ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿ق﴾؛ أي: (١) هذه سورة ق؛ أي: مسماة بـ ﴿ق﴾، واختلف في معنى ﴿ق﴾ ما هو؟ فقال يزيد وعكرمة والضحاك: هو اسم جبلٍ محيطٍ بالأرض، من زمردة خضراء اخضرت السماء منه، والسماء مقببة عليه، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل، رواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال الفرّاء: كان يجب على هذا القول أن يظهر الإعراب في ﴿ق﴾؛ لأنّه اسمٌ، وكذا على القول الأول. وقال وهب (٢): أشرف ذو القرنين على جبل ق، فرأى تحته جبالًا صغارًا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، ما من مدينة من المدن، ولا قرية من القرى، إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله سبحانه أن يزلزل مدينة.. أمرني، فحركت عرقي ذلك، فتزلزل تلك المدينة، فقال: يا قاف، أخبرني بشيءٍ من عظمة الله تعالى، قال: إنَّ شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضًا مسيرة خمس مئة عام في خمس مئة عام من جبال ثلج بعضها يحطم بعضًا، لولا هي.. لاحترقت من حرّ جهنّم، فهذا يدل على أنّ جهنّم على وجه الأرض، والله أعلم بموضعها، وأين هي من الأرض، وقال الزجّاج: معنى قوله: ﴿ق﴾؛ أي: قُضِيَ الأمر، كما قيل: في حم؛ أي: حم الأمر، وقال ابن عباس أيضًا: إنه اسم من أسماء الله تعالى، أقسم به، وعنه أيضًا: أنه اسم من أسماء القرآن، وهو قول قتادة، وقال القرطبي: هو افتتاح أسماء الله عزّ وجل، مثل: القادر والقدير والقديم والقاهر والقهار والقريب والقابض والقدوس والقيّوم؛ أي: أنا القادر إلخ، وقيل: قَسَمٌ أقسم الله به؛ أي: بحق القائم بالقسط، وقال الشعبي: فاتحة السورة، وقال أبو
(٢) الفتوحات.
والحق: أنه من المتشابه الذي استأثر الله سبحانه بعلمه، كما حقّقنا ذلك في فاتحة سورة البقرة.
وقرأ الجمهور: ﴿ق﴾ بسكون الفاء، وبفتحها عيسى، وبكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمّال، وبالضم هارون وابن السميقع والحسن أيضًا فيما نقل ابن خالويه، والأصل في حروف المعجم إذا لم تركب مع عامل: أن تكون موقوفةً، فمن فتح القاف.. عدل إلى أخفّ الحركات، ومن كسرها.. فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم.. فكما ضم قط ومنذ وحيث وقبل وبعد وحسب.
وقوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾؛ أي: الشريف الكريم على الله، الكثير الخير والبركة، أو ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب: كلابن وتامر، ﴿الواو﴾ فيه: للقسم إن قلنا: إنّ ﴿ق﴾ من المتشابه الذي لا نعلم معناه، وهو الأصحّ.
والمعنى: أقسمت بالقرآن المجيد، وإن قلنا: إنّ ﴿ق﴾ قسم أقسم به سبحانه وتعالى، فالواو فيه: عاطفة على ما قبله.
والمعنى: أقسمت بـ ﴿ق﴾ وبـ ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾.
٢ - واختلفوا في جواب القَسَم (١)، فقال الأخفش: إنه محذوف، تقديره: أقسمت بالقرآن المجيد، إنك يا محمد لنبيّ منذر؛ أي؛ مخوّف من عذاب الله تعالى، وقال الكوفيّون: جوابه قوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ وقال ابن كيسان: جوابه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾، وقيل: هو ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ﴾ بتقدير اللام؛ أي: لقد علمنا، وقيل: هو محذوف، تقديره: والقران المجيد، إنا أنزلناه إليك لتنذر به الناس، وقيل: هو محذوف، تقديره: لتبعثّن يدلّ عليه قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا
وقوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ إضراب عن الجواب المحذوف على اختلاف الأقوال، وقوله: ﴿أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ في موضع نصب على تقدير مِن؛ أي: (١) بل عجيب كفّار مكة، ومتعنّتوهم من أن جاءهم رسول منذر من عذاب الله من جنسهم، لا من جنس الملك، وهو محمد - ﷺ -؛ أي: إنهم شكّوا فيه، ولم يكتفوا بالشكّ والتردّد، بل جزموا بالخلاف، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقال بعضهم: جواب القسم محذوف، ودليل ذلك قوله: ﴿بَلْ﴾؛ لأنّه لنفي ما قبله، فدلّ على نفي مضمر، تقديره: أقسم بجبل قاف الذي به بقاء دنياكم، وبالقرآن الذي به بقاء دينكم ما كذّبوك ببرهان، ولا بمعرفةٍ بكذبك بل عجبوا، إلخ. والعجب: نظر النفس لأمر خارج عن العادة.
ثمّ فسّر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله: ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ فهو تفسير لتعجّبهم، وبيان لكونه مقارنًا لغاية الإنكار، وهذا إشارة إلى كونه - ﷺ - منذرًا بالقرآن.
وحاصله: كون النذير منّا خصص بالرسالة من دوننا، وكون ما أنذر به هو البعث بعد موت كل شيء، بليغ في الخروج عن العادة إشكاله، وهو من فرط جهلهم؛ لأنهم عجبوا أن يكون الرسول بشرًا، وأوجبوا أن يكون الإله حجرًا، وأنكروا البعث مع أنّ أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه، وإحياء الأرض بعد موتها، وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك.
ثمّ إنّ (٢) إضمار الكافرين أوّلًا في قوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾؛ للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم من المقال، وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة.. انصرف إليهم إذ لا يصدر إلا عنهم، فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم، وإظهارهم ثانيًا بقوله: ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه.
(٢) روح البيان.
٣ - وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته، أظهروا استبعاد ما جاء به، فقالوا: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧)﴾؛ أي: أنرجع ونبعث حين فارقت أَرواحنا أجسامنا، وصرنا ترابًا كما يقول النذير؛ أي: لا نرجع ولا نبعث. ﴿ذَلِكَ﴾ البعث والرجوع بعد الموت لـ ﴿رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ عن الأوهام، لا يصدّقه العقل، وتحيله العادة.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: بكسر ميم ﴿مِتْنَا﴾، والباقون: ﴿مُتْنَا﴾ بالضم، وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَإِذَا﴾ بهمزة الاستفهام الإنكاري، وهو على تفصيلهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثّاب والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر: ﴿إِذا﴾ بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهامًا، حذفت منه الهمزة كقراءة الجمهور، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر، وأضمر جواب إذا؛ أي: إذا متنا وكنا ترابًا.. رجعنا، وهمزة الاستفهام على قراءة الجمهور: داخلة على محذوف، دلّ عليه ما بعده، وهو العام في الظرف؛ أي: أنبعث ونرجع إذا متنا، وصرنا ترابًا لا فرق بينتا وبين تراب الأرض، كما يقول النذير، والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذٍ؛ أي: لا نرجع ولا نبعث. ﴿ذَلِكَ﴾ المرجع والبعث ﴿رَجْعٌ﴾؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
٤ - ثم ردّ سبحانه ما قالوه، فقال: ﴿قَدْ عَلِمْنَا﴾ نحن ﴿مَا تَنْقُصُ﴾ وتأكل ﴿الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أجسادهم، فلا يضلّ عنّا شيء من ذلك، ومن أحاط علمه بكل شيء، حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور، لا يصعب عليه البعث، ولا يستبعد منه، وهذا (١) رد لاستبعادهم، وإزاحة له؛ أي: نحن على ذلك في غاية القدرة، فإنّ من عمّ علمه ولطفه، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم.. كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! وعبّر بمن في قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾؛ لأنّ الأرض لا تأكل عجيب الذنب، فإنه كالبذر لأجسام بني آدم، وفي الحديث: "كل ابن آدم يبلى إلا عجيب الذنب، فمنه خلق وفيه يركب". والعجب بفتح العين وسكون الجيم: أصل الذنب، ومؤخر كل شيء، وهو هاهنا عظم لا جوف له، قدر ذرة أو خردلة، يبقى من البدن ولا يبلى، فإذا أراد الله سبحانه الإعادة. ركّب على ذلك العظم سائر البدن وأحياه؛ أي: غيْر أبدان الأنبياء والصديقين والشهداء، فإنها لا تبلى، ولا تتفسخ إلى يوم القيامة، على ما نصت به الأخبار الصحيحة.
والأصح في كيفية الإعاة (٢)، كما دلّ عليه الخبر الصحيح: أنّ السماء تمطر مطرًا شبه المنيّ، فينشأ منه النشأة الآخرة، كما أنّ النشأة الدنيا من نقطة تنزل من بحر الحياة إلى أصلاب الآباء، ومنها إلى أرحام الأمّهات، فيتكون من قطر بحر الحياة تلك النقطة جسد في الرحم.
والخلاصة (٣): أي قد علمنا تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، ولا يخفى علينا أين تفرّقت الأبدان، وأين ذهبت، وإلى أين صارت، فلا يصعب البعث ولا يستبعد.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٥ - ثمّ حكى عنهم ما هو أفظع من تعجّبهم، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات من أوّل وهلة بلا تدبّر ولا تفكر، فقال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ وهذا إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات الباهرة، فالأفظعيّة لكون الثاني تكذيبًا للأمر الثابت من غير تدبّر، بخلاف الأول، فإنه تعجّب؛ أي: بل كذّبوا بالحق الذي جاءهم، وهو محمد - ﷺ -، أو القرآن. ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: حين جاءهم الحق من غير تأمّل وتفكر تقليدا للآباء، وبعد التأمل تمردًّا وعنادًا، وجاء بكلمة التوقع إشعارًا بأنّهم علموا بعد علو شأنه، وإعجازه الشاهد على حقيقته، فكذّبوا به بغيًا وحسدًا.
وقرأ الجمهور: ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ بفتح اللام وتشديد الميم، وقرأ الجحدري: بكسر اللام وتخفيف الميم، فاللام حرف جرٍ وما مصدرية، واللام كهي في قولهم: كتبته لخمس خلون من كذا؛ أي: عند مجيئه إياهم. ذكره في "البحر".
﴿فَهُمْ﴾؛ أي: كفار مكة ﴿فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾؛ أي: في أمر مختلط مضطرب عليهم، من مرج الخاتم في إصبعه: إذا اضطرب عليها من سعته بسبب الهزال؛ أي (١): في أمر مضطرب لا قرار له، من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم، فلا يهتدون إلى الحق، ولذا يقولون تارةً: إنه شاعر، وتارةً ساحر، وأخرى كاهن، ومرّة مفترٍ، لا يثبتون على شيء واحد، وهذا اضطرابهم في شأن النبيّ - ﷺ - صريحًا، ويتضمن ذلك اضطرابهم في شأن القرآن أيضًا، فإنّ نسبتهم
واعلم: أنّ الاضطراب موجب للاختلاف، وذلك أدلّ دليل على البطلان، كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق، وذلك أدل دليل على الحقِّية، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم، وكذا قال قتادة، وزاد: والتبس عليهم دينهم، وعن عليّ رضي الله عنه قال له يهودي: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم، فقال: إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر، حتى قلتم لنبيكم: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾
والمعنى: أي بل كذبوا (١) بالنبوّة التي قامت الأدلة على صدقها، وأيدتها المعجزات الباهرة، وهم إذا كذّبوا بها.. فقد كذّبوا بما أنبأ الرسول من البعث وغيره، ولا شك أنّ هذا الإنكار أعظم جرمًا، وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين الله سبحانه وبين من يصطفيه من خلقه من ذوي النفوس الصافية، وأرباب الأرواح العالية. ﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ أي: فهم في قلقٍ واضطرابٍ، فتارة ينفون الرسالة عن البشر، وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة، كما ينبىء بهذا قولهم: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾. وثالثة يقولون: إنها سحر أو كهانة، إذ قالوا للنبيّ - ﷺ -: ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم، التي تدل على اضطراب في الأمر، وقلق في الفكر، فهم لا يدرون ماذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضَّ مضاجعهم، وجعلهم حيارى دهشين، إلام هم صائرون، وإلى أي منقلبٍ ينقلبون.
٦ - و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾: للاستفهام (٢) التوبيخيّ: داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث ﴿إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ بحيث يشاهدونها كل وقت؛ أي: فلم ينظروا إلى آثار قدرة الله في خلق العالم، وإيجاده من العدم إلى الوجود،
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أي (٢) أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى إلى السماء فوقهم، كيف رفعناها بلا عمد، وزيّنّاها بالكواكب، وما لها من فتوق، فهي ملساء متلاصقة الطباق، وهذا هو الرأي الحديث في عالم السموات، إذ يقولون: إنّ هناك عالمًا لطيفًا أرقَّ من الهواء، وألطف من كل ما نراه، وهو مبدأ كل شيء، وأول كل شيء، وهو العالم المسمى بالأثير، وهذا العالم وإن لم يره الناس، فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا، فإنَّ من الكواكب ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة، ونور الشمس التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها، لو أمكن في نحو خمس وستين وثلاث مئة سنة، يصل إلينا في مدة ثمان دقائق وثماني عشرة ثانية، فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج يسير النور إلى مليون سنةٍ ونصف مليون، ألا يدل هذا على أنّ ذلك الضوء محمول على شيء موجود، وهو الأثير، فلو أنَّ طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير.. لانقطع سير النور إلى الأرض ولم نره، وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله: ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ فلو كان هناك فروج تتخلل السموات.. لانقطع سير النور إلينا، وآراء الجهلة في كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى، وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء، فجاء الكتاب الكريم، وعكس هذه القضية، وقال: لا فروج في السماء؛ أي: لا
(٢) المراغي.
