّه.
«وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» : لأن ما هو آت فقريب.
ويقال «سَرِيعُ الْحِسابِ» فى الدنيا لأنّ الأولياء إذا ألموا بشىء، أو همّوا لمزجور عوتبوا فى الوقت، وطولبوا بحسن الرّجعى.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٢]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
مكرهم إظهار الموافقة مع إسرارهم الكفر، ومكر الله بهم توّهمهم أنهم محسنون فى أعمالهم، وحسبانهم «٤» أنهم سنأ من أحوالهم، وظنّهم أنه لا يحيق بهم مكرهم، وتخليته إياهم- مع مكرهم- من أعظم مكره بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
(١) آية ٢٨ سورة الفتح. [.....]
(٢) آية ٨٨ سورة القصص.
(٣) آية ٢٦ سورة الرحمن.
(٤) وردت (وحسناتهم) وهى خطأ فى النسخ.
Icon