﴿ ق ﴾ حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور، كقوله تعالى :﴿ ص ﴾ و ﴿ ن ﴾ و ﴿ الم ﴾ ونحو ذلك قاله مجاهد وغيره، وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى :﴿ والقرآن المجيد ﴾، أي الكريم العظيم الذي ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ]، واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ وفي هذا نظر، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه، وإن لم يكن القسم يتلقى لفظاً، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله :﴿ ص والقرآن ذِي الذكر * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ ص : ١-٢ ]، وهكذا قال هاهنا ﴿ ق والقرآن المجيد * بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر، كقوله جلّ جلاله :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ [ يونس : ٢ ] أي وليس هذا بعجيب، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، ثم قال عزّ وجلّ مخبراً عنهم في تعجبهم أيضاً من المعاد واستبعادهم لوقوعه ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا تراباً، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟ ﴿ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ أي بعيد الوقوع، والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه، قال الله تعالى راداً عليهم ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ ﴾ أم ما تأكل من أجسادهم في البلى، نعلم ذلك لا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، وأين ذهبت وإلى أين صارت ﴿ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ أي حافظ لذلك، فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة، قال ابن عباس ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ ﴾ أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم، وعظامهم وأشعارهم؛ ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد، فقال :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل، و « المريج » المختلف المضطرب المنكر، كقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [ الذاريات : ٨-٩ ].
يقول تعالى منبهاً للعباد على قدرته العظيمة، التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه ﴿ أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ﴾ ؟ أي بالمصابيح، ﴿ وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ قال مجاهد : يعني من شقوق، وقال غيره : فتوق، وقال غيره : صدوع، والمعنى متقارب، كقوله تبارك وتعالى :﴿ مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ]. وقوله تبارك وتعالى :﴿ والأرض مَدَدْنَاهَا ﴾ أي وسعناها وفرشناها ﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ وهي الجابل لئلا تميد بأهلها وتضطرب، فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها، ﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع، ﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] وقوله ﴿ بَهِيجٍ ﴾ أي حسن المنظر، ﴿ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ أي مشاهدة خلق السماوات والأرض وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة ﴿ تَبْصِرَةً ﴾ ودلالة وذكرى لكل ﴿ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ أي خاضع خائف وجل، رجَّاع إلى الله عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً ﴾ أي نافعاً ﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق من بساتين ونحوها ﴿ وَحَبَّ الحصيد ﴾ وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره. ﴿ والنخل بَاسِقَاتٍ ﴾ أي طوالاً شاهقات، قال ابن باس ومجاهد وعكرمة : الباسقات الطوال، ﴿ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾ أي منضود، ﴿ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ ﴾ أي للخلق، ﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ وهي الأرض التي كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، من أزاهير وغاير ذلك مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعدما كانت لا نباتع بها فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيي الله الموتى، وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث، كقوله عزّ وجل :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ] وقال سبحانه وتعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ فصلت : ٣٩ ].
يقول تعالى متهدداً لكفار قريش، بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الأليم كقوم نوح، وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الأرض، ﴿ وَأَصْحَابُ الرس ﴾ وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان، ﴿ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴾ وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة، بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق ﴿ وَأَصْحَابُ الأيكة ﴾ وهم قوم شعيب ﷺ ﴿ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ ﴾ وهو اليماني، وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان، ﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل ﴾ أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم، ومن كذب رسولاً فإنما كذب جميع الرسل كقوله جلّ وعلا :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ]، ﴿ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك، وقوله تعالى :﴿ أَفَعَيِينَا بالخلق الأول ﴾ أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة؟ ﴿ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإعادة أسهل منه كما قال عزّ وجل :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وقال :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقد تقدم في الصحيح :« يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم قول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ».
يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :
« إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل » وقوله عزّ وجلّ :
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال :
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ كما قال في المحتضر
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٥ ] يعني ملائكته، فالملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، بإقدار الله جلا وعلا لهم على ذلك، فللملك لمَّة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، ولهذا قال تعالى هاهنا
﴿ إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان ﴾ يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان
﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ اي مترصد،
﴿ مَّا يَلْفِظُ ﴾ أي ابن آدم
﴿ مِن قَوْلٍ ﴾ أي ما يتكلم بكلمة
﴿ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ أي إلاّ ولها من يرقبها، معد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى :
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الإنفطار : ١٠-١٢ ] وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب على قولين : وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى :
﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾. وقد روى الإمام أحمد، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
« إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه » فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمني يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية
﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك :
2398
﴿ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ] ثم يقول :
« عَدَل والله فيك من جعلك حسيب نفسك ».
وقال ابن عباس
﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى أنه ليكتب قوله : أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت؟ حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تعالى :
﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاووس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله، وقوله تبارك وتعالى :
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ يقول عزَّ وجلَّ : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه
﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص. والصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو، وقيل : الكافر، وقيل غير ذلك، روي أه لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى | إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه : ليس كذلك، ولكن قولي :
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول :
« سبحان الله إن للموت لسكرات » وفي قوله :
﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ قولان :
( أحدهما ) : أن ( ما ) هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتفر، وقد حلَّ بك ونزل بساحتك.
