تفسير سورة سورة ق من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون
المعروف بـالدر المصون
.
لمؤلفه
السمين الحلبي
.
المتوفي سنة 756 هـ
ﰡ
قوله: ﴿والقرآن﴾ : قَسَمٌ. وفي جوابِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض﴾. الثاني: ﴿مَا يُبَدَّلُ القول﴾ الثالث: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾. الرابع: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى﴾. الخامس ﴿بَلْ عجبوا﴾ وهو قولٌ كوفيٌّ. قالوا: لأنَّه بمعنى «قد عَجِبوا» السادس: أنَّه محذوفٌ، فقدَّره الزجَّاج والأخفشُ والمبردُ «لَتُبْعَثُنَّ». وفَتَحَها عيسى، وكَسَرها الحسنُ وابن أبي إسحاق، وضمَّها هارونُ وابنُ السَّمَيْفَع. وقد مَضَى توجيهُ ذلك كلِّه. وهو أنَّ الفتحَ يحتمل البناءَ على الفتح للتخفيفِ، أو يكونُ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، ومُنِع الصرفَ، أو مجرورٌ بحرفِ قسمٍ مقدرٌ، وإنما مُنعَ الصرفَ أيضاً. والضمُّ على أنه مبتدأٌ أو خبرٌ، ومُنع الصرف أيضاً.
قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا﴾ : قرأ العامَّةُ بالاستفهام، وابنُ عامر في روايةٍ، وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزةٍ واحدةٍ، فتحتملُ الاستفهامَ كالجمهورِ، وإنما حَذَفَ الأداةَ للدلالةِ، وتحتملُ الإِخبارَ بذلك. والناصبُ للظرفِ في قراءةِ الجمهورِ مقدرٌ أي: أنُبْعَثُ أو أَنَرْجِعُ إذا مِتْنا. وجوابُ «إذا» على قراءةِ الخبرِ محذوفٌ أي: رَجَعْنا. وقيل: قولُه: «ذلك رَجْعٌ» على حذفِ الفاءِ، وهذا رأيُ بعضِهم. والجمهور لا يُجَوِّزُ ذلك إلاَّ في شعرٍ. وقال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع هو الجوابَ، ويكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى، استبعاداً لإِنكارهم ما أُنْذِروا به من البَعْثِ. والوقفُ على ما قبلَه على هذا التفسيرِ حسنٌ». فإنْ قلت: فما ناصبُ الظرفِ إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع؟ قلت: ما دَلَّ عليه المنذِرُ من المنذَرِ به وهو البعثُ «وأَنْحَى عليه الشيخُ في فهمِه هذا الفهمَ.
قوله: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ﴾ : هذا إضرابٌ ثانٍ. قال الزمخشري: «إضرابٌ أُتبع الإِضرابَ قبله للدلالةِ على أنَّهم جاؤُوا بما هو أفظعُ مِنْ تعجُّبهم، وهو الكذيبُ بالحق». وقال الشيخ: «وكأن هذا الإِضرابَ الثاني بدلُ بدَاءٍ من الأول». قلت: وإطلاقُ مثلِ هذا في
18
كتابِ الله لا يجوزُ البتةَ. وقيل: قبل هذه الآيةِ جملةٌ مُضْرَبٌ عنها. تقديرُها: ما أجادُوا النظرَ، بل كَذَّبوا. وما قاله الزمخشريُّ أحسنُ.
والعامَّةُ على تشديد «لَمَّا» وهي: إمَّا حرفُ وجوبٍ لوجوب، أو ظرفٌ بمعنى حين، كما عَرَفْتَه. وقرأ الجحدريُّ بكسرِ اللام وتخفيفِ الميمِ على أنَّها لامُ الجرِّ دَخَلَت على «ما» المصدرية، وهي نظيرُ قولِهم: «كتبْتُه لخمسٍ خَلَوْن» أي: عندها.
قوله: ﴿مَّرِيجٍ﴾ أي: مُخْتَلِط. قال أبو واقد:
وقال آخر:
وأصلُه من الحركةِ والاضطرابِ/ ومنه: مَرَجَ الخاتمُ في إصبعِه.
والعامَّةُ على تشديد «لَمَّا» وهي: إمَّا حرفُ وجوبٍ لوجوب، أو ظرفٌ بمعنى حين، كما عَرَفْتَه. وقرأ الجحدريُّ بكسرِ اللام وتخفيفِ الميمِ على أنَّها لامُ الجرِّ دَخَلَت على «ما» المصدرية، وهي نظيرُ قولِهم: «كتبْتُه لخمسٍ خَلَوْن» أي: عندها.
