تفسير سورة ق

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة ق من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ
﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، البسملة سبق الكلام عليها، وأنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة إلا سورة براءة، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكتبوا أمامها بسملة، ولكن جعلوا فاصلاً بينها وبين آخر سورة الأنفال، وليس هناك ذكر يذكر بدلاً عن البسملة، كما يوجد في هامش بعض المصاحف، حيث كتب :( أعوذ بالله من النار، ومن كيد الفجار، ومن غضب الجبار، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين )، ولا شك أن هذا كلام بدعي لا أصل له.

﴿ ق والقرءان المجيد ﴾ ( ق ) حرف من الحروف الهجائية التي يتركب منها الكلام العربي، وهي كسائر الحروف، ليس لها معنى في حد ذاتها، ومن المعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي، وإذا كانت هذه الحروف ليس لها معنى باللسان العربي، فهي كذلك ليس لها معنى في كتاب الله - عز وجل - من حيث المعنى الذاتي لها، وأما بالنسبة للمغزى العظيم الكبير، فلها مغزى عظيم كبير، ألا وهو أن هذا القرآن الذي أعجز العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم لم يأت بشيء جديد من حروف لم يعرفونها، بل هو بالحروف التي يعرفونها، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثله، فدل ذلك على أنه من كلام العزيز الحميد - جل وعلا - ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدأت بالحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن.
﴿ والقرءان المجيد ﴾ الواو هنا حرف قسم. أقسم الله تعالى بالقرآن، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء، وإقسامه هنا بالقرآن إقسام بكلامه، وكلام الله تعالى من صفاته، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أنه يجوز الإقسام بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وأما آياته فلا يُقسم بها إلا إذا قصد الإنسان بالآيات كلماته، كالقرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، وما أشبه ذلك، وأما الآيات الكونية كالشمس والقمر فلا يجوز لنا أن نقسم بها، أما الله - عز وجل - فله أن يقسم بما شاء، والقرآن مأخوذ من قرأ إذا تلي، أو من قرأ إذا جمع، ومنه قرية ؛ لأن الناس يجتمعون فيها، والقرآن يتضمن المعنيين، فهو متلو وهو مجموع أيضاً، ﴿ المجيد ﴾ أي ذي المجد، وهو العظمة والسلطان المطلق، فالقرآن له عظمة عظيمة، مهيمن مسيطر على جميع الكتب السابقة، حاكم عليها، ليس محكوماً عليه، وهو أيضاً مجيد، به يمجد ويعلو ويظهر من تمسك به، وهذا كقوله تعالى :﴿ بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ ﴾.
﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ﴾ هنا لا يتراءى للإنسان التالي جواب القسم، فاختلف العلماء - رحمهم الله - في مثل ذلك : هل له جواب، أو جوابه يعرف من السياق، أو يعرف من المقسم به ؟ وأظهر ما يكون أن نقول : إن مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب القسم، لأنه معروف من عظمة المقسم عليه، فكأنه أقسم بالقرآن على صحة القرآن، فالقرآن المجيد لكونه مجيداً كان دليلاً على الحق، وأنه منزل من عند الله - عز وجل - وحينئذ لا يحتاج القسم إلى جواب ؛ لأن الجواب في ضمن القسم :﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ﴾ عجبوا : الواو تعود على المكذبين للرسول - عليه الصلاة والسلام - الذين كذبوا رسالته، وكذبوا بالقرآن، وكذبوا بالبعث، وكذبوا باليوم الآخر، ولهذا ﴿ عجبوا أن جاءهم منذر منهم ﴾ عجبوا عجب استغراب واستنكار، وإنما قلنا ذلك لأن العجب تارة يُراد به الاستنكار والتكذيب، وتارة يراد به الاستحسان، فقول عائشة - رضي الله عنها - :«كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ». والمراد بالعجب هنا الاستحسان، وقوله هنا :﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ﴾ المراد به الاستنكار والتكذيب، ﴿ أن جاءهم منذر منهم ﴾ أي : ليس بعيداً عنهم بل هو منهم نسباً وحسباً ومسكناً، يعرفونه، ومع ذلك قالوا هذا شيء عجيب ﴿ أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ﴾ لما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الله سوف يبعثهم، وسوف يجازيهم، ويحاسبهم تعجبوا كيف هذا ؟ أيحيى الإنسان بعد أن كان رفاتاً، قال الكافرون :﴿ هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا تراباً ﴾ إذا من المعروف أنها ظرفية، وكل ظرف يحتاج إلى عامل، والعامل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير[ ﴿ أءذا متنا وكنا تراباً ﴾.
[ ﴿ أءذا متنا وكنا تراباً ﴾ نرجع ونبعث ] ثم قال :﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ ولهذا يحسن عند التلاوة أن تقف على قوله :﴿ أءذا متنا وكنا تراباً ﴾ لأن قوله :﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ جملة استئنافية لا علاقة لها من حيث الإعراب بما قبلها، والاستفهام هنا بمعنى الإنكار والتكذيب، كأنهم يقولون : لا يمكن أن نرجع ونبعث بعد أن كنا تراباً وعظاماً، ولكن بين الله - عز وجل - أنه قادر على ذلك، فلما قالوا :﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ ومرادهم بالبعد هنا الاستحالة، فهم يرون أن ذلك مستحيل، وربما تلطف بعضهم وقال :﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ فهم تارة ينكرون إنكاراً مطلقاً، ويقولون هذا محال، وتارة يقولون : هذا بعيد.
قال الله تعالى مبيناً قدرته على ذلك :﴿ قد علمنا ما تنقص الأَرض منهم ﴾ الأرض تأكل الإنسان إذا مات، فالله تعالى يعلم ما تنقص الأرض من أجزاء بدنه ذرة بعد ذرة، ولو أكلته الأرض، وقوله :﴿ ما تنقص الأَرض منهم ﴾ قد يفيد أنها لا تأكل كل الجسم وفي ذلك تفصيل، أما الأنبياء فإن الأرض لا تأكلهم مهما داموا في قبورهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » وأما غيرهم فقد يبقى الجسم مدة طويلة لا تأكله الأرض إلى ما شاء الله، وقد تأكله الأرض، لكن إذا أكلته الأرض فإنه يبقى عجب الذنب، وعجب الذنب هو عبارة عن الجزء اليسير من العظم بأسفل الظهر، هذا يبقى بإذن الله لا تأكله الأرض كأنه يكون نواة للجسم عند بعثه يوم القيامة، فإنه منه يخلق الآدمي في قبره، فإذا تم النفخ في الصور قاموا من قبورهم لله - عز وجل - وإذا كان الله تعالى عالم بما نقصت الأرض منهم فهو قادر على أن يرد هذا الذي نقصته الأرض عند البعث، ﴿ وعندنا ﴾ أي عند الله تعالى ﴿ كتاب حفيظ ﴾، أي : حافظ لكل شيء، قال الله تعالى :﴿ كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحفظين كراماً كتبين يعلمون ما تفعلون ﴾.
قال تعالى :﴿ بل كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ بل هنا للإضراب الانتقالي، وليست للإضراب الإبطالي ؛ لأن الأول ثابت والثاني زائد عليه، وهذا هو الفرق بين ( بل ) التي للإضراب الإبطالي، وبين ( بل ) التي للإضراب الانتقالي، فصارت بل للإضراب دائمة لكن إن كانت تبطل الأول سموها إضراب إبطال، وإن كانت لا تبطله فهو إضراب انتقالي، كأنه انتقل من موضوع إلى آخر ﴿ بل كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ ولكن قلوبهم موقنة إلا أن ألسنتهم تكذب، كما قال الله تعالى عن آل فرعون :﴿ وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلماً وعلواً ﴾ ﴿ لما جاءهم ﴾ لما هنا بمعنى حين، فهي ظرف وليست حرفاً، ﴿ فهم في أمر مريج ﴾ الفاء هنا للتعقيب والسببية، والمعنى فهم لما كذبوا بالحق في أمر مريج، أي : مختلط اختلط عليهم الأمر - والعياذ بالله - وهو كقوله تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ يعني لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة وظلوا في طغيانهم يعمهون، هؤلاء لما كذبوا صاروا في أمر مريج، التبس عليهم الأمر، وترددوا في أمرهم، وهكذا كل إنسان يرد الحق أول مرة، فليعلم أنه سيبتلى بالشك والريب في قبول الحق في المستقبل، ولهذا يجب علينا من حين أن نسمع أن هذا الشيء حق أن نقول : سمعنا وأطعنا، خلافاً لبعض الناس الآن، تقول : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا ؟ فيقول : الأمر للوجوب أم للاستحباب ؟ سبحان الله، افعل ما أمرك به سواء على الوجوب أو على الاستحباب، لأن معنى قوله : هل هو للوجوب أو للاستحباب ؟ معناه إذا كان للاستحباب فأنا في حل منه، وإذا كان للوجوب فعلته، وهذا خطأ، ولكن قل : سمعنا وأطعنا، ثم إذا وقعت المخالفة فحينئذ ربما يكون السؤال عنه : هل هو واجب أو مستحب ؟ ربما يكون وجيهاً، أما قبل فلا.