( والقول الثاني ) : أن ( ما ) نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه.
وقوله تبارك وتعالى :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد ﴾ قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور وذلك يوم القيامة، وفي الحديث، أن رسول الله ﷺ قال :
« » كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحَنَى جبهته وانتظر أن يؤذن له
«. قالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال ﷺ :» قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل
«، فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل » ﴿ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذا هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير، لما روي عن يحيى بن رافع قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية
﴿ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ فقال : سائق يسوقها إلى الله تعالى، وشاهد يشهد عليها بما عملت، وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال أبو هريرة : السائق الملك، والشهيد العمل، وكذا قال الضحّاك والسدي، وقال ابن عباس : السائق من الملائكة، والشهيد الإنسان نفسه يشهد على نفسه.
2399
وبه قال الضحاك أيضاً. وقوله تعالى :
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ ﴾ قيل : إن المراد بذلك الكافر. وقيل : إن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر، لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، وهذا اختيار ابن جرير، والظاهر من السياق أن الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله تعالى :
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا ﴾ يعني من هذا اليوم،
﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ ﴾ أي قوي، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك، قال الله تعالى :
﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، وقال عزّ وجلّ :
﴿ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ].
2400
يقول تعالى مخبراً عن الملك الموكل بعمل آدم، أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول :﴿ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾ أي معتد محضر بلا زيادة ولا نقصان، وقال مجاهد : هذا كلام الملك السائق يقول : هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته، وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد، وله اتجاه وقوة، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾، وقد اختلف النحاة في قوله :﴿ أَلْقِيَا ﴾ فقال بعضهم : هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشيهد، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب، فلما أدى الشهيد عليه، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ أي كثير الكفر والتكذيب بالحق ﴿ عَنِيدٍ ﴾ معاند للحق معارض له بالباطل مع علمه بذلك، ﴿ مَّنَّاعٍ ﴾ أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق، لا بر ولا صلة ولا صدقة، ﴿ لِّلْخَيْرِ ﴾ أي فيما ينفقه ويصرفه، يتجاوز فيه الحد. وقال قتادة : معتد في منطقة وسيره وأمره، ﴿ مُعْتَدٍ ﴾ أي شاك في أمره، مريب لمّن نظر في أمره، ﴿ مُّرِيبٍ ﴾ أي شاك في أمره، مريب لمن نظر في أمره، ﴿ الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ أي أشرك الله فعبد معه غيره، ﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد ﴾، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :« يخرج عنق من النار يتكلم يقول : وكلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير نفس، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم » ﴿ قَالَ قرِينُهُ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هو الشيطان الذي وكل به، ﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ﴾ أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافراً يتبرأ منه شيطانه فيقول ﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ﴾ أي أضللته، ﴿ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي بل كان هو في نفسه ضالاً، معانداً للحق، كما أخبر سبحانه في قوله :﴿ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] الآية. وقوله تبارك وتعالى :﴿ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ﴾ يقول الرب عزّ وجلّ للإنسي وقرينه من الجن، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى، فيقول الإنسي : يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، ويقول الشيطان :﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي عن منهج الحق، فيقول الرب عزّ وجلّ لهما ﴿ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ﴾ أي عندي، ﴿ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد ﴾ أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبراهين، ﴿ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ ﴾ قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض، ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ أي لست أعذب أحداً بذنب أحد، ولكن لا أعذب أحداً إلاّ بذنبه، بعد قيام الحجة عليه.
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة هل امتلأت؟ وهي تقول : هل من مزيد؟ أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث، روى البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :
« يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها فتقول : قط قط ». وروى الإمام أحمد. عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
« لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة » ( حديث آخر ) : وروى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
« تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين؛ وقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عزَّ وجلَّ، للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول : قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عزَّ وجلَّ ينشىء لها خلقاً آخر » ( حديث خر ) : روى مسلم في
« صحيحه »، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
« احتجت الجنة والنار فقالت النار : فيّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة : فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى بينهما؛ فقال للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار، إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها » وعن عكرمة
﴿ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ : وهل فيَّ مدخل واحد؟ قد امتلأت. وقال مجاهد : لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلأت، فتقول : هل فيّ مزيد؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا، فعند هؤلاء أن قوله تعالى :
﴿ هَلِ امتلأت ﴾ إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذٍ : هل بقي فيَّ مزيد يسع شيئاً؟ قال العوفي عن ابن عباس : وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة، والله أعلم.