٧ - ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾؛ أي (١): بسطناها، وفرشناها على وجه الماء مسيرة خمس مئة عام من تحت الكعبة، وهذا دليل على أنّ الأرض مبسوطة، وليست على شكل الكرة، كما في "كشف الأسرار"، وفيه أنه لا منافاة بين بساطتها وكرويتها، كما عرف في محله. ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت أرسيت بها الأرض، إذ لو لم تكن.. لكانت مضطربةً مائلةً إلى الجهات المختلفة، كما كانت قبل، إذ روي: أنّ الله لمّا خلق الأرض.. جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة مم خلقت، من رسا الشيء إذا ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف؛ للإيذان بأنّ إلقاءها لإرساء الأرض بها.
﴿وَأَنْبَتْنَا﴾؛ أي: وأخرجنا ﴿فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾؛ أي: من كل صنف، وقوله في آية أخرى: ﴿أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾؛ أي: أنواعًا متشابهة. ﴿بَهِيجٍ﴾؛ أي: حسنٍ طيب من الثمار والنباتات والأشجار، كما قال في موضع آخر: ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾؛ أي: يبتهج به؛ أي: يسر، والبهجة: حسن اللون، وظهور السرور فيه.
والمعنى (٢): أي والأرض بسطناها، وألقينا فيها جبالًا ثوابت، لئلا تميد وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره، وراق مخبره.
٨ - وقوله: ﴿تَبْصِرَةً﴾؛ أي: تعليمًا منّا، وتفهيمًا لكل عبد منيب كيفية الاستدلال على قدرتنا. ﴿وَذِكْرَى﴾؛ أي: تذكرة منّا، وعظة لكل عبد منيب، مفعولان لأجله لبنيناها وما بعده، وقوله: ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾؛ أي: راجع إلى الله بالتوبة، متدبر في بديع صنعه، وعجائب مخلوقاته، متعلق بكل من المصدرين؛ أي: فعلنا البناء والتزيين، وما بعدهما تعليمًا منّا، وعظةً لكل عبد منيب.
(٢) المراغي.
وفي قوله: ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾: إشارة (٣) إلى أنّ الوصول إلى مقام التبصرة والذكرى إنما هو بالعبودية، والإنابة التي هي مبنى الشريعة وأساسها، وقال بعضهم: التبصرة، معرفة منن الله عليه، والذكرى عدّها على نفسه في كل حال ليشتغل بالشكر فيما عومل به عن النظر إلى شيء من معاملته.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى﴾ بالنصب، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما؛ أي: بصر وذكر، وقرأ زيد بن عليّ ﴿تبصرة﴾ بالرفع، و ﴿ذكرى﴾ معطوف عليه؛ أي: ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة.
والمعنى: يتبصر بذلك، ويتذكر كل عبد منيب؛ أي: راجع إلى ربه، مفكر في بدائع صنعه.
والمعنى: فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادّكاره فإنّ رفْعنا السماء وتزيينها بالكواكب؛ فلاستبصاره، وإنّ بسْطنا الأرض وإرساء الجبال وإنبات النبات؛
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
٩ - ﴿وَنَزَّلْنَا﴾ عبر بصيغة التفعيل لإفادة التكرير ﴿مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ أي: نزلنا من السماء ماء كثير البركة والخير لانتفاع الناس به في غالب أمورهم؛ أي: أنزلنا ماءً كثير المنافع حياة الأناسي والدواب والأرض الميتة، وفي "كشف الأسرار": مطرًا يثبت في أجزاء الأرض، فينبع طول السنة. ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ﴾؛ أي: أخرجنا بذلك الماء ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين كثيرة؛ أي: أشجارًا ذوات ثمار، فذكر المحل وأراد الحال، قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ﴾، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾؛ أي: وحبَّ الزرع المحصود، فهو (١) من حذف الموصوف وإقامة صفته على ما هو المختار عند البصريين، كباب الجامع؛ أي: المسجد الجامع، لئلّا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه، وأصل الحصد: قطع الزرع، والحصيد بمعنى المحصود، وهو هنا مجاز باعتبار الأول.
والمعنى: وحبّ الزرع الذي شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، مما يقتات به، وتخصيص إنبات حبه بالذكر؛ لأنه المقصود بالذات.
١٠ - ﴿وَالنَّخْلَ﴾ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾ وتخصيصها بالذكر، مع اندارجها في الجنات؛ لبيان فضلها على سائر الأشجار، وقد سبق بعض أوصافها في سورة يس، وتوسيط الحبّ بينهما؛ لتأكيد استقلالها، وامتيازها عن البقية، مع ما فيه من مراعاة الفواصل.
وقوله: ﴿بَاسِقَاتٍ﴾؛ أي: طوالًا في السماء عجيبة الخلق، حال مقدّرة من ﴿النخل﴾. فإنها وقت الإنبات لم تكن طوالًا، من بسقت الشجرة سوقًا إذا طالت، ويجوز أن يكون معنى ﴿بَاسِقَاتٍ﴾: حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت، فيكون من باب أفعل، فهو فاعل.
وجملة قوله: ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾؛ أي: منضود متراكم بعضه فوق بعض، حال مقدرة من النخل أيضًا، والمراد: (٢) تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر،
(٢) روح البيان.
١١ - وقوله: ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ علة لقوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا﴾؛ أي: فأنبتنا هذه الأشياء لرزقهم، أو منصوب بفعله المحذوف؛ أي: رزقناهم رزقًا، والأول أولى وأوضح، وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة، والتذكرة، تنبيه على أنَّ الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم، وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق.
والمقصود من الآية الأولى: هو الاستدلال على القدرة بأعظم الأجرام، كما دل عليه النظر، وذكر الإنبات فيها بطريق التبع، فناسب التعليل بالتبصرة والتذكير، ومن الثانية بيان الانتفاع بمنافع تلك الأجرام، فناسب التعليل بالرزق، ولذا أخرت عن الأولى، لأنَّ منافع الشيء مترتبة على خلقه، قال أبو عبيدة: نخل الجنة نضيد ما بين أصلها إلى فرعها، بخلاف نخل الدنيا، فإن ثمارها في رؤوسها، كلما نزعت رطبة عادت ألين من الزبد، وأحلى من العسل، فنخل الدنيا تذكير لنخل الجنة، وفي كل منهما رزق للعباد، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾.
والمعنى (١): ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع، إذ أنبتنا به جنات غناء، وحدائق فيحاء، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير، والقمح وغيرهما، وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود، متراكم بعضه فوق بعض، لأقوات العباد وأرزاقهم، ولم يقيد العباد هنا بالإنابة كما قيد به في قوله: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)﴾؛ لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق
﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ تذكير ﴿مَيْتًا﴾ باعتبار البلد والمكان؛ أي: أرضًا جدبة لا نماء فيها أصلًا، بأن جعلناها بحيث ربت، وأنبتت أنواع النبات والأزهار، فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة.
وقرأ الجمهور: ﴿مَيْتًا﴾ (١) بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر، وخالد: بالتثقيل؛ أي: وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها، فتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
ثمّ جعل ما سلف كالدليل على البعث؛ لأنّه شبيه به، فقال: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ جملة قدّم فيها الخبر للقصد إلى القصر، وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء؛ أي: مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن إحياء الموتى بالخروج؛ تفخيم لشان الإنبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى، لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه لأفهام الناس، وقد روي: "أنّ الله يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال، يدخل في الأرض، فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم، ثم يحييهم، ويخرجهم من تحت الأرض".
١٢ - ثم ذكر سبحانه الأمم المكذّبة لرسلها، فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل أهل مكة ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾؛ أي: كذبوا نوحًا وجميع الرسل؛ لأنّ تكذيبه تكذيب لهم لاتفاقهم في أصول الدين. ﴿و﴾ كذّب قبلهم ﴿أَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ رسولهم، قيل: كانت الرس (٢) بئرًا بعدن لأمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك عدل حسن السيرة، يقال له: العنيس بوزن زبير، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنّها كانت بكرات كثيرة منصوبة
(٢) روح البيان.
فَهُنَّ لِوَادِيْ الرَّسْسِ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وقد سبق بعض الكلام عليه في سورة الفرقان، فأرجع إليه.
﴿و﴾ كذّبت قبلهم ﴿ثَمُودُ﴾؛ أي: قوم ثمود صالحًا، وجميع الرسل، وهو ثمود بن عاد، وهو عاد الآخرة.
١٣ - ﴿و﴾ كذبت قبلهم ﴿عَادٌ﴾؛ أي: قوم عاد هودًا، وجميع الرسل، وهو عاد إرم، وهو عاد الأولى. ﴿و﴾ كذب قبلهم ﴿فِرْعَوْنُ﴾ موسى وهارون وجميع الرسل.
والمراد: هو وقومه القبط ليلائم ما قبله وما بعده من الجماعة. ﴿و﴾ كذب قبلهم ﴿إِخْوَانُ لُوطٍ﴾؛ أي: أصهاره؛ لأنه صاهرهم، وتزوج منهم لوط وجميع الرسل، جمع صهر، والصهر: زوج بنت الرجل، وزوج أخته، وقيل: إخوانه قومه؛ لاشتراكهم في النسب لا في الدين، قال عطاء: ما من أحد من الأنبياء إلا ويقوم معه يوم القيامة قومه، إلا لوطًا عليه السلام، يقوم وحده.
١٤ - ﴿و﴾ كذّب قبلهم ﴿أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ شعيبًا وجميع الرسل، وهم من بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين، وكانوا يسكنون أيكة؛ أي: غيضة تنبت السدر الأراك، وقد مر ما فيه في سورة الحجر. ﴿و﴾ كذّب قبلهم ﴿قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ تبعًا وجميع الرسل، وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر، وأما على تقدير عدمها وهو الأظهر، فمعنى تكذيب قومه الرسل: تكذيبهم لمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبّع، وهو أبو كرب أسعد الحميري ملك اليمن، سُمِّي تبعًا لكثرة أتباعه.
﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل قوم من هؤلاء الأقوام المذكورين ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾؛ أي: كذّبوا رسلهم، وكذّب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور أولًا، كما أشرنا إليه في الحلّ، وإفراد الضمير في ﴿كَذَّبَ﴾ باعتبار لفظ الكل، أو كل واحد منهم
والحاصل (١): أنّ الله سبحانه هدّد كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم، من النقم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب، وحقّ عليهم وعيده، ونصر رسله، وأعلى كلمتهم، وكانت العاقبة لهم، كما قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾. وقد تقدمت هذه القصص في مواضع متفرقة من الكتاب الكريم.
١٥ - ثم ذكر سبحانه ما يؤكد صحة البعث، فقال: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ و ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام (٢) الإنكاري، داخلة على مقدر، ينبىء عنه العيُّ من القصد والمباشرة، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء، فعجزنا عنه، حتى يتوهم عجزنا عن الخلق الثاني وهو الإعادة؛ أي: ليس الأمر كذلك، وما هنا في "الشوكاني": في الاستفهام و ﴿الفاء﴾: غير صواب.
وجملة قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾: معطوفة على مقدر يدلّ عليه ما قبله، كأنه قيل: هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور: ﴿أَفَعَيِينَا﴾ (١) بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة، ماضي عيي، بوزن رضي، وقرأ ابن أبي عبلة والوليد بن مسلم والقورصبيُّ عن أبي جعفر والسمار عن شيبة وأبو بحر عن نافع: بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب "الكامل". وقال ابن خالويه في كتاب "شواذ القراءات" له: ﴿أفعَيِّنا﴾ بتشديد، قرأ ابن أبي علة، وفكرت في توجيه هذه القراءة، إذ لم يذكر أحد توجيهها، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي، فقال: عيَّ في عيي، وحيَّ في حيي، فلما أدغم.. ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولم يفك الإدغام، فقال: عيّنا، وهي لغة لبعض بني بكر بن وائل، يقولون في رددت، وردنا: ردت وردّنا، فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة، فلو كان ضمير نصب.. لاجتمعت العرب على الإدغام، نحو: ردّنا زيد.
والمعنى: أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى يشكّوا في الإعادة؛ أي: إنّ ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإعادة أسهل من الابتداء، فلا حقّ لهم في تطرق الشبهة إليهم، والشك فيه، كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)﴾. وقال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)﴾. وجاء في الحديث القدسي، يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته".
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى الإنسان ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وهو حبل العاتق وعرقه، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد: الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان؛ أي: نحن أقرب إليه من حبل وريده إليه، والإضافة بيانية؛ أي: حبل هو الوريد، والوريدان: عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدّمها متصلان بالوتين، والوتين: عرق في القلب، إذا انقطع.. مات صاحبه، يردان من الرأس إليه، فالوريد بمعنى الوراد، وقيل: سمى وريدًا؛ لأنّ الروح الحيواني يرده، فالوريد حينئذٍ بمعنى المورود، وفي "المفردات": الوريد: عرق متصل بالكبد والقلب، وفيه مجاري الروح، وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾؛ أي: من روحه. انتهى. وفي "التأويلات النجمية": حبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، يشير إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد، فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها؛ لأنّها قريب منه، فكذلك كل وقت يطلب ربه يجده لأنّه قريب منه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾. وفي الزبور: ألا من طلبني وجدني.
أي: (٢) أنه تعالى قادر على بعث الإنسان؛ لأنّه خالقه، وعالم بجميع
(٢) المراغي.
