ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، وأجاب: ﴿قَوْلَ الَّتِي﴾؛ أي: دعاء المرأة التي ﴿تُجَادِلُكَ﴾ وتخاصمك وتراجعك أيّها الرسول الكريم الكلام ﴿فِي﴾ شأن ﴿زَوْجِهَا﴾ أوس بن الصامت. واسمها خولة بنت ثعلبة - كما مرّ - وتلك المجادَلة: أنّها كلما قال لها رسول الله - ﷺ -: "حرمت عليه".. كانت تقول: والله ما ذكر طلاقًا؛ أي: أجاب الله سبحانه دعاءها؛ بأن أنزل سبحانه حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها. و ﴿سَمِعَ﴾ هنا مجاز مرسل (١) عن أجاب بعلاقة السببية.
والمجادلة: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، والمراد هنا: المكالمة ومراجعة الكلام؛ أي: معاودته.
والمعنى: أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تكالمك في حق زوجها استفتاء، وتراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من ظهاره إياها بغير وجه مشروع وسبب مقبول.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ بإدغام الدال في السين. وقرأ الجمهور بالإظهار. قال خلف بن هشام البزار: سمعت الكسائي يقول: من قرأ ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ فأظهر الدال عند السين.. فلسانه أعجمي ليس بعربيّ. ولا يلتفت إلى هذا القول؛ لأن الجمهور على الإظهار.
﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه: عطف على ﴿تُجَادِلُكَ﴾؛ أي: تتضرع إلى الله تعالى، وتظهر ما بها من المكروه والمشقة. وفي (٢) ذكر ﴿قَدْ﴾ إشعار بأن الرسول والمجادلة كانا يتوقعان أن ينزل الله حكم الحادثة، ويفرج عنها كربها؛ لأنها إنما تدخل على ماض متوقع.
وقد مرّ لك أن المجادلة هي خولة بنت ثعلبة بن مالك بن خزاعة الخزرجية،
(٢) روح البيان.
وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ في محل نصب على الحال من الجلالة، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها، كما سيأتي؛ أي: والله يعلم (١) تراجعكما في الكلام، وتخاطبكما، وتجاوبكما في أمر الظهار. فإن التحاور بمعنى التجاوب، وهو رجع الكلام وجوابه من الحور؛ بمعنى: الرجوع. وذلك كان برجوع الرسول إلى الحكم بالحرمة مرة بعد أخرى، وبرجوع المجادلة إلى طلب التحليل كذلك.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾؛ أي: مبالغ في السمع، يسمع كل مسموع. ﴿بَصِيرٌ﴾؛ أي: مبالغ في الإبصار يبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة؛ أي: ومن قضيته أن يسمع تحاورهما، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع.
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمه أحد سوى ربه، وصدق في دعائه وشكواه.. كفاه الله في ذلك، ومن كان أضعف.. فالرب به ألطف. ولقد أجاد من قال:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِيْ الضَّمِيْرِ وَيَسْمَعُ | أنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ |
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا | يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ |
مَا لَي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيْلَةٌ | وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ |
حَاشَا لِجُوْدِكَ أَنْ تُقَنِّطَ عَاصِيًا | الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ |
روي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بهذه المرأة في خلافته، وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلًا ووعظته، وقالت: يا عمر! قد كنت تدعى عميرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر؛ فإنه من أيقن الموت.. خاف الفوت، ومن أيقن الحساب.. خاف العذاب. وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف الطويل؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!
ثم اعلم: أنه من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول في جوابه: عليك نفسك؛ أي: الزم نفسك، أنت تأمرني بهذا؟! وذلك لأنه إذا ذكر اسم الله.. يلزم التعظيم له، سواء صدر من مسلم أو كافر، وأعلم الناس لا يستغني عن تنبيه وإيقاظ، وقد قيل: اللائق بالعاقل أن يكون كالنحل يأخذ من كل شيء ثم يخرجه عسلًا، فيه شفاء من كل داء، وشمعًا له منافع لا سيما الضياء، فطالب الحكمة يأخذها من كل مقام سواء قعد أو قام.
الْمَرْءُ لَوْلَا عُرْفُهُ فَهُوَ الدُّمَى | وَالْمِسْكُ لَوْلَا عَرْفُهُ فَهُوَ الدَّمُ |
ومعنى الآية: أي قد قبل الله سبحانه شكوى المرأة التي تجادلك يا محمد في شأن زوجها، وبثت أمرها إلى ربها، وسمع ما سمع من تحاورها معك، والله سميع لما يقال، خبير بحال عباده، فأنزل فيها ما أزال غصتها، وفرج كربتها، وأقر به عينها، وبلّ به ريقها، وأرجع إلى كنفها صبيتها الذين كانوا مصدر شقوتها، وبهم اغتسلت - تعللت واحتجت - على رسوله - ﷺ -.
٢ - ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه، وذكر حكمه، فقال: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون؛ أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم كتحريم الله عليهم ظهور
ثم بيّن وجه خطئهم بقوله: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ...﴾ إلخ. وفي "فتح الرحمن": قال ذلك هنا، وقال بعده: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ لأنّ الأوّل خطاب للعرب خاصة، وكان طلاقهم في الجاهلية الظهار، والثاني بيان أحكام الظهار للناس عامة، انتهى.
وهذا شروع في بيان الظهار نفسه (١)، وحكمه المترتب عليه شرعًا بطريق الاستئناف.
والظهار لغة: مصدر ظاهر الرجل؛ أي: قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، والظهر: العضو، والجارحة، ويعبر عن البطن بالظهر؛ أي: أنت عليّ حرام كبطن أمي؛ أي: فكنّى عن البطن بالظهر الذي هو عمود البطن لئلا يذكر ما يقارب الفرج، تأدبًا.
واعلم: أنه ألحق الفقهاء بالظهر نحو البطن والفخذ والفرج، مما يحرم النظر إليه من الأم، فمن قال: أنت عليّ كبطن أمي أو فخذها أو فرجها.. كان ظهارًا، بخلاف مثل اليد أو الرجل، وكذا ألحقوا بالأم سائر المحارم، فلو وضع المُظاهر مكان الأم ذات رحم محرم منه من نسب، كالخالة والنعمة، أو رضاع، أو صهر.. كان ظهارًا؛ مثل أن يقول: أنت عليّ كظهر خالتي أو عمتي أو أختي، نسبًا أو رضاعًا، أو كظهر امرأة أبي أو ابني. ولو شبّهها بالخمر أو الخنزير أو الدم أو الميتة، أو قتل المسلم، أو الغيبة أو النميمة، أو الزنا، أو الربا، أو الرشوة.. فإنه ظهار إذا نوى. وفي أنت عليّ كأمي: صح نية الكرامة؛ أي: استحقاق البرّ، فلا يقع طلاق ولا ظهار، وصح نية الظهار؛ بأن يقصد التشبيه بالأمّ في الحرمة.. فيترتب عليه أحكام الظهار لا غير. ونية الطلاق؛ بأن يقصد إيجاب الحرمة، فإن لم
وفي إيراد (١) ﴿مِنكُم﴾ مع كفاية ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ مزيد توبيخ للعرب، وتقبيح لعادتهم في الظهار، فإنه كان من أيمان جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم، فلا يليق بهم بعد الإِسلام أن يراعوا تلك العادة المستهجنة، فكأنه قيل: منكم على عادتكم القبيحة المستنكرة. ويحتمل أن يكون لتخصيص نفع الحكم الشرعي للمؤمنين بالقبول والاقتداء به؛ أي: منكم أيها المؤمنون المصدّقون بكلام الله، المؤتمرون بأمر الله، إذ الكافرون لا يستمعون الخطاب، ولا يعلمون بالصواب.
وفي قوله: ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ إشارة إلى أن الظهار لا يكون في الأمة، ومن ذلك قالوا: إن للظهار ركنًا، وهو: التشبيه المذكور، وشرطًا وهو: أن يكون المشبه منكوحةً؛ حتى لا يصح من الأمة، وأهلًا وهو: من كان من أهل الكفارة؛ حتى لا يصح من الذمي والصبي والمجنون، وحكمًا وهو: حرمة الوطء، حتى يكفّر مع بقاء أصل الملك.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يظّهَّرون﴾ بالتشديد مع فتح حرف المضارعة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿يَظَّاهرون﴾ بفتح الياء، وتشديد الظاء، وزيادة ألف. وقرأ أبو العالية، وعاصم، وزر بن حبيش: ﴿يُظَاهِرُونَ﴾ بضم الياء وتخفيف الظاء، وكسر الهاء. وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب. وقرأ أبيّ: ﴿يتظاهرون﴾ بفك الإدغام.
وجملة قوله: ﴿مَا هُنَّ﴾؛ أي: ما نساؤهم ﴿أُمَّهَاتِهِمْ﴾ خبر الموصول؛ أي: ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة، فهو كذب بحت؛ يعني: أن من قال لامرأته:
(٢) الشوكاني.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أُمَّهَاتِهِمْ﴾ بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل (ليس). وقرأ أبو عمرو، والسلمي، والمفضل عن عاصم بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. وقرأ ابن مسعود ﴿بأمهاتهم﴾ بزيادة الباء.
ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال: ﴿إن﴾ نافية بمعنى: (ما) ﴿أُمَّهَاتِهِمْ﴾ في الحقيقة والصدق ﴿إِلَّا اللَّائِي﴾ جمع التي، أي: ما أمهاتهم إلا النساء اللاتي ﴿وَلَدْنَهُمْ﴾؛ أي: ولدن المظاهرين، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من أزواج النبي - ﷺ - والمرضعات، ومنكوحات الآباء لكرامتهن، وحرمتهن، فدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات.. فأبعد شيء من الأمومة فلا تلحق بهنّ في وجه من الوجوه.
ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال: ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإن المظاهرين منكم ﴿لَيَقُولُونَ﴾ بقولهم ذلك ﴿مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ﴾؛ أي: فظيعًا قبيحًا من القول، ينكره الشرع، على (٢) أنَّ مناط التأكيد ليس صدور القول منهم فإنه أمر محقق، بل كونه منكرًا؛ أي: عند الشرع وعند العقل والطبع أيضًا، كما يشعر به تنكيره؛ وذلك لأنّ زوجته ليست بأمه حقيقة، ولا ممن ألحقه المثرع بها، فكان التشبيه بها إلحاقًا لأحد المتباينين بالآخر، فكان منكرًا مطلقًا غير معروف ﴿وَزُورًا﴾؛ أي: كذبًا باطلًا منحرفًا عن الحق. فإنّ الزور بالتحريك: الميل، فقيل للكذب: زور بالضم لكونه مائلًا عن الحق. قال بعضهم: ولعلَّ قوله: ﴿وَزُورًا﴾ من قبيل عطف السبب على المسبب.
(٢) روح البيان.
قلت: هذا الإنشاء يتضمن إلحاق الزوجة المحللة بالأم المحرمة أبدًا، وهذا إلحاق مناف لمقتضى الزوجية، فيكون كاذبًا. وقال بعضهم: لمّا كان مبنى طلاق الجاهلية الأمر المنكر الزور لم يجعله الله طلاقًا، ولم تبق الحرمة إلا إلى وقت التكفير.
والمعنى (١): أي وإنهم ليقولون قولًا منكرًا لا يجيزه شرع ولا يرضى به عقل ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبه من يسكن إليها، وتسكن إليه، وجعل بينه وبينها مودةً ورحمة وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنو والإجلال والتعظيم؟ إلى أن الرجل قوام على المرأة، له حق تأديبها إذا اعوجت، وهجرانها في المضاجع إذا جمحت. ولم يعط ذلك الابن ليعامل به أمه؟ فهذا زور وبهتان عظيم. ولا يخفى ما في هذان الاستهجان وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.
﴿وَإِنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾؛ أي: لكثير العفو والمغفرة لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه؛ إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر الزور. والفرق بين المغفرة والعفو: أن العفو محو للذنوب عن صحف الملائكة، والمغفرة سترها عن أعينهم.
٣ - ثم فصل حكم الظهار، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾؛ أي: والذين يقولون ذلك القول المنكر الفظيع لنسائهم ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾؛ أي: ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم بلفظ الظهار من الاستمتاع. ففيه تنزيل القول منزلة المقول فيه، واللام فيه بمعنى إلى؛ لأنّهما قد يتقارضان. أو يعودون لما قالوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه، كما قاله الشافعي، أو إما باستباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة - كما قاله أبو حنيفة - أو بالعزم على جماعها، كما قاله مالك - ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ أي (٢): فالواجب عليهم إعتاق
(٢) روح البيان.
والتحرير: جعل الإنسان حرًا، وهو خلاف الرقيق. والرقبة: ذات مرقوق مملوك، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، هنديًا أو روميًا، عربيًا أو حبشيًا. فيعتقها مقرونًا بالنية، وإن كان محتاجًا إلى خدمتها، فلو نوى بعد العتق أو لم ينو.. لم يجزىء، وإن وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليه.. فله الصيام، كما في "الكواشي". ولا يجزىء إعتاق أمّ الولد، والمدبر، والمكاتب الذي أدّى شيئًا، فإن لم يؤدّ.. جاز. ويجب أن تكون سليمة من العيوب الفاحشة بالاتفاق. واشترط الشافعي الإيمان قياسًا على كفّارة القتل، كما قال تعالى فيها: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمَنَةٍ﴾. قلنا: حمل المطلق على المقيد إنما هو عند اتحاد الحادثتين واتحاد الحكم أيضًا، وهنا ليس كذلك.
و ﴿الفاء﴾: فيه رابطة الخبر بالمبتدأ لشبهه بالشرط، وفيها معنى السببية. ومن فوائدها (١): الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار؛ لأن تكرر السبب يوجب تكرر المسبب، كقراءة آية السجدة في موضعين. فلو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثًا في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة.. لزمه بكل ظهار كفارة. هذا عند الأحناف ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾؛ أي: من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعًا وتقبيلًا ولمسًا، ونظرًا إلى الفرج بشهوة، ذلك لأنّ اسم التماس، يتناول الكلّي، وإن وقع شيء من ذلك قبل التكفير.. يجب عليه أن يستغفر؛ لأنه ارتكب الحرام. ولا يعود حتى يكفر وليس عليه شيء سوى الكفارة الأولى بالاتفاق. وإن أعتق بعض الرقبة ثمّ مسّ.. فعليه أن يستأنف عند أبي حنيفة، ولا تسقط الكفارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها فإنه لا يسقط عنه الإتيان بها بل يلزمه قضاؤها.