قد يقول قائل : أنا أسأل هل هو واجب أو مستحب ؟ لأن هناك فرقاً بين الواجب والمستحب، والواجب أحب إلى الله، فأنا أفعله من أجل إذا اعتقدت أنه واجب أُثاب عليه ثواب واجب، وإذا اعتقدت أنه سنة أُثاب عليه ثواب سنة.
قلنا : نعم، هذا طيب، لكن ثواب انقيادك للحق لأول مرة وبكل سهولة وبدون سؤال أفضل من كونك تعتقده واجباً أو مستحبًّا، وإذا كان الله قد أوجبه عليك أثابك ثواب الواجب، وإن كنت لا تدري، فالانقياد وتمام الانقياد أفضل بكثير من كون أعتقد هذا واجباً أو مستحبّاً.
ثم قال :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء ﴾ استدل بالآيات الكونية على صحة الآيات الشرعية.
والاستفهام هنا للتوبيخ، يوبخهم - عز وجل - لماذا لم ينظروا إلى هذا ؟ لماذا لم ينظروا إلى السماء وما فيها من عجائب القدرة الدالة على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون، وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء ﴾ يشمل نظر البصر، ونظر البصيرة، نظر البصر يكون بالعين، ونظر البصيرة يكون بالقلب، أي : التفكر، وقوله :﴿ إلى السماء فوقهم كيف بنينها ﴾ قد يقول قائل : إن كلمة :﴿ فوقهم ﴾ لا فائدة منها، لأن السماء معروفة أنها فوق، ولكن نقول : إن النص على كونها فوقهم إشارة إلى عظمة هذه السماء، وأنها مع علوها وارتفاعها وسعتها وعظمتها تدل على كمال خلقه وقدرته - جل وعلا - ﴿ كيف بنينها ﴾ بناها الله - عز وجل - بقوة وجعلها قوية، فقال - جل وعلا - :﴿ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً ﴾ أي قوية، وقال تعالى :﴿ والسماء بنينها بأيد ﴾ أي بقوة، وهذا البناء لا نعلم كيف بناها الله - عز وجل - لكننا نعلم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، خلق الأرض في أربعة، والسماء في يومين، كما قال الله تعالى :﴿ فقضاهن سبع سماوات في يومين ﴾ وقوله :﴿ وزينها ﴾ أي حسنَّا منظرها، بما خلق الله تعالى فيها من النجوم العظيمة المنيرة المنتظمة في سيرها، وهذه النجوم قال قتادة - رحمه الله - وهو من أئمة التابعين :«خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء، وعلامات يُهتدى بها، ورجوماً للشياطين، فمن ابتغى فيها شيئاً سوى ذلك فقد أضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به » يشير إلى ما ينتحله المنجمون من الاستدلال بحركات هذه النجوم على الحوادث الأرضية، حتى إنهم يبنون سعادة الشخص وشقاءه على هذه النجوم، مثلاً يقولون : إذا ولد في النجم الفلاني فهو سعيد، وإذا ولد في النجم الفلاني فهو شقي، وهذا لا أثر لها، أعني تحركات النجوم في السماء، ليس لها أثر فيما يحدث في الأرض، ثم قال تعالى :﴿ وما لها من فروج ﴾ يعني ليس للسماء من فروج، أي من فطور وتشقق، بل مبنية محكمة قوية.
﴿ والأَرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ﴾ هذه ثلاثة أمور، أولاً : الأرض مدها الله - عز وجل - مع أنها بالنسبة للسماء صغيرة جداً، لكنها ممدودة للخلق، مسطحة لهم كما قال تعالى :﴿ وإلى الأَرض كيف سطحت ﴾
ثانياً :﴿ وألقينا فيها روسى ﴾ أي جبال ثابتات لا تزعزعها الرياح فهي قاسية، وكذلك أيضاً ترسي الأرض.
ثالثاً :﴿ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ﴾ أي من كل زوج سار لناظره، والمراد بالزوج هنا الصنف، يعني أن ما ينبت في الأرض أصناف متعددة متنوعة حتى إنك ترى البقعة من الأرض وهي صغيرة تشتمل على أنواع من هذه الأصناف، تختلف في ألوانها، وتختلف في أحجامها، وتختلف في ملمسها ما بين شديدة ولينة إلى غير ذلك من الاختلافات العظيمة، بل إنها تختلف في مذاقها إذا كانت من ذوات الثمر، كما قال تعالى :﴿ ونفضل بعضها على بعض في الأُكل ﴾ فمن القادر على أن يخلق هذه الأشياء ؟ هو الله سبحانه وتعالى، وهذه التي ﴿ فيها من كل زوج بهيج ﴾ مع أنها في مكان واحد وتسقى بماء واحد، والأرض أيضاً واحدة، من يقدر على هذا ؟ الجواب : هو الله - عزوجل - إنك تأتي الأرض المعشبة التي أنبت الله تعالى فيها من أصناف النبات، فتتعجب ترى هذه مثلاً زهرتها صفراء، وهذه بيضاء، وهذه بنفسجية، وهذه منفتحة، وهذه منضمة إلى غير ذلك من الآيات العظيمة، فهذا أكبر دليل على أن الله قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا :﴿ أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ﴾ فالقادر على خلق هذه المخلوقات العظيمة قادر على إحياء الموتى، ثم يقال : من الذي خلق الإنسان ؟ هو الله، وإعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾ فإذا كنتم أيها المشركون تقرون بأن الله هو الخالق، وأنه هو الذي خلقكم وأوجدكم، فلماذا تنكرون أن يعيدكم مع أن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
﴿ تبصرةً وذكرى لكل عبد منيب ﴾ يعني أن الله تعالى حثنا على أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض، وما يحدث فيهما تبصرة، أي لأجل التبصرة والذكرى، قال العلماء : والفرق بين التبصرة والذكرى أن التبصرة مستمرة، والذكرى عند النسيان، فهذه الآيات تذكرك إذا نسيت، وتبصرك إذا جهلت، وقد يقال : إن الفرق بينهما أن التبصرة في مقابل الجهل، والذكرى في مقابل النسيان، وكلا القولان حق، المهم أنك إذا نظرت إلى السماء وإلى الأرض وما فيهما مما أودعه الله - عز وجل - من النبات فإنك سوف تبصر بقلبك، وتذكر أيضاً إذا نسيت، ولكن لمن هذه التبصرة والذكرى ﴿ لكل عبد منيب ﴾، ليست لكل إنسان، ما أكثر ما ينظر الكفار في الآيات، ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، إنما الذي ينتفع بها هم كل عبد منيب، أي : رجاع إلى الله - عز وجل -.
﴿ ونزلنا من السماء ماءً مبركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ﴾. يقول - جل وعلا - :﴿ ونزلنا ﴾، لأن المطر ينزل شيئاً فشيئاً، وربما يعبر عنه بأنزل لأنه تجيء به الأودية والشعاب، وقوله :﴿ من السماء ﴾ أي من العلو، لأن هذا المطر ينزل من السحاب وليس من السماء التي هي السقف المحفوظ، بدليل قوله تعالى :﴿ والسحاب المسخر بين السماء والأَرض ﴾، إذن هو ينزل من العلو، والحكمة في إنزاله من العلو ليشمل قمم الجبال ومراتع الإبل، والسهل والأودية، لأنه لو جاء يمشي سيحاً من الأرض ما وصل إلى قمم الجبال، ولكن الله - عز وجل - جعله من فوق، وقوله :﴿ ماءً مبركاً ﴾ من بركته أنه يُنبت به﴿ جنات وحب الحصيد ﴾، الجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار، وسميت البساتين الكثيرة الأشجار جنات، لأنها تُجن أي تستر ما تحتها، وكل بستان ذو شجر ملتف بعضه إلى بعض يسمى جنة، وأما قوله :﴿ وحب الحصيد ﴾ يعني به الزروع التي تحصد، فذكر الله هنا الأشجار والزروع، فمن الأشجار تجد الثمار، ومن الزروع تحصد الحبوب،
﴿ والنخل باسقات لها طلع نضيد ﴾ خص الله النخل لأنها أشرف الأشجار، ولهذا شبه بها المؤمن حيث قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«إن من الشجر شجراً مثلها مثل المؤمن » قال ابن عمر - رضي الله عنهما - فذهب الناس يخوضون في شجر البوادي، كل يقول : هي الشجرة الفلانية، يقول ابن عمر : فوقع في قلبي أنها النخلة، لكني كنت أصغر القوم - يعني فاستحيا أن يتكلم وهو أصغرهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هي النخلة » وهي الشجرة المذكورة في قول الله تعالى :﴿ ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ﴾ فلهذا خصها هنا بالذكر فقال :﴿ والنخل باسقات ﴾ أي عاليات ﴿ لها طلع نضيد ﴾ أي منضود، فالطلع في شماريخه تجده منضوداً من أحسن ما يكون النضد، ومع ذلك تجد هذه الثمرات تسقى بالشمراخ الدقيق اللين مع أنه قد يكون فيه أحياناً أكثر من ثلاثين حبة.
