تفسير سورة سورة الرعد من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿المر﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود على الحدود ﴿لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ يوم القيامة ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ ويا له من مدبر حكيم، وخالق عليم ترى الشيء فيهولك مظهره، ويسوؤك مخبره، ولو نظرت إليه نظر العاقل البصير، والناقد الخبير؛ لوجدت الخير كل الخير فيما وقع؛ فنعم المدبر العظيم، والخالق الكريم ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ يبين لكم دلائل قدرته، ومظاهر ربوبيته
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ﴾ بسطها رأي العين، وجعلها سهلة ذلولاً ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابت ﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي صنفين: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وكبير وصغير، وغير ذلك ﴿يُغْشِي﴾ يغطي ﴿الْلَّيْلَ النَّهَارَ﴾ بظلمته ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ﴾ دلالات على وحدانيته تعالى
﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ يريد سبحانه وتعالى أن في الأرض قطعاً متجاورة ومتماثلة: تسقى بماء واحد؛ فتنتج هذه الحامض، وهذه الحلو، وتلك الرطب، والأخرى اليابس؛ إلى غير ذلك مما لا يحصره بيان، ولا يعوزه برهان ﴿وَجَنَّاتٌ﴾ بساتين
-[٢٩٧]- ﴿مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ (انظر آية ٢٦٦ من سورة البقرة) ﴿صِنْوَانٌ﴾ جمع صنو؛ وهو المثل: وهي النخلات، والنخلتان؛ يجمعهن أصل واحد، وقد يراد به: الشجر المتماثل، وغير المتماثل ﴿يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ﴾ ولكنه ينتج ثمراً مختلفاً، وطعوماً متباينة ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾ في الثمر؛ إذ ليس التمر كالعنب أو الخوخ كالتفاح، أو التوت كالرمان أو الكمثرى كالمشمش
﴿وَإِن تَعْجَبْ﴾ يا محمد من شيء
﴿فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً﴾ في قبورنا ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي أنبعث بعد ذلك في خلق جديد كما كنا قبل موتنا؟
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ ذلك بأنهم سألوا رسول الله أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ﴾ أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين؛ أفلا يتعظون بها؟ ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ﴾ متى تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى ربهم ﴿عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب: قيل: إنها أرجى آية في كتاب الله تعالى ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن ظلم نفسه بالذنب، ولم يقلع عنه، أو يتب منه. أو شديد العقاب للكافرين
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى﴾ ذكراً كان أو أنثى، شقياً أو سعيداً، بليداً أو رشيداً، مليحاً أو قبيحاً، طويلاً أو قصيراً ﴿وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ﴾ أي وما تنقص؛ وذلك بإلقاء الجنين قبل تمامه ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ بزيادة عدد الولد؛ فقد تلد الأنثى واحداً، أو اثنين، أو ثلاثاً، أو أربعاً ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ بقدر وحكمة؛ حيث تتوفر المصلحة، وتعم المنفعة؛ فترى الكون لا يضيق بساكنيه، لا ينقطع رزقه تعالى عمن خلقه ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وتتجلى حكمة الحكيم العليم في حفظ التوازن بين تعداد السكان وحاجاتهم؛ فترى دائماً عقب الحروب، والجوائح، والكوارث والطواعين: تزداد نسبة المواليد عنها أيام السلام، والأمن، والدعة. وترى أيضاً نسبة الذكورة والأنوثة لا تكاد تتفاوت إلا بالقدر الذي أبيح من أجله تعدد الزوجات.
وترى الطفل حين يولد: يدر له الثدي لبناً خاثراً؛ يسمى اللبأ. وهو خلو من المواد الغذائية؛ مع احتوائه على مواد ملينة؛ تساعد على تنظيف أمعاء الطفل، وإعداده للتغذي؛ وبعد ذلك يتطور اللبن: كماً وكيفاً؛ وتزداد قيمته الغذائية بازدياد الطفل ونموه؛ فكلما كبر سنه ازدادت المواد الغذائية تبعاً لحاجته إليها، فتطغى المواد الدهنية والسكرية على المواد الزلالية والملحية؛ كل هذا والمرضع هي هي لم تتغير، وغذاءها هو هو لم يتطور؛ ولكنه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.