أي: ونحن (١) أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله، وبنفوذ قدرتنا فيه، يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه.
١٧ - و ﴿إِذْ﴾ في قوله: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾: منصوب (٢) بأذكر، وهو أولى لبقاء قوله: ﴿وَنَحْنُ...﴾ إلخ. على إطلاقه، أو هو متعلق بما في ﴿أَقْرَبُ﴾ من معنى الفعل، والتلقي: الأخذ، والتلقن بالحفظ والكتابة.
والمعنى: أنه تعالى لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس، ولا شيء أخفى منها، وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يتلقى، ويتلقن، ويأخذ ويكتب الملكان الحفيظان الموكلان بالعبد ما يتلفظ به العبد ويفعله.
وفيه (٣): أي على الوجه الثاني، إيذان بأن استحفاظ الملكين أمر هو سبحانه غنيّ عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟! وإنما ذلك الاستحفاظ لحكمة، وهي ما في كتب الملكين وحفظهما لأعمال العبد، وعرض صحائف العمل يوم القيامة، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله، خيرًا أو شرًا، من زيادة اللطف له في الانتهاء عن السيئات، والرغبة في الحسنات، والحال أنّ أحدهما ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾؛ أي: عن يمين العبد، وجانبه قعيد ﴿و﴾ الآخر منهما ﴿عَنِ الشِّمَالِ﴾؛ أي: شمال العبد ﴿قَعِيدٌ﴾، أي: مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظًا ومعنى، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وقيل: يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد، كما في قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
١٨ - ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾؛ أي: ما يتكلم الإنسان من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه ﴿إِلَّا لَدَيْهِ﴾؛ أي: إلا لدى ذلك اللافظ ﴿رَقِيبٌ﴾؛ أي: ملك حافظ يرقب قوله ذلك ويكتبه، والقول أعم من الكلمة والكلام، والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان، الذي يكتب ما يقوله ويفعله من خير أو شر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر هو ملك الشمال. ﴿عَتِيدٌ﴾؛ أي: حاضر ذلك الملك الرقيب لا يفارقه، معد مهيأٌ لكتابة ما أمر به من خير أو شر، فهو حاضر معه أينما كان، فالرقيب بمعنى الحافظ، والعتيد بمعنى الحاضر، والإفراد (٢) حيث لم يقل: رقيبان عتيدان مع وقوفهما معًا على ما صدر عنه، لما أنَّ كلًّا منهما رقيب لما فوض إليه، لا لما فوض إلى صاحبه، كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿عَتِيدٌ﴾. وتخصيص القول بالذكر، لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص، واختلف فيما يكتبانه، فقيل: يكتبان كل شيء، حتى أنينه في مرضه، وقيل: إنَّما يكتبان ما فيه أجر ووزر، وهو الأظهر، قيل (٣) إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه، وعند جِماعه؛ ولذا كره الكلام في الخلاء، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة؛ لأنّ الملائكة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام، فإن سلم عليه في هذه الحالة.. قال الإِمام أبو حنيفة رحمه الله: يردّ السلام بقلبه لا بلسانه، لئلا يلزم كتابة الملائكة، فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية، وكذا يحمد الله بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء، وكذا يكره الكلام عند الجماع، وكذا
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قال الحسن البصري (١): وتلا هذه الآية: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذ من طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)﴾. ثم قال: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
وروى أبو أسامة: أنّ رسول الله - ﷺ - قال: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة.. كتبها ملك اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة.. قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعلّه يسبّح أو يستغفر".
١٩ - وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه.. أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت، وحين قيام الساعة فقال: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، وأنّ البعث لا شكّ فيه، والباء (٢) في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾: إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى: حضرت الموت؛ أي: شدته التي تجعل الإنسان كالسكران، بحيث تغشاه وتغلب على عقله، وكشفت له حقيقة الأمر الذي نطق به كتاب الله، وأخبرت به رسله، أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وإما للملابسة، كالتي في قوله تعالى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق؛ أي: بحقية الأمر أو بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء: ﴿وجاءت سكرة الحق بالموت﴾. ويقال للميت لسحان الحال، أو تقول
(٢) روح البيان.
﴿ذَلِكَ﴾ الموت أيها الإنسان ﴿مَا﴾: موصولة؛ أي: الأمر الذي ﴿كُنْتَ﴾ في الدنيا ﴿مِنْهُ﴾: متعلق بقوله: ﴿تَحِيدُ﴾؛ أي: تميل وتفرّ وتهرب منه، بل تحسب أنه؛ أي: الموت، لا ينزل عليك بسبب محبّتك الحياة الدنيا، كما في قوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾؛ أي: أقسمتم بألسنتكم بطرًا وأشرًا، وجهلًا وسفهًا، أو بألسنة الحال، حيث بنيتم مشيدًا، وأملتم بعيدًا، ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، فكأنكم ظننتم أنكم ما لكم من زوال مما أنتم عليه من التمتّع بالحظوظ الدنيوية، فالخطاب (١) في الآية للإنسان المتقدم على طريق الالتفات، فإنّ النفرة عن الموت شاملة لكل فرد من أفراده طبعًا، ويضعده ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: أخذت أبا بكر غشية من الموت، فبكيت عليه، فقلت:
مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعَا | لَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّهُ مُهْرَاقُ |
٢٠ - ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ هي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور، والنافخ هو إسرافيل عليه السلام، وقد سبق الكلام في الصور. ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: وقت ذلك النفخ على حذف المضاف ﴿يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾؛ أي: يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا وتحقيقه، والوعيد: التهديد، أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وتخصيص الوعيد بالذكر، مع أنه يوم الوعد أيضًا؛ لتهويله، ولذا بدىء ببيان حال الكفرة.
٢١ - ﴿وَجَاءَتْ﴾ في ذلك اليوم ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس البرة والفاجرة ﴿مَعَهَا﴾ إلخ. محله النصب على الحالية من ﴿كُلُّ﴾ لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة، كأنه قيل: كل النفوس؛ أي: حالة كون كل نفس معها
٢٢ - ويقال له: والله ﴿لَقَدْ كُنْتَ﴾ أيها الإنسان في الدنيا ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ وسهوِ ﴿مِنْ هَذَا﴾ اليوم وغوائله، وفي "فتح الرحمن": من هذا النازل بك اليوم، وقال ابن عباس: من عاقبة الكفر، وفي "عين المعاني": أي: من السائق والشهيد، وخطاب الكل بذلك؛ لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة، وقيل؛ الخطاب للكافر، وقرىء: ﴿كنت﴾ بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس، وكذا الخطابات الآتية، كما سيأتي، وقال ابن زيد (١): الخطاب للنبيّ - ﷺ -؛ أي: لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة، وقال أكثر المفسرين: المراد به: جميع الخلق برّهم وفاجرهم، واختار هذا ابن جرير.
﴿فَكَشَفْنَا﴾؛ أي: أزلنا ورفعنا ﴿عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾ وحجابك الذي كان على بصرك في الدنيا؛ يعني: رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك ﴿فَبَصَرُكَ﴾ أيها الإنسان ﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم الذي يعرض فيه العباد على الله ﴿حَدِيدٌ﴾؛ أي: حاد نافذ، تبصر ما كنت تنكره، وتستبعده في الدنيا لزوال المانع للإبصار، ولكن لا ينفعك، وهذا كقوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أنَّ الإنسان وإن خلق من عالمي الغيب والشهادة، فالغالب عليه في البداية الشهادة، وهي العالم الحسّي، فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب، فمن
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): بفتح التاء من ﴿كُنْتَ﴾ وفتح الكاف في ﴿عَنْكَ﴾ ﴿غِطَاءَكَ﴾، ﴿فَبَصَرُكَ﴾ حملًا على ما في لفظ كل من التذكير، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرّف: بالكسر في الجميع على أنّ المراد: النفس، ولاكتساب كل التأنيث من المضاف إليه.
والمعنى: أي والله لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال والشدائد، فجلَّينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت عنك هذه الغفلة، وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطي به الجسد كلّه، أو غشاوة غشي بها عيينه، فلا يبصر شيئًا، فإذا كان يوم القيامة.. تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق.
٢٣ - ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾؛ أي: قال الملك الموكل به في الدنيا، الكاتب لعمله، الشهيد عليه للربّ سبحانه ﴿هَذَا﴾ المكتوب من عمله، مبتدأ خبره: ﴿مَا﴾ وهي نكرة موصوفة (٢). و ﴿لَدَيَّ﴾ ظرف صفة أولى لما ﴿عَتِيدٌ﴾ صفة ثانية لها، والتقدير: هذا شيء ثابت لديّ عتيد حاضر قد هيأته، ويجوز أن يكون ﴿عَتِيدٌ﴾ صفة لـ ﴿مَا﴾ و ﴿لَدَيَّ﴾ متعلقًا بـ ﴿عَتِيدٌ﴾؛ أي: هذا المتكوب شيء عيتد لديّ؛ أي: حاضر، ويجوز أن تكونا ﴿مَا﴾ موصولة بمعنى الذي، و ﴿لَدَيَّ﴾ صلتها و ﴿عَتِيدٌ﴾: خبر الموصول، والموصول وصلته: خبر اسم الإشارة.
والمعنى: أي وقال الملك الموكل به في الدنيا: هذا الذي وكّلتني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، قاله مجاهد. أو قال شيطانه
(٢) النسفي.
وقرأ الجمهور: ﴿عَتِيدٌ﴾ بالرفع، وعبد الله: بالنصب على الحال، والأولى حينئذٍ أن تكون ﴿ما﴾ موصولة.
٢٤ - ويقول الله سبحانه: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾: خطابٌ (١) من الله تعالى للسائق والشهيد، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد وهو الملك الجامع للوصفين، أو خازن النار على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، وتكريره للتأكيد، كأنه قيل: ألقِ ألق، حذف الفعل الثاني، ثم أتى بفاعله وفاعل الفعل الأول على صورة ضمير الاثنين متصلًا بالفعل الأول، أو على أن الألف بدل من نون التوكيد الخفيفة على إجراء الوصل مجرى الوقف، ويؤيده أنه قرىء: ﴿ألقين﴾ بالنون الخفيفة، مثل: ﴿لنسفعًا﴾ فإنه إذا وقف على النون.. تنقلب ألفًا، فتكتب بالألف على الوقف، وفيه وجه آخر، وهو أنَّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان؛ يعني: أدنى الأعوان في السفر اثنان، فأكثر في ألسنتهم أن يقولوا: خليليّ، وصاحبيّ، وقفا وأسعدا، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، كما قال امرىء القيس:
خَلِيْلِيَّ مُرَّا بِيْ عَلَى أُمِّ جُنْدُبِ | لِنَقْضِيَ حَاجَاتِ الْفُؤَادِ الْمُعَذَّبِ |
أَلَمْ تَرَ أَنِّيْ كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا | وَجَدْتُ بِهَا طِيْبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ |
قِفَا نَبْكِ مِن ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ | بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ |
وقرأ الحسن (٢): ﴿ألقين﴾ بنون التوكيد الخفيفة خطابًا لواحد من خزنة
(٢) البحر المحيط.
﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾؛ أي (١): كل مبالغ في الكفر بالمنعم والنعم، جاحد بالتوحيد، معرض عن الإيمان، وقيل: كل كافر حامل غيره على الكافر ﴿عَنِيدٍ﴾؛ أي: معاند للحق، يعرف الحق فيجحده، والعناد أقبح الكفر، وقال قتادة: منحرف عن الطاعة.
٢٥ - ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾؛ أي: كثير المنع للمال عن حقوقه مفروضة زكاة أو غيرها؛ أي: طبع على الشره والإمساك، كما أنَّ الكافر طبع على الكفر، والعنيد طبع على العناد، أو منّاع لجنس الخير عن أن يصل إلى أهله، يحول بينه وبينهم، وقيل: المراد بالخير هنا: الإِسلام، فإنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لمَّا منع بني أخيه منه، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت. ﴿مُعْتَدٍ﴾؛ أي: ظالم متخطّ للحق، معاد لأهله. ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: شاكّ في الله وفي دينه، فهو صيغة نسبة بمعنى ذي شكّ وريب؛ أي: موقع في الريبة، وقيل: متّهم.
أي (٢): ألقيا في جهنم كل كافر بالله، معاند لآياته، مانع للناس من اتباع الرسول - ﷺ -، ومن الإنفاق على من عنده، ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء، شاكٍّ في اليوم الآخر، فلا يظنّ أنّ الساعة آتية، فكل كافر موصوف بهذه الصفات.
٢٦ - ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ يجوز أن يكون بدلًا من ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ أو منصوبًا على الذم، أو بدلًا من ﴿كَفَّارٍ﴾، أو هو مبتدأ متضمّن معنى الشرط، خبره: ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾. وقوله: ﴿فَأَلْقِيَاهُ﴾: تكرير للتوكيد، و ﴿الفاء﴾؛ للإشعار بأنّ الإلقاء للصفات المذكورة.
٢٧ - ﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾؛ أي: الشيطان الذي قيض لهذا الكافر: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ وما أضللته، وما أغويته، قيل (٣): هذا جواب لكلام مقدر، وهو أنّ الكافر حين يلقى في النار، يقول: ربّنا أطغاني شطاني، فيقول الشيطان: ربّنا ما أطغيته. ﴿وَلَكِنْ كَانَ﴾ هذا الإنسان ﴿فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ عن الحق، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
٢٨ - وجملة قوله: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله؟ فقيل: قال الله سبحانه لهم: لا تختصموا أيها الكفّار والقرناء لديّ؛ أي: في موقف الحساب والجزاء، إذ لا فائدة في ذلك، قال بعضهم (٢): هذا الخطاب في الكفار فقط، وأما قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)﴾ ففي المؤمنين في الظالم فيما بينهم؛ لأنّ الاختصام في الظالم مسموع، وهذا في الموقف، وأما قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾ ففي جهنم، فظهر التوفيق بين الآيات.