﴿ رزقاً للعباد ﴾ أي فعلنا ذلك، أنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات. فعلنا ذلك رزقاً للعباد أي عطاءً وفضلاً للعباد، والعباد هنا يشمل العباد المؤمنين والعباد الكافرين ؛ لأن الكافر عبد لله كما قال الله تعالى :﴿ إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً ﴾. والمراد هنا العبودية الكونية القدرية، أما العبودية الشرعية فلا يكون عبداً لله إلا من كان ممتثلاً لأمره، مجتنباً لنهيه، مصدقاً بخبره، ﴿ وأحيينا به بلدةً ميتاً ﴾ أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء بلدة ميتة، ﴿ بلدةً ﴾ لما كانت مؤنثة اللفظ، مذكرة المعنى، صح أن توصف بوصف مذكر، ﴿ بلدةً ميتاً ﴾ أي بلد ميت، أحياه بهذا الماء الذي نزل من السماء، تجد الأرض هامدة خاشعة ليس فيها نبات، فإذا أنزل الله المطر عجت بالنبات واخضرت وازدهرت، فهذه حياة بعد الموت ﴿ كذلك الخروج ﴾ أي مثل ذلك الإحياء ﴿ الخروج ﴾، خروج الناس من قبورهم لله - عز وجل - وإنما ذكر الله تعالى الخروج لأن من عباد الله من أنكر ذلك ﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ﴾ وحجتهم أنهم قالوا من يحيي العظام وهي رميم ؟ من يحيي العظام بعد أن أرمت وصارت تراباً ؟ هذا مستنكر عندهم بعيد، ولكن الله سبحانه وتعالى بين أنه ليس ببعيد، وأنهم كما يشاهدون الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا، إذن فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها بنزول المطر قادر على إحياء الأموات بعد موتهم، وهذا قياس جلي واضح، كذلك الخروج.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخون لوط وأصحاب الأَيكة وقوم تبع ﴾ ذكر الله هؤلاء المكذبين لفائدتين :
الفائدة الأولى : تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس أول رسول كُذِّب، بل قد كُذِّبت الرسل من قبل، كما قال الله تعالى :﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾. قيل : إنه شاعر، قيل : إنه مجنون، قيل : إنه كاهن. وقد قال الله تعالى :﴿ كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾، هذه فائدة لذكر قصص الأمم السابقة، وهي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإنسان إذا رأى غيره قد أصيب بمثل مصيبته يتسلى بلا شك، وتهون عليه المصيبة.
الفائدة الثانية : التحذير لمكذبي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخر ما ذكر ﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ فحق عليهم وعيد الله بالعذاب، وقد قال عز وجل :﴿ فكلا أخذنا بذنبه ﴾ يعني كل واحد من هذه الأمم جوزي بمثل ذنبه فعوقب بمثل ذنبه، ﴿ كذبت قبلهم قوم نوح ﴾، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يعني تسعمائة وخمسين سنة، وهو يدعوهم إلى الله - عز وجل - ولكن لم يستفيدوا من ذلك شيئاً، كلما دعاهم ليغفر لهم ﴿ جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم ﴾ تغطوا﴿ وأصروا واستكبروا استكباراً ﴾. وبقي فيهم هذه المدة، وقد قال الله تعالى في النهاية :﴿ ومآ آمن معه إلا قليل ﴾. ﴿ وأصحاب الرس ﴾ قوم جاءهم نبيهم ولكنهم قتلوه بالرس، وهو البئر، أي حفروا بئراً ودفنوه، هذا قول، والقول الثاني : أصحاب الرس، أي أنهم قومٌ حول ماءٍ وليسوا بالكثرة الكافية، ومع هذا كذبوا رسولهم ﴿ وثمود ﴾ وهم قوم صالح في بلاد الحجر المعروفة، كذبوا صالحاً وقالوا :﴿ ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين ﴾. وهذا تحدٌّ، فأرسل الله عليهم صيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين
﴿ وعاد ﴾ كذلك أيضاً عاد أرسل الله إليهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله - عز وجل - بالريح العقيم ﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ﴾ وكانوا يفتخرون بقوتهم ويقولون :﴿ من أشد منا قوةً ﴾. فأراهم الله - عز وجل - قوته وأهلكهم بالريح اللطيفة التي لا يرى لها جسم، ومع ذلك دمرتهم تدميراً، ﴿ وفرعون ﴾ الذي أرسل الله إليه نبيه موسى عليه السلام، وفرعون كان معروفاً بالجبروت والعناد والاستكبار، حتى إنه استخف قومه وقال لهم إنه رب ﴿ فقال أنا ربكم الأَعلى ﴾ فأطاعوه فجاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، لكنهم كذبوا، وأراهم الله تعالى آية كانوا يفتخرون بما يضاد ما جاء به موسى وهو السحر، فجمعوا لموسى عليه الصلاة والسلام كل السحرة في مصر، واجتمعوا وألقوا الحبال والعصي، وألقوا عليها السحر فصار الناس يشاهدون هذه الحبال والعصي وكأنها حيات وثعابين، ورهب الناس كما قال الله تعالى :﴿ واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم ﴾. حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة ؛ لأنه شاهد أن كل الجو حوله ثعابين تريد أن تلتهم ما تقابله، فأوحى الله إلى موسى أن ألقِ عصاك، فألقى العصا فالتهمت جميع هذه الحيات، وهذا من آيات الله، إذ إن الحية كما هو معروف ليست بذات الكبر لكي تأكل هذا، وكان هذا يذهب بخاراً، إذا أكلت هذه الحبال والعصي، فالسحرة رأوا أمراً أدهشهم ولم يملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا مع ذلك إيماناً تامًّا ﴿ وألقى السحرة ساجدين ﴾، وتأمل قوله تعالى :﴿ وألقى السحرة ساجدين ﴾ ولم يقل سجدوا، كأن شيئاً اضطرهم إلى السجود، كأنهم سجدوا بغير اختيار لقوة ما رأوا من الآية العظيمة، ومع هذه الآية البينة الواضحة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام لم يؤمن فرعون بل قال :﴿ إن هؤلآء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون ﴾، فهمّ بأن يهجم على موسى ومن معه من المؤمنين، فأمر الله موسى أن يخرج من مصر إلى جهة المشرق نحو البحر الأحمر، فامتثل أمر الله، وخرج من مصر إلى هذه الناحية، فتبعهم فرعون بجنوده على حنق، يريد أن يقضي على موسى وقومه، فلما وصلوا إلى البحر قال قوم موسى له :﴿ إنا لمدركون ﴾. ﴿ قال كلا ﴾ يعني لن ندرك ﴿ إن معى ربي سيهدين ﴾ فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر، البحر الذي عرضه مسافات طويلة فضرب البحر فانفلق البحر اثني عشر طريقاً، وصارت قطع الماء كأنها جبال، وصارت هذه الطرق التي كانت رياً من الماء، وطيناً زلقاً، صارت طريقاً يبساً بإذن الله في لحظة، فدخل موسى وقومه عابرين من أفريقيا إلى آسيا من طريق البحر، فلما تكاملوا داخلين وخارجين للناحية الشرقية دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا للدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم، فلما أدرك فرعون الغرق أعلن فقال :﴿ آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به ﴾. وتأمل أنه لم يقل : آمنت بالله، بل قال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، لماذا ؟ إذلالاً لنفسه، حيث كان ينكر على بني إسرائيل ويهاجمهم، فأصبح عند الموت يقر بأنه تبع لهم، وأنه يمشي خلفهم، ولكن ماذا قيل له :﴿ ءالئن ﴾ تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنك من المسلمين ﴿ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾. فلم تقبل توبته، لأنه لم يتب إلا حين حضره الموت، والتوبة بعد حضور الموت لا تنفع، كما قال الله تعالى :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن ﴾ لا تنفع التوبة إذا حضر الموت، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة قبل الموت، ولكن الله قال :﴿ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءايةً ﴾. ننجيك ببدنك لا بروحك، الروح فارقت البدن، لكن البدن بقي طافياً على الماء. وبيَّن الله الحكمة ﴿ لتكون لمن خلفك ءايةً ﴾ لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون فلو لم يتبين لهم أنه غرق بنفسه لكانت أوهامهم تذهب كل مذهب، لعله لم يغرق، لعله يخرج إلينا من ناحية أخرى، فأقر الله أعين بني إسرائيل بأن شاهدوا جسمه غارقاً في الماء، ﴿ لتكون لمن خلفك ءايةً ﴾.