وفي الآية دليل على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تدع الزوج أن يقربها قبل الكفارة؛ لأنه نهاهما جميعًا عن المسيس قبل الكفارة. قال القهستاني: لها مطالبة
والمعنى (١): أي والذين يقولون هذا القول المنكر الزور ثم يتداركونه بنقضه ويرجعون عمّا قالوا فيريدون المسيس.. فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماس إن كان ذلك لديه.
ثم بيّن السبب في شرع هذا الحكم، فقال: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الحكم بالكفارة أيها المؤمنون. وهو مبتدأ خبره قوله: ﴿تُوعَظُونَ بِهِ﴾؛ أي: تؤمرون به أو تزجرون به؛ لأن الوعظ زجر يقترن بتخويف؛ أي: تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور. فإن الغرامات مزاجر من تعاطي الجنايات. والمراد بذكره: بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم، بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه.
والحاصل: أن في المؤاخذة الدنيوية نفعًا لكلّ من المظاهر وغير المظاهر؛ بان يحصل للمُظاهر الكفارة والتدارك، ولغير المُظاهر الاحتياط والاجتناب. وقال الزجاج: معنى الآية: ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به؛ أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، انتهى.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من جناية الظهار والتكفير ونحو ذلك من قليل وكثير ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم بظواهرها وبواطنها، ومجازيكم بها، فحافظوا حدود ما شرع لكم، ولا تخلوا بشيء منها.
والمعنى: أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس ليكون ذلك زاجرًا لكم من ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم. والله خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر،
٤ - ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن التكفير بالإعتاق، فقال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾؛ أي (١): فالمُظاهر الذي لم يجد الرقبة في ملكه وعجز عن قيمتها فاضلًا عمّا لا بدّ له منه من مسكن وثياب وقوت، والذي غاب ماله.. فهو واجد بأن كان فقيرًا وقت التكفير، وهو من حين العزم إلى أن تقرب الشمس من الغروب من اليوم الأخير مما صام فيه من الشهرين، فلا يتحقق العجز الحقيقي إلا بذلك.
﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾؛ أي: فعليه صيام شهرين ﴿مُتَتَابِعَيْنِ﴾؛ أي: متواليين ليس فيهما رمضان ولا الأيام الخمسة المحرم صومها؛ أي: يوما العيد وأيام التشريق الثلاثة فيصومهما بحيث لا يفصل يومًا عن يوم ولا شرًا عن شهر بالإفطار، فإن أفطر فيهما يومًا أو أكثر بعذر أو بغير عذر.. استأنف، ولم يحسب ما صام إلا بالحيض، كما سيأتي قال الشافعي ومالك وغيرهما: إن أفطر بعذر كمرض وسفر.. لا يستأنف بل يبني على ما صام؛ أي: فعليه صيام شهرين متتابعين ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾؛ أي: من قبل أن يتجامع المظاهِر والمظاهَر منها، ليلًا أو نهارًا، عمدًا أو خطأ. ولو جامع زوجةً أخرى ناسيًا.. لا يستأنف، ولو أفطرت المرأة للحيض في كفّارة القتل أو الفطر في رمضان.. لا تستأنف، لكنها تصل صومها بأيام الحيض. وقال الشافعي: ولو وطىء ليلًا.. لا يستأنف؛ لأنه ليس محلًا للصوم. والأول أولى (٢). ثم إنه إن صام بالأهلة.. أجزأه، وإن صام ثمانية وخمسين؛ بأن كان كل من الشهرين ناقصًا، وإن صامها بغيرها.. فلا بد من ستين يومًا، حتى لو أفطر صبيحة تسعة وخمسين.. وجب عليه الاستئناف.
والمعنى: أي فمن لم يجد رقبة، ولا ثمنها فاضلًا عن قدر كفايته.. فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، فإن أفطر يومًا من الشهرين ولو اليوم الأخير ولو بعذر مرض أو سفر.. لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع.
﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ صيام شهرين متتابعين بسبب من الأسباب (٣)، كالهرم، والمرض المزمن؛ أي: الممتد الغير المرجو برؤه.. فإنه بمنزلة العاجز من كبر
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
يقول الفقير: إنما خصّ المسكين بالذكر لكونه أحق بالصدقة من سائر مصارف الزكاة. وإطعام ستين مسكينًا يشمل ما كان حقيقيًا وما كان حكميًا؛ بأن يطعم واحدًا ستين يومًا، فإنه في حكم ستين مسكينًا، وإن أعطاه في يوم واحد وبدفعات لا يجوز على الصحيح.
والإطعام: جعل الغير طاعمًا، ففيه رمز إلى جواز التمليك والإباحة في الكفارة. والمسكين - ويفتح ميمه - من لا شيء له - أو له ما لا يكفيه وأسكنه الفقر؛ أي: قلل حركته - والذليل والضعيف.
أي: فعليه أن يطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين مدّان، وهما: نصف صاع. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. قال الشافعي وغيره: لكل مسكين مدّ. والظاهر من الآية: أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم وبعضهم في يوم آخر.
والإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما تقدم ذكره من الأحكام. وهو مبتدأ خبره مقدر؛ أي: ذلك البيان والتعليم للأحكام، والتنبيه عليها واقع كائن، ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل النصب بفعل محذوف، والتقدير: فعلنا ذلك لتصدقوا بالله ورسوله، وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم، وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تتعدوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول.
أجيب: بأن الله تعالى، وإن أنكر الظهار وشنع على من تعوّد به من الجاهلين، إلا أنه تعالى وضع له أحكامًا يعمل بها من ابتلي به من الغافلين، فبهذا الاعتبار جعلوه بابًا ليبينوا تلك الأحكام، وزادوا قدر ما يحتاج إليه مع أن المحققين قالوا: إن أكثر الأحكام الشرعية للجهال؛ فإن الناس لو احترزوا عن سوء المقال والفعال.. لما احتيج إلى تكثير القيل والقال.
ودلّت الآية على أن الظهار أكثر خطأ من الحنث في اليمين، لكون كفارته أغلظ من كفارة الحنث. واللام في ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ للحكمة والمصلحة؛ لأنها إذا قارنت فعل الله تكون للمصلحة؛ لأنه الغني المطلق، وإذا قارنت فعل العبد تكون للغرض؛ لأنه المحتاج المطلق.
والإشارة في قوله: ﴿وَتِلْكَ﴾ إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ خبره ﴿حُدُودُ اللهِ﴾؛ أي: وتلك الأحكام المذكورة من تحريم الظهار، وإيجاب العتق للواجد، وإيجاب الصوم لغير الواجد إن استطاع، وإيجاب الإطعام لمن لم يستطع.. حدود الله التي لا يجوز تعديها، وشرائعه الموضوعة لعباده التي لا يجوز تجاوزها إلى ما يخالفها. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعملون بها، ولا يقبلونها ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم موجع. والأليم: بمعنى المؤلم، كالبديع بمعنى المبدع، أو بمعنى المتألم، لكن أسند مجازًا إلى العذاب مبالغةً، كأنه في الشدة بدرجة تتألم بها نفسه. وفي إثبات العذاب للكافرين حث للمؤمنين على قبول الطاعة. وعبر عن ترك العمل بمقتضى الظهار بالكفر للتغليظ على طريقة قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؛ يعني: أن إطلاق الكفر لتأكيد الوجوب والتغليظ على تارك العمل، لا لأنه كفر حقيقة كما يزعمه الخوارج. قال بعضهم في قوله - ﷺ -: "من ترك الصلاة فقد كفر"؛ أي: قارب الكفر، كما يقال: دخل البلدة، لمن قاربها.
والمعنى (٢): أي ذلك الذي بيناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار لتقروا بتوحيد الله، وتصدقوا رسوله، وتنتهوا عن قول الزور والكذب، وتتبعوا ما حده الدين من حدود الله، وبينه لكم من فرائض، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها. وأطلق اسم الكافر على متعدي هذه الحدود تغليظًا للزجر، كما مرّ آنفًا، كما قال في المتهاون في أداء فريضة الحج: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
والخلاصة (٣): أي ولمن جحد هذه الأحكام، وكذب بها عذاب أليم، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة.. لم تسقط عنه، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر، كما مرّ، فإن تهاون بالتكفير.. حال الإِمام بينه وبينها، وأجبره على التكفير وإن كان الإجبار بالضرب، ولا شيء من الكفّارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقها.
وروي (٤): أنه لما نزلت هذه الآيات الأربع تلاها رسول الله - ﷺ -، فقال لأوس بن الصامت - رضي الله عنه -: "هل تستطيع عتق رقبة؟ " قال: إذن يذهب جلّ مالي، قال: "فصيام شهرين متتابعين" قال: يا رسول الله! إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات.. كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني، قال: "فإطعام ستين مسكينًا"، قال: لا، إلا أن تعينني عليه، قال: "أعينك بخمسة عشر صاعًا"، وأنا داعٍ لك بالبركة". وتلك البركة بقيت في آله، كما في "عين المعاني".
٥ - ولما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين، فقال: {إنَّ
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
وقال بعضهم في معنى الآية: إن الذين يحادون؛ أي: يضعون أو يختارون حدودًا غير حدودهما. ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حده الشرع، وسموها: القانون والنظام.
﴿كُبِتُوا﴾؛ أي: أذلوا وأخزوا. وذلك كما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر. يقال: كبت الله فلانًا إذا أذله. وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال ابن زيد: عذبوا، وقاله السدي: لعنوا، وقال ابن الشيخ: يصلح لأن يكون دعاء عليهم وإخبارًا عما سيكون بالماضي لتحققه؛ أي: سيكبتون. ويدخل فيهم المنافقون والكافرون جميعًا. أما الكافرون: فمحادتهم في الظاهر والباطن. وأمّا المنافقون: ففي الباطن فقط.
﴿كَمَا كُبِتَ﴾ وأذل وأهلك وعذب ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من كفار الأمم الماضية المعادين المحادين للرسل عليهم الصلاة والسلام، مثل: أقوام نوح، وهود، وصالح وغيرهم. وكان السريّ - رحمه الله تعالى - يقول: عجبت من ضعيف عصى قويًا، فيقال له: كيف ذلك؟ ويقول: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.
وجملة قوله: ﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ حال (٢) من واو ﴿كُبِتُوا﴾؛ أي: كبتوا لمحادّتهم الله ورسوله، والحال أنّا قد أنزلنا آياتٍ واضحات فيمن حاد الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم، وفيما فعلنا بهم، أو آيات بينات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به.
والسؤال بأنّ الإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وهو إنما يتصور في الأجسام والآيات التي هي من الكلام من الأعراض الغير القارّة، فكيف يتصور
(٢) روح البيان.
يجاب عنه: بأن المراد منه إنزال من يتلقّف من الله ويرسل إلى عباده تعالى. فيسند إليها مجازًا لكونها المقصودة منه. أو المراد منه: الإيصال، والإعلام، على سبيل الاستعارة.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يذهب بعزهم وكبرهم، من الإهانة بمعنى التحقير. والمراد: عذاب الكبت الذي هو في الدنيا، فيكون ابتداء كلام، أو عذاب الآخرة، فيكون للعطف، بمعنى: أن لهم الكبت في الدنيا ولهم عذاب مهين في الآخرة، فهم معذبون في الدارين. وقال بعضهم: وصف الله تعالى العذاب الملحق بالكافرين أولًا بالإِسلام وثانيًا بالإهانة لأن الإيلام يلحق بهم أولًا ثم يهانون به، وإذا كانت الإهانة ما في الآخرة.. فالتقديم ظاهر، وقد سبق غير هذا.
ومعنى الآية (١): أي أن الذين يختارون لأنفسهم حدودًا غير ما حده الله ورسوله ويضعون شرائع غير ما شرعه الله سيلحقهم الخزي والنكال في الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله، وقد تحقق ذلك. وفي هذا بشارة عظيمة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم، كما أن فيه وعيدًا عظيمًا للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله، وألزموا رعاياهم العمل بها والجري على نهجها، وعينوا لذلك قضاةً يحكمون بها، ونبذوا ما جاء في شرعهم، والله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. نعم: إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني؛ كتعيين مراتب التأديب للزجر عن المعاصي والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حدّ معين، بل فوض الأمر فيها للإمام، وليس في ذلك محادة لله ورسوله، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل. وبالجملة: فلا بأس في النظام الذي لا يخالف روح الشرع، من ترتيب أحوال الداخلية والخارجية، مما لا بد منه في الحياة
﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: وكيف يفعلون ذلك، وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة، وتوضح حدودها، وتفصل أحكامها، وتبين سر تشريعها. فلا عذر لهم في مخالفتها، والانحراف عن سننها، ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم.
والخلاصة: أن لهؤلاء المحادين عذابًا في الدنيا بالخزي والهوان، وعذابًا في الآخرة في جهنم، وبئس القرار.
٦ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ﴾ منصوب (١) باذكر المقدر تعظيمًا لذلك اليوم وتهويلًا، أو بـ ﴿مُهِينٌ﴾ أو بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو بـ ﴿أَحْصَاهُ﴾ المذكور بعده، والمراد به: يوم القيامة؛ أي: واذكر لقومك - يا محمد - أهوال يوم يحييهم الله فيه بعد الموت للجزاء ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: كلهم، بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، فيكون تأكيدًا للضمير، أو يبعثهم مجتمعين في حالة واحدة، فيكون حالًا منه. ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾؛ أي: فيخبرهم ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ في الدنيا من الأعمال القبيحة، ببيان صدورها منهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الأشهاد، توبيخًا لهم وتخجيلًا لهم، وتشهيرًا لحالهم وتشديدًا لعذابهم، ولتكميل الحجة عليهم، وإلا.. فلا فائدة في نفس الإنباء لينبهوا على ما صدر منهم.
وجملة قوله: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ﴾ مستأنفة (٢) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف ينبئهم بأعمالهم على كثرتها واختلاف أنواعها، وهي أعراض منقضية متلاشية؟ فقيل: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ﴾؛ أي: أحصى الله سبحانه عمل عبده، وأحاط به عددًا، وحفظه كما عمله، لم يفت منه شيء، ولم يغب عنه. ﴿وَ﴾ الحال أنهم قد ﴿نَسُوهُ﴾؛ أي: نسوا عملهم، ولم يحفظوه؛ لكثرته أو لتهاونهم حين ارتكبوه لعدم اعتقادهم المجازاة؛ أي: وجدوه حاضرًا مكتوبًا في صحائف أعمالهم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾؛ أي: حاضر مطلع عليه، لا يغيب عنه أمر من
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي واذكر لهم - أيها الرسول - حالهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرًا لهم وخزيًا على رؤوس الأشهاد، والله قد حفظه وضبطه، وهم قد نسوه، والله شهيد على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء ولا ينسى شيئًا، وفي هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب إنما كان من جزاء أعمالهم وقبيح أفعالهم.
