ويقال لها سورة العلق وسورة القلم، وهي تسع عشرة آية، وقيل : عشرون آية، وهي مكية بلا خلاف، وهي أول ما نزل من القرآن، قاله ابن عباس. وعن أبي موسى الأشعري قال : هي أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه.
ويدل على هذا الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديثها وفيه : فجاءه الحق وهو في غار حراء فقال له الملك : اقرأ، الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، ثم بعده نون والقلم، ثم المزمل، ثم المدثر، إلى آخر ما ذكره الخازن في أول تفسيره، فإنه استوفى الكلام على ترتيب السور من جهة النزول بمكة ثم بالمدينة.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وذكر ذلك مكي في تفسيره سورة براءة، وذكر أن ترتيب الآيات ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة، وهذا أصح ما قيل في ذلك.
وقال قوم : إن ترتيب السور عن توقيف من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبيّ وعلي وعبد الله فإنما كان قبل عرض القرآن على جبريل في المرة الأخيرة، وأن رسول الله صلى الله عليه سلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك.
روى يونس عن ابن وهب قال : سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الرد أن الله أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرقه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، فكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف فكله عن رسول الله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول :" ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن " وكان جبريل عليه السلام يوقف على مكان الآيات، انتهى.
ﰡ
وقوله (باسم ربك) متعلق بمحذوف هو حال أي اقرأ متلبساً باسم ربك أو مبتدأ به أو مفتتحاً أو الباء زائدة أي اقرأ اسم ربك قاله أبو عبيدة، وقال أيضاًً والاسم صلة أي اذكر ربك، وقيل الباء بمعنى على أي اقرأ على اسم ربك، يقال افعل كذا باسم الله وعلى اسم الله قاله الأخفش، وقيل الباء للاستعانة أي مستعيناً به، وبسم الله تكتب من غير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال بخلاف قوله تعالى (اقرأ باسم ربك) فإنها لم تحذف فيه لقلة الاستعمال.
عن عبد الله بن شداد قال " أتى جبريل محمداً ﷺ فقال يا محمد اقرأ فقال وما اقرأ فضمه ثم قال يا محمد اقرأ قال وما اقرأ قال اقرأ باسم ربك -حتى بلغ- ما لم يعلم " أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال
ثم الظاهر أن هذه الجملة ليست من القرآن لأن الأمر بتحصيل الشيء غير ذلك الشيء، ولكن قام الإجماع على أنها من جملة القرآن خصوصاً مع إثباتها في المصاحف بخطها سلفاً وخلفاً من غير نكير، فعلم منه أنها من جملة القرآن، تأمل.
قال السيوطي في إتقانه إن أول سورة اقرأ مشتمل على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال لكونها أول ما نزل من القرآن فإن فيها الأمر بالقراءة وفيها البداءة باسم الله وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين وفيها ما يتعلق بالإخبار من قوله (علم الإنسان ما لم يعلم) ولهذا قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله انتهى ذكره ابن لقيمة في حاشية البيضاوي، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاًً فشيئاًً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وآله وسلم للإشعار بتبليغه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغاية القاصية من الكمالات، البشرية، قاله أبو السعود.
ثم وصف الرب بقوله (الذي خلق) لتذكير أول النعم الفائضة عليه منه تعالى، لأن الخلق هو أعظم النعم وعليه يترتب سائر النعم، قال الكلبي يعني الخلائق وفيه تنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة وما يتبعها من الكمالات قادر على تعليم القراءة.
ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير فقال
وقيل إنه أمره بالقراءة أولاً لنفسه ثم أمره بالقراءة ثانياً للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد والأول أولى، والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم إذ كرمه يزيد على كل كرم، لأنه ينعم بالنعم التي لا تحصى.
قال في البحر: ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة الله تعالى يسمون الأكرم والرشيد وفخر السعداء وسعيد السعداء في ديار مصر ويدعوهم بها المسلون ويزيدون عليها على سبيل التعظيم: الشيخ الأكرم، والشيخ الأسعد والشيخ الرشيد، فيالها من خزي يوم عرض الأقوال والأفعال على الله تعالى.