﴿ وإخون لوط ﴾ إخوان لوط يعني قوم لوط، أرسل إليهم لوط عليه الصلاة والسلام، لأنهم كانوا - والعياذ بالله - يأتون الذكران، ويدعون النساء، أي أن الواحد يجامع الذكر ويدع النساء، كما قال لهم عليه الصلاة والسلام :﴿ أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ﴾. دعاهم إلى الله - عز وجل - وأنذرهم وخوَّفهم من هذا الفعل الرذيل، ولكنهم أصروا عليه، فأرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة، يعني معلَّمة، كل حجارة عليها علم، يعني علامة على من تنزل عليه وتصعقه، وهذه الخصلة الرذيلة من أقبح الخصال، ولهذا كان حدها في الشريعة الإسلامية القتل بكل حال، يعني أنها أعظم من الزنا، فإذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرَّب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم حتى يموت، أما اللواط فإن حده القتل بكل حال، يعني لو تلوط شخص بالغ بآخر بالغ باختيار منهما فإنه يجب أن يقتل الفاعل والمفعول به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ». قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : إن الصحابة أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا كيف يُقتل ؟ فقال بعضهم : إنه يحرق بالنار لعظم جرمه، والعياذ بالله، وقال آخرون : إنه يرجم بالحجارة، وقال آخرون : إنه يلقى من أعلى مكان في البلد ويتبع بالحجارة، والشاهد أن ابن تيمية رحمه الله نقل إجماع الصحابة على قتله، وإجماع الصحابة حجة فيكون مؤيداً للحديث :«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » ولأن هذه الفاحشة الكبرى - والعياذ بالله - فاحشة مفسدة للمجتمع، لأنه يصبح المجتمع الرجالي مجتمعاً نسائياً، وهو أيضاً لا يمكن التحرز منه، فالزنا يمكن التحرز منه إذا رؤيت امرأة مع رجل في محل ريبة فإنه يمكن مناقشتهما، لكن إذا رؤي ذكر مع ذكر كيف يمكن أن نناقشهما، والأصل أن الرجل مع الرجل يجتمع ولا يتفرق، لهذا كان القول بوجوب قتلهما هو الحق، أما قوم لوط فإن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجين، مسومة فدمرهم تدميراً، حتى جعل عالي قريتهم سافلها.
﴿ وأصحاب الأَيكة ﴾، يعني الشجرة، أرسل الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى الله وذكَّرهم به، وحذَّرهم من بخس المكيال والميزان، ولكنهم - والعياذ بالله - بقوا على كفرهم وعنادهم ﴿ فأخذهم عذاب يوم الظلة ﴾ وهذا العذاب يقال : إن الله تعالى أرسل إليهم حرًّا شديداً ولم يجدوا مفرًّا منه إلا أنه أرسلت غمامة واسعة باردة فصاروا يتدافعون إلى ظلها، يتظللون بها، فأنزل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، وفي هذا يقول تعالى :﴿ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ﴾. ﴿ وقوم تبع ﴾ أيضاً ممن كذبوا الرسل وهم أصحاب تُبّع، وهو ملك من ملوك اليمن أرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه ولم ينقادوا له، فيقول - عز وجل - :﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ أي أن هؤلاء الأمم الذين أشار الله تعالى إلى قصصهم كلهم كذبوا الرسل، فحق عليهم وعد الله - والعياذ بالله - بعذابه وانتقامه.
﴿ أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في لبس من خلق جديد ﴾ الاستفهام هنا للنفي، وعيينا هنا بمعنى تعبنا، والخلق الأول هو ابتداء الخلائق يعني هل نحن عجزنا عن ابتداء الخلائق حتى نعجز عن إعادة الخلائق ؟ ! من المعلوم أن الجواب : لا، كما قال تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن ﴾. أي لم يتعب بذلك، فإذا كان الله - جل وعلا - لم يتعب بالخلق الأول فإن إعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ وهذا استدلال عقلي يراد به إقناع هؤلاء الجاحدين لإعادة الخلق، فإن الذين كفروا زعموا أن لن يبعثوا وأنه لا بعث، وأنكروا هذا واستدلوا لذلك بدليل واهٍ جدًّا، فقالوا فيما حكاه الله عنهم :﴿ من يحي العظام وهي رميم ﴾ فقال الله تعالى :﴿ قل يحييها الذذذ أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم ﴾. ثم ساق الأدلة العقلية الدالة على أن الله تعالى قادر على أن يحيي العظام وهي رميم، قال تعالى :﴿ بل هم في لبس من خلق جديد ﴾ أي هم مقرون بأننا لم نعِ بالخلق الأول، وأنا أوجدناه لكن هم في لبس من خلق جديد، ولهذا حصل الإضراب هنا، حيث قال :﴿ بل هم ﴾ يعني أن هذا عجبٌ من حالهم كيف يقرون بأول الخلق ثم ينكرون البعث بعد الموت، بل هم﴿ في لبس ﴾ أي في شك وتردد ﴿ من خلق جديد ﴾ وهو إعادة الخلق. والقادر على ابتداء الخلق يكون قادراً على إعادته من باب أولى، وهذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسان أن يفر منه.
ثم قال - عز وجل - مستدلاًّ على قدرته على البعث :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ يعني ابتدأنا خلقه وأوجدناه وجعلنا له عقلاً وسمعاً وبصراً وتفكيراً وحديثاً للنفس، ﴿ ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ يعني ونحن نعلم ما توسوس به نفسه، أي ما تحدثه به نفسه، دون أن ينطق به، فالله تعالى عالم به، بل إن الله عالم بما سيحدث به نفسه في المستقبل، والإنسان نفسه لا يعلم ما يُحدث به نفسه في المستقبل، والله يعلم ما توسوس به نفسك غداً وبعد غدٍ، وإلى أن تموت وأنت لا تعلم وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن لا نحدث أنفسنا بما يُغضبه وبما يكره. فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه، لأنه يعلم ذلك، أفلا يليق بنا أن نستحيا من ربنا - عز وجل - أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه ؟ ! :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾، حبل الوريد هو الأوداج، وهما العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم، يسمى الوريد، ويسمى الودج، وجمعه أوداج، ويضرب المثل بهما في القرب، أقرب شيء إلى قلبك هو حبل الوريد، هذا أقرب إلى المخ، وأقرب من كل شيء فيه الحياة هما الوريدان. واختلف المفسرون في قوله :﴿ ونحن أقرب إليه ﴾ هل المراد قرب ذاته - جل وعلا - أو المراد قرب ملائكته ؟.
والصحيح أن المراد قرب ملائكته. ووجه ذلك أن قرب الله تعالى صفة عالية لا يليق أن تكون شاملة لكل إنسان، لأننا لو قلنا : إن المراد قرب ذات الله لكان قريباً من الكافر وقريباً من المؤمن. لأنه قال :﴿ خلقنا الإنسان ﴾، أي إنسان المؤمن والكافر ﴿ ونحن أقرب إليه ﴾ أي إلى هذا الإنسان الذي خلقناه من حبل الوريد، فإذا قلنا الآية الشاملة، وقلنا أن القرب هنا القرب الذاتي صار الله قريباً بذاته من الكافر، وهذا غير لائق، بل الكافر عدو لله - عز وجل - لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة، أي أقرب إليه بملائكتنا، ثم استدل لقوله بقوله تعالى :
﴿ إذ يتلقى المتلقيان ﴾ فإذ بمعنى حين، وهي متعلقة بالقرب، أي أقرب إليه في هذا الحال حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد.
فإن قال قائل : كيف يضيف الله القرب المسند إليه والمراد به الملائكة ألهذا نظير ؟.
قلنا : نعم، له نظير. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ﴾ قرأناه المراد بذلك جبريل، ونسب الله فعل جبريل إلى نفسه ؛ لأنه رسوله، كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه لأنهم رسله، كما قال تعالى :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾. وما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الصواب.
فإن قال قائل : وهل الله تعالى قريب من المؤمن على كل حال ؟.
قلنا : بل في بعض الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ». فهذا قربٌ في حال الدعاء، مصداق ذلك قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ﴾. كذلك هو قريب من المؤمن في حال السجود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ». وعلى هذا فيكون المؤمن قريباً من الله تعالى حال عبادته لربه، وحال دعائه لربه، أما القرب العام فإن المراد به القرب بالملائكة على القول الراجح.
وقوله :﴿ إذ يتلقى المتلقيان ﴾ هما ملكان بين الله مكانهما من العبد، فقال :﴿ عن اليمين وعن الشمال قعيد ﴾، ولم يقل على اليمين وعلى الشمال، لأنهما ليسا على كتفيه، بل هما في مكان قريب، أقرب من حبل الوريد، ولكن قد يقول قائل ملحد : أنا ألتمس حولي لا ألمس أحداً، أين القعيد ؟ فنقول : هذا من علم الغيب الذي لا تدركه عقولنا، وعلينا أن نصدق به ونؤمن به، كما لو لمسناه بأيدينا، أو شاهدناه بأعيننا، أو غير ذلك من أدوات الحس، علينا أن نؤمن بذلك، لأنه قول الله - عز وجل - ﴿ عن اليمين وعن الشمال قعيد ﴾، قاعد مستقر، أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، هذا المكتوب عرضة للمحو والإثبات، لأن المكتوب الذي بأيدي الملائكة عرضة للمحو والإثبات لقول الله تعالى :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ﴾. يعني أصل أم الكتاب هو لوح محفوظ مكتوب فيه ما يستقر عليه العبد، فما يستقر عليه العبد مكتوب، لكن ما كان قابلاً للمحو والإثبات في أيدي الملائكة، قال الله - عز وجل - :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾. حسنة تذهب السيئة وتمحوها بعد أن كتبت، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أم الكتاب الأصل مكتوب فيها ما يستقر عليه العبد، نسأل الله أن يجعلنا ممن يستقر على الإيمان والثبات في الدنيا والآخرة.
﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ ﴿ ما يلفظ ﴾ : ما هنا نافية، و﴿ قول ﴾ مجرورة بمن الزائدة إعراباً المفيدة معنىً، لكن تأتي حروف الجر أحياناً زائدة في الإعراب، لكنها تفيد معنى التوكيد، ولهذا إذا اقترن المنفي بمن الزائدة، أو بالباء الزائدة مثل ﴿ ومآ أنا بظلام للعبيد ﴾ فإنه أوكد من النفي المجرد من حرف الجر الزائد، ﴿ ما يلفظ من قول ﴾ إذا جعلنا من زائدة إعراباً مفيدة معنىً ففائدة معناها التوكيد على العموم أي : أي قول يلفظه الإنسان لديه رقيب عتيد، ﴿ رقيب ﴾ مراقب ليلاً ونهاراً، لا ينفك عن الإنسان، ﴿ عتيد ﴾ حاضر لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره، فهو قاعد مراقب حاضر، لا يفوته شيء ﴿ من قول ﴾ أي قول نقوله، كل قول لأن ﴿ من ﴾ هذه زائدة و﴿ قول ﴾ نكرة في سياق النفي فهي للعموم، أي قول، وظاهر الآية الكريمة أن القول مهما كان يكتب، سواء كان خيراً أم شرًّا، أم لغواً يكتب، لكن يحاسب على ما كان خيراً أو شرًّا، ولا يلزم من الكتابة أن يحاسب الإنسان عليها، وهذا ظاهر اللفظ، وهو أحد القولين لأهل العلم.
ومن العلماء من يقول : إنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات فقط، أما اللغو فلا يكتب.
والقول الأول أولى، وهو العموم، أما النتيجة فواحدة، لأنه حتى على القول بأن الكاتب يكتب كل شيء يقولون : إنه لا يحاسب إلا على الحسنات والسيئات، لكن كوننا نقول بالعموم هو المطابق لظاهر الآية، ثم هو الذي فيه الدليل على أن المَلَكين لا يتركان شيئاً، مما يدل على كمال عنايتهما بما ينطق به الإنسان، وبناءً على ذلك يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من أقوال اللسان، فكم زلة لسانية أوجبت الهلاك - والعياذ بالله - ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الرجل الذي قال : والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله :«من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك » قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، نسأل الله العافية.
احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
احذر آفات اللسان، إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حفظ اللسان مَلاك الأمر كله، فقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - :«أفلا أدلك على ملاك ذلك كله » ؟ قلت : بلى يا رسول الله، قال : فأخذ بلسان نفسه وقال :«كف عليك هذا ». لا تطلقه، لا تتكلم، قال : يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال له :«ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم » فالمؤمن يجب أن يحذر لسانه فإنه آفة عظيمة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام :«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ». وحينئذ نعرف أن الصمت مفضّل على الكلام ؛ لأن الكلام قد لا يدري الإنسان أخيراً هو أم شراً، ثم إني أقول : الكلمة إذا أطلقتها وخرجت من فمك فهي كالرصاصة تطلقها، لا يمكنك أن تمنعها إذا خرجت من فوهة البندقية، إذا انطلقت تفسد أو تصلح، كذلك الكلمة، فالعاقل يمنع لسانه ولا يتكلم إلا بخير، والخير إما في ذات المتكلم به، وإما في غيره، يعني قد يكون الكلام ليس خيراً لا بنفسه، لكنه خير من جهة آثاره، قد يتكلم الإنسان بكلام لغو ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن منكر، وليس إثماً ووزراً، لكن يتكلم من أجل أن يفتح الباب للحاضرين، لأنه أحياناً تستولي على المجلس الهيبة ولا أحد يتكلم، فيبقى الناس كلهم في غم، فيتكلم من أجل أن يفتح الباب للناس، وتنشرح صدورهم، ويحصل تبادل الكلام الذي قد يكون نافعاً، نقول : هذا الكلام الذي تكلم وفتح به باب الكلام وأزال عن الناس الغم يعتبر خيراً لغيره، وهذا داخل إن شاءالله في قول الرسول عليه الصلاة والسلام :«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ».
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ﴾، السكرة هنا : هي تغطية العقل كالإغماء ونحوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إن للموت سكرات ». وقوله :﴿ سكرة الموت ﴾ مفرد مضاف، فيشمل الواحدة أو أكثر، وقوله ﴿ بالحق ﴾ : أي أن الموت حق كما جاء في الحديث :«الموت حق، والجنة حق، والنار حق » فهي تأتي بالحق، وتأتي أيضاً بحق اليقين، فإن الإنسان عند الموت يشاهد ما تُوُعِّد به، وما وُعِدَ به ؛ لأنه إن كان مؤمناً بُشِّر بالجنة، وإن كان كافراً بُشِّر بالنار - أعاذنا الله منها - ﴿ ذلك ﴾ أي الموت ﴿ ما كنت منه تحيد ﴾ اختلف المفسرون في ( ما ) هل هي نافية ؟ فيكون المعنى : ذلك الذي لا تحيد منه، ولا تنفك منه، أو أنها موصولة ؟ فيكون المعنى ذلك الذي كنت تحيد منه، ولكن لا مفر منه، فعلى الأول يكون معنى الآية، ذلك الذي لا تحيد منه، بل لابد منه، وقد قال الله تعالى :﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم ﴾. وتأمل يا أخي :﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم ﴾ ولم يقل فإنه يدرككم، وما ظنك بشيء تفر منه وهو يلاقيك، إن فرارك منه يعني دنوك منه في الواقع فلو كنت فارًّا من شيء وهو يقابلك فكلما أسرعت في الجري أسرعت في ملاقاته، ولهذا قال :﴿ فإنه ملقيكم ﴾ وفي الآية الأخرى :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾، لأنه ذكر في هذه الآية أن الإنسان مهما كان في تحصنه فإن الموت سوف يدركه على كل حال، وهنا يقول تعالى :﴿ ذلك ما كنت منه تحيد ﴾، وعلى المعنى الثاني، أي : ذلك الذي كنت تحيد منه وتفر منه في حياتك، قد وصلك وأدركك، وعلى كل حال ففي الآية التحذير من التهاون بالأعمال الصالحة، والتكاسل عن التوبة، وأن الإنسان يجب أن يبادر، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت،
ثم قال :﴿ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ﴾ النافخ في الصور هو ملك، وَكَّله الله تعالى به يسمى إسرافيل، والنفخ في الصور نفختان :
الأولى : نفخة الصعق فيسبقها فزع، ثم صعق.
والثانية : نفخة البعث. وبينهما أربعون، وقد سئل أبو هريرة راوي الحديث : ما المراد بالأربعين ؟ فقال : أبيت. أي أني لا أدري ما المراد بالأربعين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن المراد بقوله :﴿ ونفخ في الصور ﴾ النفخة الثانية بدليل قوله :﴿ ذلك يوم الوعيد ﴾ وهذا يعني أنه بهذه النفخة صار يوم القيامة الذي هو يوم الوعيد.
فإن قال قائل : يوم القيامة يوم الوعيد للكفار، ويوم الوعد للمؤمنين، فلماذا ذكر الله تعالى هنا الوعيد دون الوعد ؟
فالجواب : لأن السورة كلها مبدوءة بتكذيب المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام، فناسب أن يغلب فيها جانب الوعيد ﴿ ق والقرءان المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر ﴾ إلخ.. فكان من الحكمة أن يذكر الوعيد دون الوعد، ومع ذلك فقد ذكر الله تعالى أصحاب الجنة فيما بعد، لأن القرآن مثاني.