٧ - ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شيء، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والاستفهام فيه تقريري. وفي "الروح": ﴿الهمزة﴾: فيه للإنكار المقرر بالرؤية لما أن الإنكار نفي معنيٌّ، ونفي النفي يقرر الإثبات، فتكون الرؤية ثابتة مقررة. والخطاب للرسول - ﷺ -، أو لكل من يستحق الخطاب.
والمعنى (٢): ألم تعلم علمًا يقينيًا بمرتبة المشاهدة أنه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الموجودات، سواء كان بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية. كانوا يومًا يتحدثون فقال أحدهم: أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضًا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله - وصدق؛ لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها؛ لأنَّ كونه عالمًا بغير سبب ثابت له مع كل معلوم - فنزلت الآية.
وجملة قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ إلخ، مستأنفة لتقرير شمول علمه، وإحاطته بكل المعلومات. و ﴿ما﴾ نافية، و ﴿يَكُونُ﴾ تامة، بمعنى: يوجد ويقع. و ﴿مِن﴾ مقحمة، و ﴿نَجْوَى﴾ فاعله، وهو مصدر بمعنى التناجي، مضاف إلى فاعله؛
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَكُونُ﴾ بالتحتية، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، والأعرج وأبو حيوة بالفوقية نظرًا إلى تأنيث النجوى، والتذكير على قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى ﴿مِنْ نَجْوَى﴾ وهو يقتضي الجنس، وذلك مذكر، وليس الأكثر في هذا الباب التذكير؛ لأن ﴿من﴾ زائدة، فالفعل مسند إلى مؤنث، فالأكثر التأنيث، وهو القياس. قال تعالى: ﴿مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾. و ﴿نَجْوَى﴾: احتمل أن تكون مصدرًا مضافًا إلى ﴿ثَلَاثَةٍ﴾؛ أي: من تناجي ثلاثة، أو مصدرًا على حذف مضاف؛ أي: من ذوي نجوى، أو مصدرًا أطلق على الجماعة المتناجين؛ أي: ما يكون من جماعة متناجين. فـ ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ على هذين التقديرين قال ابن عطية: بدل أو صفة. وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال، والعامل ﴿يتناجون﴾ مضمرة، يدل عليه ﴿نَجْوَى﴾. قال الفراء (٢): ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت ﴿نَجْوَى﴾ إليها، ولو نصبت على إضمار فعل.. جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة. ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى.
﴿وَلَا خَمْسَةٍ﴾؛ أي: ولا نجوى خمسة نفر ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه ﴿سَادِسُهُمْ﴾؛ أي: إلا وهو تعالى جاعلهم ستة في الاطلاع على ما وقع بينهم. وتخصيص (٣) العددين بالذكر لخصوص الواقعة؛ لأن المنافقين المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة وأخرى خمسة، ويقال: إن التشاور غالبًا إنما يكون من ثلاثة إلى ستة ليكونوا أقل لفظًا وأجدر رأيًا وأكتم سرًا، ولذا ترك عمر رضي الله عنه حين علم بالموت
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وفي "كشف ما يلتبس من القرآن": إن قلت: لِمَ خص (١) الثلاثة والخمسة بالذكر؟
قلت: لأن قومًا من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينم، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، وكانوا بعدة العدد المذكور، فلما طال ذلك، وكثر.. شكوا إلى رسول الله - ﷺ -، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات بصفة حالهم عند تناجيهم. أو لأن الفرد أشرف من الزوج؛ لأنه الله تعالى، وتر يحب الوتر، فخصص العددان المذكوران بالذكر تنبيهًا على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور، ثم بعد ذكرهما زيد عليهما ما يعم غيرهما من المتناجين بقوله: ﴿وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ﴾ تعميمًا للفائدة، انتهى بزيادة فيه.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا أَكْثَرَ﴾ بالجر بالفتحة عطفًا على لفظ ﴿نَجْوَى﴾. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والأعمش، وأبو حيوة، وسلام، ويعقوب، وأبو العالية، ونصر، وعيسى بن عمر بالرفع عطفًا على محل ﴿نَجْوَى﴾ إن أريد به
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾؛ أي: ثم بعد بعثهم يخبرهم بالذي عملوه في الدنيا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ تفضيحًا لهم، وإظهارًا لما يوجب عذابهم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المعلومات ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: مبالغ في علمه، لا يخفى عليه شيء كائنًا ما كان. وقرىء: ﴿يُنَبِّئُهُمْ﴾ بالتخفيف والهمز. وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء، والجمهور بالتشديد والهمز وضم الهاء.
ومجمل معنى الآية (٢): أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد، ولا أقل منها إلا وهو عليم بها وعليم بزمانها ومكانها، لا يخفى عليه شيء من أمرها. وإنما خص هذه الأعداد لأن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة ثلاثة، فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيًا وإثباتًا، والثالث كالحكم بينهما، وحينئذٍ تكمن المشورة ويتم الغرض، وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشورة لا بد من واحد يكون حكمًا مقبول القول، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردًا، كما جاء في الآية ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا...﴾ إلخ؛ أي: ثم ينبىء هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة، وإنه لعليم بنجواهم وإسرارهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم.
٨ - وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو لزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلامًا لهم. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: ألم تنظر يا محمد ﴿إِلَى الَّذِينَ نُهُوا﴾ ومنعوا ﴿عَنِ النَّجْوَى﴾ والمحادثة فيما بينهم دون المؤمنين
(٢) المراغي.
﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ﴾؛ أي: بما هو إثم في نفسه، كالكذب ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ للمؤمنين ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾؛ أي: ومخالفة الرسول - ﷺ -. وهو معطوف على قوله: ﴿يَعُودُونَ﴾، داخل في حكمه، وبيان لما نهوا عنه لضرره في الدين؛ أي: يتحدثون سرًا بما هو إثم في نفسه، وعدوان للمؤمنين، وتواص بمعصية الرسول. والعدوان: الظلم والجور، والمعصية: خلاف الطاعة، كما سيأتي.
فائدة: رسمت ﴿معصيت﴾ هذه والتي بعدها بالتاء المبسوطة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو، وابن كثير والكسائي يقفون بالهاء، غير أن الكسائي يقف بالإمالة على أصله، والباقون يقفون بالتاء على الرسم، واتفقوا في الوصل على التاء. اهـ. "خطيب".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يتناجون﴾ بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وأبو حاتم لقوله فيما بعد: ﴿إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾. وقرأ حمزة، وخلف، وورش عن يعقوبـ ﴿وينتجون﴾ بوزن يفتعلون مضارع ﴿انتجى﴾ وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. وحكى سيبويه: أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو: تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا. وقرأ الجمهور ﴿وَمَعْصِيَتِ﴾ بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد: ﴿ومعصيات﴾ بالجمع.
(٢) الشوكاني.
واختلفوا في رد السلام على أهل الذمة (١): فقال ابن عباس، والشعبي وقتادة: هو واجب؛ لظاهر الأمر بذلك. وقال مالك: ليس بواجب فإدن رددت فقل: عليك. وقال بعضهم: يقول في الرد: علاك السلام؛ أي: ارتفع عنك. وقال بعض المالكية: يقول في الرد: السلام عليك - بكسر السين -، يعني: الحجارة.
﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: فيما بينهم إذا خرجوا من عندك ﴿لَوْلَا﴾ تحضيضية؛ أي: هلا ﴿يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ لمحمد؛ أي: هلا يغضب علينا، ويقهرنا بجزائنا على الدعاء بالشر على محمد لو كان نبيًا حقًا، وقيل: المعنى: لو كان نبيًا.. لاستجيب له فينا حيث يقول: وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك.
﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ عذابًا، مبتدأ وخبر (٢)؛ أي: محسبهم وكافيهم جهنم في التعذيب، من أحسبه إذ كفاه. ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾؛ أي: يدخلونها ويقاسون حرها لا محالة، وإن لم يعجل تعذيبهم لحكمة. والمراد: الاستهزاء بهم، والاستخفاف بشأنهم لكفرهم وعدم إيمانهم ﴿فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع لهم، والمخصوص بالذم ﴿جَهَنَّمُ﴾. قال في "برهان القرآن": الإتيان بالفاء لما فيه من معنى التعقيب؛ أي: فبئس المصير ما صاروا إليه، وهو جهنم، انتهى. وقال بعض المفسرين: وقولهم ذلك من جملة ما غفلوا عمّا عندهم من العلم، فإنهم كانوا أهل كتاب يعلمون أن
(٢) روح البيان.
ثم إن الله سبحانه يستجيب دعاء الرسول عليه السلام، كما روي: أن عائشة رضي الله عنها سمعت قول اليهود، فقالت: عليكم السام والذام واللعن، فقال عليه السلام: "يا عائشة ارفقي؛ فإن الله يحب الرفق في كل شيء، ولا يحب الفحش والتفحش، أما سمعت ما رددت عليهم فقلت: عليكم، فيستجاب لي فيهم".
والمعنى: أي يفعلون ذلك، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وهم يريدون شتمه، ويحدثون أنفسهم أنه لو كان نبيًا حقًا لعذبنا الله بما نقول؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيًا حقًا.. لعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فرد الله عليهم بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾ أي: وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.
٩ - ثم قال تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين: أن لا يكونوا مثل اليهود والمنافقين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتهم وقلوبهم ﴿إِذَا تَنَاجَيْتُمْ﴾ وتحدثتم في أنديتكم وخلواتكم ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾؛ أي: لا تتحدثوا ﴿بِالْإِثْمِ﴾ والكذب، والمكر، والكيد بالرسول - ﷺ - ﴿و﴾ لا بـ ﴿الْعُدْوَانِ﴾ على المؤمنين باللمز والطعن والتعيير بهم ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ أي: ولا بمعصية الرسول ومخالفته، كما يفعله المنافقون واليهود. ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال: ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ﴾ أي: بما يتضمن خير المؤمنين ﴿وَالتَّقْوَى﴾ أي: وبما يتضمن الإتقاء عن معصية الرسول - ﷺ -. قال سهل رحمه الله: وتناجوا بذكر الله وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾. وأدغم ابن محيصن التاء في التاء وقرأ الكوفيون، والأعمش، وأبو حيوة، وروش: ﴿فلا تنتجوا﴾ مضارع انتجى. وقرأ الجمهور بضم عين ﴿العدوان﴾، وأبو حيوة بكسرها حيث وقع. وقرأ الضحاك: ﴿ومعصيات الرسول﴾ بالجمع، والجمهور على الإفراد. وقرأ عبد الله: {إذا انتجيتم
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا أيها المؤمنون عقاب الله ﴿الَّذِي إِلَيْهِ﴾ وحده ﴿تُحْشَرُونَ﴾ لا إلى غيره استقلالًا، ولا اشتراكًا فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون.
والمعنى (١): أي إذا حدث منكم - أيها المؤمنون - تناج ومسارّة في أنديتكم وخلواتكم.. فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، وتناجوا بما هو خير، واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
ودلت الآية (٢) على أن التناجي ليس بمنهي عنه مطلقًا، بل مأمور به في بعض الوجوه، إيجابًا واستحبابًا وإباحة، على مقتضى المقام.
فإن قيل: كيف يأمر الله بالاتقاء عنه، وهو المولى الرحيم، والقرب منه ألذ المطالب، والأنس به أقصى المآرب، فالتقوى توجب الاجتناب، والحشر إليه يستدعي الإقبال إليه؟
يجاب عنه: بأن في الكلام مضافًا؛ إذ التقدير: واتقوا عذاب الله، أو قهر الله، أو غيرهما.
فإن قيل: إن العبد لو قدر على الخلاص من العذاب والقهر لأسرع إليه، لكنه ليس بقادر عليه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾، والأمر إنما يكون بالمقدور ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾؟
أجيب عنه: بأن المراد: الاتقاء عن السبب من الذنوب والمعاصي الصادرة عن العبد العاصي، فالمراد: اتقوا ما يفضي إلى عذاب الله، ويقتضي قهره في الدارين، من الإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي السبب الموجب لذلك. فالمراد: النهي عن مباشرة الأسباب، والأمر بالاجتناب عنها.
وإن قيل: إن ذلك الاتقاء إنما يكون بتوفيق الله له، فإن وفق العبد له فلا حاجة إلى الأمر به، وإن لم يوفقه فلا قدرة له عليه، والأمر إنما يحسن في
(٢) روح البيان.
أجيب: بأنه تعالى علَّمَهُ الحق أولًا، ووهب له إرادةً جزئية يقدر بها على اختيار شيء، فله الاختيار السابق على إرادة الله تعالى، ووجود الاختيار في الفاعل المختار أمر يطلع عليه كل أحد حتى الصبيان، والله أعلم.
١٠ - ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى﴾ المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول بقرينة قوله: ﴿لِيَحْزُنَ﴾. ولأن ﴿أل﴾ فيه للعهد. ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ لا من غيره، فإنه المزين لها، والحامل عليها فكأنها منه؛ أي: من تزيينه وتسويله. ﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خبر آخر (١). من الحُزن - بضم - فسكون متعد من الباب الأول، من الحَزَن بفتحتين لازمًا من الباب الرابع؛ كقوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)﴾. فيكون الموصول مفعوله. قال الراغب: والحُزن: خشونة في النفس، لما يحصل فيها من الغمّ، ويضاده الفرح.
والمعنى: إنما هي ليجعل الشيطانُ المؤمنين محزونين بتوهمهم أنهم في نكبة أصابتهم في سيرتهم، يعني: أن غزاتهم غلبوا، وأن أقاربهم قتلوا متألمين، بذلك فاترين في تدبير الغزو، إلى غير ذلك مما يشوش قلوب المؤمنين. وفي الحديث: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه". متفق عليه.
﴿وَلَيْسَ﴾؛ أي: الشيطان أو التناجي ﴿بِضَارِّهِمْ﴾؛ أي: بالذي يضر المؤمنين ﴿شَيْئًا﴾ من الأشياء أو شيئًا من الضرر ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ سبحانه وتعالى، أي: إلا بمشيئته وإرادته؛ أي: ما أراده من حزن أو وسوسة. وفي "الكشاف" ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بمشيئته، وهو: أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة.