وجملة قوله: ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنّي قد قدمت إليكم بالوعيد والتهديد من العذاب بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، و ﴿الباء﴾ في ﴿بِالْوَعِيدِ﴾: مزيدة للتأكيد، أو معدّية على أنّ قدّم بمعنى تقدّم.
(٢) روح البيان.
٢٩ - ﴿مَا يُبَدَّلُ﴾ ولا يغير ﴿الْقَوْلُ﴾ والقضاء ﴿لَدَيَّ﴾؛ أي: عندي (١)؛ أي: لا يغير قولي في الوعد والوعيد، فما يظهر في الوقت هو الذي قضيته في الأزل، لا مبدل له، والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبديل، فإنَّ دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد؛ يعني: ولا مخصص في حق الكفار، فالوعيد على عمومه في حقهم، قال الجلال الدواني في "شرح العضد": ذهب بعض العلماء إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى، لا في الوعد، وبهذا وردت السنة، حيث قال النبيّ - ﷺ -: "من وعد لأحد على عمله ثوابًا فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقابًا.. فهو بالخيار". والعرب لا تعد عيبًا ولا خلفًا أن يعد شرًّا ثم لا يفعله، بل ترى ذلك كرمًا وفضلًا، وإنما الخلف أن يعد خيرًا ثم لا يفعله، كما قال:
وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُة أَوْ وَعَدْتُهُ | لَمُخْلِفُ إِيْعَادِيْ وَمُنَجِزُ مَوْعِدِيْ |
﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾؛ أي: وما أنا بمعذب للعبيد ظلمًا بغير جرم اجترموه، ولا ذنب أذنبوه، والتعبير عنه بالظلم، مع أنّ تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم، على ما تقرّر من قاعدة أهل السنة، فضلًا عن كونه ظلمًا مفرطًا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم، وصيغة المبالغة؛ لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعيّة العبيد من قولهم: فلان ظالم لعبده، وظلّام لعبيده على أنها مبالغة كمًّا لا كيفًا، وقيل: إنّ الظلاّم هنا بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر.
٣٠ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ نَقُولُ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك، ويشمل كل من شأنه الذكر يوم نقول بما لنا من العظمة ﴿لِجَهَنَّمَ﴾ دار العذاب، وسجن الله للعصاة ﴿هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ يا جهنم بمن ألقي فيك؟ وهل أوفيتك ما وعدتك؟. وهو قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ وقوله: لكل واحدة منكما ملؤها. فهذا السؤال من الله لتصديق خبره، وتحقيق وعده، والتقريع لأهل عذابه، والتنبيه لجميع عباده. ﴿وَتَقُولُ﴾ جهنم مجيبة بالاستفهام تأدبًا، وليكون الجواب وفق السؤال ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾؛ أي: هل من زيادة من الجن والإنس موجودة، فيكون مصدرًا كالمحيد، أو من يزاد فيكون مفعولًا كالمبيع، ويجوز أن يكون ﴿يَوْمَ﴾: ظرفًا لمقدر مؤخر؛ أي: يوم نقول لجهنم: هل امتلأت إلخ، يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال، وقيل: العامل فيه ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾. وقيل:
والمعنى: أي وأنذر قومك: يوم نقول لجهم هل امتلأت بما ألقي إليك فوجًا بعد فوج؟ فتقول: لا مزيد بعد ذلك، وفي هذا بيان أنها مع اتساعها، وتباعد أقطارها يطرح فيها من الجِنة والناس جماعات بعد جماعات، حتى تمتلىء، ولا تقبل الزيادة.
وقرأ الجمهور: ﴿نَقُولُ﴾ بالنون، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش: ﴿يقول﴾ بياء الغيبة، وقرأ عبد الله والحسن والأعمش أيضًا: ﴿يقال﴾ مبنيًا للمفعول، وقرأ الحسن أيضًا: ﴿أقول﴾ بالهمزة.
الإعراب
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)﴾.
﴿ق﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة قاف إن قلنا: إنه علم على السورة، والجملة: مستأنفة، وإن قلنا: من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.. فلا محل له من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن المعنى، والمعنى غير معلوم لنا. ﴿وَالْقُرْآنِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الْقُرْآنِ﴾: مقسم به مجرور
﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)﴾.
﴿أَإِذَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على الجواب المحذوف، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿مِتْنَا﴾: فعل فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب المحذوف المدلول عليه بما بعده؛ أي: أإذا متنا وكنا ترابًا نرجع ونبعث؛ أي: نبعث ونرجع قت موتنا وكوننا ترابًا. ﴿وَكُنَّا تُرَابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على ﴿مِتْنَا﴾. وجملة ﴿إذا﴾: في حل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بَعِيدٌ﴾: صفة ﴿رَجْعٌ﴾. والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿عَلِمْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل لنصب مفعول به؛ لأنّ علم بمعنى
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أغفلوا فلم ينظروا، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَنْظُرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْظُرُوا﴾، ﴿فَوْقَهُمْ﴾: حال مؤكدة من ﴿السَّمَاءِ﴾. والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب مفعول ثان مقدم لـ ﴿بَنَيْنَاهَا﴾، أو في محل النصب حال من مفعول ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ وهي معلقة بالنظر قبلها. ﴿بَنَيْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، وجملة ﴿بَنَيْنَاهَا﴾: بدل من ﴿السَّمَاءِ﴾. ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿بَنَيْنَاهَا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿فُرُوجٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١)﴾.
﴿وَنَزَّلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ أو على ﴿أَلْقَيْنَا﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿نَزَّلْنَا﴾، ﴿مَاءً﴾: مفعول به، ﴿مُبَارَكًا﴾: صفة ﴿مَاءً﴾، ﴿فَأَنْبَتْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿نَزَّلْنَا﴾، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به: ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾، وهو من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: وحب الزرع المحصود. ﴿وَالنَّخْلَ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿بَاسِقَاتٍ﴾: حال مقدرة من النخل؛ لأنها في وقت الإنبات لم تكن طوالًا. ﴿لَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿طَلْعٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿نَضِيدٌ﴾: صفة ﴿طَلْعٌ﴾ والجملة: في محل النصب حال ثانية من النخل الباسقات بطريق الترادف، أو من الضمير في ﴿بَاسِقَاتٍ﴾ على طريق التداخل. ﴿رِزْقًا﴾: مفعول لأجله لـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾ أو مفعول مطلق معنوي لـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾ على أنه مصدر من معنى ﴿أَنْبَتْنَا﴾، أو حال من
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض. ﴿قَبْلَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة لبيان حقيقة راهنة عن البعث، واتفاق جميع الرسل عليه. ﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾: معطوف على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ وكذا ﴿وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾: معطوفات على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ وسوغ الابتداء به قصد العموم، أو إضافته المقدرة؛ أي: كل هذه الأمم. ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿كُلٌّ﴾ وأفرد الضمير نظرًا إلى لفظ ﴿كُلٌّ﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر عن ﴿كُلٌّ﴾ والجملة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها. ﴿فَحَقَّ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿حَقَّ﴾: فعل ماض. ﴿وَعِيدِ﴾: فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة الممنوعة بسكون الوقف؛ لأنه مضاف إلى ياء المتكلم، وأصله: وعيدي، فحذفت الياء، فبقيت الكسرة دليلًا عليها، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿كَذَّبَ﴾ والعائد: محذوف، تقديره: عليهم. ﴿أَفَعَيِينَا﴾ ﴿الهمزة﴾: اللاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقصدنا الخلق فعجزنا عنه حتى يتوهم أحد عجزنا إعادته، والجملة المحذوفة: مستأنفة مقررة لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. ﴿عيينا﴾: فعل وفاعل معطوف على تلك المحذوفة. ﴿بِالْخَلْقِ﴾: متعلق بـ ﴿عيينا﴾ ﴿الْأَوَّلِ﴾: صفة لـ ﴿الْخَلْقِ {بَلْ﴾: عاطفة على مقدر مستأنف مسوق لبيان
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿وَنَعْلَمُ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿نَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ونحن نعلم، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾ ولا يصح أن يكون ﴿نعلم﴾ حالًا بنفسه؛ لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، كما في "الكرخي" ولك أن تجعل ﴿الواو﴾: استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿تُوَسْوِسُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿نَفْسُهُ﴾: فاعل، وجملة ﴿تُوَسْوِسُ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: ضمير ﴿بِهِ﴾ ولك أن تجعل ﴿مَا﴾ مصدرية، والتقدير: ونعلم وسوسة نفسه له. ﴿وَنَحْنُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ. ﴿أَقْرَبُ﴾: خبره. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقْرَبُ﴾. ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقْرَبُ﴾ أيضًا ومضاف إليه، والجملة: معطوفة على جملة ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿أَقْرَبُ﴾ أو متعلق باذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد لقومك حين يتلقى المتلقيّان. ﴿يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾: خبر مقدم. ﴿وَعَنِ الشِّمَالِ﴾: معطوف عليه. ﴿قَعِيدٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية. في محل النصب على الحال من ﴿الْمُتَلَقِّيَانِ﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَلْفِظُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة: مستأنفة. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿قَوْلٍ﴾: مفعول به ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿لَدَيْهِ﴾: ظرف مكان خبر مقدم. ﴿رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾: مبتدأ مؤخر؛ لأنهما
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)﴾.
﴿وَجَاءَتْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَحِيدُ﴾. وجملة ﴿تَحِيدُ﴾: خبر ﴿كُنْتَ﴾، وجملة ﴿كُنْتَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته الآن هو الذي كنت منه تحيد، وتفرّ في حياتك، فلم ينفعك الهرب، وما أنجاك الفرار. ﴿وَنُفِخَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿نُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿فِي الصُّورِ﴾: نائب فاعل، والجملة: معطوفة على ﴿جَاءَتْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة.
﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣)﴾.
﴿وَجَاءَتْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)﴾. ﴿مَعَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿سَائِقٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَشَهِيدٌ﴾: معطوف عليه، والجملة الاسمية: في محل الرفع صفة لـ ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ أو حال منه على أنّه تخصّص بالإضافة. ﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾: خبره. ﴿مِنْ هَذَا﴾: متعلق بـ ﴿غَفْلَةٍ﴾ والجملة: جواب القسم، وجواب القسم: مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لكل نفس: لقد كنت إلخ. ﴿فَكَشَفْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كَشَفْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كُنْتَ﴾، ﴿عَنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿كَشَفْنَا﴾،
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦)﴾.
﴿أَلْقِيَا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، لاتصاله بألف الاثنين، والألف فاعل. ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾: متعلق بـ ﴿أَلْقِيَا﴾، والجملة: في محل النصب مقول لقول محذوف؛ أي: يقال ألقيا في جهنم. ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾: مفعول به. ﴿عَنِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿كَفَّارٍ﴾، ﴿مَنَّاعٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿كَفَّارٍ﴾، ﴿لِلْخَيْرِ﴾: متعلق بـ ﴿مَنَّاعٍ﴾، ﴿مُعْتَدٍ﴾: صفة ثالثة له. ﴿مُرِيبٍ﴾: صفة رابعة. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب بدل من ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾، أو في محل الجر بدل من ﴿كَفَّارٍ﴾. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: ظرف في محل المفعول الثاني ﴿إِلَهًا﴾: مفعول أول. ﴿آخَرَ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهًا﴾. ﴿فَأَلْقِيَاهُ﴾ ﴿الفاء﴾: زائدة. ﴿أَلْقِيَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿فِي الْعَذَابِ﴾: متعلق بـ ﴿ألقيا﴾، ﴿الشَّدِيدِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَذَابِ﴾. والجملة الفعلية: جملة مؤكدة لجملة قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ توكيدًا لفظيًّا، ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ، وجملة
﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧)﴾.
﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جملة مستأنفة، أو جوابية، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها وقعت في جواب قول الكافر حين يلقي في النار: ربّنا أطغاني قريني وشيطاني. قال قرينه وشيطانه: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَطْغَيْتُهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك مهمل. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الكافر. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿بَعِيدٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾ وجملة الاستدراك معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا أَطْغَيْتُهُ﴾.
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: مستأنفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَخْتَصِمُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والواو: فاعل ﴿لَدَيَّ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تَخْتَصِمُوا﴾. والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿قَدَّمْتُ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قَدَّمْتُ﴾. ﴿بِالْوَعِيدِ﴾: مفعول به لـ ﴿قَدَّمْتُ﴾، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل ﴿تَخْتَصِمُوا﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿يُبَدَّلُ الْقَوْلُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿الْقَوْلُ﴾: نائب فاعل. ﴿لَدَيَّ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يُبَدَّلُ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية. ﴿أَنَا﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِظَلَّامٍ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة ﴿ظَلَّامٍ﴾: خبر ﴿مَا﴾ الحجازية. ﴿لِلْعَبِيدِ﴾ متعلق بـ ﴿ظَلَّامٍ﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾؛ أي: ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب كلابن وتامر، قال الراغب: والمجد: السعة في الكرم، من قولهم: مجدت الإبل: إذا وقعت في مرعى كثير واسع، وصف به القرآن؛ لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية، أو لأنّ من علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله تعالى وعند الناس وشرف، قال الإِمام الغزالي رحمه الله: المجيد: هو الشريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكان شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال.. سمي مجيدًا، وهو الماجد أيضًا، ولكن أحدهما أدل على المبالغة.
﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ والعجب: نظر النفس لأمر خارج عن العادة.
﴿شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ العجيب: الأمر الذي يتعجّب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجّاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة، قال قتادة: عجبهم أن
﴿رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾؛ أي: بعث. ﴿بَعِيدٌ﴾ عن الأوهام، والرجع متعدّ بمعنى الرد بخلاف الرجوع. ﴿مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ﴾؛ أي: ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم.
﴿حَفِيظٌ﴾؛ أي: حافظ لتفاصيل الأشياء.
﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ من مرج الخاتم في أصبعه: إذا جرح، بالجيمين كفرح؛ أي: قلق واضطراب من سعته بسبب الهزال، وفي "المختار": مرج الأمر والدين: اختلط، وبابه طرب، وأمر مريج. مختلط.
والمعنى: أنهم لا يثبتون على رأي واحد، فتارةً يقولون: شاعر، وتارةً: ساحر، وتارةً: كاهن.
﴿بَنَيْنَاهَا﴾؛ أي: أحكمنا بناءها، فجعلناها بغير عمد، جمع عماد كأهب جمع إهاب. ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾ بالكواكب. ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾؛ أي: شقوق، جمع فرج، وهو الشقّ بين الشيئين كفرجة الحائط، والفجر: ما بين الرجلين، وكني به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه، واستعير الفرج للثغر، وكل مخافة، وسمي القباء المشقوق فروجًا، ولبس رسول الله - ﷺ - فروجًا من حرير ثم نزعه.
﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ من رسا الشيء يرسو؛ أي: ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف؛ للإيذان بأنّ إلقاءها لإرساء الأرض بها، وفي ﴿رَوَاسِيَ﴾ إعلال بالقلب، أصله: رواسو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة.
﴿بَهِيجٍ﴾؛ أي: حسن طيّب من البهجة، وهو حسن اللون، وظهور السرور فيه، وابتهج بكذا؛ أي: سر به سرورًا: بأن أثره على وجهه، كما في "المفردات".
﴿مُنِيبٍ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: منوب، نقلت حركة الواو إلى النون فسكّنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ. ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾؛ أي: الذي من شأنه أن يحصد، وأصل الحصد: قطع الزرع، والحصيد بمعنى المحصود.
﴿نَضِيدٌ﴾؛ أي: متراكب بعضه فوق بعض، يقال: نضدت المتاع بعضه على بعض ألقيته فهو منضود ونضد، المنضد: السرير الذي ينضد عليه المتاع، ومنه استعير ﴿طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾، كما في "المفردات". ﴿طَلْعٌ﴾ قال في "بحر العلوم": والطلع: ما يطلع من النخلة، وهو الكم قبل أن يشق، ويقال لما يظهر من الكم: طلع أيضًا، وهو شيء أبيض يشبه بلونه الأسنان، وبرائحته المني.
﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ والرس: البئر التي لم تطو؛ أي: لم تبن. ﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ والأيكة: الغيضة الملتفّة الشجر. ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ العيُّ بالأمر العجز عنه، يقال: عيّ بالأمر، وعيي به إذا لم يهتد لوجه علمه، وعيي عن حجته يعيا من باب تعب: إذا عجز عنه، وقد يدغم الماضي، فيقال: عيَّ، فالرجل عيُّ، وعيِّ على فعل وفعيل، وعيي بالأمر لم يهتد لوجهه، وأعياني بالألف أتعبني، فأعييت يستعمل لازمًا ومتعديًا، قال الكسائي: تقول: أعييت من التعب، وعييت من العجز عن الأمر، وانقطاع الحيلة.
﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ﴾؛ أي: شك شديد وحيرة واختلاط. ﴿مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يقال: جددت الثوب: إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوب جديد أصله المقطوع، ثم جعل لكل ما حدث إنشاؤه، وخلق جديد، إشارة إلى النشأة الثانية، وقوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثوب.
﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ الوسوسة: الصوت الخفيّ، ومنه: وسواس
﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وهو عرق كبير في العنق، وللإنسان وريدان، والوريدان: عرقان مكتنفان بصفحي العنق في مقدّمهما متصلان بالوتين، سميّا بذلك؛ لأنهما يردان من الرأس، أو لأنّ الروح تردهما، فالوريد إما بمعنى الوارد، وإما بمعنى المورود، وقال الزمشخري: وهو في القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل والنَّساء، وفي الخنصر الأسيلم، وقال أيضًا: وحبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منّي مقعد القابلة، ومعقد الإزار، وقال ذو الرمة:
هَلْ أَغْدُوَنْ فِيْ عِيْشَةٍ رَغِيْدِ | وَالْمَوْتُ أَدْنَى لِيْ مِنَ الْوَرِيْدِ |
﴿قَعِيدٌ﴾؛ أي: مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس وزنًا ومعنى، وقيل: يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد كما في قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾.
﴿عَتِيدٌ﴾؛ أي: حاضر، وفي "المصباح": عتد الشيء بالضم عتادًا بالفتح حضر فهو عند بفتحتين، وعتيد أيضًا، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، فيقال: اعتده صاحبه وعتده: إذا أعده وهيأه، وفي التنزيل: ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾.
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ أصله: جيأ بوزن فعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح.
﴿تَحِيدُ﴾ أصله: تحيد بوزن تفعل، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت، فصارت حرف مدّ، من حاد عنه يحيد حيدًا من باب باع: إذا مال عنه وفرَّ وهرب.
﴿يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾؛ أي: يوم إنجاز الوعيد والوعد، ففيه اكتفاء.
﴿سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ سائق فيه إعلال بالقلب، أصله: ساوق، قلبت الواو همزةً في الوصف حملًا له على فعله: ساق في الإعلال.
﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ يقال: حددت السكين: رققت حدَّها، ثم يقال لكل حاد في نفسه من حيث الخلقة، أو من حيث المعنى، كالبصر والبصيرة، فيقال: هو حديد النظر، وحديد الفهم، ويقال: لسان حديد، نحو: لسان صارم وماض، وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد.
﴿عَنِيدٍ﴾؛ أي: معاند للحق، وقال السدي: مشتق من العند، وهو عظم يعترض في الحلق، أو معجب بما عنده، كأنه من قولهم: عندي كذا، كما في "عين المعاني". وقال في "المفردات": العنيد: المعجب بما عنده، والمعاند: المتباهي بما عنده، والعنود؛ الذي يعند عن القصد؛ أي: يميل عن الحق، ويردُّه عارفًا به.
﴿مُعْتَدٍ﴾ من الاعتداء، وهو مجاوزة الحق؛ أي: متجاوز للحق ظالم.
﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: شاك في الله، وفي دينه. ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ القرين هنا الشيطان المقيد له.
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾؛ أي: لا يجادل بعضكم بعضًا عندي.
﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾؛ أي: على الطغيان في دار الدنيا في كتبي، وعلى ألسنة رسلي. ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ أصله: مزيد بوزن مفعل بكسر العين مصدر ميمي، أو اسم مكان، نقلت حركة الياء فيه إلى الزاي، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ لما فيه من وصف الشيء بوصف صاحبه؛ لأنّ المجد حال المتكلّم.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ والإضمار في موضع الإظهار، في قوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ فإضمار الكافرين أولًا؛ للإشعار بتعيّنهم بما أسند إليهم من المقال، وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة.. انصرف إليهم، إذ لا يصدر إلا عنهم، فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم، وإظهارهم ثانيًا؛ للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ لاستبعاد البعث بعد الموت.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ مثل علمه تعالى بكلّيات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء.
ومنها: الإضراب الانتقالي، من بيان شناعتهم السابقة، إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، في قوله ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ وهو تكذيبهم للنبوّة الثابتة بالمعجزات الباهرة، فالأفظعية لكون الثاني تكذيبًا للأمر الثابت من غير تدبّر، بخلاف الأول، فإنه تعجّب.
ومنها: الإتيان بالكلمة المفيدة للتوقّع في قوله: ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ إشعارًا بانهم علموا بعد علو شأنه، وإعجازه الشاهد على حقّيته، فكذّبوا به بغيًا وحسدًا.
ومنها: الإتيان بصيغة التفعيل في قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ لإفادة تكرير النزول.
ومنها: ذكر المحل وإرادة الحال في قوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾؛ أي: أشجارًا ذوات ثمرات، كما قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله ﴿الْحَصِيدِ﴾ فإنه مجاز باعتبار الأول؛ لأنّ المعنى: وحبّ الزرع الذي شأنه أن يحصد.
ومنها: تخصيص إنباته بالحبّ في قوله: ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾؛ لكونه المقصود بالذات.
ومنها: تخصيص النخل بالذِّكرِ في قوله ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ مع اندراجها في الجنات؛ لبيان فضلها على سائر الأشجار.
ومنها: توسيط الحبّ بين جنّات والنخل؛ لتأكيد استقلالها، وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾؛ لأنّ النضيد في الأصل: السرير الذي ينضد عليه المتاع، فاستعير للطلع النضيد.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة.
وفيه أيضًا: تقديم الخبر للقصد إلى الحصر، كما في "أبي السعود".
ومنها: تنكير ﴿خَلْقٍ﴾ في قوله: ﴿خَلْقٍ جَدِيد﴾ لتفخيم شأنه، والإشعار بخروجه عن حدود العادات، أو الإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتم بمعرفته، ولا يقعد على لبس.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ مثّل علمه تعالى بأحوال العبد، وبخطرات النفس بحبل الوريد القريب من القلب، وهو تمثيل للقرب بطريق الاستعارة، كقول العرب: هو منى مقعد القابلة، وهو منّي معقد الإزار.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ حيث شبه العرق بواحد من الحبال من حيث الهيئة، ثم استعار له اسمه.
ومنها: الطباق بين اليمين والشمال، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ حيث استعار لفظ السكرة للهول والشدة التي يلقاها المحتضر عند وفاته، بجامع إذهاب العقل في كلٍ، وإنما لم يجعل الموت استعارة بالكناية، ثمّ إثبات السكرة له، تخييلًا؛ لأنّ المقام أدعى للاستعارة التحقيقية. كذا في "روح البيان".
ومنها: التعبير عن وقوعها بالماضي، إيذانًا بتحقّقها، وغاية اقترابها، حتى كأنه قد أتت وحضرت، كما قيل: قد أتاكم الجيش؛ أي: قرب إتيانه.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾ حيث استعار الغفلة للجهالة بجامع مَنْع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾ حيث استعار الغطاء للغفلة عن أمور المعاد؛ لأنّ الغطاء حقيقة في كل ما يجعل فوق الشيء من لباس ونحوه، فاستعاره للغفلة والجهالة بجامع الستر في كلٍّ.
ومنها: الجناس الناقص بين: ﴿عَنِيدٍ﴾، و ﴿عَتِيدٌ﴾ لتغاير حرفي النون والتاء.
ومنها: توافق الفواصل والسجع اللطيف غير المتكلّف به، مثل: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾، ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١)﴾، ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ وهو من المحسنات البديعية لما فيه من جميل الوقع على السمع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (١) الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين، واعتذار الكافر، ورد القرين عليه، وأنَّ الله سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه؛ لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم.. ذكر أن الجَنَّة تكون قريبة من المتقين، بحيث يرونها رأي العين، فتطمئن إليها نفوسهم، وتثلج لمرآها صدورهم، ويقال لهم: هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل، وهو دائم لا نفاد له، ولا حصر فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمَّا أنذرهم (٢) بما بين أيديهم من اليوم العظيم، والعذاب الأليم.. أنذرهم بما يعجل لهم في الدنيا من ضروب العذاب،
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات (١): ما أخرجه الحاكم وصحّحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ اليهود أتت رسول الله - ﷺ -، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: "خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق في أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء
قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ...﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير من طريق عمرو بن قيس الملائي، عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، لو خوَّفتنا، فنزلت هذه الآية: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ...﴾ ثمّ أخرج عن عمر مرسلًا مثله.
التفسير وأوجه القراءة
٣١ - ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين.. شرع في بيان حال المؤمنين، فقال: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ﴾؛ أي: قربت الجنة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ عن الكفر والمعاصي تقريبًا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أو مكانًا غير بعيد عنهم، بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها قبل دخولها من فنون المحاسن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيبتهون بأنهم محشورون إليها، فائزون بها، وقوله: ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ تأكيد (١) للإزلاف، وانتصابه: إما على المصدرية، أو على الظرفية، كما مرّت الإشارة إليه، أو على الحالية المؤكّدة؛ أي: حال كونها غير بعيد؛ أي: شيئًا غير بعيد، كقولك هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل، إلى غير ذلك من أمثلة التوكيد، فالإزلاف تقريب الرؤية، وغير بعيد تقريب الدخول، فإنّهم يحاسبون حسابًا يسيرًا، ومنهم من لا يحاسب أصلًا، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، كالزئير والضليل، أو لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: المعنى: أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب، فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى،
٣٢ - والإشارة بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى هذا الذي ترونه من فنون نعيمها ﴿مَا تُوعَدُونَ﴾ في الدنيا على ألسنة الرسل، والجملة الاسمية: مقول لقول محذوف،
والمعنى (١): وأزلفت الجنة للمتقين، حال كون أولئك المتقين مقولًا لهم من قبل الله، أو على ألسنة الملائكة عندما شاهدوا الجنة ونعيمها هذا المشاهد، أو هذا الثواب، أو هذا الإزلاف، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، أو هو إشارة إلى الجنة والتذكير لما أنّ المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه، فضلًا عن تذكيره وتأنيثه، فإنهما من أحكام النفظ العربي، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ وقوله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ وفي "التأويلات النجمية": هذا إشارة إلى مقعد صدق، ولو كانت الإشارة إلى الجنة لقال: هذه. انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَا تُوعَدُونَ﴾ بالتاء خطابًا للمؤمنين، وابن كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة؛ أي: هذا القول هو الذي وقع الوعد به، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل.