وقوله تعالى :
﴿ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ قال قتادة والسدي :
﴿ وَأُزْلِفَتِ ﴾ أدنيت وقربت من المتقين،
﴿ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ وذلك يوم القيامة وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب،
﴿ هذا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾ أي رجاع تائب مقلع،
﴿ حَفِيظٍ ﴾ أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه، وقال عبيد بن عمير : الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عزَّ وجلَّ،
﴿ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلاّ الله عزَّ وجلَّ كقوله ﷺ :
2402
« ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه » ﴿ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ أي ولقي الله عزَّ وجلَّ، يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه
﴿ ادخلوها ﴾ أي الجنة
﴿ بِسَلاَمٍ ﴾ قال قتادة : سَلِموا من عذاب الله عزّ وجلّ وسلّم عليهم ملائكة الله، وقوله سبحانه وتعالى :
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود ﴾ أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً، وقوله جلت عظمته :
﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا ﴾ أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم، عن كثير بن مرة قال :
« من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلاّ أمطرتهم ». وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن رسول الله ﷺ قال له :
« إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً » وروى الإمام أحمد، عن أبي سعدي الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله ﷺ قال :
« إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة » وقوله تعالى :
﴿ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ كقوله عزّ وجلّ :
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ [ يونس : ٢٦ ]، وقد تقدم في
« صحيح مسلم » عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم، وقد روى البزار، عن أنس بن مالك في قوله عزّ وجلّ
﴿ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ قال :
« يظهر لهم الرب عزّ وجلّ في كل جمعة ». وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال :
« إن الرجل في الجنة ليتكىء في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحوّل، ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبيه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام، فيسألها : من أنت؟ فتقول : أنا من المزيد، وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن عليها من التيجان، إنَّ أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ».
2403
يقول تعالى :
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ ﴾ قبل هؤلاء المكذبين
﴿ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾ أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة. ولهذا قال تعالى :
﴿ فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴾. قال مجاهد :
﴿ فَنَقَّبُواْ فِي البلاد ﴾ ضربوا في الأرض. وقال قتادة فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب. ويقال لمن طوف في البلاد، نقب ليها، وقوله تعالى :
﴿ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴾ أي هل من مفر لهم من قضاء الله وقدره؟ وهل نفعهم ما جمعوه لما كذبوا الرسل؟ فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد، وقوله عزّ وجلّ :
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى ﴾ أي لعبرة
﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ أي لب يعي به، وقال مجاهد : عقل،
﴿ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ أي استمع الكلام فوعاه، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال الضحّاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وقوله سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾ فيه تقرير للمعاد، لأن من قدر على السماوات والأرض ولم يعي يخلقهن، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى. وقال قتادة : قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه :
﴿ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾ أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كما قال تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ] وكما قال عزَّ وجلَّ :
﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقال تعالى :
﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ].
وقوله عزّ وجل :
﴿ فاصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾ يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجراً جميلاً
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب ﴾، وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتان قبل طلوع الشمس في وقت الفجر، وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجباً على النبي صلى الله عليه ونسلم وعلى أمته حولاً، ثم نسخ في حق الأمة وجوبه. ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات. ولكن منهم صلاة ( الصبح والعصر ) فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وقد روى الإمام أحمد، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما :
« كنا جلوساً عند النبي ﷺ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال :» أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا «
2404
، ثم قرأ :
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب ﴾. وقوله تعالى :
﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ أي فصلِّ له كقوله :
﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ [ الإسراء : ٧٩ ]،
﴿ وَأَدْبَارَ السجود ﴾ قال مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو التسبيح بعد الصلاة، ويؤيد هذا ما ثبت في
« الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :
« جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي ﷺ :» وما ذاك؟
« قالوا : يصلون ما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال ﷺ :» أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين
« قال، فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال فما فعلنا ففعلوا مثله، فقال ﷺ :» ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
« والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى :﴿ وَأَدْبَارَ السجود ﴾ هما الركعتان بعد المغرب، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي. روى الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه قال :» كان رسول الله ﷺ يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلاّ الفجر والعصر، وقال عبد الرحمن : دبر كل صلاة
« وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :» بت ليلة عند رسول الله ﷺ فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال : يا ابن عباس :
« ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود » «.
2405
يقول تعالى :﴿ واستمع ﴾ يا محمد ﴿ يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ قال كعب الأحبار : يأمر الله تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله تعالى يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق ﴾ يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون، ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج ﴾ أي من الأجداث ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير ﴾، أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وإليه مصير الخلائق كلهم، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير. وإن شراً فشر. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعا ﴾ وذلك أن الله عزَّ وجلَّ ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور، فإذا نفخ فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ، وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب، سراعاً مبادرين إلى أمر الله عزَّ وجلَّ، ﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [ القمر : ٨ ]، وقال تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٢ ]. وفي « صحيح مسلم » عن أنَس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« أنا أول من تنشق عنه الأرض » وقوله عزّ وجلّ :﴿ ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ أي تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا، كما قال جلّ جلاله :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، وقال سبحانه وتعالى :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]، وقوله جل وعلا :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾، أي علمنا محيط بما يقول لك المشركون، فلا يهولنك ذلك، كقوله ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ] وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، وقال مجاهد والضحاك : أي لا تتجبر عليهم، والقول الأول أولى، قال الفراء : سمعت العرب تقول : حبر فلان فلاناً على كذا بمعنى أجبره، ثم قال عزّ وجل :﴿ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ أي بلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، وقوله جلّ جلاله :﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [ الغاشية : ٢١-٢٢ ]. ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ كان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا بار يا رحيم.