﴿ وجاءت كل نفس معها سآئق وشهيد ﴾ جاءت يعني يوم القيامة كل نفس، أي كل إنسان كل بشر. ويحتمل أن يكون معنى كل نفس من بني الإنسان ومن الجن أيضاً، ممن يلزمون بالشرائع، لأننا إن نظرنا إلى السياق وهو قوله :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ الخ.. قلنا : المراد بالنفس هنا نفس الإنسان، وإذا نظرنا إلى أن الشرائع تلزم الجن كما تلزم الإنس، وأن الجن يحشرون يوم القيامة، ويدخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم النار، قلنا : إن هذا عام، فالله أعلم بما أراد، ﴿ معها سآئق ﴾ يسوقها ﴿ وشهيد ﴾ يشهد عليها بما عملت، لأن هؤلاء الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قد وكلوا بكتابة أعمال بني آدم من خير وشر، وكما سبق أنهم يكتبون كل شيء : الخير والشر واللغو، لكن لا يحاسب الإنسان إلا على الخير أو الشر،
ثم قال تعالى :﴿ لقد كنت في غفلة من هذا ﴾ ﴿ كنت ﴾ الخطاب للإنسان، وفيهاالتفات، والالتفات معناه أن ينتقل الإنسان في أسلوبه من خطاب إلى غيبة، أو من غيبة إلى خطاب، أو من تكلم إلى غيبة، وفائدة ذلك الالتفات أنه يشد ذهن السامع، فبينما الكلام على نسق واحد، إذا به يختلف، انظر إلى قوله تعالى :﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً ﴾ ولم يقل وبعث، وانظر إلى الفاتحة نقرأها كل يوم في كل ركعة من صلواتنا ﴿ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد ﴾ ولم يقل ( نعبده ) فالالتفات أسلوب من أساليب اللغة العربية، وفائدته شدُّ ذهن السامع لما يلقى إليه من الكلام ﴿ لقد كنت في غفلة من هذا ﴾ ﴿ لقد كنت ﴾ هذه الجملة، يقول العلماء : إنها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول : القسم، والثاني : اللام، والثالث : قد، والتقدير ( والله لقد كنت في غفلة من هذا ). فإن قيل : أليس خبر الله تعالى حقًّا وصدقاً. سواءٌ أكد أم لم يؤكد ؟
قلنا : بلى، ولا شك، ولكن مادام القرآن نزل باللسان العربي، فإنه لابد أن يكون التأكيد في موضعه، وعدم التأكيد في موضعه، لأن المقصود أن يكون هذا القرآن في أعلى مراتب البلاغة ﴿ لقد كنت ﴾ أي : أيها الإنسان﴿ في غفلة من هذا ﴾ أي كنت غافلاً عن هذا اليوم ساهٍ في الدنيا، كأنك خلقت لها ﴿ فكشفنا عنك غطاءك ﴾ يعني هذا اليوم كشف الغطاء، وبان الخفي، واتضح كل شيء ﴿ فبصرك اليوم حديد ﴾ أي قوي بعد أن كان في الدنيا أعشى أعمى، غافل، لكن يوم القيامة ﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا ﴾
﴿ وقال قرينه هذا ما لدى عتيد ﴾ قرين الإنسان هو المَلَك الموكل به ليحفظ أعماله ؛ لأن الله تعالى وكَّل ببني آدم ملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد، وهذا من عناية الله بك أيها الإنسان، أن وكَّل بك هؤلاء الملائكة يعلمون ما تفعل، ويكتبون، لا يزيدون فيه ولا ينقصون فيه، فيقول القرين :﴿ هذا ما لدى عتيد ﴾ أي : حاضر، ويحضر للإنسان فيقال :﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾ قوله :﴿ ألقيا ﴾ قد يشكل على طالب العلم، لأنه قال :﴿ وقال قرينه هذا ما لدى عتيد ﴾ وقرين مفرد، وهنا ﴿ ألقيا ﴾ فيها ألف التثنية، فكيف صح أن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين ؟
اختلف المفسرون في الجواب عن هذا، فقال بعض العلماء : ألقيا اتصل بها ضمير التثنية بناءً على تكرار الفعل، مثل قوله : ألقي ألقي، فالتكرار للفعل لا للفاعل.
القول الثاني : أن قوله :﴿ وقال قرينه هذا ما لدى عتيد ﴾ إما أن يكون مفرداً مضافاً، والمعروف أن المفرد المضاف يكون للعموم، فيشمل كل ما ثبت من قرين، وعلى هذا فيكون ﴿ وقال قرينه ﴾ أي الملكان الموكلان به. فإذا قال قائل : أروني دليلاً أو شاهداً على أن المفرد يكون لأكثر من واحد.
قلنا : يقول الله - عز وجل - :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾. وهل نعمة الله واحدة ؟ لا، لأن الله تعالى قال :﴿ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً ﴾. لكن نعمة الله مفرد مضاف، فتكون شاملة لكل نعمة.
ويمكن أن يقول قائل : إن قوله :﴿ وقال قرينه ﴾ هو واحد من الملكين، ولا شك أنه يجوز أن يتكلم واحد من الاثنين باسم الاثنين.
﴿ كل كفار عنيد منع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر ﴾ خمسة أوصاف :
﴿ كفار ﴾، صيغة مبالغة، فإما أن يقال إنه كان صيغة مبالغة، لأن هذا الكافر قد فعل أنواعاً من الكفر، فإذا جمعت الأنواع صارت كثيرة، وقد يقال : إن هذه الصيغة ليست صيغة مبالغة، وإنما هي صيغة نسبة، كما يقال : نجار، وحداد، وما أشبه ذلك ممن ينسب إلى هذه الحرفة، فكفار، أي : كافر، لكنه قد تمكن الكفر في قلبه - والعياذ بالله -.
﴿ عنيد ﴾ أي : معاند للحق، لا يقبل مهما عرض له الحق بصورة شيقة بينة واضحة لا يقبل.
﴿ مناع للخير ﴾ فيمنع الدعوة إلى الله، ويمنع بذل أمواله فيما يرضي الله، ويمنع كل خير، لأن قوله :﴿ للخير ﴾ لفظ يشمل كل خير، وقوله : مناع كأنه يلتمس كل خير فيمنعه، فتكون هذه الصيغة صيغة مبالغة.
﴿ معتد ﴾ أي : يعتدي على غيره، فلم يمنع غيره من الخير فقط، بل يعتدي عليه، وانظروا إلى كفار قريش ماذا صنعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، منعوه واعتدوا عليه.
﴿ مريب ﴾ أي : واقع في الريبة والشك والقلق، وكذلك أيضاً يشكك غيره فيدخل في قلبه الريبة، فكلمة ﴿ مريب ﴾ تقتضي وصف الإنسان بها، وحمل هذا الوصف إلى غيره.
﴿ الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر ﴾، ما أوسع هذه الكلمة، وإذا كانت هذه الكلمة وصفاً للكفَّار العنيد، فالمعنى أنه يعبد مع الله غيره، وكلنا يعلم أن المشركين كانوا يعبدون مع الله غيره، فيعبدون اللات، ويعبدون العزى، ويعبدون مناة، ويعبدون هبل، وكل قوم لهم طاغية يعبدونها كما يعبدون الله، يركعون لها، ويسجدون لها، ويحبونها كما يحبون الله، ويخافون منها كما يخافون من الله - نسأل الله العافية - هذا إذا جعلنا قوله تعالى :﴿ مع الله إلهاً ءاخر ﴾ وصف لهذا الكفَّار العنيد.
أما إذا جعلناه أشمل من ذلك فإنها تعم كل إنسان تعبد لغير الله، وتذلل لغير الله، حتى التاجر الذي ليس له هم إلا تجارته وتنميتها فإنه عابد لها، حتى صاحب الإبل الذي ليس له هم إلا إبله هو عابد لها، والدليل على أن من انشغل بشيء عن طاعة الله فهو عابد له، قول النبي صلى الله عليه وسلم :«تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبدالخميصة، تعس عبدالخميلة ». عبدالدينار هذا تاجر الذهب، وعبدالدرهم تاجر الفضة، وعبدالخميصة تاجر الثياب ؛ لأن الخميصة هي الثوب الجميل المنقوش، وعبدالخميلة تاجر الفرش، أو ليس بتاجر، يعني لا يتجر بهذه الأشياء لكن مشغول بها عن طاعة الله، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من اشتغل بهذه الأشياء الأربعة عبداً لها، وفي القرآن الكريم ما يدل على أن العبادة أوسع من هذا، قال الله تعالى :﴿ أرءيت من اتخذ إلهه هواه ﴾. فدل ذلك على أن كل من قدم هوى نفسه على هدي ربه فهو قد اتخذ إلهاً غيره، ولهذا يمكننا أن نقول : إن جميع المعاصي داخلة في الشرك في هذا المعنى، لأنه قدمها على مرضاة الله تعالى وطاعته، فجعل هذا شريكاً لله - عز وجل - في تعبده له، واتباعه إياه، فالشرك أمره عظيم، وخطره جسيم، حتى الرجل إذا تصدق بدرهم وهو يلاحظ لعل الناس يرونه ليمدحوه ويقولون : إنه رجل كريم. يعتبر مشركاً مرائياً، والرياء شرك، وأخوف ما خاف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته الشرك الخفي، وهو الرياء، فعلى هذا نقول :﴿ الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر ﴾، إن كانت وصفاً خاصًّا بالكفَّار العنيد، فإنها تختص بمن يعبد الصنم والوثن، وإن كانت للعموم فهي تشمل كل من اشتغل بغير الله عن طاعته، وتقدم ذكر الأمثلة والأدلة على ما ذكرنا.