ومعنى الآية: أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربّهم، واجتنبوا معاصيه بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكرامًا لهم واطمئنانًا لنفوسهم، فيرون ما أعد لهم من نعيم وحبور ولذّة وسرور لا نفاد له ولا فناء، وتقول لهم الملائكة: هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربّكم على ألسنة رسله، وجاءت به كتبه.
ثم بين المستحق لهذا النعيم، فقال: ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ بدل من المتقين، بإعادة الجار؛ أي: وأزلفت الجنة للمتقين لكل أوّاب منهم؛ أي: رجَّاع إلى الله؛ أي: كثير الرجوع إلى الله بالتوبة، فأوّلًا يرجع من الشرك إلى التوحيد، وثانيًا من المعصية إلى الطاعة، وثالثًا من الخلق إلى الحقّ، وقيل: هو المسبح، وقيل: هو الذاكر لله في الخلوة، قال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة، فيستغفر الله منها، وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسًا حتى يستغفر الله فيه.
(٢) البحر المحيط.
٣٣ - ﴿مَنْ﴾: بدل أو عطف بيان من ﴿كُلِّ أَوَّابٍ﴾ وقيل: يجوز أن يكون بدلًا بعد بدل من المتقين، وفيه نظر (١)؛ لأنّه لا يتكرّر البدل والمبدل منه واحد؛ أي: وأزلفت الجنة لمن ﴿خَشِيَ﴾ وخاف ﴿الرَّحْمَنَ﴾ سبحانه حال كونه متلبسًا ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عن الناس، قال الضحاك والسدي: يعني: في الخلوة، حيث لا يراه أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر، وأغلق الباب. والجار والمجرور: متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ﴿خَشِيَ﴾ أو مفعوله أو صفة لمصدره؛ أي: خشية متلبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب عنه، قال بعضهم: والخشية خوف يشوبه تعظيم، قالوا: ومن رزق الخشية لم يعدم الإنابة، ومن رزق الإنابة لم يعدم التفويض والتسليم، ومن رزق التفويض والتسليم.. لم يعدم الصبر على المكاره، ومن رزق الصبر على المكاره.. لم يعدم الرضى.
والتعرض لعنوان الرحمانية (٢)؛ للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته، أو بأنّ علمهم بسعة رحمته لا يصدهم عن خشيته، وأنهم عاملون بموجب قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾.
﴿وَجَاءَ﴾ ربَّه يوم القيامة ﴿بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾؛ أي: راجع إلى الله تعالى مخلص
(٢) روح البيان.
والمراد: الرجوع إلى الله تعالى بما يحبّ ويرضى، وفي "التأويلات النجمية": بقلب منيب إلى ربّه، معرض عمَّا سواه، مقبل عليه بكليته.
وقوله: ﴿مَنْ﴾ بتقدير القول؛ أي: يقال لهم: ادخلوها، والجمع باعتبار معنى ﴿مَن﴾ وقوله: ﴿بِسَلَامٍ﴾: متعلق بمحذوف هو حال من فاعل
٣٤ - ﴿ادخلوها﴾؛ أي: يقال لهم من جهة الله سبحانه: ادخلوا الجنة حالة كونكم متلبسين بسلامة من العذاب، وزوال النعم، وحلول النقم أو بتسليم من جهة الله وملائكته عليكم؛ أي: مسلمًا عليكم، أو سلم بعضكم على بعض.
والمعنى: أي (٢) هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية الله إلى طاعته تائبين من ذنوبهم، ويلقون الله بقلوب منيبة إليه خاضعة له، وتقول لهم الملائكة تكرمةً لهم: ادخلو الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار، فلا خوف عليكم، ولا أنتم تحزنون.
ثم يبشرون، ويقال لهم: ﴿ذَلَكَ﴾ اليوم الذي حصل فيه الدخول ﴿يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ والدوام في الجنة إذ لا انتهاء له أبدًا، فاطمئنوا، وقروا عينًا فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده، ولا ظعن ولا رحيل، والإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه الدخول المتحقق فيه، تقديره: الخلود إذ لا انتهاء له، فإن قيل (٣): المؤمن قد علم في الدنيا أنه إذا دخل الجنة.. خلد فيها، فما فائدة هذا القول؟
فالجواب من وجهين:
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
الثاني: أنّ اطمئنان القلب بالقول أكثر. اهـ "كرخي".
والخلود في الجَنَّة (١) بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها، وقال سعدي المفتي: ولا يبعد والله أعلم أن تكون الإشارة إلى زمان السلم، فتحصل الدلالة على أنَّ السلامة من العذاب، وزوال النعم حاصلة لهم مؤبَّدًا مخلَّدًا لا أنها مقتصرة على وقت الدخول.
٣٥ - ثم زاد في البشرى، فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للمتقين ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾ من فنون المطالب، كائنًا ما كان سوى ما تقتضي الحكمة حجره، وهو ما كان خبيثًا في الدنيا أبدًا كاللواطة ونحوها، فإنهم لا يشاؤونها؛ لأنّ الله سبحانه يعصم أهل الجنة من شهوة محال أو منهيٍّ عنه. ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة، متعلق بـ ﴿يَشَاءُونَ﴾ ويجوز أن يكون حالًا من الموصول، أو من عائده، والأول أولى. اهـ "كرخي".
قال القشيري: يقال لهم: قد قلتم في الدنيا: ما شاء الله كان، فاليوم ما شئتم كان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾: أي: عندنا زيادة في النعيم على ما يشاؤون، وهو ما لا يخطر ببالهم، ولا يندرج تحت مشيئتهم، من أنواع الكرامات التي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإنهم يسألون الله سبحانه، حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاؤوا، ثم يزيدهم من عنده ما لم يسألوه، ولم تبلغه أمانيهم، وقيل: إنّ السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال الله تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ والأصح: أن المزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما روي بطرق مختلفة، فيجتمعون في كل يوم جمعة، فلا يسألون شيئًا إلا أعطاهم، وتجلى لهم، ويقال ليوم الجمعة في الجنة: يوم المزيد.
٣٦ - ثم خوف الله سبحانه أهل مكة، ومن دان دينهم بما وقع للأمم الماضية، فقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾: خبرية بمعنى عدد كثير، وقعت مفعول ﴿أَهْلَكْنَا﴾. و ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ مميزها ومبين لإبهامها ﴿قَبْلَهُمْ﴾؛ أي قبل أهل مكة ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾؛ أي: من أمة؛ أي: وكثيرًا من القرون الذين كذبوا رسلهم أهلكنا قبل قومك يا محمد. ﴿هُمْ﴾؛ أي: أولئك القرون ﴿أَشَدُّ﴾ وأقوى ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل مكة ﴿بَطْشًا﴾؛ أي: أخذًا وبأسًا، كعاد وثمود وفرعون، ومحل الجملة: النصب على أنها صفة لكم، وفيه إشارة إلى إهلاك النفوس المتمردة في القرون الماضية إظهارًا لكمال القدرة والحكمة البالغة، لتتأدب به النفوس القابلة للخير، وتتعظ به القلوب السليمة.
وقوله: ﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾ معطوف على ﴿أَهْلَكْنَا﴾ فـ ﴿الفاء﴾ (١) لمجرد العطف والتعقيب، من نقب في الأرض إذا ذهب وطاف في أرجائها؛ أي: وكم أهلكنا قبل قومك يا محمد من الأمم المكذبة لرسلها، الموصوفين بشدّة البطش والقوّة، فساروا في البلاد، وطافوا في أرجاء الأرض هربًا من عذابنا حين رأوا أمارته، حال كونهم قائلين: ﴿هَلْ﴾ لنا ﴿مِنْ مَحِيصٍ﴾؛ أي: هل لنا من مفرّ ومهرب ومخلص من أمر الله وعذابه، أو من الموت، فلم يجدوا مفرًّا ولا مهربًا، فـ ﴿مَحِيصٍ﴾: مبتدأ خبره: مضمر، وهو لهم. و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل ﴿نقَّبوا﴾.
ويجوز أن يراد: فنقب أهل مكة، وجالوا في أسفارهم، ومسايرهم للتجارة في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصًا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، ويحتمل أن تكون ﴿الفاء﴾: سببية، عاطفة على جملة ﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا﴾؛ أي: دالّةً على
والمعنى (١): أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم، وكانوا أشدّ من قومك بطشًا، وأكثر منهم قوّة، كعاد وثمود وتبع، فتقلبوا في البلاد، وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق، ولم يجدوا لهم من أمر الله مهربًا ولا ملجأ حين حم القضاء، وهكذا حالكم، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل في الدنيا، والآجل يوم القيامة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَنَقَّبُوا﴾ بفتح القاف مشددة، والظاهر: أنّ الضمير في ﴿نقبوا﴾: عائد على ﴿كَمْ﴾؛ أي: دخلوا البلاد من أنقابها وطرقها.
والمعنى: طافوا في البلاد، وقيل: نقروا وبحثوا، والتنقيب: التنقير والبحث، قال امرؤ القيس في معنى التطواف:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِيْ الآفَاقِ حَتَّى | رَضِيْتُ مِنَ الْغَنِيْمَةِ بِالإِيَابِ |
ومثله قول الحارث بن خلدة:
نَقَبُوْا فِيْ الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ المَوْ | تِ وَجَالُوْا فِيْ الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ |
(٢) البحر المحيط.
٣٧ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي (١): إنَّ فيما ذكر من قصتهم، أو فيما ذكر في هذه السورة، من أولها إلى آخرها من العبر والأخبار، وإهلاك القرى. ﴿لَذِكْرَى﴾؛ أي: لتذكرة وعظة ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾؛ أي: قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور، ويتفكر فيها كما ينبغي، فإنَّ من كان له ذلك يعلم أن مدار دمارهم هو الكفر، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير.
قال الراغب: قلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه، ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به، من الروح والعلم والشجاعة وسائر ذلك، وقوله: ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾؛ أي: علم وفهم. انتهى، وفسَّره ابن عباس رضي الله عنهما بالعقل، وذلك لأنَّ العقل قوة من قوى القلب، وخادم من خدامه، فمن له أدنى عقل فله ذكرى، وقال أبو الليث: لمن كان له قلب؛ أي: عقل، فكني به عنه. انتهى. قال الفرّاء: وهذا جائز في العربية، تقول: مالك قلب، وما قلبك معك؛ أي: مالك عقل، وما عقلك معك، وقيل (٢): المعنى: لمن كان له حياة، ونفس مميزة، فعبّر عن ذلك بالقلب؛ لأنّه وطنها ومعدن حياتها، ومنه قول امرىء القيس:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِيْ | وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِيْ القَّلْبَ يَفْعَلِ |
(٢) الشوكاني.
﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم، فإنَّ من فعله يقف على جلية الأمر، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر، فكلمة ﴿أَوْ﴾ لمنع الخلو دون الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب، كما يلوح به قوله: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أن ذلك الملقي فهو حال من الفاعل. ﴿شَهِيدٌ﴾ من الشهود بمعنى الشاهد؛ أي: حاضر بذهنه ليفهم معانيه؛ لأنّ من لا يحضر ذهنه، فكأنه غائب أو شاهد بصدقه، فيتعظ بظواهره، وينزجر بزواجره.
والمعنى: أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم، واستمعه والحال أنّ قلبه حاضر فيما يسمع، فإنَّ من لم يحضر قلبه فيما يسمع.. فهو غائب، وإن حضر بجسمه.
والخلاصة: استمع الوعظ بغاية استماعه، حتى كأنه يرمى بشيء ثقيل من علو إلى سفل اهـ "خطيب".
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ مبنيًا للفاعل و ﴿السَّمْعَ﴾: نصب به؛ أي: أو أصغى سمعه مفكرًا فيه، وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهشم: ﴿أَوْ أَلْقَى﴾ مبنيًا للمفعول السمع رفع به؛ أي: السمع منه؛ أي: من الذي له قلب.
قال مجاهد وقتادة: هذه الآية في أهل الكتاب، وكذا قال الحسن، وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.
والمعنى: إنّ فيما تقدّم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع، يتدبّر الحقائق، ويعي ما يقال له.
﴿وَمَا مَسَّنَا﴾ بذلك الخلق، مع كونه مما لا تقي القوى والقدر ﴿مِنْ لُغُوبٍ﴾؛ أي: من إعياء ولا تعب ولا نصب، فإنه لو كان.. لاقتضى ضعفًا، فاقتضى فسادًا، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي، وأنتم تشاهدون الكل على حدٍّ سواء من نفوذ الأمر، وتمام التصرف، وفي "التأويلات النجمية": وما مسَّنا من لغوب؛ لأنها خلقت بإشارة أمر كن كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾ فأنَّى يمسه اللغوب، وأنه صمد لا يحدث في ذاته حادث، انتهى. و ﴿مِنْ﴾: زائدة، و ﴿لُغُوبٍ﴾: فاعل، والجملة: إما حالية، أو مستأنفة.
والمعنى (٢): قسمًا بربك، إنا خلقنا السموات والأرض، وملأناهما بالعجائب في ستة أطوار مختلفة وما مسنا تعب ولا إعياء، ولا تزال عجائبنا تترى
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لُغُوبٍ﴾ بضم اللام، وقرأ علي والسلميّ وطلحة ويعقوب: بفتحها، وهما مصدران: الأول مقيس، وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع والوزوع.