والمعنى: أي إنما فعل ذلك ليسوء المؤمنين بإيهامهم أن ذلك في نكبة أصابتهم وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئًا إلا بإرادة الله ومشيئته.
﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه خاصة ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: فليعتمد المؤمنون عليه
والمعنى (١): أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين - إن وقع - فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته، فلا يكترثن المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلن على الله ولا يحزنن، فإن من قول عليه لا يخيب أمله، ولا يبطل سعيه.
١١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني المخلصين ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ﴾ من أي قائل كان من الإخوان ﴿تَفَسَّحُوا﴾؛ أي: توسعوا ﴿فِي الْمَجَالِسِ﴾؛ أي: في أماكن الجلوس، متعلق بـ ﴿تَفَسَّحُوا﴾، وقال في "الإرشاد": متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾، والأول أولى؛ لأن التفسح يتعدى بـ (في). ﴿فَافْسَحُوا﴾؛ أي: فوسعوا وأنتم جالسون أو قائمون. يقال: أفسح عني، تنح وتباعد عني. ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿لَكُمْ﴾ في الجنة، أو في كل ما تريدون التفسح فيه من الرزق، والصدر، والقبر، وغيرها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، أمرهم الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضًا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه.
والآية عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس رسول الله - ﷺ - وكانوا يتضامُّون فيه تنافسًا في القرب منه - ﷺ - وحرصًا على استماع كلامه أو مجلس حرب إذا اصطفوا للقتال كانوا يتشاحون على الصف الأول، فلا يوسع بعضهم لبعض ويأتي الرجل الصف ويقول: تفسحوا، ويأبون لحرصهم على الشهادة، أو مجلس ذكر، أو مجلس يوم الجمعة. وإن كل واحدٍ، وإن كان أحق بالمكان الذي سبق إليه لكنه يوسع لأخيه ما لم يتأذ لذلك، فيخرجه الضيق من موضعه. وفي الحديث: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَفَسَّحُوا﴾. وداوود بن أبي هند، وقتادة، وعيسى: ﴿تفاسحوا﴾. وقرأ الجمهور: ﴿في المجلس﴾ بالإفراد. قرأ السلمي، وزر بن
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي يا أيها الذين آمنوا بالله، وصدقوا برسوله إذا قيل لكم: توسعوا في مجالس رسول الله - ﷺ - أو في مجالس القتال.. فافسحوا يفسح الله في منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو في قلوبكم، أو في الدنيا والآخرة، أقوال.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله - ﷺ - يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناسٌ، منهم: ثابت بن قيس، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله - ﷺ - فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي - ﷺ -، ثم سلموا على القوم، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على رسول الله - ﷺ -، فقال لبعض من حوله: "قم يا فلان قم يا فلان" فأقام نفرًا بمقدار من قدم، فشق ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وطعن المنافقون وقالوا: والله ما عدل محمد على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه أقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فنزلت الآية.
ويستفاد من الآية أمور (١):
١ - أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله - ﷺ - لسماع حديثه؛ لما فيه من الخير العميم والفضل العظيم، ومن ثم قال - ﷺ -: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى".
٢ - الأمر بالتفسح في المجالس، وعدم التضام فيها متى وجد إلى ذلك سبيل؛ لأن ذلك يدخل المحبة في القلوب، والاشتراك في سماع أحكام الدِّين.
٣ - أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة.. وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. وبالجملة: فالآية تشتمل التوسع في إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم، وإدخال السرور عليه ومن ثم قال - ﷺ -: "لا يزال الله في عون
﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ لكم أيها المؤمنون، سواء كان القائل رسول الله - ﷺ - أو غيره ﴿انْشُزُوا﴾ مِنْ نشز الرجل إذا نهض وارتفع في المكان؛ أي (١): وإذا قيل لكم: قوموا للتوسعة على المقبلين؛ أي: على من جاء بعدكم.. ﴿فَانْشُزُوا﴾؛ أي: فارتفعوا وقوموا؛ يعني: إذا كثرت المزاحمة، وكانت بحيث لا تحصل التوسعة، بتنحي أحد الشخصين عن الآخر حال قعود الجماعة وقيل: قوموا جميعًا، تفسحوا حال القيام.. فانشزوا وانهضوا، ولا تثاقلوا عن القيام. أو إذا قيل لكم: قوموا عن مواضعكم فانتقلوا منها إلى موضع آخر لضرورة داعية إليه.. أطيعوا من أمركم به، وقوموا من مجالسكم وتوسعوا لإخوانكم. ويؤيده: أنه - ﷺ - كان يكرم أهل بدر، فأقبلت جماعة، منهم: ثابت بن قيس، فلم يوسعوا لهم... إلى آخر ما مر في الحديث السابق آنفًا. فأنزل الله الآية، فالقائل هو الرسول - ﷺ -.
ويقال: وإذا قيل: انشزوا - أي: انهضوا - عن مجلس رسول الله؛ أي: أمرتم بالنهوض عنه.. فانهضوا، ولا تملوا رسول الله - ﷺ - بالارتكان فيه. أو قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة، أو إلى الجهاد، أو الشهادة أو غير ذلك من أعمال الخير.. انهضوا لا تفرطوا، فالقائل يعم الرسول وغيره.
والظاهر (٢): حمل الآية على العموم، والمعنى: إذا قيل لكم: انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية.. فانهضوا، ولا تتثاقلوا. ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصًا، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وابن عامر، ونافع، وحفص بضم الشين في الموضعين. وقرأ الحسن، والأعمش، وطلحة، وباقي السبعة بكسرها فيهما. وهما لغتان بمعنى واحد.
وقال المراغي: والمعنى (٣): أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله - ﷺ -.. فقوموا؛ لأن الرسول - ﷺ - كان يؤثر الانفراد أحيانًا لتدبير شؤون الدين، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد. وقد
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون بامتثال أوامره وأوامر رسوله في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما - جواب (١) للأمر - أي؛ من فعل ذلك طاعة للأمر وتوسعة للإخوان يرفعهم الله تعالى بالنصر، وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة؛ لأن من تواضع رفعه الله، ومن تكبر وضعه، فالمراد: الرفعة المطلقة الشاملة للرفعة الصورية والمعنوية. وقوله: ﴿و﴾ يرفع ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ منكم، معطوف على الموصول الأول، عطف خاص على عام، للدلالة على علو شأنهم وسمو مكانهم حتى كأنهم جنس آخر؛ أي: ويرفع الله الذين أوتوا العلم الديني منكم ﴿دَرَجَاتٍ﴾؛ أي: طبقات عالية، ومراتب مرتفعة، بسبب ما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم لعلو درجته يقتضي للعمل المقرون به مزيد رفعة لا يدرك شأنه العمل العاري عنه وإن كان في غاية الصلاح، ولذا يقتدى بالعالم في أفعاله، ولا يقتدى بغيره. فعلم من هذا التقرير أنه لا شركة للمعطوف عليه في الدرجات، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: تم الكلام عند قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ وينتصب ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بفعل مضمر؛ أي: ويرفعهم درجات، وانتصاب ﴿دَرَجَاتٍ﴾ إما على إسقاط الخافض؛ أي: إلى درجات، أو على المصدرية؛ أي: رفع درجات، فحذف المضاف، أو على الحالية من الموصول؛ أي: ذوي درجات، أو على التمييز.
وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية، كما بسطناها في كتابنا: "سلم المعراج على خطبة المنهاج".
وعبارة الشوكاني هنا: ومعنى الآية (٢): أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم.. رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات. وقيل: المراد بالذين
(٢) فتح القدير.
والخلاصة (١): إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج. فلا يظنن أن ذلك نقص في حقه، بل هو رفعةٌ وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزي به في الدنيا والآخرة؛ فإن من تواضع لأمر الله.. رفع الله قدره، ونشر ذكره.
ويعلم من الآية سرّ تقدم العالم على غيره في المجالس والمحاضر (٢)؛ لأن الله تعالى قدمه وأعلاه، حيث جعل درجاته عالية. وفي الحديث: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"؛ أي: فضل العالم الباقي بالله على العابد الفاني في الله، كما في "التأويلات النجمية".
قال بعضهم: المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يقطع المسافة. وحيث مدح العلم فالمراد به: العلم المقرون بالعمل. قال بعض الحكماء: ليت شعري أيَّ شيء أَدْرَكَ من فَاته العلم، وأَيُّ شيءٍ فات من أدرك العلم، وكل علم لم يوطَّد بعمل.. فإلى ذلّ يصير. وعن الزهري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال. قال مقاتل: إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة يقال له: لست بعالم، ادخل الجنة بعملك، ويقال للعالم: قف على باب الجنة واشفع للناس.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لأن أَعلَم مسألة أحب إلى من أن أصلي مئة ركعة، ولأن أُعلِّم مسألة أحب إلى من أن أصلي ألف ركعة. وعن أبي هريرة وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما قالا: سمعنا رسول الله - ﷺ - يقول: "إذا جاء الموت طالب العلم على هذه الحال.. مات وهو شهيد".
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بعملكم أو بالذي تعملونه ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم ببواطنه كظواهره، لا يخفى عليه شيء منه، لا ذاته جنسًا أو
(٢) روح البيان.
والمعنى: والله تعالى ذو خبرة بأعمالكم، لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم جميعًا بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.
١٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وأخلصوا في إيمانهم ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - أي: إذا كلمتموه سرًّا في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته - ﷺ -، ومكالمته سرًّا. والمناجاة: المحادثة سرًّا.. ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾؛ أي: فتصدقوا قبلها على المستحق.
والمعنى: إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم.. فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة. والآية نزلت حين أكثر الناس عليه السؤال، حتى أسأموه وأملّوه، فأمرهم الله بتقديم الصدقة عند المناجاة، فكف كثير من الناس عن مناجاته، أما الفقير: فلعسرته، وأما الغني: فلشحّه. وقرىء: ﴿صدقات﴾ بالجمع كما في الآتي.
وفي هذا الأمر تعظيم الرسول، ونفع الفقراء، والزجر عن الإفراط في السؤال، والتمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا (١). واختلف في أنه للندب أو للوجوب، لكنه نسخ بقوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ...﴾ الآية، وهو وإن كان متصلًا به تلاوةً لكنه متراخ عنه نزولًا على ما هو شأن الناسخ. واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقيل: كان ساعة من النهار، والظاهر: أنه عشرة أيام؛ لما روي عن علي رضي الله عنه، كما قاله مقاتل بن حيان. وقال الكلبي: كان ذلك ليلة واحدة. وقال قتادة: ما كان ذلك إلا ساعة من نهار ثم نسخ. وهذا لا ينافي الجلوس في مجلسه المبارك، والتكلم معه لمصلحة دينية أو دنيوية بدون
والمعنى (١): أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناجي الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه.. فليقدم صدقة قبل هذا؛ لما في ذلك من تعظيم أمر الرسول - ﷺ -، ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقًا والمنافق، ومن دفع التكاثر عليه - ﷺ - من غير حاجة ملحة إلى ذلك.
ثم ذكر العلة في هذا فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ التصدق بين يدي نجواكم ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون من إمساكه؛ لما فيه من طاعة الله تعالى، ﴿وَأَطْهَرُ﴾ لأنفسكم من دنس الريبة ودرن البخل الناشىء من حب المال الذي هو من أعظم حب الدنيا، وهو رأس كل خطيئة. وتقييد (٢) الأمر يكون امتثاله خيرًا لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم... يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب، لكن قوله فيما بعد: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا﴾ منبىء عن الوجوب؛ لأنه ترخيص لمن لم يجد، والظاهر: عدم الوجوب.
والمعنى: أن في هذا التقديم خيرًا لكم؛ لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع في جمع المال وحب ادّخاره، وتعويدها بذله في المصالح العامة؛ كإغاثة ملهوف، ودفع خصاصة فقير، وإعانة ذي حاجة والنفقة في كل ما يرقي شأن الأمة ويرفع من قدرها ويعلي كلمتها، ويؤيد الدين، وينشر دعوته.
ثم أقام العذر للفقراء، فقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا﴾ أيها الفقراء ما تتصدقون به بين يدي نجواكم، وعجزتم عن ذلك ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لمن لم يجده ﴿رَحِيمٌ﴾ به حيث رخص له المناجاة بلا تصدق؛ لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها، وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق،
١٣ - فلما تمّ هذا الغرض انتهى ذلك الحكم، ورخص في المناجاة بدون تقديم صدقة، فقال: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾؛ أي: أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات بين يدي نجواكم، ووسوس لكم الشيطان أن في هذا الإنفاق ضياعًا للمال. والاستفهام (٣) فيه للتقرير، كأن بعضهم ترك المناجاة للإشفاق لا مخالفة للأمر. والإشفاق: الخوف من
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أخفتم الفقر - يا أهل الغنى - من تقديم الصدقات، فيكون المفعول محذوفًا للاختصار. و ﴿أَنْ تُقَدِّمُوا﴾ في تقدير: لأن تقدموا. أو: أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر. قال الشاعر:
هَوِّنْ عَلَيْكَ وَلَا تُوْلَعْ بِإِشْفَاقِ | فَإِنَّمَا مَالُنَا لِلْوَارِثِ الْبَاقِيْ |
والمعنى: أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به، وشق ذلك عليكم، وخفف عنكم ربكم فرخص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة، فأدوا الصلاة، وقوموها بأدائها
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عالم بالذي تعملون من الأعمال الظاهرة والباطنة، لا تخفى عليه خافية فيجازيكم عليه، فاعملوا ما أمركم به ابتغاء لمرضاته لا لرياء وسمعة، وتضرعوا إليه خوفًا من عقوباته خصوصًا بالجماعة يوم الجمعة. وقرأ عياش عن أبي عمرو (١): ﴿يعملون﴾ بالتحتية، والجمهور بالفوقية. ومن الأدعية النبوية: "اللهم: طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة. إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور".