قال الله تعالى :﴿ فألقياه في العذاب الشديد ﴾ وهو عذاب النار، نسأل الله أن يعيذنا منها بمنه وكرمه،
﴿ قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ﴾ هو يدعي أن قرينه هو الذي أطغاه وهو صده عن سبيل الله، فيقول قرينه :﴿ ربنا مآ أطغيته ﴾، ما أمرته أن يكذب، ولا أن يكون عنيداً، ولا أن يكون معتدياً، ولا أن يكون مريباً، ولا أن يكون مشركاً مع الله أحداً، ما فعلت هذا ﴿ ولكن كان في ضلل بعيد ﴾ أي : كان هذا الكافر في ضلال بعيد عن الحق، حينئذ لدينا خصمان : الكفَّار العنيد، والقرين، فالكفَّار العنيد يدعي أن القرين هو الذي أغواه وأطغاه، والقرين ينكر ذلك، فيقول الله - عز وجل –
﴿ لا تختصموا لدى ﴾، الخصومة منقطعة، لأن الحجة قائمة ولا عذر لأحد، ﴿ وقد قدمت إليكم بالوعيد ﴾، أي أوعدتكم على المخالفة فلا حجة لكم،
﴿ ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد ﴾. يعني لا أحد يستطيع أن يبدل قولي ؛ لأن الحكم لله - عز وجل - وحده، فإذا كان الله تعالى قد وعد فهو صادق الوعد سبحانه وتعالى، وأما الإيعاد فقد يغفر ما شاء من الذنوب إلا الشرك ﴿ ومآ أنا بظلام للعبيد ﴾ يعني لست أظلم أحداً، وكلمة ( ظلاَّم ) لا تظن أنها صيغة مبالغة، وأن المعنى أني لست كثير الظلم، بل هي من باب النسبة، أي : لست بذي ظلم، والدليل على أن هذا هو المعنى، وأنه يتعين أن يكون هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنةً يضاعفها ﴾، ويقول - عز وجل - :﴿ ومن يعمل من الصالحت وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً ﴾. ويقول - عز وجل - :﴿ ولا يظلم ربك أحدًا ﴾. والآيات في هذا كثيرة، أن الله لا يظلم، بل إننا إذا تأملنا وجدنا أن فضل الله وإحسانه أكثر من عدله. جزاء سيئة سيئة مثلها، وجزاء حسنة عشرة أمثالها، ولو أردنا أن نأخذ بالعدل لكان السيئة بالسيئة، والحسنة بالحسنة، لكن فضل الله زائد على عدله - عز وجل - فهو سبحانه وتعالى يجزي بالفضل والإحسان لمن كان محسناً، وبالعدل بدون زيادة لمن كان مسيئاً ﴿ ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد ﴾.
﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد ﴾ يوم : ظرف زمان، والظروف الزمانية والمكانية، وكذلك حروف الجر لابد لها من متعلق، أي لابد لها من فعل، أو ما كان بمعنى الفعل تتعلق به، فما هو متعلق قوله :﴿ يوم نقول لجهنم ﴾ نقول : هو محذوف، والتقدير :( اذكر يوم نقول لجهنم ) وليعلم أنه يوجد في اللغة العربية كلمات تحذف بل ربما جمل تحذف، وذلك فيما إذا دل عليها السياق، فهنا الكلمة التي تتعلق بها كلمة يوم محذوفة، والتقدير : اذكر ﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد ﴾ يسألها الله - عز وجل - :﴿ هل امتلأَت ﴾ وهو يعلم سبحانه وتعالى أنها امتلأت، أو لم تمتلىء ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، لكنه يسألها هل امتلأت، ليقرر لها ما وعدها سبحانه وتعالى، فإن الله يقول :﴿ وتمت كلمة ربك لأَملأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾. فيسألها :﴿ هل امتلأَت ﴾ يعني هل حصل ما وعد الله به ؛ لأن الله تكفل بأن يملأ الجنة ويملأ النار، فتقول :﴿ هل من مزيد ﴾، ( هل ) أداة استفهام، وهي حرف. وهل هي استفهام طلب، بمعنى : أنها تطلب الزيادة، أو استفهام نفي، بمعنى : أنها تقول : لا مزيد على ما فيها ؟ في هذا للعلماء قولان :
القول الأول : إن المعنى : لا مزيد على ما فيَّ، و( هل ) تأتي لاستفهام النفي كما في قوله تعالى :﴿ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأَرض ﴾ أي ما من خالق ؟ وعلى هذا فتكون النار امتلأت إذا قالت : لا مزيد على ذلك، فالمعنى أنها امتلأت.
القول الثاني : أنها استفهام طلب، يعني تطلب الزيادة.
وإذا اختلف العلماء في التفسير أو غير التفسير فلنرجع إلى ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلننظر أي القولين أولى بالصواب، ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :«لاتزال جهنم تلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة عليها قدمه » أو قال عليها رجله «فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط » فأولى القولين بالصواب، إنها استفهام طلب يعني تطلب الزيادة، ولكن رحمة الله سبقت غضبه، يضع عليها عز وجل رجله على الوجه الذي أراد، ثم ينزوي بعضها ينضم إلى بعض وتتضايق وتقول : لا مزيد على ذلك، فحقت كلمة الله أنه ملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وفي الحديث الذي سقته إثبات القدم، أو الرجل لله عز وجل، والمراد رجل حقيقة لله عز وجل، إلا أنها لا تشبه أرجل المخلوقين بأي وجه من الوجوه، نعلم علم اليقين أنها ليست مثل أرجل المخلوقين، لقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾. والمقصود من قوله تعالى :﴿ يوم نقول لجهنم ﴾ هو تحذير للناس، لأن كل واحد منا لا يدري أيكون من حطب جهنم، أو يكون ممن نجا منها ؟ نسأل الله أن ينجينا وإياكم منها.
﴿ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ﴾ أي قربت للمتقين مكاناً غير بعيد
﴿ هذا ﴾ أي ما تشاهدون من قرب الجنة ﴿ ما توعدون ﴾ أي : هذا الذي توعدون، فإن الله تعالى وعد المؤمنين العاملين الصالحات وعدهم الجنة، وصدق وعده عز وجل، ولكن لمن ؟ ﴿ لكل أواب حفيظ ﴾ الأواب : صيغة مبالغة من أبى يئوب بمعنى رجع، أي لكل أواب إلى الله، أي رجاع إليه، ﴿ حفيظ ﴾ أي : حفيظ لما أمره الله به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - :«احفظ الله يحفظك » والمعنى أنه حفيظ لأوامر الله، لا يضيعها ولا يقابلها بكسل وتوانٍ بل هو نشيط فيها، وإذا عصى بترك واجب، أو فعل محرم تجده يرجع إلى الله، فهو أواب رجاع إلى الله تعالى من المعاصي إلى الطاعات، وكذلك حفيظ حافظ لما أمر الله به، محافظ عليه، قائم به
﴿ من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ﴾ من بدل مما سبقها ﴿ خشى الرحمن ﴾ أي : خافه عن علم وبصيرة، لأن الخشية لا تكون إلا بعلم، والدليل قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ فهي خشية أي خوف ورهبة وتعظيم لله عز وجل، لأنها صادرة عن علم، وقوله :﴿ من خشى الرحمن بالغيب ﴾ لها معنيان :
المعنى الأول : أنه خشي الرحمن مع أنه لم يره، لكن رأى آياته الدالة عليه.
المعنى الثاني : خشيه بالغيب، أي : بغيبته عن الناس، فهو يخشى الله وهو غائب عن الناس، لأن من الناس من يخشى الله إذا كان بين الناس، وإذا انفرد فإنه لا يخشى الله، مثل المرائي المنافق، إذا كان مع الناس تجده من أحسن الناس خشية، وإذا انفرد لا يخشى الله، كذلك أيضاً من الناس من يكون عنده خشية ظاهرية، لكن القلب ليس خاشياً لله عز وجل - فيكون بالغيب، أي ما غاب عن الناس، سواء كان عمله في مكان خاص، أو ما غاب عن الناس بقلبه، فإن خشية القلب هي الأصل ﴿ وجاء بقلب منيب ﴾ أي جاء يوم القيامة بقلب منيب يعني رجاع إلى الله - عز وجل - يعني أنه مات وهو منيب إلى الله فهو كقوله :﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ والمعنى أنه بقي على الإنابة والرجوع إلى الله - عز وجل - إلى أن مات، وإلى أن لقي الله، لأن الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يختم لنا بالخير.
