تفسير سورة سورة القمر من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون
المعروف بـالدر المصون
.
لمؤلفه
السمين الحلبي
.
المتوفي سنة 756 هـ
ﰡ
قوله: ﴿وانشق القمر﴾ : هذا ماضٍ على حقيقتِه وهو قولُ عامَّةِ المسلمين، إلاَّ مَنْ لا يُلْتَفَتُ إلى قولِه، وقد صَحَّ في الأخبار أنه انشقَّ على عهدَِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّتين. وقيل: انشَقَّ بمعنى: سينشَقُّ يومَ القيامةِ، فأوقع الماضيَ موضع المستقبلِ لتحقُّقِه، وهو خلافُ الإِجماع. وقيل: انشَقَّ بمعنى انْفَلَقَ عنه الظلامُ عند طلوعِه، كما يُسَمَّى الصبحُ فَلَقاً. وأنشد للنابغة:
وإنما ذَكَرْتُ لك تنبيهاً على ضَعْفِه وفسادِه.
٤١٤٥ - فلمَّا أَدْبَرُوا ولهُم دَوِيٌّ | دعانا عند شَقِّ الصُّبْحِ داعي |
قوله: ﴿مُّسْتَمِرٌّ﴾ فيه أقوالٌ، أحدها: أنَّ معناه: دائمٌ مُطَّرِدٌ. وكلُّ شيءٍ قد انقادَتْ طريقتُه ودامَتْ حالُه قيل فيه: استمرَّ. قاله الزمخشري. ومِنْه قولُه:
119
٤١٤٦ - ألا إنما الدنيا ليالٍ وأَعْصُرٌ | وليسَ على شيءٍ قويمٍ بمُسْتَمِرّ |
٤١٤٧ - حتى اسْتَمَرَّتْ على شَزْرٍ مَريرتُه | صِدْقُ العزيمةِ لا رثَّاً ولا ضَرَعا |
120
قوله: ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ : العامَّة على كسرِ القافِ
120
ورفعِ الراءِ اسمَ فاعلٍ ورفعِه خبراً ل «كل» الواقعِ مبتدأً. وقرأ شَيْبَةُ بفتح القافِ، وتُروَى عن نافعٍ. قال أبو حاتم: «لا وجهَ لها» وقد وَجَّهها غيرُه على حَذْفِ مضافٍ، أي: وكلُّ أمرٍ ذو استقرار، أو زمانَ استقرارٍ أو مكانَ استقرارٍ، فجاز أن يكونَ مصدراً، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً، قال معناه الزمخشري.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجَرِّ الراء وفيها أوجهٌ، أحدُها: ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَه أَنْ يكونَ صفةً لأمر. ويرتفعُ «كلُّ» حينئذٍ بالعطفِ على «الساعة»، فيكونُ فاعلاً، أي: اقتربَتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٍ. قال الشيخ: «وهذا بعيدٌ لوجودِ الفصلِ بجملٍ ثلاثٍ، وبعيدٌ أَنْ يوجدَ مثلُ هذا التركيبِ في كلام العربِ نحو: أكلتُ خبزاً، وضربْتُ خالداً، وإن يَجِىءْ زيدٌ أُكْرِمْه، ورَحَل إلى بني فلان، ولحماً، فيكونُ» ولحماً «معطوفاً على» خبزاً «بل لا يوجَدُ مثلُه في كلام العربِ. انتهى». قلت: وإذا دلَّ دليلٌ على المعنى فلا نبالي بالفواصلِ. وأين فصاحةُ القرآن من هذا التركيبِ الذي ركَّبه هو حتى يَقيسَه عليه في المنع؟
الثاني: أَنْ يكونَ «مُسْتقرٍ» خبراً ل «كلُّ أمرٍ» وهو مرفوعٌ، إلاَّ أنه