وفي تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين العبادات المرادة بالأمر بالإطاعة العامة إشارة إلى علو شأنهما وإنافة قدرهما (٢)؛ لأن الصلاة رئيس الأعمال البدنية، جامعة لجميع أنواع العبادات، من القيام والركوع والسجود والقعود، ومن التعوذ والبسملة والقراءة والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والصلاة على النبي - ﷺ -، ومن الدعاء الذي هو مخّ العبادة، ومن ذلك سميت صلاة، وهي الدعاء لغة. فهي عبادة من عبد الله تعالى بها.. فهو محفوظ بعبادة العابدين من أهل السماوات والأرضين، ومن تركها.. فهو محروم منها. فطوبى لأهل الصلاة، وويل لتاركها. وإن الزكاة هي أمّ الأعمال المالية، بها يطهر القلب من دنس البخل، والمال من خبث الحرمة، فعلى هذا هي بمعنى الطهارة، وبها ينمو المال في الدنيا بنفسه؛ لأنه: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، وفي الآخرة بأجره؛ لأنه تعالى يضاعف لمن يشاء. وفي الحديث: "من تصدق بقدر تمرة من كسب حلال - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل". فعلى هذا هي من الزكاء، بمعنى النماء؛ أي: الزيادة.
فإن قلت: لم قدم المعمول على عامله في قوله السابق: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
(٢) روح البيان.
قلتُ: فَعَلَ ما فَعَلَ في الموضعين رعاية للفواصل التي كانت بعدهما؛ لأنه بعد الأول وقع ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، و ﴿رَحِيمٌ﴾ بوزن خبير - وإن كان الحرف الأخير مختلفًا - وبعد الموضع الثاني الفواصل نفس ما فيه.
وقيل: قدم في الأول تأكيدًا للتهديد المفهوم من الجملة؛ لأنها وقعت تعليلًا للأوامر العزائم قبلها، وفي الموضع الثاني لا حاجة إلى التأكيد المذكور؛ لأن الجملة وإن وقعت تعليلًا لما قبلها؛ لأن الأوامر قبلها إنما وقعت للترخي وقيل: للتفنن. فليتأمل، هكذا وقع في فهمي السقيم، والله أعلم بأسرار كتابه.
الإعراب
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿سَمِعَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿قَوْلَ الَّتِي﴾: مفعول به، ومضاف إليه ﴿تُجَادِلُكَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ومن هذا سميت السورة سورة المجادلة بكسر الدال، على أنها اسم فاعل. وقيل: بفتحها وكسرها كما في "حاشية الشهاب على البيضاوي". والكسر أرجح على كل حال؛ لأنه أنسب بالسياق. ﴿فِي زَوْجِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُجَادِلُكَ﴾: ولا بد من حذف مضاف؛ أي: في شأن زوجها. ﴿وَتَشْتَكِي﴾: معطوف على ﴿تُجَادِلُكَ﴾. ويجوز أن تكون الواو حالية، والجملة في موضع نصب على الحال من فاعل ﴿تُجَادِلُكَ﴾. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلقان بـ ﴿تشتكي﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿الله﴾: مبتدأ وجملة ﴿يَسْمَعُ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تُجَادِلُكَ﴾ أيضًا. ﴿يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن الجلالة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول له، ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ثان. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، لا محل لها من الإعراب.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُظَاهِرُونَ﴾ صلته. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من فاعل ﴿يُظَاهِرُونَ﴾؛ أي: حال كونهم منكم ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُظَاهِرُونَ﴾. ﴿مَا﴾: حجازية، ﴿هُنَّ﴾: اسمها. ﴿أُمَّهَاتُهُمْ﴾: خبرها، نصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية مستأنفة مسوقة لبيان أحكام المظاهر. ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ﴾: ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿أُمَّهَاتُهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿اللَّائِي﴾: اسم موصول للجمع المؤنث، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَدْنَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَإِنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إنهم﴾: ناصب واسمه، ﴿لَيَقُولُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾. ﴿مُنْكَرًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا منكرًا ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ صفة لـ ﴿مُنْكَرًا﴾، ﴿وَزُورًا﴾: معطوف على ﴿مُنْكَرًا﴾، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَعَفُوٌّ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿عفو﴾: خبر أول لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿غَفُورٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ الأولى.
﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذين﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُظَاهِرُونَ﴾ صلة الموصول. ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُظَاهِرُونَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، وجملة ﴿يَعُودُونَ﴾ معطوفة على جملة ﴿يُظَاهِرُونَ﴾. ﴿لِمَا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية، وجملة ﴿قَالُوا﴾: صلة ﴿ما﴾ المصدرية، والمصدر المؤول من ﴿ما﴾ المصدرية وصلتها مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَعُودُونَ﴾، ولك أن تجعل ﴿ما﴾ موصولة، والعائد محذوف؛ أي: لما قالوه. ﴿فَتَحْرِيرُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في المبتدأ من معنى الشرط، ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: فتحرير رقبة واجب عليهم، والجملة الاسمية في محل
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤)﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿لَمْ يَجِدْ﴾: صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿يَجِدْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾: وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فَصِيَامُ﴾: ﴿الفاء﴾؛ رابطة الخبر بالمبتدأ لشبهه الشرط، ﴿صيام﴾: مبتدأ، ﴿شَهْرَيْنِ﴾: مضاف إليه، ﴿مُتَتَابِعَيْنِ﴾: صفة له، والخبر محذوف تقديره: واجب عليه، والجملة خبر لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة ﴿من﴾: الموصولة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر؛ أي: حال كون ذلك الصوم من قبل أن يتماسا، وجملة ﴿أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿من﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿لَمْ يَسْتَطِعْ﴾: صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿فَإِطْعَامُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ، ﴿إطعام﴾: مبتدأ، ﴿سِتِّينَ﴾: مضاف إليه، مجرور بالياء، ﴿مِسْكِينًا﴾: تمييز لـ ﴿سِتِّينَ﴾: منصوب به، والخبر محذوف تقديره: فإطعام ستين مسكينًا واجب عليه، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة من الموصولة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تؤمنوا﴾ فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تؤمنوا﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يُحَادُّونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿كُبِتُوا﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿و﴾ نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لزفّ البشرى إلى رسول الله - ﷺ - والمؤمنين بكبت أعدائهم وإذلالهم. ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جرّ وتشبيه، ﴿ما﴾: مصدرية ﴿كُبِتَ الَّذِينَ﴾: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل. والمجملة صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: كبتوا كبتًا كائنًا ككبت الذين من قبلهم. و ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف صلة الموصول، ﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿آيَاتٍ﴾: مفعول به، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: صفة لآيات، والجملة الفعلية في محل النصب حال من واو ﴿كُبِتُوا﴾، والتقدير: كبتوا لمحادتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات بينات تدل على صدق الرسول كما في "أبي السعود". ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿للكافرين﴾: خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مُهِينٌ﴾: صفة عذاب، والجملة مستأنفة.
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: ظرف منصوب، متعلق بمحذوف تقديره: اذكرهم، أو متعلق بـ ﴿مُهِينٌ﴾، أو بـ ﴿عَذَابٌ﴾، أو بالاستقرار الذي تعلق به ﴿للكافرين﴾. {يَبْعَثُهُمُ
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التعجبي؛ ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطَب. والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾؛ أي: ألم تعلم علم الله. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿في السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَمَا في الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا في السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع تام، ﴿مِن﴾: زائدة، ﴿نَجْوَى﴾: فاعل، ﴿ثَلَاثَةٍ﴾: مضاف، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير سعة علمه تعالى، وبيان كيفيته. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿رَابِعُهُمْ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من ﴿ثَلَاثَةٍ﴾؛ أي: إلا حالة كونهم مصطحبين الله، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، كما مر. ﴿وَلَا خَمْسَةٍ﴾: معطوف على ثلاثة ﴿إلا﴾: أداة حصر، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿سَادِسُهُمْ﴾: خبر، والجملة في محل النصب حال من ﴿خَمْسَةٍ﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية، ﴿أَدْنَى﴾: معطوف على ﴿نَجْوَى﴾، ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَدْنَى﴾، ﴿وَلَا أَكْثَرَ﴾: معطوف على أدنى. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر،
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطَب، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿تَرَ﴾؛ لأنه بمعنى النظر، فيتعدى بلى. وجملة ﴿نُهُوا﴾: صلة الموصول، وهو فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ﴿عَنِ النَّجْوَى﴾: متعلق بـ ﴿نُهُوا﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿يَعُودُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿نُهُوا﴾. وعدل عن صيغة الماضي إلى المضارع لاستحضار صورة العود الماضي. ﴿لِمَا﴾ متعلق بـ ﴿يَعُودُونَ﴾، وجملة ﴿نُهُوا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿نُهُوا﴾، ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَعُودُونَ﴾، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية ﴿بِالْإِثْمِ﴾: متعلق بـ ﴿يتناجون﴾، ﴿وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾: معطوفان على ﴿الإثم﴾. ﴿وَإذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لِما يُستقبل من الزمان، ﴿جَاءُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل الخفض بـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿حَيَّوْكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل منه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿تَنَاجَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تَتَنَاجَوْا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة جواب ﴿إذا﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿بِالْإِثْمِ﴾: متعلق بـ ﴿تَتَنَاجَوْا﴾، ﴿وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾: معطوفان على ﴿الإثم﴾.
﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)﴾.
﴿وَتَنَاجَوْا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿تناجوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة معطوفة على ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾. ﴿بِالْبِرِّ﴾: متعلق
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تقدم إعرابه قريبًا. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، ﴿تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: ﴿تَفَسَّحُوا﴾: فعل أمر، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿فِي الْمَجَالِسِ﴾: متعلق بـ ﴿تَفَسَّحُوا﴾. ﴿فَافْسَحُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ ﴿افسحوا﴾: فعل أمر، وفاعل والجملة جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿يَفْسَحِ﴾: فعل مضارع مجزوم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: تقدم إعرابه مرارًا. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَقَدِّمُوا﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إذَا﴾، قدموا: فعل أمر، مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿بَيْنَ﴾: ظرف، متعلق بـ ﴿قدموا﴾، ﴿بَيْنَ﴾: مضاف، ﴿يَدَيْ﴾: مضاف إليه مجرور بالياء، ﴿يَدَيْ﴾: مضاف، ﴿نَجْوَاكُمْ﴾: مضاف إليه، ﴿نجوى﴾: مضاف، والكاف: مضاف إليه. وكثرة الإضافة لا تخرج الكلام عن الفصاحة لورودها في الكتاب والسنة. وجملة ﴿قدموا﴾: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ جواب النداء، ﴿صَدَقَةً﴾: مفعول قدموا. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿خَيْرٌ﴾: خبر والجملة مستأنفة. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بخير، ﴿وَأَطْهَرُ﴾: معطوف على ﴿خَيْرٌ﴾، ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فقدموا بين يدي نجواكم صدقة إن وجدتم ما تتصدقون بهِ، فإن لم تجدوا إلخ. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿لَمْ﴾: حرف
﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣)﴾.
﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أأشفقتم وخفتم الفقر والعيلة. والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تُقَدِّمُوا﴾: فعل مضارع، منصوب بـ ﴿أن﴾، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تُقَدِّمُوا﴾، ﴿صَدَقَاتٍ﴾: مفعول ﴿تُقَدِّمُوا﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جرّ محذوف، تقديره: أخفتم الفقر من تقديم الصدقات بين يدي نجواكم. والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أشفقتم﴾. ﴿فَإِذْ﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذ﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿وَتَابَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، أو استئنافية، أو اعتراضية، ﴿تاب الله﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تاب﴾، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل ﴿تَفْعَلُوا﴾ أو معترضة بين الشرط وجوابه، ﴿فَأَقِيمُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿أَقِيمُوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل. ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب ﴿إذ﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذ﴾ مستأنفة. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَقِيمُوا﴾، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تعملونه.
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾؛ أي: أجاب وقَبِلَ، كما يقال: سمع الله لِمَنْ حمده. ﴿تُجَادِلُكَ﴾؛ أي: تراجعك الكلام في شأن زوجها، وما صدر منه في شأنها، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت قتله، فكأن المتجادلين يفتل كلّ واحد منهما الآخر عن رأيه. والمراد هنا: المكالمة، ومراجعة الكلام؛ أي: معاودته.
﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: تتضرع إلى الله تعالى، وتُظهر ما بها من المكروه. قال في "المفردات": الشكاية، والشكاة، والشكوى: إظهار البث. يقال: شكوت واشتكيت. وأصل الشكوى: فتح الشكوة وإظهار ما فيها. وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء. وكان في الأصل استعارة، كقولك: بثثت له ما في وعائي، ونفضت ما في جرابي، إذا أظهرت ما في قلبك. وفي "كشف الأسرار": الفرق بين الشكوى والاشتكاء: أن الاشتكاء إظهار ما يقع بالإنسان من المكروه، والشكوى: إظهار ما يصنعه غيره به. والمعنى هنا أي: تبث إليه ما انطوت عليه نفسها من غم وهم، وتتضرع إليه أن يزيل كربها.
﴿تَحَاوُرَكُمَا﴾؛ أي: تراجعكما الكلام، وتخاطبكما، وتجاوبكما في أمر الظهار. والحوار في الكلام معروف. وفي "المصباح": وحاورته: راجعته الكلام، وتحاورا وأحار الرجل الجواب بالألف: رده، وما أحاره: ما رده، انتهى. والتحاور: المرادة في الكلام، والكلام المردد. كما يقال: كلمته فما رجع إليّ حوار؛ أي: ما رد عليّ بشيء.
﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾: مضارعُ ظاهَرَ، من باب فاعل. والظهار لغة: مصدر ظاهَرَ، ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر فلان فلانًا؛ أي: نصره وظاهر بين ثوبين؛ أي: لبس أحدهما فوق الآخر، وظاهر من امرأته؛ أي: قال لها: أنت علي كظهر أمي؛ أي: محرمة، وكان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار شرعًا: تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبًا، أو رضاعًا، أو مصاهرة، بقصد التحريم لا بقصد الكرامة، ولهذا المعنى نزلت الآية.
﴿مُنْكَرًا﴾: والمنكر: ما ينكره الشرع والعقل والطبع، ﴿وَزُورًا﴾؛ أي: كذبًا. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ أي: عتق عبد أو أمة. والتحرير: هو جعل الإنسان حرًا،
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ أي: من قبل أن يجتمعا اجتماع الأزواج. أصله: يتماسَسَا، فكرهوا توالي المثلين فأدغمت السين الأولى في الثانية.
﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ والياء في الصيام منقلبة عن واو؛ لأنّ أصله: صوام فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة كقوام في قيام. ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ﴾ الوعظ: زجر يقترن بتخويف.
﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ والإطعام: جعله الغير طاعمًا. والمسكين بكسر الميم، وقد تفتح: من لا شيء له من المال، أو له ما لا يكفيه، سمي به لأنه أسكنه الفقر أي: قلل حركته وأذله، ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي: أحكام شرعه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ﴾ أي: يشاقون، ويعادون. وأصل المحادة: الممانعة، ومنه قيل للبواب: حداد. وأصله: يحادون بوزن يفاعلون بدالين، أدغمت الأولى منهما في الثانية لكراهة توالي المثلين.
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والأليم بمعنى المؤلم؛ أي: الموجع، كالبديع بمعنى المبدع أو بمعنى المتألم، كما مر.
﴿كُبِتُوا﴾ وفي "المفردات": الكبت: الرد بعنف، وتذليل. وفي "القاموس": كبته يكبته - من باب ضرب - صرعه، وأخزاه، وصرفه، وكسره، ورد العدو بغيظه، وأذله، اهـ.
﴿مُهِينٌ﴾ اسم فاعل من أهان الرباعي أصله: مهون بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الهاء فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد.
﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ﴾ أي: أحاط الله به علمًا، وحفظه كما عمله، لم يفت منه شيء، ولم يغب. قال الراغب: الإحصاء: التحصين بالعدد، يقال: أحصيت كذا. وذلك من لفظ الحصي، واستعمال ذلك فيه؛ لأنهم كانوا يعتمدون اعتمادنا فيه على الأصابع. وقال بعضهم: الإحصاء: عد بإحاطة وضبط؛ إذ أصله: العدد بآحاد الحصى للتقوي في الضبط، فهو أخص من العد لعدم لزوم الإحاطة فيه. وفيه إعلال بالقلب، أصله: أحصي بوزن إفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾ أصله: نهيوا بوزن فعلوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت الهاء لمناسبة الواو.
﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ أصله: يتناجيون بوزن يتفاعلون، قبلت الياء فيه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنةً مع واو الجماعة. والمناجاة: المحادثة سرًا، والنجوى مصدر بمعنى التناجي، كالشكوى بمعنى الشكاية. يقال: نجاه نَجوى ونِجوى: سارّه كناجاه مناجاة. والنجوى: السر الذي يكتم، اسم مصدر كما في "القاموس". وأصله: أن تخلو في نجوة من الأرض؛ أي: مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله، كأن المتناجي بنجوة من الأرض لئلا يطلع عليه أحد. والفرق بين الإثم والعدوان، ومعصية الرسول: أن الإثم مخالفة أوامر الله ونواهيه؛ بتركها أو بارتكابها، والعدوان: التحدي على المؤمنين، ومعصية الرسول: إساءة أدبه وعدم احترامه؛ بالطعن فيه وسبه.
﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ﴾: أصله: حييوك، بوزن فعلوك، قلبت الياء الأخيرة لام الفعل ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾: أصله؛ يصليونها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أصله: المصير، بوزن مفعل، نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ.
وقوله: ﴿حَيَّوْكَ﴾: أيضًا أي: خاطبوك بتحية، ﴿بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ﴾؛ أي: بتحية لم يأذن الله أن تخاطب بها. والتحية في الأصل: مصدر حياك، على الإخبار، من الحياة، فمعنى: حياك الله: جعل لك حياة، ثم استعمل للدعاء بها، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام، فكل دعاء تحية، لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا﴾: أصله: تتناجيون، حذفت منه نون
﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: وفي "القاموس": الحزن بالضم، ويحرك: الهم والجفع: أحزان، وحزن كفرح، وحزنه الأمر حزنًا - بالضم - وأحزنه: جعله حزينًا، وحزنه: جعل فيه حزنًا. وقال الراغب: الحُزْنُ والحَزَن: خشونة في الأرض، وخشونة في النَّفْس؛ لما يحصل فيها من الغم، ويضاده الفرح، ولاعتبار الخشونة بالغمّ قيل: خشنت بصدره، إذا أحزنته.
﴿بِضَارِّهِمْ﴾: الأصل: بضاررهم، أدغمت الراء في الراء للقاعدة المقررة عندهم؛ وهي: أن كل مثلين متحركين في كلمة يدغم الأول منهما في الثاني إلا ما استثني من ذلك، كما هو مقرر في محله.
﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا﴾؛ أي: توسعوا، وليفسح بعضكم عن بعض، ولا تتضاموا من قولهم: أفسح عني؛ أي: تنحّ، وأنت في فسحة من دِينك؛ أي: في وسعة ورخصة، وفلان فسيح الخلق؛ أي: واسع الخلق. ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: في رحمته، ويوسع لكم في أرزاقكم. ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا﴾؛ أي: انهضوا للتوسعة على المقبلين. ﴿فَانْشُزُوا﴾؛ أي؛ فانهضوا، ولا تتباطؤوا. يقال: نشز الرجل إذا نهض، وارتفع في المكان نشزًا. والنشز كالفلس، وكذا النشز - بفتحتين -: المكان المرتفع من الأرض، ونشز فلان إذا قصد نشزًا، ومنه: نشز فلان عن مقره، وقلب ناشز: ارتفع عن مكانه رعبًا.
﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾: أصل ﴿تاب﴾: توب بوزن فعل، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، نظيرَ: قال. ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الأصل فيه: أقوموا بوزن افعلوا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أصله: أأتيوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، وأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مدّ للهمزة المفتوحة. ﴿الزَّكَاةَ﴾: الألف منقلبة عن واو؛ ولذلك ترسم بالواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾؛ لأنه مجاز عن (أجاب الله) بعلاقة السببية.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾؛ لأن الشكوى حقيقة في فتح الشكوة، وإخراج ما فيها، وهي: سقاء صغير يجعل فيه ماء، ثم استعير لإظهار ما في قلب الإنسان من الغم والحزن، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿تَحَاوُرَكُمَا﴾ حيث نظمها في سلك الخطاب مع أفضل البريات تشريفًا لها؛ إذ القياس: يسمع تحاورها وتحاورك.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾، وفي قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ زيادة في التقرير والبيان.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ﴾ إفادة أنه منكر عند العقل والطبع، كما أنه منكر في الشرع.
ومنها: فن السلب والإيجاب في قوله: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾. وهو فن عجيب من فنون البلاغة، وهو: بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى. وفي الكلام هنا نفي لصيرورة المرأة أمًا بالظهار، وإثبات الأمومة للتي ولدت الولد.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾؛ لأن المعنى: عَلِمَهُ اللهُ وجهِلُوهُ، وفي قوله: ﴿وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ﴾؛ لأن معنى ﴿أَدْنَى﴾: أقل، فحصل الطباق بينه وبين ﴿أَكْثَرَ﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، والاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿النَّجْوَى﴾، ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ﴾ في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ﴾. وفيه الإطناب أيضًا بتكرار ﴿نُهُوا﴾.
ومنها: الاستهزاء في قولهم: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾؛ لأن فيه استخفافًا بشأنهم، لكفرهم وعدم إيمانهم.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ للدلالة على علو شأن العلماء وسمو مكانتهم، حتى كأنهم جنس آخر.
ومنها: صيغة المضارع في قوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ للدلالة على تمكن عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة. وكذلك صيغة المضارع في قوله: ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ﴾. فإن اليدين استعيرت لمعنى (قبل) على سبيل التخييل، فقوله: ﴿نَجْوَاكُمْ﴾ استعارة بالكناية و ﴿بَيْنَ يَدَيْ﴾ تخييلية، كذا في "الروح".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما ذكر أن أصحاب رسول الله - ﷺ - كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله - ﷺ - لتلقي الدِّين عنه والاهتداء بهديه، حتى كان يضيق بهم المجلس فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا.. ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، فهم عيون لهم عليهم، وإذا لاقوا المؤمنين.. قالوا لهم: إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون في كل ما يقولون، وقد جعلوا الأيمان وقاية لستر ما يبطنون، فأمنوا من المؤاخذة، وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدِّين، ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه. ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابًا شديدًا يوم القيامة، وما هم فيه من مال وولد في الدنيا لن يغني عنهم شيئًا حينئذٍ. ثم ذكر أن
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبًا أنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورًا واليهود طورًا آخر اكتسابًا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان؛ إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم والإيمانَ باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة؛ لأنهم باعوا الباقي بالفاني، والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدًا سرمدًا.. بين هنا سبب خسرانهم، وهو: أنهم شاقّوا الله ورسوله، وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة في الدنيا والآخرة؛ إذ قَضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه. ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه، مهما قرب بهم النسب، بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانًا أو من ذوي العشيرة؛ لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقواهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصرو دينه، وحزب الله مفلح لا محالة، وقد كتبت لهم السعادة في الدارين، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: كان رسول الله - ﷺ - جالسًا في ظلّ حُجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: "إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم.. فلا تكلموه"، فلم
قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "سننه" عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر.. قصده أبو عبيدة، فقتله. فنزلت هذه الآية: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ إلى آخرها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، قال: حدثت أن أبا قحافة سبّ النبي - ﷺ -، فصكه أبو بكر صكة شديدة، فسقط. فذكر ذلك للنبي - ﷺ - فقال: "أوفعلته يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريبًا مني.. لضربته به. فنزلت: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا...﴾ الآية.
وقيل (١): نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول؛ وذلك أنه كان جالسًا إلى جنب رسول الله - ﷺ -، فشرب رسول الله - ﷺ - ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله، أبق فضلة من شرابك، قال: "وما تصنع بها"؟ قال: أسقيها أبي لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله - ﷺ -، جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أمك؟ فرجع إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي، قال: فقال رسول الله - ﷺ -: "ارفق به، وأحسن إليه". فنزلت هذه الآية. قاله السدي.
وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة يخبرهم أن رسول الله - ﷺ - قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء والزجاج.
التفسير وأوجه القراءة
١٤ - ﴿أَلَمْ تَرَ﴾: تعجيب (٢) من حال المنافقين الذين يتخذون اليهود أولياء،
(٢) روح البيان.
والأسلم الذي عليه السلف: أن الغضب صفة ثابتة لله تعالى، نعتقده ولا نكيّفه ولا نمثله، ولكن أثرها الانتقام من أعدائه. ﴿مَا هُمْ﴾؛ أي: ما أولئك المنافقون الذين يوالون اليهود ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون في الحقيقة؛ لأنهم يبطنون الكفر، ﴿وَلَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: ولا من القوم المغضوب عليم؛ لأنهم يظهرون الإِسلام مذبذبون بين ذلك. فهم وإن كانوا كفارًا في الواقع لكنهم ليسوا من اليهود حالًا؛ لعدم اعتقادهم بما اعتقدوا وعدم وفائهم لهم، ومآلًا؛ لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. وهذه الجملة مستأنفة معترضة.
وقوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾: معطوف على ﴿تَوَلَّوْا﴾، داخل في حكم التعجب. وصيغة الضارع للدلالة على تكرر الحلف وتجدده، حسب تكرر ما يقتضيه؛ أي: ويحلفون لكم على الكذب، ويقولون: والله إنا لمسلمون، فالكذب المحلوف عليه هو ادعاء الإِسلام. أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿وَيَحْلِفُونَ﴾، مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا؛ فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح. وفي هذا التقييد دلالة على أن الكذب يعمّ ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه، فيكون حجة على النَّظَّام والجاحظ. أي: والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له؛ أي: يوالونهم، ويحلفون لكم على أنهم مسلمون منكم، والحال أنهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب، كمن يحلف بالغَموس؛ وهو: الحلف على فعل أو ترك ماض كاذبًا عمدًا، سمي بالغموس لأنه يغمس صاحبه في
والمعنى (١): أي ألم تنظر يا محمد، أو أيها المخاطب إلى حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، إن حالهم لتستدعي العجب، يقابلون كل قوم بوجه؛ فهم مع اليهود نصحاء أمناء، يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابًا لصداقتهم وودهم، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون، قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم، وفي الحقيقة إنهم يخدعون الفريقين، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: فلا هم بالمؤمنين حقًا، بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراةً للمؤمنين وخوفًا من بطشهم، ولا هم باليهود؛ لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدِّين الحق، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا، وأن يحتفظوا بمودّتهم إذا احتاجوا إليها، فهم كما قال الله فيهم: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾. وفي الحديث: "مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين" أي: المترددة بين قطيعين - لا تدري أيهما تتبع".
ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة، فقال: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: إنّا آمنَّا، وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ فيما يقولون؛ لأنهم لا يعتقدون صِدقه.
١٥ - ثم ذكر مآلهم، وبيّن ما يلقون من النكال والوبال، فقال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: أرصد، وهيأ ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المنافقين بسبب هذا التولي والحلف الباطل ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في الدنيا والآخرة.
والمراد نوعًا عظيمًا من العذاب (٢). فالنوعية مستفادة من تنكير ﴿عَذَابًا﴾، والعظيم من توصيفه بالشدة. ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي؛ إن هؤلاء المنافقين ﴿سَاءَ﴾ وقبح ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ساء ما تمرنوا عليه وأصروا وتمرنهم أي: اعتيادهم واستمرارهم
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي أرصد الله لهم نكالًا وعذابًا أليمًا، جزاء صنيعهم بغش المسلمين وإطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم.
١٦ - ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة. واليمين في الحلف مستعار من اليد، اعتبارًا بما يفعله المحالف، والمعاهد عنده. ﴿جُنَّةً﴾؛ أي: كالجنّة وهي الترس الذي يجن صاحبه من السلاح؛ أي: يستره. أي: جعلوها وقاية وسترة يستترون بها من المؤمنين ومن قتلهم ونهب أموالهم.
قرأ الجمهور (١): ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ بفتح الهمزة، جمع يمين. وهي: ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين، توقِّيًا من القتل. فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجُنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن، وأبو العالية: ﴿إيمانهم﴾ بكسر الهمزة، أي: جعلوا تصديقهم جُنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، ولم تؤمن قلوبهم.
فالاتخاذ (٢) عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، لا عن استعمالها بالفعل. فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، والخيانة، واتخاذ الجنّة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضًا، كما تعرب عنه الفاء في قوله: ﴿فَصَدُّوا﴾؛ أي: منعوا الناس وصرفوهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن دينه في خلال أمنهم وسلامتهم، بسبب ما يصدر عنهم من التثبط وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم عندهم.
وقيل المعنى: فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام.
﴿فَلَهُمْ﴾؛ أي: فلهؤلاء المنافقين بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: يهينهم ويخزيهم بين أهل المحشر. وعيد ثانٍ بوصف آخر لعذابهم.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وتستروا بالأيمان الكاذبة. فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون، وبهذه الوسيلة صدوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله، وبتثبيط من لقوا عن الدخول في الإِسلام، بتحقير شأنه في نظرهم. ثم بيّن ما كافأهم به على عملهم فقال: ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: عذاب يلحقهم به الذل والهوان في النار، جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبًا.
١٧ - ثم أرشد إلى أنّ ما ظنوه منجيًا لهم من عذاب الله من المال والأولاد ليس بنافع لهم حينئذٍ، فقال: ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ ولن تدفع ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن هؤلاء المنافقين ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ الكثيرة ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ العديدة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من عذاب الله سبحانه يوم القيامة ﴿شَيْئًا﴾ قليلًا من الإغناء والدفع. يقال: أغنى عنه كذا إذا كفاه، يعني: أنهم يحلفون كاذبين للوقاية المذكورة، ولا تنفعهم إذا دخلوا النار أموالهم ولا أولادهم التي صانوها وافتخروا بها في الدنيا. أو يقولون: إن كان ما يقول محمد حقًا.. لندفعنّ العذاب عن أنفسنا بأموالنا وأولادنا. فأكذبهم الله تعالى بهذه الآية، فإن يوم القيامة يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا يكفي أحد أحدًا في شأن من الشؤون.
﴿أُولَئِكَ﴾: الموصوفون بما ذكر من الصفات القبيحة. قال في "برهان القرآن" بغير واو موافقة للجمل التي قبلها، ولقوله: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾. ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛ أي: ملازموها ومقارنوها أو مالكوها، لكونها حاصلهم وكسبهم الذي اكتسبوه في الدنيا بالسيئة المردية المؤدية إلى التعذيب. ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منها أبدًا. وضمير ﴿هُمْ﴾ لتقوية الإسناد ورعاية الفاصلة، لا للحصر؛ لخلود غير المنافقين فيها من الكفار.
والمعنى: لن تغني عن هؤلاء المنافقين الأموال، فيفتدوا بها من عذاب الله،
١٨ - ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ﴾ منصوب باذكر، ﴿اللهُ﴾ سبحانه ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ضمير المفعول، بمعنى مجموعين. ﴿فَيَحْلِفُونَ﴾ في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة ﴿لَهُ﴾؛ أي: لله سبحانه وتعالى على أنهم مسلمون مخلصون، كما قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. ﴿كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ في الدنيا.
وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم (١)؛ فإن يوم القيامة قد انكشفت فيه الحقائق، وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب؟
والمعنى: واذكر له - أيها الرسول - حالهم يوم يبعثهم الله جميعًا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم، فيحلفون له قائلين: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ كما كانوا يحلفون لكم في الدنيا أنهم مؤمنون مثلكم. ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ في الآخرة ﴿أَنَّهُمْ﴾ بتلك الأيمان الكاذبة ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ من جلب منفعة أو دفع مضرّة، كما كانوا عليه في الدنيا؛ حيث كانوا يدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم، ويستجلبون بها فوائد دنيوية. ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون، واعلموا ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾؛ أي: المبالغون في الكذب إلى غاية لا مطمح وراءها؛ حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه كما تروجه عند الغافلين من المؤمنين. و ﴿أَلَا﴾: حرف تنبيه، والمراد (٢): التنبيه على توغلهم في النفاق وتعودهم به؛ حيث لا ينفكون عنه موتًا ولا حياة. ولو ردوا.. لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون.
والمعنى (٣): أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير ويدفع عنهم الضير، كما كان ذلك في شأنهم في الدنيا؛ إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم. ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى، ثم أنكر عليهم أعمالهم فقال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ فيما يحلفون عليه زعمًا منهم أن أيمانهم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٩ - ثم بيّن السبب الذي أوقعهم في الردى، وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: غلب على عقولهم ﴿الشَّيْطَانُ﴾ بوسوسته وتزيينه ﴿فـ﴾ اتبعوه حتى ﴿أَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ تعالى، فلم يُمكنهم من ذِكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم في دركات جهنم، وبئس المصير.
وقرأ الجمهور: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: غلب عليهم، واستعلى واستولى. قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه، وأحاط به؛ أي: أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم، واستولى عليها. وقيل: قوي عليهم. وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء؛ أي: جمعه، وضم بعضه إلى بعض. والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليم واستولى وأحاط بهم. وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ في سورة النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها وجمعها غالبًا لها، ومنه كان عمر أحوذيًّا نسيج وحده كما سيأتي، وقرأ عمر (١): ﴿استحاذ﴾. أخرجه على الأصل والقياس. واستحوذ: شاذ في القياس، فصيح في الاستعمال. ﴿فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ فهم لا يذكرونه لا بقلوبهم ولا بألسنتهم. وقيل: ﴿فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾؛ أي: أوامره والعمل بطاعته، فلم يذكروا شيئًا من ذلك. وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه. و ﴿ذِكْرَ اللَّهِ﴾ مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: كان سببًا بالاستيلاء لنسيانه تعالى، فلم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم.
﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون الموصوفون بما ذكر من القبائح ﴿حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾؛ أي: جنود الشيطان وأتباعه الساعون فيما أمرهم به. والحزب: الفريق الذي يجمعه مذهب واحد، كما سيأتي. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه؛ حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم.
قال بعض المشايخ - بوأه الله الدرجات الشوامخ -: علامة استحواذ الشيطان على العبد: أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والملابس والمراكب والمفارش، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمه عليه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب واللغو والغيبة والبهتان، وسمعه عن الحق باستماع اللهو والملاهي والفيديو والتلافيز، كما هو ديدن أهل زماننا ودأب أهل عصورنا.
٢٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، أي (٢): يعادونهما، ويخالفون أمرهما، ويتعدون حدودهما ويفعلون معهما فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها، فيجعل لها حدًا لا يتعداه خصمه.
ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعزّ منهم.. قال تعالى نفيًا لهذا الغرور الظاهر: ﴿أُولَئِكَ﴾ الأباعد والأسافل بما فعلوا من المحادة ﴿فِي الْأَذَلِّينَ﴾؛ أي: في جملة من هو أذل خلق الله من الأولين والآخرين، لا ترى أحدًا أذل منهم؛ لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر، حيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك، وذلك بالسبي، والقتل في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم، سوقة كانوا أو ملوكًا.
والمعنى: أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه هم في جملة أهل الذلة؛ لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم في الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار، كما حصل للمشركين واليهود، وفي
(٢) روح البيان.
٢١ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين؛ أي: كتب الله سبحانه، وأثبت في اللوح المحفوظ. ولما جرى ذلك مجرى القَسَم.. أجيبَ بما يُجاب به القَسَم، حيث قال: ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾، أكده لما لهم من ظن الغلبة بالكثرة والقوة، والمراد: الغلبة بالحجة والسيف أو بأحدهما. والغلبة بالحجة ثابتة لجميع الرسل؛ لأنهم الفائزون بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة. وأما الغلبة بالسيف: فهي ليست ثابتة للجميع؛ لأن منهم من لم يؤمر بالحرب. قال الزجاج: غلبة الرسول على نوعين: من بعث منهم بالحرب.. فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب.. فهو غالب بالحُجة. وإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف. كان أقوى.
أي: كتب الله في اللوح المحفوظ وقضى في سابق علمه لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف. وعن مقاتل: أنه لما قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم.. قال رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أتظنون الروم وبعض فارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددًا وأشد بطشًا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزل قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ...﴾ الآية، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾.
وحاصل المعنى: أي قضى الله وحكم في أمّ الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف، وما يجري مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرًا من أعدائهم بأنواع من العذاب: كقوم نوح وقوم صالح، وقوم لوط وغيرهم. والحرب بين نبينا وبين المشركين وإن كانت سجالًا كانت العاقبة فيها له - ﷺ -، ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادًا خالصًا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال، ولا لطلب جاه ومقام عال.
والمعنى: أن الله الذي له الأمر كله - قوي على نصر رسله، لا يُغلب على مراده، فمتى أراد شيئًا.. كان، ولم يجد معارضًا ولا ممانعًا، كما قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
فإن قلت (١): فإذا كان الله قويًا عزيزًا غير عاجز. فما وجه انهزام المسلمين في بعض الأحيان وقد وعد النصر لأوليائه؟
قلت: إن النصرة والغلبة منصب شريف فلا يليق بالكافر، لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين؛ لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات.. لحصل العلم الضروري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك.. لبطل التكليف والثواب والعقاب. فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر، لتكون الشبهات باقية، والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإِسلام، فيعظم ثوابه عند الله تعالى.
٢٢ - ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: الخطاب للنبي - ﷺ - أو لكل أحد. و ﴿تَجِدُ﴾ إما متعد إلى اثنين، فقدله: ﴿يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ مفعوله الثاني، أو إلى واحدٍ؛ بأن كان بمعنى: صادف، فهو حال من مفعوله، لتخصيصه بالصفة، وهو ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. والموادة: الصحابة، مفاعلة من المودة، بمعنى: المحبة، وهي: حالة تكون في القلب أولًا، ويظهر آثارها في القالب ثانيًا. والمراد بمن حاد الله ورسوله: المنافقون، واليهود، والفساق، والظلمة، والمبتدعة. والمراد
أي: لا تجد يا محمد، أو أيها المخاطب قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان، موادين ومحبين من حاد الله ورسوله، وخالفهما في أوامرهما ونواهيهما ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾؛ أي: من حاد الله ورسوله. والجمع باعتبار معنى ﴿مَنْ﴾ كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها. ﴿آبَاءَهُمْ﴾؛ أي: آباء الموادين ﴿أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ قدم الأقدم حرمة ثم الأحكم محبة ﴿أَوْ إِخْوَانَهُمْ﴾ نسبًا ﴿أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾؛ أي: أقاربهم؛ أي: ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين.. إلخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك، ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والبنوة والأخوة والعشيرة.
والمعنى (١): أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، ومودة أعداء الله ورسوله؛ لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنًا حقًا لا يوالي كافرًا، فمن أحب أحدًا.. امتنع أن يوالي عدوه. والمراد من موالاته: مناصحته وإرادة الخير له في الدِّين والدنيا. أما المخالطة والمعاشرة: فليست بمحظورة، ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاءً شديد، فإنا نرى الأمم الإِسلامية أصبحت في أخريات الأمم، ويصادقون الأفارج والنصارى، وينصرونهم على أبناء جنسهم، ويقتدون بهم في عاداتهم وأخلاقهم، ولو كان في ذلك ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن تزول هذه الغفلة إلا بالاستشعار بالعزة الدينية والكرامة القومية، والدفاع عن حوزة الدِّين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ثم بالغ في الزجر، وأبان أنه لا ينبغي لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب، كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد، أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.
والخلاصة: أنه لا يجتمع إيمان مع موادة أعداء الله؛ لأن من أحب أحدًا.. امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل في القلب مودّة أعداء الله.. لم يحصل فيه
أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعًا: يقول الله تبارك وتعالى: "وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي".
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش عليّ يدًا ولا نعمة فيوده قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
تتمّة: وبدأ بالآباء (١)؛ لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم، فنهاهم عن مودتهم، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾، ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾. ثم ثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بالقلوب، ثم أتى ثالثًا بالإخوان؛ لأن بهم التعاضد، كما قيل:
أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ | كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ |
لَا يَسْأَلُوْنَ أَخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ | فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانا |
ورويت هذه القراءة عن عاصم.
ثم بيَّن العلة في عدم اجتماع الإِيمان، ومودة أعدائه، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين سلفت أوصافهم. فهو إِشارة إِلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحمًا. ﴿كَتَبَ﴾ الله سبحانه؛ أي: خلق، وأثبت، وأركز ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ وهو (٢) الإيمان الوهبي الذي وهبه الله لهم قبل خلق الأصلاب والأرحام، إذ لا يزال أبدًا بحال كالإِيمان المستعار. وفيه دلالة على خروج العمل من مفهوم الإِيمان، فإن الجزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعًا، ولا شيء من أعمال الجوارح
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كَتَبَ﴾ مبنيًا للفاعل ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ نصبًا على المفعولية؛ أي: كتب الله. وقرأ أبو حيوة، وزرّ بن حبيش، والمفضل عن عاصم: ﴿كُتِبَ﴾ مبنيًا للمفعول، ورفع ﴿الْإِيمَانُ﴾ على النيابة.
والمعنى: أي أولئك الذين لا يوادون مَنْ حاد الله ورسوله أثبت (٢) الله سبحانه في قلوبهم الإِيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يواد من حاد الله ورسوله. وفي هذا مبالغة عظيمة في الزجر عن موادة أعداء الله.
ثم ذكر سببًا آخر يمنع من موادتهم، فقال: ﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾؛ أي: قواهم الله سبحانه. وأصله: قوَّى يدهم ﴿بِرُوحٍ مِنْهُ﴾؛ أي (٣): من عند الله تعالى. و ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية، وهو نور القرآن، أو النصر على العدوّ؛ أي: قوَّى يدهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا. وسمى نصره لهم روحًا لأن به يحيا أمرهم. وقيل: هو نور القلب. وهو بإدراك حقيقة الحال، والرغبة في الارتقاء إلى المدارج الرفيعة الروحانية، والخلاص من درك عالم الطبيعة الدنية. وكل ذلك سمي روحًا لكونه سببًا للحياة. وقيل: بجبريل. وقيل: برحمة. وقيل (٤): الضمير للإِيمان؛ فإنه سبب لحياة القلب.
أي: إنه قوَّاهم بطمأنينة القلب، والثبات على الحق. فلا يبالون بموادة أعداء الله، ولا يأبهون لهم.
ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم، فقال: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها أو
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البيضاوي.
ثم ذكر السبب فيما أفاض عليهم من نعمه، فقال: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾؛ أي: قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة. والرضى: ضد السخط. ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾؛ أي: فرحوا بما أعطاهم عاجلًا وآجلًا.