٣٩ - ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾؛ أي: على ما يقوله المشركون في شأن البعث، من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد، حيث قالوا: هذا شيء عجيب؛ أي: هذا الذي يقوله محمد: نبعث بعد الموت شيء عجيب بعيد عن العقل، فإنَّ من خلق الخلق في تلك المدّة اليسيرة بلا إعياء ولا فتور، قادر على بعثهم، وجزائهم على ما قدَّموا من الحسنات والسيئات، أو على ما يقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه، وهذا تسلية للنبي - ﷺ -، وأمر له بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي: هون عليك ولا تحزن لقولهم، وتلق ما يرد عليك منه بالصبر، وهذا قبل الأمر بقتالهم.
﴿وَسَبِّحْ﴾؛ أي: ونزهه تعالى يا محمد عن العجز عمَّا يمكن، وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث، وعن وصفه بما يوجب التشبيه حالي كونك متلبسًا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾؛ أي: بحمده على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها، وفي "الخطيب": فقد كان النبيّ - ﷺ - مشتغلًا بأمرين:
أحدهما: عبادة الله.
والثاني: هداية الخلق، فلما لم يهتدوا.. قيل له: أقبل على شغلك الآخر،
فإن قلت: لم قال هنا: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ وقال في طه: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ بالضمير؟
قلت: لأنّه راعى هناك القياس؛ لأنّ الغروب للشمس كما أنَّ الطلوع لها، فأتى بالضمير لِسَبْقِ المرجع، وراعى هنا الفواصل، فهذا هو الفرق بين الموضعين، فتأمل.
٤٠ - ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾؛ أي: وسبحه سبحانه وتعالى بعض ساعات الليل، وقيل: هي صلاة الليل، وقيل: ركعتا الفجر، وقيل: صلاة العشاء، والأول أولى. فقوله (٢): ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾: مفعول لفعل مضمر معطوف على ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ يفسره ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ و ﴿مِنْ﴾ للتبعيض، ويجوز أن يعمل فيه المذكور أيضًا، ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها، كما سيجيء في سورة قريش.
﴿وَ﴾ سبّحه ﴿أَدْبَارَ السُّجُودِ﴾؛ أي: أعقاب الصلوات وأواخرها، جمع دبر، من أدبر الشيء: إذا ولّى، وأدبرت الصلاة: إذا انقضت، والركوع والسجود يعبّر بهما عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها، كما يعبّر بالوجه عن الذات؛ لأنّه أشرف أعضائها.
وقرأ الجمهور - أي: جمهور السبعة - والحسن والأعرج: ﴿وَأَدْبَارَ﴾ بفتح الهمزة، جمع دبر، كطنب وأطناب، وفرأ نافع وابن كثير وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة، وشبل: بكسرها على المصدر، وقال (٣)
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى - والله أعلم -: أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذّبين، وأنَّ الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة النصب، ولهذا كان النبي - ﷺ - إذا حزبه أمر.. فزع إلى الصلاة. انتهى، يقال: حزبه الأمر: نابه واشتد عليه، أو ضغطه وفزع إليه: لجأ.
والخلاصة (٢): أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه، حامدًا له على أنعمه عليك وقت الفجر، ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات، وقال ابن عباس: الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن الليل العشاءان، وأدبار السجود النوافل بعد
(٢) المراغي.
٤١ - ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ أيها الرسول، أو أيها المخاطب ما أقول لك، وما أخبرك به في شأنّ أهوال يوم القيامة، فمفعول ﴿اسْتَمِعْ﴾: محذوف، والوقف على ﴿اسْتَمِعْ﴾. وفي حذف المفعول تهويل وتفظيع المخبر به، و ﴿يَوْمَ﴾ أول كلام مستأنف، عامله: محذوف، تقديره: يعلم المشركون عاقبة كفرهم وتكذيبهم، أو يخرجون من قبورهم.
﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ بالحشر، وهو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس، فينادي بالحشر، والمراد بندائه: نفخه في الصور، سمّي نداء من حيث إنه جعله علمًا للخروج وللحشر، وإنما (١) يقع ذلك النداء كأذان المؤذن، وعلامات الرحيل في العساكر، وقيل: هو النداء حقيقةً، فيقف على صخرة بيت المقدس، ويضع أصبعه في أذنيه، وينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزِّقة، والشعور المتفرقة، إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وقيل: المنادي جبريل، والنافخ إسرافيل، قال الشهاب الخفاجي: وهو الأصح، كما دلت عليه الآثار.
﴿مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ إلى السماء، وهو صخرة بيت المقدس، فإنَّ بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلًا، أو ثمانية عشر ميلًا، وهو وسط الأرض، كما قاله علي رضي الله عنه ولا يصح ذلك إلا بوحي، أو من مكان قريب يصل نداؤه إلى الكل على سواء، وفي "كشف الأسرار": سمي قريبًا؛ لأنّ كل إنسان يسمعه من طرف أذنه، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل:
وعبارة السمين: قوله: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ هو استماع على بابه، وقيل: هو بمعنى الانتظار، وهو بعيد، فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفًا؛ أي: استمع نداء المنادي، أو نداء الكافر بالويل والئبور، فعلى هذا يكون ﴿يَوْمَ يُنَادِ﴾ منصوبًا بيخرجون مقدرًا مدلولًا عليه بقوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ وعلى الثاني يكون ﴿يَوْمَ يُنَادِ﴾ مفعولًا به؛ أي: انتظر ذلك اليوم. انتهى.
وقرأ ابن كثير (١) ﴿المنادي﴾ بالياء وصلًا ووقفًا، ونافع وأبو عمرو: بحذف الياء وقفًا، وعيسى وطلحة والأعمش وباقي السبعة: بحذفها وصلًا ووقفًا اتباعًا لخط المصحف، ومن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها وقفًا فلأنَّ الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفًا نصبًا، والتاء هاءً، ويشدد المخفف، ويحذف في القوافي.
٤٢ - ﴿يَوْمَ...﴾ إلخ. بدل من ﴿يَوْمَ يُنَادِ...﴾ إلخ. ﴿يَسْمَعُونَ﴾؛ أي (٢): الأرواح، وقيل: الأجساد؛ لأنه يمدها أربعين سنة، كما في "عين المعاني". ﴿الصَّيْحَةَ﴾ والصرخة، وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية. ﴿بِالْحَقِّ﴾: إما حالٌ من الصيحة؛ أي: متلبسةً بالحق، أو من فاعل ﴿يَسْمَعُونَ﴾ أي: متلبسين بالحق، أو متعلق بـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾ على أنَّ الباء للتعدية والعامل في الظرف: هو ما يدل عليه قوله: ﴿ذَلَكَ﴾ اليوم؛ أي: يوم النداء، وسماع صيحة النفخ ﴿يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ من القبور، وهو من أسماء يوم القيامة، وسمّي يوم العيد يوم الخروج أيضًا تشبيهًا به.
والمعنى: يوم يسمعون الصيحة متلبسةً بالحق الذي هو البعث، يخرجون من القبور إلى المحاسبة، ثم إلى إحدى الدارين، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
٤٣ - ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾ في الدنيا بانقضاء الآجال من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، أو نحيي في الآخرة ونميت في الدنيا، والجملة: مستأنفة لتقرير أمر
(٢) روح البيان.
٤٤ - ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ﴾ الثاني، أو ظرف للمصير، أو ظرف للخروج.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَشَقَّقُ﴾ بإدغام التاء في الشين، وباقي السبعة: بتخفيفها على حذف إحدى التاءين تخفيفًا، وقرىء: ﴿تشقّق﴾ بضم التاء، مضاوع شقّقت، على البناء للمفعول، وقرىء: ﴿تنشق﴾ مضارع انشقّت، وقرأ زيد بن عليّ: ﴿تتشقّق﴾ بإثبات التاءين على الأصل؛ أي: يخرجون من قبورهم يوم تتشقّق وتتصدّع وتنفتح ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن الموتى حال كونهم ﴿سِرَاعًا﴾؛ أي: مسرعين إلى إجابة الداعي من غير التفات يمينًا وشمالًا، وهذا كقوله: ﴿مهطعين إلى الداع﴾ فهو حال من الضمير المجرور، والعامل فيه ﴿تَشَقَّقُ﴾ وقيل: محذوف، تقديره: يخرجون، فهو حال من الواو في ﴿يخرجون﴾، قاله الحوفّي، ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملًا في ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ﴾ كما مرّ آنفًا.
﴿ذَلِكَ﴾ الإخراج بتشقّق الأرض عنهم ﴿حَشْرٌ﴾؛ أي: بعث وجمع وسوق ﴿عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾؛ أي: هيّن علينا للحساب والجزاء، فكيف ينكره عاقل؛ أي (٢): نقول: كن فيكون، وهو كلام معادل لقول الكفرة: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾. وتقديم الجار والمجرور على عامله؛ لتخصيص اليسر به تعالى، فإنّ ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن من شأن، كما قال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وعبارة أبي حيّان: فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة وهو ﴿عَلَيْنَا﴾؛ أي: يسير علينا، وحسَّن ذلك كون الصفة فاصلة.
(٢) روح البيان.
٤٥ - ثم سلّى رسوله، وهدّد المشركين بقوله: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾؛ أي: بما يقول المشركون من فريتهم على ربهم، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت، وغير ذلك مما لا خير فيه، ففيه تسلية له - ﷺ - وتهديد لهم. ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على المشركين ﴿بِجَبَّارٍ﴾؛ أي: بمسلط عليهم تجبرهم، وتقسرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت مذكر، وهذا كقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾؛ أي: لست بمتسلّط عليهم تجبرهم على ما تريد، والآية منسوخة بآية السيف (٢).
﴿فَذَكِّرْ﴾ وعظ ﴿بِالْقُرْآنِ﴾؛ أي: بمواعظه ﴿مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾؛ أي: من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب؛ لأنَّ من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)﴾. وختمت السورة بقوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ﴾ كما افتتحت بـ ﴿ق وَالْقُرْآنِ﴾ فحصلت المناسبة بين المبتدأ والمختتم.
وقرأ ورش (٣): بإثبات الياء بعد الدال في الوصل.
والمعنى: أي وما أنت بمسلط عليهم تقسرهم على الإيمان، وتسيرهم طى ما تهوى وتريد، إنما أنت نذير، وما عليك إلا التبليغ، وعلينا الحساب، ثم أكد أنه مذكر لا مسيطر، وأن التذكير لا ينفع إلا من خشي ربه، فقال: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ...﴾ إلخ؛ أي (٤): فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي، الذي أوعدته من عصاني، وخالف أمري؛ أي: بلّغ رسالة ربّك،
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
فائدة: كان (١) رسول الله - ﷺ - يخطب بسورة ق في كثير من الأوقات؛ لاشتمالها على ذكر الله تعالى، والثناء عليه، ثمّ على علمه بما توسوس به النفوس، وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان، ثم تذكير الموت وسكرته، ثم تذكير القيامة وأهوالها، والشهادة على الخلائق بأعمالهم، ثمّ تذكير الجنة والنار، ثمّ تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور، ثم بالمواظبة على الصلوات.
قال السيوطي في كتاب "الوسائل": أوّل من قرأ في آخر الخطبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...﴾ الآية. عمر بن عبد العزيز، ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا، وكان النبيّ - ﷺ - يقرأ ق، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ إلى قوله: ﴿مَا أَحْضَرَتْ﴾ وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ: الكافرون والإخلاص، ذكر ذلك ابن الصلاح، وفي الحديث: "من قرأ سورة ق... هوَّن الله عليه تارات الموت وسكراته" قيل: تارات الموت إفاقاته وغشياته، كما في "حواشي سعدي المفتي".
الإعراب
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣)﴾.
﴿وَأُزْلِفَتِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿أزلفت الجنة﴾: فعل ونائب
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)﴾.
﴿ادْخُلُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مقول لقول محذوف؛ أي: ويقال لهم: ادخلوها. ﴿بِسَلَامٍ﴾: حال من الفاعل؛ أي: سالمين من كل مخوفة، وهي حال مقارنة. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمُ الْخُلُودِ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. و ﴿مَا﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يَشَاءُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿فِيهَا﴾: حال من الموصول، أو متعلق بـ ﴿يَشَاءُونَ﴾. ﴿وَلَدَينَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لدينا﴾: متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿مَزِيدٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها. ﴿وَكَمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كم﴾: خبريّة بمعنى عدد كثير في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لذكر إهلاك قرون ماضية. ﴿قَبْلَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ﴾: على وفاعل ومفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾. ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾، ﴿وَمَا مَسَّنَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، أو حالية، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿مَسَّنَا﴾: فعل ماض ومفعول به.