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجَرِّ الراء وفيها أوجهٌ، أحدُها: ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَه أَنْ يكونَ صفةً لأمر. ويرتفعُ «كلُّ» حينئذٍ بالعطفِ على «الساعة»، فيكونُ فاعلاً، أي: اقتربَتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٍ. قال الشيخ: «وهذا بعيدٌ لوجودِ الفصلِ بجملٍ ثلاثٍ، وبعيدٌ أَنْ يوجدَ مثلُ هذا التركيبِ في كلام العربِ نحو: أكلتُ خبزاً، وضربْتُ خالداً، وإن يَجِىءْ زيدٌ أُكْرِمْه، ورَحَل إلى بني فلان، ولحماً، فيكونُ» ولحماً «معطوفاً على» خبزاً «بل لا يوجَدُ مثلُه في كلام العربِ. انتهى». قلت: وإذا دلَّ دليلٌ على المعنى فلا نبالي بالفواصلِ. وأين فصاحةُ القرآن من هذا التركيبِ الذي ركَّبه هو حتى يَقيسَه عليه في المنع؟
الثاني: أَنْ يكونَ «مُسْتقرٍ» خبراً ل «كلُّ أمرٍ» وهو مرفوعٌ، إلاَّ أنه
121
خُفِضَ على الجِوار، قاله أبو الفضل الرازي. وهذا لا يجوزُ؛ لأن الجِوارَ إنما جاء في النعتِ أو العطفِ، على خلافٍ في إثباته، كما قدَّمْتُ لك الكلامَ فيه مستوفى في سورةِ المائدة. فكيف يُقال في خبر المبتدأ: هذا ما لا يجوزُ؟ الثالث: أنَّ خبرَ المبتدأ قولُه «حكمةٌ بالغةٌ» أخبر عن كلِّ أمرٍ مستقرٍ بأنَّه حكمةٌ بالغةٌ، ويكون قولُه: «ولقد جاءهم من الأنباءِ ما فيه مُزْدَجَرٌ» جملةَ اعتراضٍ بين المبتدأ وخبرِه. الرابع: أنَّ الخبرَ مقدرٌ، فقدَّره أبو البقاء: معمولٌ به، أو أتى. وقدَّره غيرُه: بالغوه لأنَّ قبلَه ﴿وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾، أي: وكلُّ أمرٍ مستقرٍّ لهم في القَدَر مِن خيرٍ أو شرٍّ بالغوه.
122
قوله: ﴿مُزْدَجَرٌ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ فاعِلاً ب «فيه» ؛ لأنَّ «فيه» وقع صلةً، وأَنْ يكونَ مبتدأ، و «فيه» الخبرُ. والدال بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال. وقد تقدَّم أنَّ تاءَ الافتعال تُقْلَبُ دالاً بعد الزاي والدال والذال؛ لأنَّ الزايَ حرفٌ مجهورٌ، والتاءَ حرفٌ مهموسٌ، فأبدلوها إلى حرفٍ مجهورٍ قريبٍ من التاءِ، وهو الدالُ. ومُزْدَجَر هنا اسمُ مصدرٍ، أي: ازْدِجار، أو اسمُ مكانٍ، أي: موضعَ ازْدِجار. وقُرِىء «مُزَّجَر» بقَلْبِ تاءِ الافتعال زاياً ثم أُدْغِمَ. وزيد بن علي «مُزْجِر» اسمَ فاعلٍ من أَزْجر، أي: صار ذا زَجْر كأَعْشَبَ، أي: صار ذا عُشْبٍ.
قوله: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلٌ من «ما فيه مُزْدَجر» كأنه قيل: ولقد جاءَهُمْ حكمةٌ بالغةٌ من الأنباء،
122
وحينئذٍ يكونُ بدلَ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بدلَ اشتمال. الثاني: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو حكمةٌ، أي: ذلك الذي جاءهم. وقد تقدَّم أنه يجوزُ على قراءةِ أبي جعفرٍ وزيدٍ أَنْ يكونَ خبراً ل «كلُّ أمرٍ مستقرٍ». وقُرِىء «حكمةً» بالنصب حالاً مِنْ «ما» قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: إن كانَتْ» ما «موصولةً ساغ لك أَنْ تَنْصِبَ» حكمةً «حالاً، فكيف تعمل إنْ كانت موصوفةً وهو الظاهرُ؟ قلت: تَخَصُّصُها بالصفةِ فيَحْسُنُ نَصْبُ الحالِ عنها» انتهى. وهو سؤال واضحٌ جداً.