والمعنى (٢): أي رضي الله عنهم، فأغدق عليهم رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوا لابتهاجهم بما أوتوا عاجلًا وآجلًا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى.. عوضهم بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات السابقة ﴿حِزْبُ اللَّهِ﴾؛ أي: جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه. وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾ وأعوانه ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الناجون من المكروه والفائزون بالمحبوب، دون غيرهم المقابلين لهم من حزب الشيطان المخصوصين بالخذلان والخسران، وهو بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين وخير الدارين.
والمعنى (٣): أي هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح، الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كَلَا فلاح.
الإعراب
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التعجبي، ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾ وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى محمد، أو إلى أي مخاطَب، ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿تَرَ﴾ وهو متعد بإلى؛ لأنه بمعنى: تنظر. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة للتعجب من حال المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء. ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل ماض وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿مَا﴾: مفعول به، وجملة ﴿غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ صفة قومًا، ﴿مَا﴾: نافية حجازية، ﴿هُمْ﴾: اسمها، ﴿مِنْكُمْ﴾: خبرها. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، (لا): نافية، ﴿مِنْهُمْ﴾: معطوف على ﴿مِنْكُمْ﴾، وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية مستأنفة، أو صفة ثانية لـ ﴿قَوْمًا﴾، أو حال من فاعل ﴿تَوَلَّوْا﴾. ﴿وَيَحْلِفُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَوَلَّوْا﴾. وهو داخل في حيّز الصلة. ﴿عَلَى الْكَذِبِ﴾ متعلق بـ ﴿يحلفون﴾، ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يحلفون﴾. ﴿أَعَدَّ اللهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾، ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به، ﴿شَدِيدًا﴾: صفة ﴿عَذَابًا﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿سَاءَ﴾: فعل ماض بمعنى قبح، مجرد عن معنى الإنشاء، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿سَاءَ﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، وجملة ﴿سَاءَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة.
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧)﴾.
﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل، من أخوات ظنّ، ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾: مفعول أول لـ ﴿اتخذ﴾، ﴿جُنَّةً﴾: مفعول ثان له، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فَصَدُّوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿صَدُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اتَّخَذُوا﴾، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿صدوا﴾، ﴿فَلَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لهم﴾: خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مهِين﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿صدوا﴾ ﴿لَنْ﴾: حرف نصب واستقبال، ﴿تُغْنِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُغْنِيَ﴾، ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾: فاعل، ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾: معطوف على ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾، {مِنَ
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر، والجملة مستأنفة، ﴿يَبْعَثُهُمُ﴾: فعل ومفعول مقدم ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير المفعول، أي: مجتمعين. ﴿فَيَحْلِفُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يحلفون﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَبْعَثُهُمُ﴾، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿يحلفون﴾، ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿يَحْلِفُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَحْلِفُونَ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كحلفهم لكم. والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فيحلفون له حلفًا مثل حلفهم لكم. ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الواو في ﴿يَحْلِفُونَ﴾؛ أي: يحلفون له حال كونهم ظانين أنّ حلفهم في الآخرة يجديهم من عذابها. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾: خبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي حسب، أي: ويحسبون كونهم على شيء، ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه واستفتاح. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل أو مبتدأ، ﴿الْكَاذِبُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾ على الأول، وخبر ﴿هُمُ﴾ على الثاني، والجملة خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿اسْتَحْوَذَ﴾: فعل ماضي، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَحْوَذَ﴾، ﴿الشَّيْطَانُ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان استيلاء الشيطان عليهم. ﴿فَأَنْسَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أنساهم﴾: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على ﴿الشَّيْطَانُ﴾، ومفعول به أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَحْوَذَ﴾، ﴿ذِكْرَ اللَّهِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أنساهم﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾: خبره. والجملة مستأنفة ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه. ﴿إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ﴾ ناصب
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يُحَادُّونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿فِي الْأَذَلِّينَ﴾: خبر. والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وقد تضمن ﴿كَتَبَ﴾: معنى فعل القسم، وأجيب عنه بقوله: ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾. كأنه قيل: أقسم بالله لأغلبن أنا.. إلخ. ﴿لَأَغْلِبَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أغلبن﴾: فعل مضارع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنا، والجملة جواب القسم المضمن في ﴿كَتَبَ﴾، لا محل لها من الإعراب. و ﴿أنا﴾: تأكيد لفاعل ﴿أغلبن﴾، ﴿وَرُسُلِي﴾: معطوف على الضمير المستتر في ﴿أغلبن﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿قَوِيٌّ﴾: خبر أول، ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر ثان له. وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)﴾.
﴿لَا﴾: نافية، ﴿تَجِدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت، والجملة مستأنفة. ﴿قَوْمًا﴾: مفعول أول، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: صفة قومًا، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة، ﴿الْآخِرِ﴾: صفة اليوم، ﴿يُوَادُّونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿تَجِدُ﴾، ﴿حَادَّ اللَّهَ﴾: فعل ماضي، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾: من التولي، بمعنى الموالاة، لا بمعنى الإعراض. والموالاة: المودة، والمحبة، والصداقة. وأصله: توليوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: ﴿تولوا﴾. ﴿قَوْمًا﴾: هم اليهود. ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: غضب الله: سخطه، وطرده من رحمته. والغضب
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾: أصله: أعدد، نقلت حركة الدال الأولى، إلى العين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. ﴿سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: أصله: سوأ، بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿جُنَّةً﴾: الجنة - بضم الجيم -: الترس؛ لأنه يجن صاحبه ويقيه من السلاح. ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ فالاتخاذ عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، اهـ من "الروح". ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ من الإغناء، يقال: أغنى عنه كذا، إذا كفاه. ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ مصدره الحسبان، وهو أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، يقاربه الظن، لكن الظن: أن يخطر النقيضان بباله، فيغلب أحدهما على الآخر. ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ من حذف الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها وسقتها سوقًا عنيفًا، وهو مما جاء على الأصل، كاستصوب واستنوق؛ أي: على خلاف القياس، فإن القياس أن يقال: استحاذ، بقلب الواو ألفًا، كاستقام واستعاذ، فهو فصيح استعمالًا وشاذ قياسًا. ومنه قول عائشة رضي الله عنها: "كان عمر أحوذيًا نسيج وحده"؛ أي: سائمًا ضابطًا للأمور، لا نظير له. ﴿فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: لم يمكنهم من ذكرهم إياه تعالى بما زين لهم من الشهوات. ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ والحزب: الفريق الذي يجمعه مذهب واحد. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: يعادونهما، ويخالفون أمرهما، من حادّه محادّةً، كشاقه مشاقة. وكلّ منهما: المخالفة، والمعاداة، والمنازعة.
﴿أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾؛ أي: في جملة أذل خلق الله وأحقره؛ لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزّة الآخَر. ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا﴾: ﴿تَجِدُ﴾: فيه إعلال بالحذف، إذ قياسه: توجد، من وجد المثالي، من باب فعل بفتح العين، يفعل بكسرها، نظير وعد يعد، لكن فاء هذا الفعل حذفت من المضارع حذفًا مطردًا. ﴿يُوَادُّونَ﴾ أصله: يواددون، بوزن يفاعلون، سكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية. ﴿مَنْ حَادَّ اللَّهَ﴾ أصله: حادد بوزن فاعل، كرهوا توالي المثلين فسكنوا الدال
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾ للدلالة على تكرر الحلف وتجدده حسب تكرر ما يقتضيه.
ومنها: التقييد بقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: دلالة على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه، فيكون حُجة على النظَّام، والجاحظ، كما مر.
فائدة: ذكر علماء البلاغة في حد الصدق والكذب أقوالًا أربعة:
أولًا - إن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع، والكذب عدم مطابقته له. ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين.
ثانيًا - وهو للنظَّام من كبار المعتزلة -: أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر، ولو خطأ، والكذب: عدم مطابقته للاعتقاد، ولو صوابًا. وما الاعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب بلا واسطة.
ثالثًا - وهو للجاحظ، أحد شيوخ المعتزلة أيضًا -: أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة. والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها. وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب - أي: واسطة بينهما -. وهو أربع صور: المطابق ولا اعتقاد لشيء، والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة، وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة، وغيره ولا اعتقاد.
رابعًا - وهو للراغب -: وهو مثل قول الجاحظ، غير أنه وَصَف الصور الأربع بالصدق والكذب باعتبارين؛ فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد، والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد. وحجة ما لكل من الأقوال مذكورة
ومنها: التنكير في قوله: ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ إفادة لنوعية العذاب؛ لأنه يدل على أنه نوع من أنواع العذاب الشديد.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، أو التشبيه البليغ في قوله: ﴿جُنَّةً﴾ من قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾؛ لأنه حقيقة في الترس، فاستعير لما هو وقاية للشيء، أو كالجنة.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿يَعْلَمُونَ﴾، و ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لتغيير الرسم.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾؛ لأنه حذف منه وجه الشبه، وهو عدم النفع في كل من الحلفين.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، وفي قوله: ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وبين قوله: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: ﴿الْخَاسِرُونَ﴾، ﴿الْكَاذِبُونَ﴾، ﴿خَالِدُونَ﴾، ﴿يَعْمَلُونَ﴾.
ومنها: رعاية الترتيب العجيب في قوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ إلخ. فقد بدأ أولًا بالآباء؛ لأنهم أدعى إلى الاهتمام بهم، لوجوب إخلاص الطاعة لهم، ثم ثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بحبات القلوب ثم ثلث بالإخوان؛ لأنهم هم المثابة عند الحاجة والناصر عند نشوب الأزمات، ثم ربع بالعشيرة؛ لأنها المستغاث في الشدائد، وهي الموئل والمفزع في النوائب، وهم المسرعون إلى النجدة. كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - ألفة الأزواج في المنازل.
٢ - ألفة الأصحاب في المجالس.
٣ - الأدب مع الحكام؛ بترك مضايقتهم لكثرة أعمالهم.
٤ - رفق الحكام بالمحكومين عليهم إذا رأوا أمرًا يثقلهم.
٥ - مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها، وبالنفاق والشقاق، فإن ذلك يضعفها، ويفرق جمعها، ويذلها (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الحشر نزلت بعد سورة البيّنة، وتسمى: سورة النضير.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، فقال: قل: سورة النضير؛ يعني: أنها نزلت في بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات. وهي مدنيّة - قال القرطبي -: في قول الجميع.
وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي، عن ابن عباس قال: (نزلت سورة الحشر بالمدينة).
وآيها أربع وعشرون آية، وكلماتها سبع مئة، وخمس وأربعون كلمة، وحروفها ألف وتسع مئة وثلاثة عشر حرفًا.
مناسبتها لما قبلها من وجوه (١):
١ - أن في آخر السالفة قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾، وفي أول هذه قال: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾.
٢ - أن في السابقة ذكر من حاد الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله.
٣ - أن في السابقة ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وبيان عدم فائدة تولي المنافقين إياهم.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (٢): أنه لما ذكر في السابقة حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا.. ذكر هنا أيضًا ما حلّ باليهود من غضب الله عليهم وجلائلهم، وإمكان الله تعالى رسوله - ﷺ - ممن حاد الله ورسوله رام الغدر بالرسول - ﷺ -، وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش.
(٢) البحر المحيط.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحشر ليس فيها منسوخ، وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى...﴾ الآية (٧)، نسخ الله تعالى بها آية الأنفال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ...﴾ الآية (١) من سورة الأنفال.
فضائلها (١): ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر.. وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات من يومه.. مات شهيدًا، ومن قرأها حين يمسي.. فكذلك". وقال: حديث حسن غريب.
ومنه: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من قرأ سورة الحشر.. لم يبق شيء من الجنة والنار، والعرش والكرسي، والسموات والأرض، والهوام والريح، والسحاب، والطير والدواب، والشجر والجبال، والشمس والقمر، والملائكة، إلا صلوا عليه واستغفروا له، فإن مات في يومه أو ليلته.. مات شهيدًا". أخرجه الثعلبي، وفيه مقال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)﴾.المناسبة
قد عرفتَ مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها. وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما (١): أن الله سبحانه لما بين ما حل ببني النضير من العذاب العاجل؛ كتخريب بيوتهم بأيديهم، وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع.. ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم،
روي: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا من الرسول - ﷺ - أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة في بدر وغيرها بينهم، فبيّن سبحانه الفرق بين الأمرين: بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم في تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب، والفيء فيما لم تتحلوا في تحصيله تعبًا. وحينئذٍ يكون أمره مفوّضًا إلى الرسول - ﷺ - يضعه حيث يشاء.
قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيّن مصارف الفيء فيما سلف، وذكر أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين.. ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية والمناقب الرفيعة، ثم مدح الأنصار ساكني المدينة، وبالغ في مدحهم. فذكر لهم هذه الفضائل:
١ - أنهم يحبون المهاجرين.
٢ - أنهم ليس في قلوبهم حقد ولا حسد لهم.
٣ - أنهم يفضلونهم على أنفسهم، ويعطونهم ما هم في أشد الحاجة إليه. وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشحّ المردي والبخل المهلك الذي يدنِّس النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر. ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان - وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة - يَدْعُون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة. ويطلبون من الله أن لا يجعل في قلوبهم حقدًا وحسدًا لهم.
أسباب النزول
سورة الحشر سبب نزولها (١): ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم
وما أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت غزوة بني النضير - وهم: طائفة من اليهود - على رأس ستة أشهر من غزوة بدر، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله - ﷺ - حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنا لهم ما أقَلَّتِ الإبلُ من الأمتعة والأموال إلا الحلقة؛ يعني: السلاح، فأنزل الله فيهم: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾. فقاتلهم النبي - ﷺ - حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، كان الله قد كتب عليهم ذلك. ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي. وأما قوله: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ فكان ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
تنبيه: الحديث - أي: حديث الحاكم - ليس على شرط الشيخين؛ لأنهما لم يُخرجا لزيد بن المبارك ومحمد بن ثور، وهما ثقتان. فالحديث صحيح، لكن في قوله: (على شرطهما) نظر.
قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه البخاري عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: حرق رسول الله - ﷺ - نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، فنزلت: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الحديث، أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود، وأحمد، وابن جرير، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾ قال: اللينة: النخلة، ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ قال: استنزلوهم من حصونهم، قال: وأمروا بقطع النخل، فحك في صدورهم، فقالوا: قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، ولنسألن رسول الله - ﷺ - هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله سبحانه: {مَا قَطَعْتُمْ