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إصرارهم على كفرهم، وتماديهم على تعنتهم، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: اصبر. ﴿اصبر﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقّررة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾: متعلق بـ ﴿اصبر﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَسَبِّحْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على ﴿اصبر﴾. ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: حال من فاعل ﴿سبح﴾؛ أي: سبح متلبسًا بحمد ربك. ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سبح﴾. ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾: ظرف معطوف على الظرف قبله. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾: متعلق بـ ﴿سبحه﴾. ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ ﴿الفاء﴾: زائدة، ﴿سبحه﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾. ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾: ظرف معطوف على ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾. ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿استمع﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿فَاصْبِرْ﴾ أو على ما بعده، ومفعوله: محذوف، تقديره: واستمع نداء المنادي يوم ينادي. و ﴿يَوْمَ﴾: متعلق بـ ﴿استمع﴾. وقيل: تقدير المفعول: ما أقول لك، فيكون ﴿يَوْمَ يُنَادِ﴾: منصوبًا بـ ﴿يخرجون﴾ مقدرًا مدلولًا عليه بقوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾. و ﴿يُنَادِ الْمُنَادِ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ وحذفت ياء ﴿يُنَادِ﴾: في الخطّ تبعًا للرسم العثماني، أو تبعًا للفظ؛ لأنّها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين. ﴿الْمُنَادِ﴾؛ فاعل وحذفت الياء منه في بعض القراءات تبعًا للرسم العثماني أيضًا. ﴿مِنْ مَكَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَادِ﴾. ﴿قَرِيبٍ﴾: صفة ﴿مَكَانٍ﴾، ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ﴾ الظرف:
﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: بدل من الظرف الثاني؛ أعني: ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ﴾ أو متعلق بـ ﴿الْمَصِيرُ﴾. ﴿تَشَقَّقُ﴾: فعل مضارع. ﴿الْأَرْضُ﴾: فاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَشَقَّقُ﴾. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿سِرَاعًا﴾. حال من الضمير في ﴿عَنْهُمْ﴾. ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ﴾: مبتدأ وخبره، والجملة: مستأنفة. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرٌ﴾. و ﴿يَسِيرٌ﴾: صفة لـ ﴿حَشْرٌ﴾. ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، ويصح كون ﴿مَا﴾ موصولة أو مصدرية. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية. ﴿أَنتَ﴾: اسمها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق ﴿بِجَبَّارٍ﴾ و ﴿جبار﴾: خبر ﴿مَا﴾ الحجازية، و ﴿الباء﴾: زائدة، وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية: معطوفة على جملة ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾. ﴿فَذَكِّرْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك من علمنا بقولهم، وعدم سيطرتك عليهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ذكّر بالقرآن. ﴿ذكّر﴾: فعل أمر وفاعل مستتر. ﴿بِالْقُرْآنِ﴾: متعلق بـ ﴿ذكر﴾، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَخَافُ﴾: صلتها. ﴿وَعِيدِ﴾: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه: فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ أجتزاء عنها
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَأُزْلِفَتِ﴾؛ أي: قربت، وأدنيت الجنة، تقول: أزلفه: قرّبه، وأزلف الأشياء: جمعها، وأزلف الدليل القوم: حملهم على التقدم، وأزعجهم مزلفة بعد مزلفة؛ أي: مرحلة بعد مرحلة.
﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾؛ أي: في مكان غير بعيد منهم، بل هو بمرأى منهم، بحيث ينظرون إليها قبل دخولها، فيكون انتصابه على الظرفية كما مرّ.
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾؛ أي: هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل.
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ الأوَّاب: الرجَّاع الذي يرجع عن المعصية إلى الطاعة، وفي "المفردات": الأوّاب كالتوّاب، وهو الراجع إلى الله بترك المعاصي، وفعل الخيرات ومنه قيل للتوبة: أوبة، والفرق بين الأوب والرجوع: أنَّ الأوب ضرب من الرجوع، وذلك أنه لا يقال: إلا في الحيوان الذي له إرادة وقصد، والرجوع يقال فيه وفي غيره، آب أوبًا وإيابًا ومآبًا، والمآب مصدر منه، واسم المكان والزمان.
﴿حَفِيظٍ﴾؛ أي: حافظ لحدود الله، وشرائعه، وقال المحاسبي: الأوّاب: الراجع بقلبه إلى ربه، والحفيظ: الحافظ قلبه في رجوعه إليه أن لا يرجع منه إلى أحد سواه، كما مرّ بسطه.
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾ الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وفي "عين المعاني": الخشية: انزعاج القلب عند ذكر السيئة وموجبها، وقال الواسطي: الخشية: أرق من الخوف؛ لأنّ الخوف للعامّة من العقوبة، والخشية من نيران الله في الطبع، كما مرّ.
﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: خاف عقاب ربّه، وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد.
﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾؛ أي: الدوام والبقاء في الجنة، إذ لا انتهاء له أبدًا، قال الراغب: الخلود: هو تبرّي الشيء عن اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم: الأيّام خوالد، وذلك لطول مكثها، لا لدوام بقائها، والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها.
﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾؛ أي: وعندنا زيادة في النعيم على ما يشاؤون، وقال الراغب: الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء من نفسه شيء آخر.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾: القرن الجيل من الناس، والقوم المتقرنون في زمان.
﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾ قال في "القاموس": نقَّب في الأرض ذهب، كأنقب ونقب، وعن الأخبار: بحث عنها أو أخبر بها، والنقب: الطريق في الجبل؛ أي: ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب، ويقال لمن طوف في الأرض: نقب فيها، قال أمرؤ القيس:
فَقَدْ نَقَّبْتُ فِيْ الآفَاقِ حَتَّى | رَضِيْتُ مِنَ الْغَنِيْمَة بِالإِيَابِ |
﴿لَذِكْرَى﴾؛ أي: تذكرةً.
﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أصله: أيوام، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت فيها الياء.
﴿مِنْ لُغُوبٍ﴾ قال الراغب: اللغوب: التبع والنصب، يقال: أتانا ساعيًا لاغبًا خائفًا تعبًا، وفي "القاموس": لغب لغبًا ولغوبًا، كمنع وسمع وكرم: أعيى أشد الإعياء، وفي "المختار": اللغوب بضمتين: التعب والإعياء، وبابه دخل، ولغب بالكسر لغوبًا، لغة ضعيفة، وفي "المصباح": أنّه من باب قتل.
﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ بفتح الهمزة، جمع دبر بضمتين، من أدبرت الصلاة: إذا انقضت، وأدبار السجود: النوافل بعد المكتوبات، وقيل: الوتر بعد العشاء اهـ "بيضاوي".
﴿وَاسْتَمِعْ﴾؛ أي: لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، والسمع: إدراك المسموع بالإصغاء، والفرق بين المستمع والسامع: أنَّ المستمع: من كان قاصدًا للسماع مصغيًا إليه، والسامع: من اتفق سماعه من غير قصد إليه، فكل مستمع سامع من غير عكس.
﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ وقف ابن كثير على ﴿ينادي﴾ بالياء، والباقون: بدونها، ووجه إثباتها: أنه لا مقتضى لحذفها، ووجه حذفها وقفًا، اتباعًا للرسم، والوقف محل تخفيف، وأما المنادي فأثبت ابن كثير أيضًا ياءه وصلًا ووقفًا، ونافع وأبو عمرو: بإثباتها وصلًا وحذفها وقفًا، وباقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا، فمن أثبت فلأنّه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم، ومن خص الوقف بالحذف، فلأنّه محل راحة ومحل تغيير، اهـ "سمين".
﴿مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾؛ أي: بحيث لا يخفى الصوت على أحد. ﴿الصَّيْحَةَ﴾ وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية، والصيحة والصياح: الصوت بأقصى
﴿سِرَاعًا﴾ جمع سريع، والسرعة: ضد البطء، ويستعمل في الأجسام والأفعال، ويقال: سرع فهو سريع، وأسرع فهو مسرع.
﴿بِجَبَّارٍ﴾ من الجبر، وأصل الجبر: إصلاح الشيء بضرب من القهر، والجبّار في اسم الله تعالى هو: الذي جبر العباد على ما أراد، وهو صيغة مبالغة من جبر الثلاثي، فإنّ فعالًا إنما يبنى من الثلاثي نحو الفتّاح والعلام، ولم يجيء من أفعل بالألف إلا دراك. ﴿مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ والوعيد: التخويف بالعذاب، ويستعمل في نفس العذاب.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد في قوله: ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾؛ لأنّه تأكيد للإزلاف، كقولهم: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾.
ومنها: التعرض لعنوان الرحمانية، في قوله: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته، أو بأنّ علمهم بسعة رحمته لا يصدّهم عن خشيته، وأنهم عاملون بموجب قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾.
ومنها: وصف القلب بالإنابة، في قوله: ﴿بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ مع أنها وصف المكلّف، لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى؛ أي: لا عبرة للإنابة والرجوع، إلا إذا كان من القلب، والمراد بها: الرجوع إلى الله تعالى بما يحبّ ويرضى.
ومنها: إطلاق اسم الجزء على الكل، في قوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ إذا فسّرناه بالصلاة؛ أي: صلّ حامدًا لربّك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾.
ومنها: تكرار ﴿يَوْمَ﴾ في قوله: ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ﴾ ﴿يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ﴾؛ تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا منه.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾.
ومنها: الفصل بين الموصوف والصفة بمتعلقها، في قوله: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾؛ لإفادة الحصر والاختصاص؛ لأنّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر؛ أي: لا يتيسّر ذلك إلا على الله سبحانه، اهـ "خطيب".
ومنها: التعبير بالمستقبل عن الماضي، في قوله: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ لإفادة الاستمرار والتجدّد.
ومنها: تكرير الضمير في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي﴾ لإفادة التأكيد والاختصاص والتفرّد.
ومنها: توافق الفاصلة في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾؛ لأنّه من المحسنات البديعية، كما مرّ.
ومنها: الحذف والزيادة في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - إنكار المشركين للنبوّة والبعث.
٢ - الحثّ على النظر في السماء وزينتها، وبهجة بنائها، وفي الأرض وجبالها الشامخات، وزروعها النضرات، وأمطارها الثجاجات.
٣ - العبرة بالدول الهالكات، كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع، وما استحقوا من الوعيد والعذاب.
٤ - تقريع الإنسان على أعماله، وأنه مسؤول عن دخائل نفسه في مجلس أنسه، وعند إخوته، وفي خلوته، وأنه محوّط بالكرام الكاتبين يحصون أعماله، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته، وحانت منيّته.. حوسب على كل قول وكل عمل، وشهدت عليه الشهود، وكشفت له الحجب.
٥ - إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلًا.
٦ - إنّ القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع، يستمع ما يلقى إليه.
٧ - تسلية رسوله - ﷺ - على ما يقول المشركون، من إنكار البعث، وتهديدهم على ذلك.
٨ - أمر رسول الله - ﷺ - بالتسبيح، آناء الليل وأطراف النهار.
٩ - أمر رسول الله بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد الله تعالى، ويخشى عقابه (١).
والله أعلم
* * *
سورة الذاريات مكيّة، نزلت بعد الأحقاف، قال القرطبي في قول الجميع، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة الذاريات بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وهي ستون آيةً (١)، وثلاث مئة وستون كلمةً، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفًا، سمّيت بالذاريات؛ لذكر الذاريات فيها.
مناسبتها لما قبلها من وجهين (٢):
الأوّل: إنّه قد ذكر في السورة السابقة، البعث والجزاء والجنة والنار وافتتح هذه بالقسم بأنّ ما وعدوا من ذلك صدق، وأنّ الجزاء واقع.
الثاني: أنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.
وقال أبو حيان (٣): مناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾. وقال في أوّل هذه بعد القسم: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦)﴾.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: وفيها من المنسوخ آيتان:
أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)﴾ (الآية ١٩)، نسخ ذلك بآية الزكاة.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)﴾.المناسبة
هاهنا أمور يجمل بك أن تفهمها (١):
١ - بعد أن بيّن الحشر بدلائله وقال: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ ثمّ أصروا على ذلك غاية الإصرار، لم يبق إلا اليمين فقال:
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) | إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥)﴾. |
٣ - في السورة التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف المقطعة، كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر، وهي التي يتمّ بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية في سورة الصافّات فقال: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤)﴾. وأقسم في سورتي النجم والضحى لإثبات الرسالة، فقال في الأولى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾، وقال في الثانية: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾. وأقسم في سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.
٤ - في السور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية، أقسم بالساكنات، فقال: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١)﴾. وفي السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات، فقال: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾؛ لأنّ الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق.
٥ - كانت العرب تحترز عن الإيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبيّ - ﷺ - على سننهم، فحلف بكل شريف، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتًا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقًا، وإلا أصابه شؤم الإيمان، وناله المكروه في بعض الأيمان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (١) حال المفترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذّبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوّة محمد - ﷺ -، وعبدوا مع الله سبحانه غيره من وثن أو صنم.. أردف ذلك بذكر حال المتقين، وما يتمتّعون به من النعيم المقيم، في جنّات تجري من تحتها الأنهار، جزاء إحسانهم في أعمالهم، وقيامهم في الليل للصلاة، والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للفقراء
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر إنكار قومه بالبعث والنشور، حتى أقسم لهم بعزّته أنه كائن لا محالة.. سلّى رسوله - ﷺ - فأبان له أنه ليس ببدع في الرسل، وأنّ قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنهم إن تمادوا في غيّهم، وأصرّوا على كفرهم، ولم يقلعوا عمّا هم عليه.. فسيحل بهم مثل ما حلّ بمن قبلهم من الأمم الخالية.
وذكر إبراهيم عليه السلام من بين الأنبياء؛ لكونه شيخ المرسلين، وكون النبيّ - ﷺ - على سننه، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)﴾ ولأنّ العرب كانت تجله وتحترمه، وتدعي أنها على دينه.
وأتى (١) بالقصص بأسلوب الاستفهام؛ تفخيمًا لشأن الحديث، كما تقول لمخاطبك: هل بلغك كذا وكذا؟ وأنت تعلم أنه لم يبلغه؛ توجيهًا لأنظاره حتى يصغي إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر، لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة تنبيهًا إلى أنّ الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية: أنّ رسول الله - ﷺ - بعث سريّة، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعدما فرغوا، فنزلت
(٢) لباب النقول.