-[٢٩٨]- وترى شجر البوادي في فصل الشتاء، وتوفر الرطوبة والأمطار: مجدباً قاحلاً؛ وفي فصل الصيف مع وجود الحرارة المحرقة، وقلة المياه، وانعدام الأمطار؛ تراه مزدهراً يانعاً مكسواً بالورق؛ فائضاً بالخضرة وما ذاك إلا ليستظل به من حرارة الشمس من ألهبته أشعتها وأحرقته نيرانها؛ مع أن الطبيعة تقتضي وجود الخضرة حيث يتوفر الماء والرطوبة، ووجود القحل حيث توجد الحرارة وتقل الأمطار؛ فسبحان من ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾. وترى فاكهة الشتاء لا تصلح للصيف، وفاكهة الصيف لا تصلح للشتاء
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ما غاب، وما شوهد
﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ﴾ أخفاه عن الأسماع ﴿وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ لأنه تعالى عالم السر والنجوى، و «يعلم السر وأخفى» ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ﴾ متوار عن الأنظار في ظلمة الليل؛ بمعصية الله تعالى من هو ﴿وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ ذاهب في سربه؛ أي في طريقه؛ يعصي ربه جهراً في ضوء النهار. لا يخفى على الله تعالى منهم شيء
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ ملائكة تعتقب في المحافظة عليه؛ وكتابة سيئاته وحسناته ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ أمامه ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظ حسناته وسيئاته ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من العافية والنعمة ﴿حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من الطاعات ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ يلي أمرهم، ويدفع عنهم عذاب الله تعالى الذي أراده بهم
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته: خوفاً من نزول الصواعق، وطمعاً في نزول المطر ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾ في وجوده وقدرته؛ وينكرون إرساله محمداً، وينكرون قدرته على بعث الخلائق وإعادتهم ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ أي شديد الكيد والقوة
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾
أي إن دعوته تعالى إلى معرفته، وإلى اتباع دينه؛ ملابسة للحق، محانبة للباطل ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدونهم ﴿مِّن دُونِهِ﴾ غيره ﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾ لا يجيبونهم إلى شيء يطلبونه منهم ﴿إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ﴾ أي إلا كاستجابة الماء لمن يبسط كفيه له ﴿لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ لأن الماء لا يعقل ولا يسمع، ولا يحس. أو كمن يبسط كفيه ليحمل بهما الماء ليشرب؛ فلا يستجيب له الماء، ولا تحمله كفاه إليه بسبب بسطهما ﴿وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ﴾ عبادتهم ﴿إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ ضياع لا منفعة فيه
﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً﴾ بالدليل والحجة والبرهان ﴿وَكَرْهاً﴾ بالسيف والقتال ﴿وَظِلالُهُم﴾ أي ويسجد له تعالى ظلال كل من في السموات والأرض ﴿بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ قيل: يسجد له تعالى ظل كل شيء قبل طلوع الشمس، وفي العشي كذلك
﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾ غيره ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ أصناماً تعبدونها وتخلصون لها ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ الكافر والمؤمن، أو الصنم الذي لا يرى ولا يسمع، والله السميع البصير ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ﴾ الكفر والجهل ﴿وَالنُّورُ﴾ الإيمان والعلم. (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ خلق الله تعالى، وخلق شركائه الذين أشركوهم معه تعالى في العبادة
﴿أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ بمقدارها؛ الذي علم الله تعالى أنه صالح لها، وغير ضار بها ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً﴾ وهو ما علا على وجه الماء من الرغوة والأقذار ﴿رَّابِياً﴾ منتفخاً مرتفعاً على وجه السيل ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾
كالذهب والفضة ﴿ابْتِغَآءَ﴾ مبتغين صنع ﴿حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ من الحديد والنحاس والرصاص وأمثالها؛ مما يتخذ منه الأواني، ويتمتع به في السفر والحضر ﴿زَبَدٌ مِّثْلُهُ﴾ أي خبث لا ينتفع به؛ كالزبد الذي فوق الماء ﴿كَذَلِكَ﴾ أي مثل هذه الأمثال ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ أي يضرب أمثالاً لهما ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ﴾ الذي هو مثل للباطل ﴿فَيَذْهَبُ جُفَآءً﴾ باطلاً، ملقى به ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ من الماء النقي، والجواهر، والمعادن الخالصة الصافية؛ وهي مثل للحق ﴿فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ يمكث الماء الصافي فتسقى منه الأناس والأنعام، وتسقى منه الأرض؛ فتجود بالبركات والخيرات. ويمكث المعدن النقي فتصنع منه الحلي، والأوعية، والآنية، والآلات النافعة
﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ﴾ وآمنوا به، وصدقوا رسله، وعملوا بما في كتبه؛ فأولئك لهم ﴿الْحُسْنَى﴾ الجنة ﴿وَالَّذِينَ﴾ كفروا به تعالى، و ﴿لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ﴾ وعصوا رسله؛ فأولئك ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ من مال وعقار ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أضعافاً مضاعفة ﴿لاَفْتَدَوْاْ بِهِ﴾ أنفسهم يوم القيامة من عذاب الجحيم ويومئذ لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ﴾ يأخذهم تعالى بذنوبهم جميعها فلا يغفر منها شيئاً ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس الفراش.
﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ القرآن ويعتقد أنه ﴿الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ عن الحق؛ وهو الكافر ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ أصحاب العقول
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ الذي واثقوا به الناس (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة و٧٢ من سورة الأنفال)
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من الأرحام، والقرابات، وغيرها ﴿وَيَخْشَوْنَ﴾ يخافون غضبه وعقابه؛ فلا تصدر أعمالهم إلا بما رضيه وأمر به، ولا تنعقد نياتهم إلا بما يجب
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ طلباً لمرضاته تعالى ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ أدوها في أوقاتها ﴿وَأَنْفَقُواْ﴾ في وجوه الخير والبر ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ هذا وفضل الصدقة دائماً يكون في السر؛ حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه؛ بعداً عن التظاهر، وبراءة من الرياء، ويستحب فيها العلن إذا قصد به اقتداء الغير؛ وترويضه على الإنفاق. وقيل: يستحب السر في الصدقة؛ والجهر في الفريضة ﴿وَيَدْرَءُونَ﴾ يدفعون ﴿بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ بأن يقابلوا الجهل بالعلم، والحمق بالحلم، والأذى بالصبر، والظلم بالعفو، والقطع بالوصل ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ العاقبة المحمودة للدنيا في الدار الآخرة؛ وهي
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أي جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه
﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ يتركون أوامره ويغفلون فرائضه، وينتهكون محارمه ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ الذي واثقهم به؛ وهو العقل الذي وهبه لهم. والوفاء به: عدم الخروج عن جادة الحكمة والصواب أو هو قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ (
انظر آية ١٧٢ من سورة الأعراف) ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من صلة الرحم، والإحسان للفقراء، وما شاكل ذلك من الأمور التي تميز بها الإنسان عن الحيوان؛ فإذا ما قطعها كان الحيوان أفضل منه وأعز وأكرم ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ بالكفر والعصيان ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ البعد والطرد من رحمة الله تعالى ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ سوء العاقبة في الآخرة: جهنم يصلونها وبئس المصير
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ يوسعه ﴿لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ ويضيق على من يشاء. يعطي بغير حساب، ويمنع بغير أسباب؛ فقد يوسع على من يكره، ويضيق على من يحب، ويبتلي بالشر والخير؛ ليعلم الصابرين منهم والشاكرين.