﴿ ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ﴾، ادخلوها : أمر، وهل هو أمر إلزام، أو أمر إكرام ؟ لا شك أنه أمر إكرام، لأن الآخرة ليس فيها تكليف وإلزام، بل إما إكرام وإما إهانة. فقوله تعالى للمجرمين :﴿ ادخلوا أبوب جهنم ﴾ هذا أمر إهانة، وقوله للمؤمنين هنا ﴿ ادخلوها بسلام ﴾ هذا أمر إكرام وقوله ﴿ بسلام ﴾، الباء هنا للمصاحبة، والمعنى : دخولاً مصحوباً بسلام، سلام من كل آفة، فأصحاب الجنة سالمون من الأمراض، وسالمون من الهرم، وسالمون من الموت، وسالمون من الغل، وسالمون من الحسد، وسالمون من كل شيء، فأهل الجنة سالمون
﴿ لهم ما يشاءون فيها ﴾ أي لهؤلاء المتقين ما يشاءون ﴿ فيها ﴾ أي : في الجنة ﴿ ولدينا مزيد ﴾ يعني مزيد على ما يتمنون ويشاءون، لأن الإنسان بحكمه مخلوقاً يعجز عن أن يستقصي كل شيء وتنقطع نيته بحيث لا يدري ما يتمنى، لكن هؤلاء أهل الجنة، كل ما يشتهون فيها فإنه موجود طيب، لو اشتهى الإنسان ثمرة معينة كرمان أو عنب أو ما أشبه ذلك يجدها في أي وقت، كل شيء يشتهيه الإنسان ويطلبه فإنه موجود لا ينتهي، بل قال الله - عز وجل - :﴿ ولدينا مزيد ﴾ يعني نعطيهم فوق ما يشتهون ويتمنون. ومن الزيادة النظر إلى وجه الله - عز وجل - ولهذا استدل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من أهل العلم بهذه الآية على إثبات رؤية الله - عز وجل - وقال : إن هذه الآية :﴿ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ﴾. كقوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلد هل من محيص ﴾ لما كانت قريش تكذب النبي عليه الصلاة والسلام وتنكر البعث، وتقول :﴿ أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون ﴾ حذرهم الله - عز وجل - أن يقع بهم ما وقع بمن سبق من الأمم، فقال :﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن ﴾ أي : كثيراً من القرون أهلكناهم، والقرن هنا بمعنى القرون، كما قال تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ﴾ فأمم كثيرة أهلكها الله - عز وجل - لما كذبت الرسل ﴿ فنقبوا في البلد ﴾ أي : بحثوا في البلاد يريدون المفر واالجأ من عذاب الله، ولكنهم لم يجدوا مفراً، ولهذا قال :﴿ هل من محيص ﴾ أي لا محيص لهم ﴿ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ﴾ فما أصاب القوم الذين كذبوا الرسل أولاً يصيب من كذب ثانياً ؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول :﴿ أفلم يسيروا في الأَرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ﴾
﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ ﴿ إن في ذلك ﴾ أي ما سبق من الآيات العظيمة ومنها ما قص الله تعالى في هذه الآيات الكريمة من إهلاك الأمم السابقة، فيه ذكرى لنوعين من الناس : الأول ﴿ لمن كان له قلب ﴾ أي : من كان له لب وعقل يهتدي به بالتدبر والثاني :﴿ أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ أي استمع إلى غيره ممن يعظه وهو حاضر القلب فبين الله تعالى أن الذكرى تكون لصنفين من الناس :
الأول : من له عقل ووعي يتدبر ويتأمل بنفسه ويعرف، والثاني : من يستمع إلى غيره، ولكن بشرط أن يكون شهيداً أي حاضر القلب، وأما من كان لا يستمع للموعظة، أو يستمع بغير قلب حاضر، أو ليس له عقل يتدبر به، فإنه لا ينتفع بهذه الذكرى، لأنه غافل ميت القلب.
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ﴾ هذه ثلاثة مخلوقات عظيمة بين الله - عز وجل - أنه خلقها في ستة أيام، وأكَّد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات : القسم، واللام، وقد. لأن تقدير الآية :( والله لقد خلقنا السماوات والأرض )، فالسماوات معلومة لنا جميعاً وهي سبع سماوات طباقاً، والأرض هي الأرض التي نحن عليها، وهي سبع أراضين، كما جاءت به السنة صريحاً، وكما هو ظاهر القرآن في قوله :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن ﴾. الثالث :﴿ وما بينهما ﴾ أي : بين السماء والأرض، والذي بين السماء والأرض مخلوقات عظيمة، يدل على عظمها أن الله جعلها عديلة لخلق السماوات وخلق الأرض، فهي مخلوقات عظيمة، والآن كلما تقدم العلم بالفلك ظهر من آيات الله - عز وجل - فيما بين السماء والأرض ما لم يكن معلوماً لكثير من الناس من قبل ﴿ في ستة أيام ﴾ أولها الأحد وآخرها الجمعة، ولو شاء عز وجل لخلقها في لحظة، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن. فيكون، لكنه - جل وعلا - يخلق الأشياء بأسباب ومقدمات تتكامل شيئاً فشيئاً حتى تتم، كما لو شاء لخلق الجنين في بطن أمه في لحظة، لكنه يخلقه أطواراً حتى يتكامل، كذلك السماوات لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة، ولكنه عز وجل يخلق الأشياء تتكامل شيئاً فشيئاً، وقال بعض العلماء : فيه فائدة أخرى، وهي أن يعلّم عباده التأني في الأمور، وأن لا يأخذوا الأمور بسرعة، لأن المهم وهو الإتقان وليس الإعجال والإسراع ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ أي : ما مسنا من تعب وإعياء، وهذا كقوله تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن ﴾ فهو - عز وجل - خلق هذه السماوات العظيمة، والأراضين، وما بينها، بدون تعب ولا إعياء، وإنما انتفى عنه التعب - جل وعلا - لكمال قوته وقدرته ﴿ وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً ﴾
﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصبر على ما يقولون، وقد قال - عز وجل - في آية أخرى ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار ﴾ اصبر، فإن العاقبة للمتقين ﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ فهم يقولون : إن محمداً كذاب، وساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، وأنه لا بعث، وإن كانوا يقرون بالرب عز وجل وأنه خالق السماوات والأرض، لكن لا يقرون بأمور الغيب المستقبلة، فأمره الله أن يصبر على ما يقولون، والصبر على ما يقولون يتضمن شيئين : الأول عدم التضجر مما يقول هؤلاء، وأن يتحمل ما يقوله أعداؤه فيه وفيما جاء به، والثاني : أن يمضي في الدعوة إلى الله، وأن لا يتقاعس ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين : قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، قال أغلب المفسرين : المراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من صلى البردين دخل الجنة » والبردان هما الفجر وفيه برودة الليل، والعصر وفيه برودة النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها » فالصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وأفضلهاالعصر، لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات فقال :﴿ حفظوا على الصلوت والصلاة الوسطى ﴾ وهي العصر، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿ ومن الليل فسبحه ﴾ أيضاً سبح الله من الليل و( من ) هنا للتبعيض، يعني سبحه أيضاً جزء من الليل، ويدخل في ذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويدخل في ذلك أيضاً التهجد ﴿ وأدبر السجود ﴾ أي وسبح الله أدبار السجود، أي أدبار الصلوات، وهل المراد بالتسبيح أدبار الصلوات النوافل التي تصلى بعد الصلوات كراتبة الظهر بعدها، وراتبة المغرب بعدها، وراتبة العشاء بعدها، أو المراد التسبيح الخاص ؟ وهو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. فيه قولان للمفسرين، ولو قيل بهذا وهذا لكان له وجه
﴿ واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب ﴾ أي انتظر لهذا النداء الذي يكون عند النفخ في الصور وحشر الناس
﴿ يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ﴾ من القبور
﴿ إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير ﴾ ( إنا ) يقول الله عن نفسه ﴿ إنا ﴾ تعظيماً له ﴿ نحى ونميت ﴾ أي : نحيي بعد الموت، ونميت بعد الحياة، فهو قادر على الإحياء بعد الموت، وعلى الموت بعد الإحياء ﴿ وإلينا المصير ﴾ أي المرجع
﴿ يوم تشقق الأَرض عنهم سراعاً ﴾ أي مصيرهم إلينا في ذلك الوقت تشقق الأرض، أي : تتفتح عنهم أي عن هؤلاء في قبورهم، تشقق كما تشقق الأرض عند طلوع النبات، ﴿ سراعاً ﴾ أي يأتون إلى المحشر ﴿ ذلك حشر علينا يسير ﴾ أي سهل علينا، لأن الله تعالى يقول في كتابه :﴿ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ﴾ ويقول تعالى :﴿ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ﴾ ويقول تعالى :﴿ إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ وهذا يدل على يسر ذلك على الله عز وجل
﴿ نحن أعلم بما يقولون ﴾ وهذا وعيد لهؤلاء الذين يقولون في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقولون، أخبر الله هنا أنه لا يخفى عليه حالهم، وأنه يعلم ما يقولون، ثم قال :﴿ ومآ أنت عليهم بجبار ﴾ أي ليست عليه بذي جبروت فتجبرهم على أن يسلموا ويؤمنوا بك، ولهذا قال في آية أخرى :﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ ﴿ فذكر بالقرءان من يخاف وعيد ﴾ أي عظ بالقرآن الكريم من يخاف الوعيد، أي من يخاف وعيدي بالعذاب، لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكر بالقرآن، فالقرآن يذكر به جميع الناس، ولكن لا ينتفع به إلا من يخاف الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بكتابه، المتعظين بآياته.
Icon