ﰡ
[١] ومعنى الآية: ﴿اقْرَأْ﴾ هذا القرآن مفتتحًا ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ كما قال ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا﴾ [هود: ٤١]، ودخلت الباء في بسم لتدل على الملازمة والتكرير، ولما ذكر الرب، وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابًا، جاء بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾.
...
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)﴾.
[٢] ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، فقال: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ أي: جنس الإنسان (١) إدريسُ عليه السلام.
﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ جمع علقة، وهي القطعة الصغيرة (٢) من الدم، وخلقةُ الإنسان من أعظم العبر، وليس المراد آدم عليه السلام؛ لأنه خُلق من طين.
...
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)﴾.
[٣] ثم قال على جهة التأنيس: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ الذي لا يلحقه نقص، فليس هو كهذه الأرباب، فهو ينصرك ويظهرك.
...
(٢) في "ت": "اليسيرة".
[٤] ثم عدد نعمة الكتابة بالقلم على الناس، وهي موضع عبرة، وأعظم منفعة، فقال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ﴾ الخطَّ ﴿بِالْقَلَمِ﴾ وأولُ من خط بالقلم إدريس عليه السلام (١).
...
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾.
[٥] ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ والمراد: الجنس؛ أي: علمهم ما لم يكونوا عالمين به من مصالحهم وصناعاتهم.
...
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦)﴾.
[٦] ونزل بعد ذلك في شأن أبي جهل بن هشام، وذلك أنه لما طغى؛ لغناه ولكثرة ناديه من الناس، فناصبَ رسولَ الله - ﷺ - العداوةَ، ونهاه عن الصلاة في المسجد ﴿كَلَّا﴾ ردٌّ على أقوال أبي جهل وأفعاله (٢) ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ أبا جهل (٣) ﴿لَيَطْغَى﴾ ليتجاوز حدَّه كِبْرًا.
...
﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)﴾.
[٧] ﴿أَنْ﴾ أي: لأن ﴿رَآهُ﴾ أي: رأى نفسه ﴿اسْتَغْنَى﴾ مفعول له؛ أي:
(٢) رواه مسلم (٢٧٩٧)، كتاب: صفة القيامة الجنة والنار، باب: قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) "أبا جهل" زيادة من "ت".
...
﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨)﴾.
[٨] ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ﴾ أي: إلى حسابه وجزائه ﴿الرُّجْعَى﴾ أي: الرجوع.
...
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩)﴾.
[٩] ونزل في أبي جهل ونهيِه النبيَّ - ﷺ - عن الصلاة، وقولِه: لو رأيتُ محمدًا ساجدًا، لوطئتُ عنقه، فجاءه، ثم نكص على عقبه، فقيل له: ما لَكَ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا وأجنحة ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾ (٢).
...
﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾.
[١٠] ﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي، والدلالة على كمال عبودية المنهي.
(٢) تقدم تخريجه قريبًا.
[١١] ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ﴾ المصلي ﴿عَلَى الْهُدَى﴾.
...
﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢)﴾.
[١٢] ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾.
...
﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)﴾.
[١٣] وجواب الشرط الأول محذوف؛ لدلالة جواب الشرط الثاني عليه في ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ﴾ الناهي عن الصلاة.
﴿وَتَوَلَّى﴾ عن الإيمان. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَرَأَيْتَ) بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، وعن ورش: إبدالها ألفًا، والكسائي: يسقطها أصلًا (١).
...
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤)﴾.
[١٤] وجواب الشرط الثاني: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ فعلَه، فيجازيه به. أمال رؤوس الآي من قوله (لَيَطْغَى) إلى قوله (يَرَى): ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وفتحها الباقون (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =
[١٥] ﴿كَلَّا﴾ ردعٌ للناهي، ثم توعَّده فقال: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ الكافرُ عن تكذيب محمد - ﷺ -.
﴿لَنَسْفَعًا﴾ لنأخذَنْ بشدَّة وقهر ﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾ أي: ناصيته، وهي شعر مقدَّم الرأس، فيجر إلى جهنم ذليلًا، ورسمت (لَنَسْفَعًا) في المصحف بألف بعد النون.
...
﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿نَاصِيَةٍ﴾ بدل من ﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾، ثم وصفها بقوله: ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ مجازًا، والمراد صاحبها. قرأ أبو جعفر: (خَاطِيَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بالهمز.
...
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧)﴾.
[١٧] ولما نهى أبو جهل النبيَّ - ﷺ - عن الصلاة، فانتهره النبيُّ - ﷺ -، فقال: أتنهرني؟! فوالله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خَيْلًا جُرْدًا، ورجالًا مُرْدًا، وإنك لتعلم أن ما بها نادٍ أكثر مني، نزل: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ (١) عشيرته، فلينتصر بهم.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" (١٠/ ٢٤٦)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٠٨).
[١٨] ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ لإهلاكه، وهم زبانية جهنم؛ مأخوذ من الزَّبْن، وهو الدفع.
...
﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿كَلَّا﴾ ردٌّ على قول الكافر وأفعاله ﴿لَا تُطِعْهُ﴾ لا تلتفتْ إلى نهيه وكلامه ﴿وَاسْجُدْ﴾ لربك ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ أي: تقرَّبْ إلى الله بطاعته.
قال - ﷺ -: "أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربه إذا سجدَ، فأكثروا من الدعاء في السجود" (١).
وهذا محل سجود عند الثلاثة؛ خلافًا لمالك، وهم على أصولهم بالقول بالوجوب والسنية، كما تقدم اختلافهم ملخصًا عند سجدة مريم.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سجدْنا معَ رسول الله - ﷺ - في ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ (٢)، والله أعلم.
* * *
(٢) تقدم تخريجه.