تفسير سورة سورة القمر من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ القيامة ﴿وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ نصفين. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وقيل: معناه سينشق القمر يوم القيامة، وأخذ بهذا المعنى بعض المتأخرين؛ الذين لا يعبأ بقولهم، ولا يعتد برأيهم. والجمهور على القول الأول، ويؤيده ما جاء في الصحيحين، وقراءة من قرأ «وقد انشق القمر» ويؤيده أيضاً ما بعده:
﴿وَإِن يَرَوْاْ آيَةً﴾ معجزة للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿يُعْرِضُواْ﴾ عنها، ولا يلتفتوا إليها ﴿وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ أي سحر قوي محكم
﴿وَكُلُّ أَمْرٍ﴾ من الخير، أو الشر ﴿مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي كائن في وقته بإرادته تعالى، ومعلوم في اللوح المحفوظ
﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أي ما يصح أن يزجر به قارئه، ويتعظ به سامعه. وهذه الأنباء التي جاءتهم
﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ يجب أن يتعظ بها سامعها، وأن يفهمها قارئها ﴿فَمَا تُغْنِي﴾ فما تنفع فيهم ﴿النُّذُرُ﴾ الرسل؛ الذين ينذرونهم عاقبة كفرهم، ومغبة طغيانهم
﴿فَتَوَلَّ﴾ أعرض ﴿عَنْهُمْ﴾ ولا تجادلهم ﴿يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾ أي إلى شيء تنكره نفوسهم؛ لأنهم لم يعهدوه، ولم يألفوه. وذلك يوم القيامة: حينما يدعون إلى الحساب فالعذاب
﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ﴾ خشوع الأبصار: كناية عن الذلة ﴿يَخْرُجُونَ﴾ القبور
﴿مُّهْطِعِينَ﴾ مسرعين، مادي أعناقهم
﴿وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ أي مجنون عولج بالسب والضرب؛ حتى رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده.
﴿بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ منصب انصباباً شديداً
﴿فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ أي التقى الماءان: ماء السماء الذي نزل من السحاب، وماء الأرض الذي نبع من التنور؛ على أمر قد قدره الله تعالى: وهو إغراق قوم نوح عن آخرهم. وقرىء «فالتقى الماءان»
﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾ أي حملنا نوحاً ومن آمن معه ﴿عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ يعني السفينة. والدسر: جمع دسار؛ وهو المسمار
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ أي بحفظنا وكلاءتنا ﴿جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ وهو نوح عليه السلام؛ لأنه مكفور به
﴿وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا﴾ أي السفينة؛ والمراد به جنسها. قال تعالى: «ولتجري الفلك بأمره» ﴿آيَةً﴾ علامة على قدرتنا. وقيل: المراد به سفينة نوح نفسها؛ فقد تركت على الجودي، ورآها بعض أوائل هذه الأمة. هذا ولا يزال حتى الآن بعض الباحثين والمنقبين يبحثون عنها في مظان وجودها. وزعم بعضهم أنه رآها فعلاً مغطاة بالثلوج؛ والله أعلم بخلقه وأحكم ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ متذكر، متعظ
﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي﴾ الذي أنزلته بقوم نوح جزاء كفرهم بي، وتكذيبهم لرسولي كيف كان ﴿نَّذْرٍ﴾ أي إنذاري لهم قبل نزول العذاب بهم
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا﴾ سهلنا ﴿الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ للاتعاظ به، والتذكر بما فيه
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ﴾ قوم هود
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ شديدة البرودة، شديدة الصوت ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ﴾ شؤم ﴿مُّسْتَمِرٌّ﴾ دائم الشر
﴿تَنزِعُ النَّاسَ﴾ من أماكنهم؛ فتدقهم على الأرض؛ فتبين رقابهم من جسومهم ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ منقلع، ساقط على الأرض؛ وذلك لطولهم، وأنهم لا حراك بهم
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ قوم صالح ﴿بِالنُّذُرِ﴾ بالرسل؛ لأن من كذب رسولاً واحداً: فكأنما كذب رسل الله جميعاً. أو المراد بالنذر: الأمور التي أنذرهم بوقوعها نبيهم صالح عليه السلام
﴿إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ أي نحن إذا اتبعناه كنا في ضلال وفي سعر؛ كما يقول على مخالفيه. والسعر: الجنون
﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ﴾ الوحي ﴿عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ ونحن لا نشعر بذلك، وليس بأفضلنا ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ أي بطر متكبر؛ حمله تكبره على أن يتعاظم علينا بادعائه النبوة. قال تعالى رداً عليهم، وتهديداً لهم:
﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً﴾ يوم القيامة؛ حين يرون العذاب ﴿مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ﴾ نبيهم صالح - حين يأتي تحف به المهابة وتحيط به الأنوار - أم هم حين يأتون يجرون أذيال الخزي والخيبة؛ تسوقهم ملائكة العذاب نحو الحساب؟
﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً﴾ ابتلاء ﴿لَّهُمْ﴾ وامتحاناً ﴿فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ انتظرهم يا صالح، واصبر على أذاهم
﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾ لهم يوم يستقون فيه، وللناقة يوم تشرب فيه
﴿فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ﴾ واحداً منهم ليقتل الناقة.