قوله: ﴿مَّرِيجٍ﴾ أي: مُخْتَلِط. قال أبو واقد:
٤٠٨٩ - مَرِجَ الدِّيْنُ فأَعْدَدْتُ له | مُشْرِفَ الأَقْطارِ مَحْبوكَ الكَتَدْ |
٤٠٩٠ - فجالَتْ والتمسْتُ به حَشاها | فَخَرَّ كأنَّه خُوْطٌ مَرِيْجُ |
19
قوله: ﴿فَوْقَهُمْ﴾ : حالٌ من «السماء» وهي مؤكِّدةٌ. و «كيف» منصوبةٌ بما بعجها وهي معلِّقَةٌ للنظرِ قبلها.
قوله: ﴿تَبْصِرَةً﴾ : العامَّةُ على نصبِها على المفعول مِنْ أجله أي: تبصيرَ أمثالِهم وتذكيراً مِنَّا لهم. وقيل: منصوبان بفعلٍ مِنْ لفظِهما مقدرٍ أي: بَصِّرْهم تَبْصِرةً وذكِّرْهم تَذْكرةً. وقيل: حالان أي: مُبَصَّرين مُذَكَّرين. وقيل: حالٌ من المفعول أي: ذاتَ تَبْصِيرٍ وتَذْكيرٍ لمَنْ يَراها. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ «وذِكْرٌ» أي: هي تبصرةٌ وذِكْرٌ. و «لكلِّ» : إمَّا صفةٌ، وإمَّا متعلِّقٌ بنفسِ المصدر.
قوله: ﴿وَحَبَّ الحصيد﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ بابِ حَذْفِ الموصوفِ للعِلْم به تقديرُه: وحَبَّ الزَرْع الحصيدِ نحو: مسجد الجامع وبابِه. وهذا مذهبُ البصريين؛ لئلا تَلْزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه؛ لأنَّ الأصلَ: والحَبَّ الحصيدَ أي: المحصود.
قوله: ﴿والنخل﴾ : منصوبٌ عطفاً على مفعول «أَنْبَتْنا» أي: وأَنْبَتْنا النخلَ. و «باسِقاتٍ» حالٌ. وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّها وقتَ الإِنباتِ لم تكن طِوالاً. والبُسُوْقُ: الطُّوْلُ. يُقال: بَسَقَ فلانٌ على أصحابِه أي: طالَ عليهم في الفَضْلِ. ومنه قولُ ابنِ نوفل في ابن هبيرة:
20
٤٠٩١ - يا بنَ الذين بمَجْدِهمْ | بَسَقَتْ على قَيْسٍ فَزارَهْ |
٤٠٩٢ - لنا خَمْرٌ وليسَتْ خمرَ كَرْمٍ | ولكنْ مِنْ نِتاجِ الباسِقاتِ |
كِرامٌ في السماءِ ذَهَبْنَ طُوْلاً | وفاتَ ثمارَها أيدي الجُناةِ |
قوله: ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً من النخل أو من الضمير في «باسِقاتٍ»، ويجوزُ أَنْ يكونَ الحالُ وحدَه لها، و «طَلْعٌ» فاعلٌ به، ونَضِيْدٌ بمعنى مَنْضود.
21
قوله: ﴿رِّزْقاً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: مرزوقاً
21
للعباد أي: ذا رزقٍ، وأَنْ يكونَ مصدراً مِنْ معنى أَنْبَتْنا؛ لأنَّ إنباتَ هذا رِزْقٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له. و «للعباد» إمَّا صفةٌ، وإمَّا متعلِّقٌ بالمصدرِ، وإمَّا مفعولٌ للمصدرِ، واللامُ زائدةٌ أي: رزْقاً للعباد.
قوله: ﴿بِهِ﴾ أي: بالماءِ. و «مَيْتاً» صفةٌ ل «بَلْدة». ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على معنى المكانِ. والعامَّةُ على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتثقيل.
قوله: ﴿بِهِ﴾ أي: بالماءِ. و «مَيْتاً» صفةٌ ل «بَلْدة». ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على معنى المكانِ. والعامَّةُ على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتثقيل.
22
قوله: ﴿الأيكة﴾ : قد تقدَّم الكلامُ عليها في الشعراء. وقرأ ههنا «لَيْكَة» بزِنَةِ لَيْلَة أبو جعفر وشيبةٌ. وقال الشيخُ: «وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ وطلحةُ ونافع» الأَيْكةِ «بلام التعريفِ، والجمهور» لَيْكَة «وهذا الذي نقلَه غفلةٌ منه، بل الخلافُ المشهورُ إنما هو في سورة الشعراء وص كما حَقَّقْتُه ثَمَّةَ، وأمَّا هنا فالجمهورُ على لامِ التعريفِ.
قوله: ﴿كُلٌّ﴾ التنوينُ عِوَضٌ من المضافِ إليه. وكان بعضُ النحاةِ يُجيز حَذْفَ تنوينِها وبناءَها على الضم كالعامَّةِ نحو: قبل وبعد.
قوله: ﴿كُلٌّ﴾ التنوينُ عِوَضٌ من المضافِ إليه. وكان بعضُ النحاةِ يُجيز حَذْفَ تنوينِها وبناءَها على الضم كالعامَّةِ نحو: قبل وبعد.