-[٣٠١]- ﴿وَفَرِحُواْ﴾ أي فرح الذين بسط الله تعالى لهم الرزق: فرح بطر؛ لا فرح غبطة وشكر. أو وفرح الكفار ﴿بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وما نالوه فيها، وما اكتسبوه منها ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ﴾ أي بجانب ما في الآخرة من نعيم مقيم، وهناء دائم ﴿إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ شيء يتمتع به فترة من الزمن؛ ومآله إلى الفناء
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا﴾ هلا ﴿أُنزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي على محمد ﴿آيَةٌ﴾ معجزة ﴿مِّن رَّبِّهِ﴾ كما أنزل على من سبقه من الأنبياء؛ كعصا موسى، وناقة صالح، وأشباههما؛ وتناسوا آية الرسول العظمى، ومعجزته الكبرى: القرآن الكريم الموحى إليه به بأمر ربه، والمحفوظ أبد الدهر بعنايته وقدرته
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
من النبيين إذ جاءت ولم تدم
﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ إضلاله؛ لتمسكه بالكفر، وإصراره على الظلم ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ من رجع إليه بقلبه. فالإنابة سابقة للهداية؛ فكانت الهداية أجراً لها، كما أن الظلم سابق للإضلال؛ فكان الإضلال عقوبة عليه
﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ بطاعته ومرضاته ﴿تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ تهدأ وترتاح إلى ثوابه
﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ الطوبى: الخير والحسنى وقيل: إنه اسم للجنة بالهندية ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ حسن مرجع
﴿وَقَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ﴾ إن ما تكفرون به ﴿هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في أموري كلها (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ أي لو صح أن قرآناً يسير الجبال ويصدع الأرض، وتسمعه الموتى لكان هو هذا القرآن، لكونه غاية في الإنذار، ونهاية في التذكير ﴿بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً﴾ يدخل من يشاء في رحمته، وينعم على من يشاء بجنته، ويصطفي من يشاء لرسالته ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ يعلم؛ وهي لغة قوم من النخع ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً﴾ بطريق الإلهام أو الإلزام، والقسر والجبر؛ ولكنه تعالى تركهم لاختيارهم واختبارهم ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ﴾ أي بسبب كفرهم ﴿قَارِعَةٌ﴾ داهية تفجؤهم، وسميت «قارعة» لأنها تقرع القلب بأهوالها؛ ولذا سميت القيامة بالقارعة ﴿أَوْ تَحُلُّ﴾ الداهية ﴿قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ﴾ فيفزعون منها، ويتطاير عليهم شررها، ويلحقهم شرورها؛ فلا يتعظون بها
-[٣٠٢]- ﴿حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾ موتهم، أو القيامة؛ فتحل حينئذ بالكافرين قارعة القوارع، وداهية الدواهي
﴿فَأَمْلَيْتُ﴾ أمهلت.
والإملاء: طول العمر، مع رغد العيش ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ بالعقوبة
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ﴾ رقيب ﴿عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ بما عملت فيجزيها عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ في العبادة ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي عرفوهم لنا ﴿أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ﴾ أي بباطل منه، أو هو الكلام يلقى على عواهنه ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ﴾ كيدهم للإسلام ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ فكادوا للمؤمنين ﴿وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ منعوا عن دينه تعالى ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ قال تعالى ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء)
﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالقتل والأسر، وأنواع المحن ﴿وَلَعَذَابُ الآُخِرَةِ أَشَقُّ﴾ وأقسى من عذاب الدنيا ﴿وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾ يقيهم غضبه ويمنع عنهم عذابه
﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ أي صفتها: أنها ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ أي ثمرها مستديم؛ ولا ينقطع بإبان، ولا يمتنع بأوان ﴿وِظِلُّهَا﴾ باق؛ لا ينسخ بالشمس كظل الدنيا ﴿تِلْكَ﴾ الجنة؛ وحالها كما وصفنا ﴿عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ والنار عذابها دائم، كدوام نعيم الجنة
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ من مؤمني اليهود والنصارى ﴿يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن؛ لأن تصديقه نزل في كتبهم ﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ﴾ المشركين؛ الذين تحزبوا على النبي والمؤمنين بالمعاداة والمناهضة ﴿مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي بعض القرآن. قال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض» ﴿قُلْ﴾ لهؤلاء المنكرين ﴿إِنَّمَآ أُمِرْتُ﴾ في هذا القرآن الذي أنكرتموه ﴿أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ وحده ﴿وَلا أُشْرِكَ بِهِ﴾ أحداً غيره؛ فإنكاركم للقرآن: إنكار للتوحيد
-[٣٠٣]- ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو﴾ الناس لمعرفته وعبادته ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ مرجعي
﴿وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ لتقرأوه وتفهموه ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم﴾ دينهم الذي يدينون به وفق هواهم ﴿بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ والبراهين الساطعة، والحجج الدامغة ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ﴾ ينصرك «من الله» ﴿وَلاَ وَاقٍ﴾ يقيك غضبه وعذابه.