قولَه: ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ استفهاميةً، وتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً، أي: أيُّ شيءٍ تُغْني النذرُ؟ وأن تكون نافيةً، أي: لم تُغْنِ النذرُ شيئاً. والنُّذُرُ: جمعُ نذيرٍ المرادِ به المصدرُ أو اسمُ الفاعل، كما تقدَّم في آخر النجم.
وكُتِب «تُغْنِ» إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين: قال بعضُ النحويين: وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ «تُغْني» حَمْلاً ل «ما» على «لم» فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ «لم». قال مكي: «وهذا خطأٌ؛ لأنَّ» لم «تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً، و» ما «تنفي الحالَ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما».
قولَه: ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ استفهاميةً، وتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً، أي: أيُّ شيءٍ تُغْني النذرُ؟ وأن تكون نافيةً، أي: لم تُغْنِ النذرُ شيئاً. والنُّذُرُ: جمعُ نذيرٍ المرادِ به المصدرُ أو اسمُ الفاعل، كما تقدَّم في آخر النجم.
وكُتِب «تُغْنِ» إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين: قال بعضُ النحويين: وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ «تُغْني» حَمْلاً ل «ما» على «لم» فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ «لم». قال مكي: «وهذا خطأٌ؛ لأنَّ» لم «تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً، و» ما «تنفي الحالَ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما».
123
قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الداع﴾ : منصوبٌ: إمَّا ب «اذْكُرْ» مضمرةً وهو أقربُها، وإليه ذهب الرُّمَّاني والزمخشري، وإمَّا
123
ب «يَخْرُجون» بعده وإليه ذهب الزمخشريُّ أيضاً، وإمَّا بقولِه «فما تُغْني»، ويكون قولُه «فَتَوَلَّ عنهم» اعتراضاً، وإمَّا منصوباً بقولِه ﴿يَقُولُ الكافرون﴾ [القمر: ٨] وفيه بُعْدٌ لبُعْدِه منه، وإمَّا بقولِه «فَتَوَلَّ» وهو ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المعنى ليس أَمْرَه/ بالتوليةِ عنهم في يومِ النفخ في الصُّورِ، وإمَّا بحذفِ الخافض، أي فَتَوَلَّ عنهم إلى يوم؛ قاله الحسن. وضُعِّف من حيث اللفظُ، ومن حيث المعنى. أمَّا اللفظُ: فلأنَّ إسقاطَ الخافضِ غيرُ مُنْقاسٍ. وأمَّا المعنى: فليس تَوَلِّيه عنهم مُغَيَّا بذلك الزمان، وإمَّا ب انتظرْ مضمراً. فهذه سبعةُ أوجهٍ في ناصب «يومَ». وحُذِفَتْ الواوُ مِنْ «يَدْعُ» خَطَّاً اتِّباعاً للِّفْظِ، كما تقدَّم في ﴿يُغْنِ﴾ ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] وشبهِه، والياءُ من «الداعِ»، مبالغةً في التخفيف إجراءً لأل مُجْرى ما عاقبها وهو التنوينُ فكما تُحْذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها.
قوله: ﴿نُّكُرٍ﴾ العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل، وفُعُل في الصفات عزيزٌ، منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجلٌ شُلُل، وناقةٌ أُجُد، وروضةٌ أُنُفٌ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ. وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ. وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً
قوله: ﴿نُّكُرٍ﴾ العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل، وفُعُل في الصفات عزيزٌ، منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجلٌ شُلُل، وناقةٌ أُجُد، وروضةٌ أُنُفٌ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ. وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ. وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً
124
في اليُسْر والعُسْر في المائدة. وسُمِّي الشيءُ الشديدُ نُكُراً لأن النفوس تُنْكِره قال مالك بن عوف:
وقرأ زيدُ بنُ علي والجحدري وأبو قلابة «نُكِرَ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعولِ؛ لأنَّ «نَكِرَ» يتعدى قال: ﴿نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ﴾ [هود: ٧٠].