قوله: ﴿أَفَعَيِينَا﴾ : العامَّةُ على ياءٍ مكسورةٍ بعدها
22
ياءٌ ساكنةٌ. وقد مَضَى معناه في الأحقاف. وقرأ ابنُ أبي عبلة «أفَعَيِّنا» بتشديدِ الياءِ مِنْ غيرِ إشباعٍ. وهذه القراءةُ على إشكالِها قرأ بها الوليد بن مسلم وأبو جعفر وشيبةٌ ونافعٌ في روايةٍ، وروى ابنُ خالويه عن ابن أبي عبلة «أفَعَيِّينا» كذلك لكنه أتى بعد الياء المشدَّدة بأخرى ساكنة. وخرَّجَها الشيخ على لغةِ مَنْ يقولُ عَيِيَ: عَيَّ، وفي حَيِيَ: حَيَّ بالإِدغام. ثم لَمَّا أَسْنَدَ هذا الفعلَ وهو مُدْغَمٌ، واعتبر لغةَ بكر بن وائلِ: وهو أنهم لا يَفُكُّون الإِدغامَ في مثلِ هذا إذا أَسْنَدوا ذلك الفعلَ المدغَم لتاءِ المتكلم، ولا إحدى أخَواتها التي تُسَكَّنُ لها لامُ الفعل، فيقولون في رَدَّ: رَدْتُ ورَدْنا، قال: «وعلى هذه اللغةِ/ تكونُ الياءُ مفتوحةً». قلت: «ولم يَذْكُرْ توجيهَ القراءةِ الأخرى. وتوجيهُها: أنها مِنْ عَيَّا يُعَيِّي كحَلَّى يُحَلِّي.
23
قوله: ﴿وَنَعْلَمُ﴾ : خبرُ مبتدأ مضمرٍ. تقديرُه: ونحن نعلمُ. والجملةُ الاسميةُ حينئذٍ حالٌ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ هو حالاً بنفسه؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ باشَرَتْهُ الواو. وكذلك قولُه: «ونحن أقربُ».
قوله: ﴿مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ هذا كقولهم: مسجد الجامع أي: حبلِ
قوله: ﴿مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ هذا كقولهم: مسجد الجامع أي: حبلِ
23
العِرْقِ الوريد، أو لأنَّ الحبلَ أعمُّ للبيان نحو: بعير سانية، أو يراد حَبْلُ العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتِق، لأنهما في عضو واحد. والوريد: إمَّا بمعنى الوارد، وإمَّا بمعنى المورود. والوريد: عِرْقٌ كبير في العنق يقال: إنهما وريدان. قال الزمخشري: «عِرْقان مُكْتنفان لصفحتَيْ العُنُق في مُقَدَّمِهما يتصلان بالوَتين، يَرِدان من الرأس إليه. ويسمَّى وريداً؛ لأنَّ الروحَ تَرِدُ إليه». وأنشد:
٤٠٩٣ - كأنْ وَرِيْدَيْهِ رِشاءُ خُلْبِ... وقال الأثرم: «هو نهرُ الجسدِ: هو في القلبِ الوَتينُ، وفي الظهر الأَبْهَرِ، وفي الذِّراعِ والفَخِذِ الأَكْحَلُ والنَّسا، وفي الخِنْصِرِ الأَسْلَم».
٤٠٩٣ - كأنْ وَرِيْدَيْهِ رِشاءُ خُلْبِ... وقال الأثرم: «هو نهرُ الجسدِ: هو في القلبِ الوَتينُ، وفي الظهر الأَبْهَرِ، وفي الذِّراعِ والفَخِذِ الأَكْحَلُ والنَّسا، وفي الخِنْصِرِ الأَسْلَم».
24
قوله: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى﴾ : ظرفٌ ل «أَقْرَبُ». ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكُرْ.
قوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ يجوز أَنْ يكونَ مفرداً على بابِه، فيكون بمعنى مُفاعِل كخليط بمعنى مُخالِط، أو يكونَ عَدَلَ مِنْ فاعِل إلى فعيل مبالغةً ك عليم. وجوَّز الكوفيون أَنْ يكونَ فعيل واقعاً مَوْقِعَ
قوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ يجوز أَنْ يكونَ مفرداً على بابِه، فيكون بمعنى مُفاعِل كخليط بمعنى مُخالِط، أو يكونَ عَدَلَ مِنْ فاعِل إلى فعيل مبالغةً ك عليم. وجوَّز الكوفيون أَنْ يكونَ فعيل واقعاً مَوْقِعَ
24
الاثنين. وقال المبرد: «والأصل: عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال، فأُخِّرَ عن موضعِه» وهذا لا يُنْجي مِنْ وقوعِ المفردِ موقعَ المثنى. والأَجْوَدُ أَنْ يُدَّعَى حَذْفٌ: إمَّا من الأول أي: عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال قعيدٌ، وإمَّا من الثاني، فيكون قعيدٌ الملفوظُ به للأول، ومثلُه قولُ الآخر: