تفسير سورة العلق

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة العلق من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ
﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ هذه الآيات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء، وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح، يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول، فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا، ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث «أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة »، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى عليه الصلاة والسلام أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده عليه الصلاة والسلام ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال :«ما أنا بقارىء » ومعنى «ما أنا بقارىء » يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه صلى الله عليه وسلّم كان أميًّا كما قال الله تعالى :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ﴾ [ الأعراف : ٥٨ ]. وقال تعالى :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ﴾ [ الجمعة : ٢ ]. فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ]. قال له :«ما أنا بقارىء » فغطه مرتين أو ثلاثاً، ثم قال له ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ خمس آيات نزلت فرجع بها النبي صلى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتدائه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع.

يقول الله عز وجل :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ قوله :﴿ باسم ربك ﴾ قيل معناه متلبساً بذلك، وقيل مستعيناً بذلك، يعني اقرأ مستعيناً باسم الله ؛ لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ويستعين بها على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، وقال :﴿ باسم ربك ﴾ دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة، فلهذا قال :﴿ باسم ربك ﴾، إلا أنه عليه الصلاة والسلام قد رباه الله تعالى تربية خاصة، ورباه كذلك ربوبية خاصة. ﴿ الذي خلق ﴾ أي خلق كل شيء كما قال تعالى :﴿ وخلق كل شيء فقدره تقديراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ]. وقال تعالى :﴿ الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ﴾ [ الزمر : ٦٢ ]. فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير، إلا وهو مخلوق لله عز وجل، ولهذا قال :﴿ خلق ﴾ وحذف المفعول إشارة للعموم ؛ لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، لو قال : خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال ﴿ خلق ﴾ وأطلق صار عامًّا، فهو خالق كل شيء جل وعلا.
ثم قال :﴿ خلق الإنسان من علق ﴾ خص الله تعالى خلق الإنسان تكريماً للإنسان وتشريفاً له ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٠ ]. فلهذا نص على خلق الإنسان ﴿ خلق الإنسان ﴾ أي ابتدأ خلقه ﴿ من علق ﴾ جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة ؛ لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك.
وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الآية من علق فهل في هذا تناقض ؟
الجواب : ليس هناك تناقض، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلّم شيء من التناقض أبداً، فإن الله يقول :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]. لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحياناً مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب ؛ لأن أول ما خلق الإنسان من التراب، ثم صب عليه الماء فكان طيناً، ثم استمر مدة فكان حمأً مسنوناً، ثم طالت مدته فكان صلصالاً، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحماً، وعظماً، وعصباً إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم. والخلق الآخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثم تتحول شيئاً فشيئاً وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دماً علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئاً فشيئاً، فإذا تمت ثمانين يوماً انتقلت إلى مضغة - قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان - وتبقى كذلك أربعين يوماً، فهذه مائة وعشرون يوماً، وهي بالأشهر أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، أما الجسد فأصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي ؟ ولا من أي مادة ﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ]. فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدمياً يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث ؛ لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر ؛ لأنه صار إنساناً، ويسمى أيضاً ؛ لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشراً، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا.
وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربعة دور :
الدار الأولى : في بطن أمه.
الدار الثانية : في الدنيا.
الدار الثالثة : في البرزخ.
الدار الرابعة : في الجنة أو النار وهي المنتهى.
﴿ اقرأ وربك الأكرم ﴾ ﴿ اقرأ ﴾ تكرار للأولى، لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس ؟ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ قرنت بما يتعلق بالربوبية، و﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ﴾ قرنت بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
قال الله تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ﴾ ﴿ كلا ﴾ في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها : أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الاية ف﴿ كلا ﴾ بمعنى حقًّا، يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتاً لا مرية فيه ﴿ إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى ﴾ الإنسان هنا ليس شخصاً معيناً، بل المراد الجنس. كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى، من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالِ. إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي. إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض. وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع. إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري، وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائماً مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة، ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضًّرا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى :﴿ وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ]. ثم قال عز وجل مهدداً هذا الطاغية ﴿ إن إلى ربك الرجعى ﴾ أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى ﴿ إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر. إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ﴾ [ الغاشية : ٢٣ ٢٦ ]. وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبداً، ولا من ثواب الله وعدله.
وقوله :﴿ إن إلى ربك الرجعى ﴾ ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد، يعني أنه يشمل الوعيد والتهديد، ويشمل ما هو أعم، فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم إلى الكتاب والسنة ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ]، والأمور الكونية المرجع فيها إلى الله ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ﴾ [ الأنفال : ٩ ]. فلا رجوع للعبد إلا إلى الله. كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ]. إذن ﴿ إن إلى ربك الرجعى ﴾ يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنياً عن ربه، وفيها أيضاً ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور.