قيل: اسمه قدار ﴿فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ فتناول السيف؛ فقتل به الناقة؛ فاستوجبوا على أنفسهم العذاب الموعود
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ صاحها بهم جبريل عليه السلام والصيحة: العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب ﴿فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ الهشيم: الشجر اليابس المتهشم، المتكسر. والمحتظر: الذي يجعل لغنمه حظيرة من الهشيم
﴿حَاصِباً﴾ ريحاً تحصبهم - أي ترميهم - بالحجارة ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ﴾ ابنتاه، ومن آمن معه ﴿نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ﴾ وقت الصبح؛ حين أنزل الله تعالى العذاب بقوم لوط
﴿بَطْشَتَنَا﴾ أخذنا لهم بالعذاب ﴿فَتَمَارَوْاْ﴾ فكذبوا
﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ﴾ بأن طلبوا منه تسليم الملائكة - حينما نزلوا عليه في صورة الأضياف - ليأتوا بهم الفاحشة أعميناها
﴿بُكْرَةً﴾ أي باكراً من التبكير ﴿عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ﴾ دائم، متصل بعذاب القيامة: يصاحبهم حتى يسلمهم للموت، والموت يسلمهم لعذاب القبر، وعذاب القبر يصحبهم إلى يوم القيامة؛ حتى يروا العذاب الأكبر؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه
﴿وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ﴾ هو وقومه معه ﴿النُّذُرُ﴾ جمع نذير. أي جاءهم الإنذار معاداً متكرراً بالعذاب المتوقع
﴿كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا﴾ وهي الآيات التسع؛ التي أوتيها موسى ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالعذاب الموعود
-[٦٥٥]- ﴿أَخْذَ عِزِيزٍ﴾ قوي ﴿مُّقْتَدِرٍ﴾ تام القدرة؛ لا يعجزه شيء، ولا يفر من عذابه مذنب
﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ﴾ المذكورين؛ فندعهم في طغيانهم وكفرهم، ولا نعذبهم ﴿أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ في الكتب. أي نزل لكم الأمان في الكتب المتقدمة
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ أي نحن جمع كبير؛ سننتصر لكثرتنا وقوتنا
﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ الكبير ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ فهزموا - على جمعهم وكثرتهم - شر هزيمة يوم بدر، ونصر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين - رغم قلتهم - وتحقق وعيده تعالى في أعدائه، ووعده لأوليائه وليست هذه الهزيمة هي كل ما ينتظرهم من العذاب والخزي
﴿بَلِ السَّاعَةُ﴾ القيامة ﴿مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ أي والقيامة وما فيها من الشدة والعذاب: «أدهى وأمر» مما نالهم في الدنيا من خزي الانهزام، وذل القتل والانكسار
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين ﴿لَّفِي ضَلاَلٍ﴾ هلاك؛ في الدنيا بالقتل والهزيمة ﴿وَسُعُرٍ﴾ نار مستعرة في الآخرة
﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ﴾ إصابة جهنم
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي بتقدير: محكم، مستوف فيه مقتضى الحكمة والمنفعة. وقيل: المعنى: مقدر. وذهب كثيرون إلى أن هذه الآية دليل على أن السيئة مقدرة: فالقتل بقدر، والزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر. وأن جميع ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، قبل خلق النفوس. وهو كلام يؤدي إلى نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ وهو أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين أما كتابة الأعمال، وما كان وما يكون في اللوح المحفوظ: فأمر مسلم به، وأما التقدير الذي يشبه الإلزام فكلا وألف مرة كلا ولكن الله تعالى جلت قدرته؛ لسعة علمه ومعرفته: علم بعمل خلقه؛ فكتبه قبل أن يعملوه، ولم يلزمهم به. وهو جل شأنه، وتعالى سلطانه لا يهدي الفاسقين، ولا يهدي الظالمين، ولا يهدي الكافرين، ولا يهدي من هو مسرف كذاب، ولا من هو كاذب مرتاب وإنما يهدي تعالى من أناب: يهديه إلى الرشد، وإلى الحق، وإلى سواء السبيل
وإلا إذا قلنا بما يقولون؛ فعلام شرعت الشرائع. وقننت القوانين، وأرسلت الرسل، ونزلت الكتب؟ ولما نقتص من المذنب؛ ولا ذنب له؟ ومن المجرم؛ ولا جرم عليه؟
ولماذا يرجم الزاني؛ وقد أكره على الزنا؟ ويقطع السارق؛ وقد ألزم بالسرقة؟ ويقتل القاتل؛ وقد فرض عليه القتل؟
ولماذا تقوم المحاكم لفض المظالم؟ وأي مظالم يدفعونها؛ ودفعها هو عين الظلم؟ إذ كيف يقتل
-[٦٥٦]- القاتل؛ وقد قتل بقدر؟ أو كيف يرجم الزاني؛ وقد زنا بقدر؟ أو كيف يقطع السارق؛ وقد سرق بقدر؟ أو كيف يحد شارب الخمر؛ وقد شربها بقدر؟
ألم يقدر الله تعالى - كما يقولون - ذلك القتل، وذلك الزنا، وذلك السكر، وتلكم السرقة؟
وأين من يزعم أنه يستطيع أن يخرج عما قدره الله تعالى ورسمه لعباده؟
وأخيراً يحق لنا أن نسائل هؤلاء القائلين بهذا الرأي الفاسد: لم خلق الله تعالى جنته وناره؛ وقد أطاعه من أطاعه بقدر، وعصاه من عصاه بقدر؟ أكره هذا على الطاعة، وأكره ذاك على المعصية
﴿وَمَآ أَمْرُنَآ﴾ لشيء إذا أردناه ﴿إِلاَّ﴾ مرة ﴿وَاحِدَةً﴾ فيكون في سرعة حدوثه ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ وهو قول «كن» ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ﴾ أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ﴾ من خير، أو شر ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ في الكتب التي تكتبها الحفظة
﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾ من ذنوبهم وأعمالهم ﴿مُّسْتَطَرٌ﴾ مسطور: مكتوب
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَنَهَرٍ﴾ «أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى»
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ مكان صدق قد وعدوه في الدنيا، وحققه الله تعالى لهم في الآخرة
﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ قادر على إفاضة هذا النعيم الكامل على أوليائه
656
سورة الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
656