هذا وكل ما جاء خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بلسان التهديد والوعيد: إنما أريد به أمته؛ إذ أنه من المعلوم أن الله تعالى أرسل رسله لهداية الخلق، وإبعادهم عن أهوائهم؛ لا أن يتبعوا ضلال المضلين، وأهواء الكافرين
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ كما أرسلناك ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾ نساءً وأولاداً؛ كما جعلنا لك ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ﴾ منهم ﴿أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ﴾ معجزة ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بأمره وإرادته؛ لا بإرادة الرسول، ولا برغبة قومه واقتراحهم ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي لكل شيء موقت بوقت: أجل مكتوب محدد، أو لكل أجل من الآجال: وقت مكتوب لا يتعداه
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ ينسخ ما يشاء نسخه} ما يشاء إثباته؛ مكان الذي نسخ، أو «يمحو» ذنب المذنبين إذا تابوا، وكفر الكافرين إذا آمنوا «ويثبت» لهم الحسنات، مكان السيئات.
والمحو والإثبات عام في الرزق، والأجل والسعادة، والشقاوة، فقد أخرج ابن سعد وغيره، عن الكلبي. أنه قال: يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه. ويمحو من الأجل ويزيد فيه. وقد ذهب شيخ الإسلام زكريا الأنصاري إلى صحة ذلك.
وقد ورد: أن الصدقة، وبر الوالدين وصلة الرحم: تنسأ في الأجل.
وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه؛ واجعله سعادة ومغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. حتى القضاء الأزلي: يمكن محوه وتغييره؛ أليس هو الفعال لما يريد؟
وليس أدل على المحو والإثبات: مما جاء عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه في القنوت؛ فإن فيه: «وقني شر ما قضيت» ولا ينقلب الشر خيراً؛ إلا بمحوه وتغييره، وإثبات الخير مكانه.
ولولا جواز المحو والتبديل، وإمكانه: لأصبح الدعاء لغواً، لا طائل وراءه؛ وقد قال تعالى:
-[٣٠٤]- ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أصله الذي لا يتغير؛ وهو علم الله تعالى الأزلي اللدني؛ الذي لا يدركه محو، ولا تبديل، ولا تغيير (انظر آية ٢٢ من سورة البروج)
﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ﴾ وإن نريك ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل تعذيبهم ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ أي ليس عليك إلا إبلاغهم بما أرسلت به ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ مجازاتهم بما فعلوا حينما يصيرون إلينا
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أي أرض الكفار؛ ننقصها بامتلاك المسلمين لها وفتحها، أو المراد بالنقص: خرابها، وهلاك علمائها وفقهائها، وخيارها وسادتها. والأطراف لغة: الكرماء والأخيار ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ﴾ بما يشاء ﴿لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ لا راد لحكمه
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ المكر: الكيد أي مكر الأمم المتقدمة؛ فكفروا برسلهم، وكادوا لهم؛ كما كفر بك قومك، وكادوا لك ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً﴾ فيجازي الماكرين على مكرهم، ويرد كيد الكائدين في نحورهم ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ من خير أو شر؛ فيجزيها عليه ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ أي العاقبة المحمودة في الآخرة
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ بما أظهره من الأدلة والبراهين والآيات، على صدق رسالتي
﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ أي علماء أهل الكتاب الذين أسلموا؛ لأن صفة الرسول عليه الصلاة والسلام ونعته جاء في كتبهم (انظر آية ١٥٧ من سورة الأعراف) وقيل: المراد بمن عنده علم الكتاب: الله تعالى. وقيل: هو جبريل عليه السلام.
304
سورة إبراهيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
304