ثم قال :﴿ أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى ﴾ يعني أخبرني عن حال هذا الرجل، وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبداً إذا صلى، ففي الآية ناه ومنهي، فالناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم ؛ لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم. وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد ﴿ عبداً إذا صلى ﴾ أبو جهل قيل له : إن محمداً يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال : لقد نهيتك فلماذا تفعل ؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل لأبي جهل : إنه أي محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي، فقال : والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجداً تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقاً من النار، وأهوالاً عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبداً إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا ؟ ولهذا جاء في آخر الآيات ﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾ وأنه سيجازيه.
ثم قال :﴿ أرأيت إن كان على الهدى ﴾ ﴿ أرأيت ﴾ يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد صلى الله عليه وسلّم على الهدى فكيف تنهاه عنه ؟
﴿ أو أمر بالتقوى ﴾ قال بعض المفسرين :﴿ أو ﴾ هنا بمعنى الواو، يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك، فهو صالح بنفسه، مصلح لغيره.
﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾ يعني يرى المنهي وهو الساجد محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الآمر بالتقوى، ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبداً إذا صلى ﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾ يرى سبحانه وتعالى علماً ورؤية، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الآمر والناهي، ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد الذي ينهى عبداً إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلاًّ منهما بما يستحق. فهذا تهديد لهذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والآخرة.
ثم قال :﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ﴾ ﴿ كلا ﴾ هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيء الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا ﴿ لنسفعن بالناصية ﴾ جملة ﴿ لنسفعن ﴾ جواب لقسم مقدر، والتقدير : والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم ؛ لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المتأخر، قال ابن مالك في ألفيته :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
وهنا المتأخر هو الشرط ﴿ لئن ﴾ والقسم مقدر قبله إذ تقديره : والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى ﴿ لنسفعن ﴾ أي لنأخذن بشدة و﴿ الناصية ﴾ مقدم الرأس و( ال ) فيها أي : في الناصية للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الآخرة يجر بناصيته إلى النار ؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية، وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ﴾ [ الرحمن : ٤١ ]. وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف، والذي قررناه سابقاً، وهو أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً.
قوله تعالى :﴿ ناصية كاذبة خاطئة ﴾ ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية، وإنما قال :﴿ ناصية ﴾ من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الآتي بعدها وهو قوله ﴿ كاذبة خاطئة ﴾ ﴿ كاذبة ﴾ أي إنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذباً ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله آلهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، ﴿ خاطئة ﴾ أي مرتكبة للخطأ عمداً، وليعلم أن هناك فرقاً بين خاطىء ومخطىء، الخاطىء من ارتكب الخطأ عمداً، والمخطىء من ارتكبه جهلاً، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى :﴿ لا يأكله إلا الخاطئون ﴾ [ الحاقة : ٣٧ ]. أي المذنبون ذنباً عن عمد، وقال تعالى :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]. فقال الله قد فعلت، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى :﴿ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾ [ الحجرات : ٩ ]. وقال تعالى :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ﴾ [ الجن : ١٥ ]. إذاً ﴿ خاطئة ﴾ أي مرتكبة للإثم عمداً.
﴿ فليدع ناديه ﴾ اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقاً وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم، والتخاطب والتفاهم، والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله ناد يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم، فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقاً فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحد، كما تقول لعدوك : إن كان لك قوم فتقدم، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي.
﴿ سندع الزبانية ﴾ يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ﴾ [ التحريم : ٦ ]. بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ لا يعجزون عن ذلك، فوصفهم بوصفين : أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ﴾، وأنهم في تمام القدرة ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾، وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلاً الذي لا يصلي الفرض قائماً قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، بل عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبداً، ولهذا قال :﴿ سندع الزبانية ﴾، فإن قال قائل : أين الواو في قوله ﴿ سندع ﴾ ؟ قلنا : إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحاً كسر، وإن كان غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته :
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق
يعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحاً ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾ وأصلها ﴿ لم يكنْ ﴾ لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته، كما في قوله تعالى :﴿ ولم يكن له كفواً أحد ﴾ لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفاً صحيحاً فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الآية ﴿ سندع الزبانية ﴾.
﴿ كلا لا تطعه واسجد واقترب ﴾ يقال في ﴿ كلا ﴾ ما قيل في الأولى التي قبلها، والخطاب في قوله :﴿ لا تطعه ﴾ أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يطيع هذا الرجل، فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها. وقوله :﴿ واقترب ﴾ أي اقترب من الله عز وجل ؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد »، وقال عليه الصلاة والسلام :«ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم »، أي حري أن يستجاب لكم.
Icon