٤١٤٨ - اقْدُمْ مَحاجِ إنه يومٌ نُكُرْ | مِثْلي على مِثْلِك يَحْمي ويَكُرّْ |
125
قوله: ﴿خُشَّعاً﴾ : قرأ أبو عمر والأخَوان «خاشِعاً» وباقي السبعة «خُشَّعاً». فالقراءةُ الأولى جاريةٌ على اللغةِ الفُصْحى مِنْ حيث إن الفعلَ وما جرى مَجْراه إذا قُدِّمَ على الفاعلِ وُحِّد. تقول: تَخْشَع أبصارُهم ولا تقولُ: تَخْشَعْن أبصارُهم، وأنشد قولَ الشاعر:
وقال آخر:
٤١٤٩ - وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ | مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَدّْ |
125
٤١٥٠ - يَرْمي الفِجاجَ بها الرُّكبانُ معْتَرِضاً | أعناقَ بُزَّلِها مُرْخى لها الجُدُلُ |
٤١٥١ - بمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحاح كُعُوبُه | وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسا |
126
النادرةِ القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإِفراد مذكراً ومؤنثاً وجمعَ التكسيرِ، قال:» لأنَّ الصفةَ متى تَقَدَّمَتْ على الجماعة جاز فيها جميعُ ذلك، والجمعُ موافِقٌ لِلَفْظِها فكان أشبهَ «قال الشيخ:» وإنما يُخَرَّجُ على تلك اللغةِ إذا كان الجمعُ جَمْعَ سلامةٍ نحو: «مَرَرْتُ بقومٍ كريمين آباؤُهم» والزمخشريُّ قاسَ جَمْعَ التكسيرِ على جَمْعِ السلامةِ وهو قياسٌ فاسدٌ يَرُدُّه النَّقْلُ عن العربِ: أنَّ جَمْعَ التكسيرِ أجودُ من الإِفرادِ، كما ذكره سيبويهِ، ودَلَّ عليه كلامُ الفراء «. قلت: قد خَرَّج الناسُ قولَ امرىء القيس:
٤١٥٢ - وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ... يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
على أنَّ» صحبي «فاعل ب» وقوفاً «وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في» وقوفاً «. وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ به وناصبُه» يَدْعُ الداعِ «وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ محذوفٍ تقديرهُ: فريقاً خاشعاً، أو فوجاً خاشعاً. والثاني: أنه حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «المتأخرِ عنه. ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ. ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب:» شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة «، ف» شتى «حالٌ من» الحلَبَة «وقال الشاعر:
٤١٥٢ - وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ... يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
على أنَّ» صحبي «فاعل ب» وقوفاً «وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في» وقوفاً «. وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ به وناصبُه» يَدْعُ الداعِ «وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ محذوفٍ تقديرهُ: فريقاً خاشعاً، أو فوجاً خاشعاً. والثاني: أنه حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «المتأخرِ عنه. ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ. ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب:» شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة «، ف» شتى «حالٌ من» الحلَبَة «وقال الشاعر:
127
٤١٥٣ - سَريعاً يهون الصَّعْبُ عند أُولي النُّهى | إذا برجاءٍ صادقٍ قابلوا البأسا |
الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولَ «يَدْعُو» المحذوفِ تقديره: يومَ يَدْعوهم الداعي خُشَّعاً، فالعامل فيها «يَدْعو»، قاله أبو البقاء. وهو تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه.
وارتفع «أبصارهم» على وجهين: إمَّا الفاعلية بالصفةِ قبلَه وهو الظاهرُ، وإمَّا على البدلِ من الضمير المستتر في «خُشَّعاً» لأنَّ التقديرَ: خُشَّعاً هم. وهذا إنما يتأتَّى على قراءةِ «خُشَّعاً» فقط.
وقرِىء «خُشَّعٌ أبصارهم» على أنَّ خشعاً خبرٌ مقدمٌ و «أبصارُهُمْ» مبتدأ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ وفيه الخلافُ المذكورُ مِنْ قبلُ كقوله:
٤١٥٤ -............................. | وَجَدْتُه حاضِراه الجودُ والكرمُ |
128
وأنْ يكونَ مستأنفاً. والأَجْداث: القبورُ. وقد تقَدَّم ذكرُه في سورةِ يس.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» أو مستأنفةً. و «مُهْطِعين» حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: «ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في» مُنْتَشِرٌ «عند قوم. وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في» مُنتشِر «للجراد، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «أو من الضمير المحذوف» انتهى. وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول.
والإِهْطاعُ: الإِسراعُ وأُنْشِد:
وقيل: الإِسراعُ مع مَدِّ العُنُق. وقيل: النظر. وأنشد:
وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة إبراهيم.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» أو مستأنفةً. و «مُهْطِعين» حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ «يَخْرُجون» عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: «ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في» مُنْتَشِرٌ «عند قوم. وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في» مُنتشِر «للجراد، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل» يَخْرُجون «أو من الضمير المحذوف» انتهى. وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول.
والإِهْطاعُ: الإِسراعُ وأُنْشِد:
٤١٥٥ - بدِجلَةَ دارُهُمْ ولقد أَرَاهُمْ | بدِجْلةَ مُهْطِعين إلى السَّماع |
٤١٥٦ - تَعَبَّدَني نِمْرُ بنُ سَعْدٍ وقد أُرَى | ونِمْرُ بنُ سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهْطِعُ |
129
قوله: ﴿يَقُولُ الكافرون﴾ قال أبو البقاء: «حالٌ من الضمير في» مُهْطعين «. وفيه نظرٌ من حيث خلوُّ الجملةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بذي الحال. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ» الكافرون «هم الضميرُ في المعنى، فيكونُ من باب الربطِ بالاسمِ الظاهر عند مَنْ يرى ذلك، كأنه قيل: يقولون هذا. وإنما أَبْرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفةِ القبيحةِ.
130
قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ : مفعولُه محذوفٌ، أي: كَذَّبَتِ الرسلَ؛ لأنهم لَمَّا كذَّبوا نوحاً عليه السلام فقد كَذَّبوا جميعَ الرسل. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من باب التنازع؛ إذ لو كان منه لكان التقدير: كَذَّبَتْ قبلَهم قومُ نوحٍ عبدَنا فكذَّبوه، ولو لُفِظ بهذا لكان تأكيداً، إذ لم يُفِدْ غيرَ الأولِ. وشرطُ التنازعِ أَنْ لا يكونَ الثاني تأكيداً، لذلك منعوا أَنْ يكونَ قولُه:
من ذلك. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُجَوِّزُه فإنه أخرجه عن التأكيدِ فقال: «فإنْ قلتَ ما معنى قولِه» فكذَّبوا «بعد قولِه» كَذَّبَتْ «؟ قلت: معناه كذَّبوا فكذَّبوا عبَدنا أي: كذَّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيبٍ كلما مضى منهم قَرَنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعه قرنٌ مكذبٌ» فهذا معنى حسن يسوغُ معه التنازعُ. و «مجنون»
٤١٧٥ -............................. | أتاكِ أتاكِ اللاحقون احْبِسِ احبسِ |
130
خبرُ ابتداءٍ مضمر أي: هو مجنون. والدالُ في «ازْدُجِر» بدلٌ مِنْ تاء كما تَقَدَّم. وهل هو مِنْ مَقولِهم، أي: قالوا: إنه ازْدُجِرَ، أي: ازْدَجَرَتَهُ الجنُّ، وذهبَتْ بلُبِّه، قاله مجاهد، أو هو مِنْ كلام الله تعالى، أخبر عنه: بأنه انْتُهِر وزُجِرَ بالسبِّ وأنواع الأذى.
131
قوله: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ : العامَّةُ على فتح الهمزة، أي: دعاه بأني مغلوبٌ وجاء هذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظِ لقال: إنه مغلوبٌ، وهما جائزان. وقرأ ابنُ أبي إسحاق والأعمشُ ورُويت عن عاصمٍ بالكسر: إمَّا على إضمارِ القولِ، أي: فقال، فَسَّر به الدعاءَ، وهو مذهبُ البصريين، وإمَّا إجراءً للدعاءِ مُجْرى القولِ وهو مذهبُ الكوفيين. وقد تقدَّم الخلاف في «فَتَحْنا» في الأنعام ولله الحمد.