وجملة
ومعنى (إن الإنسان ليطغى) أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه، قيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أول هذه السورة.
وقوله
قيل والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال، قرأ الجمهور أن رآه بمد الهمزة وقرىء بقصرها، قال مقاتل كان أبو جهل إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه وكذا قال الكلبي.
قال الرازي أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على ذم المال وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم، ومنفراً عن الدنيا والمال.
ثم هدد سبحانه وخوف فقال
وعن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه فبلغ النبي ﷺ فقال لو فعل لأخذته الملائكة عياناً.
_________
(١) كرش الجزور بما فيه من القاذورات.
وقد ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات، وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فيكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود على الذي ينهى الواقع مفعولاً أول لأرأيت الأولى، ومفعول أرأيت الأولى الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثان، حذف الأول لدلالة مفعول أرأيت الثالثة عليه، فقد حذف الثاني من الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع، لأنه يستدعي إضماراً، والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة.
وأما جواب الشرط المذكور مع أرأيت في الموضعين الأخيرين فهو محذوف تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى.
قال الراغب: السفع الأخذ بسفعة الفرس أي بسواد ناصيته، وباعتبار السواد قيل به سفعة غضب، اعتباراً بما يعلو من اللون الدخاني من اشتد به الغضب، وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد، أو امرأة سفعاء اللون. انتهى.
وقيل مأخوذ من سفعته النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى سواد، والمعنى لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار، وهذا كقوله (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) وقيل في الدنيا يوم بدر فقد جره المسلمون إلى القتل فقتله ابن مسعود وهو طريح بين الجرحى وبه رمق وهو يخور، وعبر بالناصية عن جميع الشخص، واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة لأنه علم أنها ناصية الناهي.
قرأ الجمهور بالجر وقرىء بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي ناصية، وقرىء بالنصب على الذم، قال مقاتل أخبر عنه بأنه فاجر خاطىء فقال ناصية
قرأ الجمهور سندع بالنون، ولم يرسم الواو كما في قوله (يوم يدع الداع) وقرىء سيدعى على البناء للمفعول، ورفع الزبانية على النيابة، والسين في (سندع) ليست للشك فإنه من الله واجب لأنه ينتقم لرسوله من عدوه.
وعن ابن عباس قال " كان النبي ﷺ يصلي، فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر نادياً مني، فأنزل الله هذه الآية فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فقيل ما يمنعك فقال
_________
(١) راجع تعليق هام على هذه الآية في آخر سورة المدثر.
(٢) بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه وتخفيف الياء من الزبن وهو الدفع أو واحدها زبني على النسب وأصله زباني بتشديد الياء فالتاء عوض عن الياء قاله البيضاوي وفي المختار واحد الزبانية زبان أو زابان أهـ.
(٣) وهم الشرطة (البوليس) في لغة العصر.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، قالوا نعم قال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأن على رقبته، قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً قال وأنزل الله (كلا إن الإنسان ليطغى) إلى آخر السورة يعني أبا جهل (فليدع ناديه) يعني قومه (سندع الزبانية) يعني الملائكة (٢).
ثم كرر سبحانه الردع والزجر فقال
_________
(١) مسلم/٢١٥٤.
(٢) البخاري ٨/ ٥٥٧.
والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة وعبر عنها بالسجود لأنه أفضل أركانها بعد القيام، وقيل سجود التلاوة، ويدل على هذا ما ثبت عنه ﷺ من السجود عند تلاوة هذه الآية، وقد قدمنا أن النبي ﷺ كان يسجد في (إذا السماء انشقت) وفي (اقرأ باسم ربك الذي
_________
(١) مسلم حديث رقم (٤٨٢).
وهي خمس آيات، قال المحلي أو ست آيات قال سليمان الجمل ولم يذكر غيره هذا القول من المفسرين فيما رأينا بل اقتصروا على كونها خمساً، ولعل قائل هذا القول يعد (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) آية مستقلة، ثم رأيت في السمين ما يشير إليه انتهى، وهي مكيّة عند أكثر المفسرين، كذا قال الماوردي، وقال الثعلبي هي مدنية في قول أكثر المفسرين وهو الأصح، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وعن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)