قوله: ﴿مُّنْهَمِرٍ﴾ : المنهمر: الغزيرُ النازلُ بقوة. وأُنشد:
واسْتُعير ذلك في قولهم: هَمَر الرجلُ في كلامِه، وفلانٌ يُهامِر الشيءَ، أي: يَجْرُفُهُ، وهَمَرَه مِنْ ماله: أعطاه بكثرةٍ.
٤١٥٨ - راحَ تَمْرِيْه الصَّبا ثم انتحى | فيه شُؤْبُوْبُ جَنوبٍ مُنْهَمِرْ |
131
وفي الباء في «بماء» وجهان، أظهرهما: أنها للتعدية ويكونُ ذلك على المبالغة في أنه جَعَلَ الماءَ كالآلةِ المُفْتتحِ بها كما تقول: فَتَحْتُ بالمفتاح. والثاني: أنها للحال، أي: فَتَحْناها ملتبسةً بهذا الماء. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وعاصم في رواية «وفَجَرْنا» مخففاً، والباقون مثقلاً.
132
قوله: ﴿عُيُوناً﴾ : فيه أوجهٌ، أشهرها: أنه تمييزٌ، أي: فَجَّرْنا عيونَ الأرض فنَقله من المفعوليةِ إلى التمييز، كما يُنقل من الفاعلية.
ومنعه بعضُهم، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ أبلغُ مِنْ «فَجَّرْنا عيونَ الأرض» لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ. الثاني: أنه منصوبٌ على البدلِ من «الأرض». ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل. ويُجاب عنه: بأنَّه محذوفٌ، أي: عيوناً منها كقوله ﴿الأخدود النار﴾ [البروج: ٤-٥] فالنار بدلُ اشتمالٍ. ولا ضميرَ فهو مقدرٌ. الثالث: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن «فَجَّرنا» معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً. الرابع: أنها حالٌ. وفيه تَجَوُّزان: حَذْفُ مضافٍ، أي: ذات عيون، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً.
قوله: ﴿فَالْتَقَى المآء﴾ لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ: فالتقى الماء، كأنه: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامَّة. وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب، وتُرْوَى عن أمير
ومنعه بعضُهم، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ أبلغُ مِنْ «فَجَّرْنا عيونَ الأرض» لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ. الثاني: أنه منصوبٌ على البدلِ من «الأرض». ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل. ويُجاب عنه: بأنَّه محذوفٌ، أي: عيوناً منها كقوله ﴿الأخدود النار﴾ [البروج: ٤-٥] فالنار بدلُ اشتمالٍ. ولا ضميرَ فهو مقدرٌ. الثالث: أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن «فَجَّرنا» معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً. الرابع: أنها حالٌ. وفيه تَجَوُّزان: حَذْفُ مضافٍ، أي: ذات عيون، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً.
قوله: ﴿فَالْتَقَى المآء﴾ لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ: فالتقى الماء، كأنه: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامَّة. وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب، وتُرْوَى عن أمير
132
المؤمنين أيضاً «الماءان» يتثنيةٍ، والهمزةُ سالمةٌ. وقرأ الحسن أيضاً «الماوان» بقَلْبها واواً. قال الزمخشري: «كقولهم: عِلْباوان يعني: أنه شَبَّه الهمزةَ المقلبةَ عن هاء بهمزةِ الإِلحاق. ورُوِي عنه أيضاً» المايان «بقَلْبها ياءً وهي أشدُّ مِمَّا قبلَها.
وقوله: ﴿قَدْ قُدِرَ﴾ العامَّةُ على التخفيفِ. وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد، وهما لغتان قُرِىء بهما: قولُه ﴿قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ٣]، ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] كما سيأتي.
وقوله: ﴿قَدْ قُدِرَ﴾ العامَّةُ على التخفيفِ. وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد، وهما لغتان قُرِىء بهما: قولُه ﴿قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ٣]، ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] كما سيأتي.
133
قوله: ﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ : ، أي: سفينةٌ ذاتُ ألواحٍ قال الزمخشري: وهي من الصفات التي تقوم مَقام الموصوفات فتنوب مَنابها وتؤدي مُؤَدَّاها، بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها. ونحوه: