هي مدنية وعدد آيها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة المنافقين.
ووجه اتصالها بما قبلها :
( ١ ) أن الأولى ختمت بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي.
( ٢ ) أنه ذكر في مطلع الأولى صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن- وذكر في مطلع هذه أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ( ١ ) الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور ( ٢ ) والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير ( ٣ ) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ﴾ [ المجادلة : ١-٤ ].شرح المفردات : سمع : أي أجاب وقبل، كما يقال سمع الله لمن حمده، والتي تجادلك في زوجها : هي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وتجادلك : أي تراجعك الكلام في أمره وفيما صدر منه في شأنها، وتشتكي إلى الله : أي تبث إليه ما انطوت عليه نفسها من غم وهم وتضرع إليه أن يزيل كربها، وزوجها : هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، والسمع : صفة تدرك بها الأصوات أثبتها الله تعالى لنفسه، والتحاور : المرادّة في الكلام، والكلام المردّد، كما يقال كلمته فما رجع إليّ حوارا : أي ما ردّ عليّ بشيء.
المعنى الجملي : روي أن هذه الآيات الأربع نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ومن حديث ذلك : أن أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل على خولة يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال لها : أنت عليّ كظهر أمس ( وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ) وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فندم لساعته، فدعاها ( طلب ملامستها ) فأبت، وقالت : والذي نفسي بيده لا تصل إليّ وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم الله ورسوله، فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني ونثرت بطني ( كثر ولدي ) جعلني عليه كأمه إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة تنعشني بها وإياه فحدثني بها، فقال عليه الصلاة والسلام :( والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن )، وفي رواية :" ما أراك إلا قد حرمت "، قالت : ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي، وما يشق عليّ من فراقه، وفي رواية أنها قالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا خولة أبشري )، قالت : خيرا، فقرأ عليها :﴿ قد سمع الله ﴾ الآيات.
روى البخاري في تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه، وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل ﴿ قد سمع الله ﴾ الآيات.
والشارع اعتبر الظاهر يمنيا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :
( ١ ) تحرير رقبة ( عتق عبد أو جارية ).
( ٢ ) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
( ٣ ) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر ( رطل وثلث ) أو صاع من تمر أو شعير.
الإيضاح :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾ أي قد قبل الله شكوى التي جادلت رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها، وبثت أمرها إلى ربها، وسمع ما سمع من تحاورهما مع رسوله، والله سميع لما يقال، خبير بحال عباده، فأنزل فيها ما أزال غصتها، وفرج كربتها، وأقرّ به عينها، وبل ريقها، وأرجع إلى كنفها صبيتها، الذين كانوا مصدر شقوتها، وبهم اعتلّت ( تعلّلت واحتجت ) على رسوله.
روى البخاري في تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه، وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل ﴿ قد سمع الله ﴾ الآيات.
والشارع اعتبر الظاهر يمنيا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :
( ١ ) تحرير رقبة ( عتق عبد أو جارية ).
( ٢ ) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
( ٣ ) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر ( رطل وثلث ) أو صاع من تمر أو شعير.
والظهار : لغة من ظاهر ؛ ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض فيقال ظاهر فلان فلانا : أي نصره، وظاهر بين ثوبين : أي لبس أحدهما فوق الآخر، وظاهر من امرأته : أي قال لها أنت عليّ كظهر أمي، أي محرمة، وقد كان هذا أشدّ طلاق في الجاهلية، والظهار شرعا : تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم لا بقصد الكرامة، ولهذا المعنى نزلت الآية :﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ﴾ أي ما أمهاتهم، والمنكر : ما ينكره الشرع والعقل والطبع، وزورا : أي كذبا.
وقد فصل ما أنزل من الحكم في حادثتها وأمثالها فقال :
﴿ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ﴾ أي الذين يقع منهم الظهار من نسائهم، فيقول أحدهم لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي، يريد أنك عليّ حرام، كما أن أمي عليّ حرام – مخطئون فيما صنعوا.
﴿ ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ﴾ أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فكيف يجعلونهن كذلك، ما أمهاتهم إلا من ولدنهم، فلا ينبغي تشبيههن بهن.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبالغ في الاستهجان فقال :
﴿ وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ﴾ أي وإنهم ليقولون قولا منكرا لا يجيزه شرع، ولا يرضى به عقل، ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبّه من يسكن إليها وتسكن إليه وجعل بينه وبينها مودة ورحمة، وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت، بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنو والإجلال والتعظيم، إلى أن الرجل قوّام على المرأة له حق تأديبها إذا اعوجت، وهجرانها في المضاجع إذا جمحت ولم يعط ذلك لابن ليعامل به أمه، فهذا زور وبهتان عظيم.
وغير خاف ما في هذا من الاستهجان، وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.
﴿ وإن الله لعفو غفور ﴾ لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه.
ثم فصل حكم الظهار فقال :
روى البخاري في تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه، وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل ﴿ قد سمع الله ﴾ الآيات.
والشارع اعتبر الظاهر يمنيا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :
( ١ ) تحرير رقبة ( عتق عبد أو جارية ).
( ٢ ) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
( ٣ ) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر ( رطل وثلث ) أو صاع من تمر أو شعير.
فتحرير رقبة : أي عتق عبد أو جارية، أن يتماسا : أي يجتمعا اجتماع الأزواج، متتابعين : أي متواليين، فمن لم يستطع : أي لم يقدر على ذلك لكبر سن أو ضعف أو شبق إلى النساء، حدود الله : أي أحكام شريعته، وللكافرين : أي للذين يتعدّون الأحكام ولا يعملون بها.
( ١ ) ﴿ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ أي والذين يقولون هذا القول المنكر ثم يتداركونه بنقضه ويرجعون عما قالوا فيريدون المسيس فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماسّ إن كان ذلك لديه.
ثم بين السبب في شرع هذا الحكم فقال :
﴿ ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير ﴾ أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس، ليكون ذلك زاجرا لكم عن ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم، و الله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، و هو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر، و حافظوا على ما شرع لكم من الحدود، و لا تخلوا بشيء منها.
روى البخاري في تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه، وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل ﴿ قد سمع الله ﴾ الآيات.
والشارع اعتبر الظاهر يمنيا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :
( ١ ) تحرير رقبة ( عتق عبد أو جارية ).
( ٢ ) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
( ٣ ) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر ( رطل وثلث ) أو صاع من تمر أو شعير.
( ٢ ) ﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ﴾. أي فمن لم يجد رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفاية ؛ فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، فإن أفطر يوما من الشهرين ولو اليوم الآخر لعذر أو مرض أو سفر لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع.
( ٣ ) ﴿ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ﴾ أي فمن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين لكبر سنّ أو مرض لا يرجى زواله- فعليه إطعام ستين مسكينا لكل منهم نصف صاع من بُرّ، أو صاع من شعير أو تمر قبل التماس أيضا.
﴿ ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ﴾ أي ذلك الذي بيناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار، لتقروا بتوحيد الله وتصدقوا رسوله وتنتهوا عن قول الزور والكذب، وتتبعوا ما حده الدين من حدود، وبينه لكم من فرائض، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها.
وأطلق اسم ( الكافر ) على متعدّي هذه الحدود تغليظا للزجر كما قال في المتهاون في أداء فريضة الحج :﴿ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
شرح المفردات : يحادّون : أي يشاقون ويعادون، وأصل المحادّة الممانعة ؛ ومنه قيل للبواب حداد، كبتوا : أي خذلوا، وقال المبرد : كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل : مكبوت، آيات بينات : أي حججا وبراهين مبينة لحدود شرائعنا، مهين : أي يلحق بهم الهوان والذل.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أحكام كفارة الظهار وبين أنه إنما شرعها تغليظا للناس حتى يتركوا الظهار، وقد كان ديدنهم في الجاهلية، ويتبعوا أوامر الشريعة، ويلين قيادهم لها، ويخلصوا لله ربهم في جميع أعمالهم، فتصفوا نفوسهم، وتزكو بصالح الأعمال. أردف هذا ببيان أن من يشاق الله ورسوله ويعصي أوامره، يلحق به الخزي والهوان في الدنيا وله في الآخرة العذاب المهين في نار جهنم ؛ ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد فبين أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بمناجاة المتناجين، فإن كانوا ثلاثة فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر فهو معهم أينما كانوا، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم، وسينبئكم بها عند العرض والحساب، وحين ينصب الميزان، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم.
الإيضاح :﴿ إن الذين يحادّون الله و رسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ﴾ أي إن الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله، ويضعون شرائع غير ما شرعه، سيلحقهم الخزي والنكال في الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله، وقد تحقق ذلك يوم الخندق.
وفي هذا بشارة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم.
كما أن فيه وعيدا عظيما للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله، وألزموا رعاياهم العمل بها، والجري على نهجها، وعينوا لذلك قضاة يحكمون بها، ونبذوا ما جاء في شرعهم، والله يقول :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ [ المائدة : ٣ ].
نعم إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي، والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حد معين، بل فوض الأمر فيها للإمام، وليس في ذلك محادة لله ورسوله، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل.
﴿ وقد أنزلنا آيات بينات ﴾ أي وكيف يفعلون ذلك وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة وتوضح حدودها، وتفصل أحكامها، وتبين سرّ تشريعها ؟ فلا عذر لهم في مخالفتها، والانحراف عن سننها.
﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم.
والخلاصة : إن لهؤلاء المحادين عذابا في الدنيا بالخزي والهوان، وعذابا في الآخرة في جهنم وبئس القرار.
﴿ فينبئهم بما عملوا ﴾ : أي يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم، ﴿ أحصاه الله ﴾ : أي أحاط به عدّا لم يغب عنه شيء منه، شهيد : أي مشاهد لا يخفى عليه شيء،
﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا، أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرا لهم وخزيا على رؤوس الأشهاد، والله قد حفظه وضبطه وهم قد نسوه، والله شهيد على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء، ولا ينسى شيئا. وفي هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم والتنديم، ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب، إنما كان من جراء أعمالهم وقبيح أفعالهم.
﴿ ألم تر ﴾ : أي ألم تعلم، ما يكون : أي ما يوجد، والنجوى : التناجي والمسارّة كما قال :﴿ لا خير في كثير من نجواهم ﴾ [ النساء : ١١٤ ] وقد يستعمل في المتناجين كما قال :﴿ وإذ هم نجوى ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ] أي أصحاب نجوى.
ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شيء فقال :﴿ ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ﴾ أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون، ولا خمسة إلا هو سادسهم يعلم ما به يتناجون، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد ولا أقل منها إلا وهو عليم بها، وعليم بزمانها ومكانها لا يخفى عليه شيء من أمرها.
وإنما خص هذه الأعداد، لأن أقل ما لابد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة- ثلاثة فيكون الإثنان كالمتنازعين نفيا وإثباتا، والثالث كالحكم بينهما، وحينئذ تكمل المشورة ويتم الغرض، وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشورة لابد من واحد يكون حَكما مقبول القول، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردا كما جاء في الآية ونحوها قوله :﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ﴾ [ التوبة : ٧٨ ]، وقوله :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ].
﴿ ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ﴾ أي ثم ينبئ هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة، وإنه لعليم بنجواهم وأسرارهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم. وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو للتنديم وزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلاما لهم.
شرح المفردات : الذين نهوا عن النجوى : هم اليهود والمنافقون، بالإثم : أي بما هو معصية وذنب، والعدوان : الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته، لولا يعذبنا الله : أي هلا يعذبنا بسبب ذلك، حسبهم جهنم : أي عذاب جهنم كاف لهم، يصلونها : أي يقاسون حرها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه عليم بالسر والنجوى، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل، ومجازيهم على ما يكون به التناجي- خاطب رسوله معجّبا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لما نهوا عنه، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاؤوا الرسول حيوه بغير تحية الله، فيقولون له : السام عليك ( يريدون الموت )، ثم يقولون في أنفسهم : لو كان رسولا لعذبنا الله للإستخفاف به، وإن جهنم لكافية جد الكفاية لعذابهم ؛ ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم، بل يتناجون بالبر والتقوى ؛ ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان ولن يضيرهم شيء منه إلا بإذن الله، فعليه فليتوكلوا.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ﴾ روي أن اليهود كانوا إذا مرّ بهم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، حتى إذا رأى ذلك خشيهم، فترك طريقهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى فأنزل الله الآية.
ثم بين ما به يتناجون فقال :﴿ ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ﴾ أي وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم في نفسه ووباله عليهم، وبما هو تعد على المؤمنين، وتواص بمخالفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر جرما آخر يقع منهم فقال :﴿ وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ﴾، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة :" أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم، فقال عليه السلام :( وعليكم )، قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :( يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش : ، فقلت : ألا تسمع يقولون السام ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :( أو ما سمعتِ ما أقول : وعليكم ؟ ) فأنزل الله تعالى :﴿ وإذا جاؤوك حيوك ﴾ الآية ".
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام وهم يريدون شتمه، ويحدثون أنفسهم أنه لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول، لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيا حقا لعالجنا بالعقوبة في الدنيا فردّ الله عليهم بقوله :﴿ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ﴾ أي وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجل عذابهم إلى هذا اليوم.
قال تعالى مؤدبا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل اليهود والمنافقين فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ﴾ أي إذا حدث منكم أيها المؤمنون تناج ومسارة في أنديتكم وخلواتكم، فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين.
﴿ وتناجوا بالبر و التقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون ﴾ أي وتناجوا بما هو خير واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
ثم بين البعث لهم على هذه النجوى والمزين لهم ذلك فقال :﴿ إنما النجوى من الشيطان ﴾، أي إنما التناجي بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه.
ثم ذكر السبب الذي حداه إلى ذلك فقال :﴿ ليحزن الذين آمنوا وليس بضارّهم شيئا إلا بإذن الله ﴾، أي إنما فعل ذلك ليسوء الذين آمنوا بإيهامهم أن ذلك في نكبة أصابتهم، وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله ومشيئته.
﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين إن وقع، فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته، فلا يكترثنّ المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلنّ على الله ولا يحزننّ.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي إذا كان في ذلك أذى لمؤمن. أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه ).
شرح المفردات : تفسحوا : أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم : افسح عني أي تنحّ، يفسح الله لكم : أي في رحمته ويوسع لكم في أرزاقكم، انشزوا : أي انهضوا للتوسعة على المقبلين، فانشزوا أي فانهضوا ولا تتباطؤوا، يرفع الله الذين آمنوا : أي يرفع منزلتهم يوم القيامة، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات : أي ويرفع العالمين منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة.
المعنى الجملي : بعد أن نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان- أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعض : من التوسع في المجالس حين إقبال الوافد، والانصراف إذا طلب منكم ذلك.
فإذا فعلتم ذلك رفع الله منازلكم في جناته، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الإيضاح :﴿ يا أيها آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ﴾أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله، إذا قيل لكم توسعوا في مجالس رسول الله أو في مجالس القتال، فافسحوا يفسح الله في منازلكم في الجنة.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال :" كان صلى الله عليه وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم ثابت بن قيس وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان، قم يا فلان، فأقام نفرا بمقدار من قدم، فشق ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وطعن المنافقون وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه، أقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت الآية ".
وقال الحسن : كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة، ومن الآية نعلم :
( ١ ) أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، لما فيه من الخير العميم، والفضل العظيم، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام :( ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى ).
( ٢ ) الأمر بالتفسح في المجالس وعدم التضامّ فيها متى وُجد إلى ذلك سبيل، لأن ذلك يدخل المحبة في القلوب، والاشتراك في سماع أحكام الدين.
( ٣ ) إن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة.
وعلى الجملة فالآية تشمل التوسع في إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام :( لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ).
﴿ وإذا قيل انشزوا فانشزوا ﴾ أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤثر الانفراد أحيانا لتدبير شؤون الدين، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد.
وقد عمموا هذا الحكم فقالوا : إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه قوموا ينبغي أن يجاب.
ولا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه ؛ فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسحوا وتوسعوا ).
﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾ أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعاملين منهم خاصة درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان.
والخلاصة : إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، فلا يظننّ أن ذلك نقص في حقه، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزي به في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره.
﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ أي والله بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.
شرح المفردات : ناجيتم الرسول : أي أردتم مناجاته والحديث معه، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة : أي فتصدقوا قبلها، أطهر : أي أزكى، لتعويد النفس بذل المال وعدم الضنّ به،
المعنى الجملي : علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديث ولمناجاته في أمور الدين، وأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة، والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربه في خلواته.
من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه، لما في ذلك من منافع ومزايا :
( ١ ) إعظام الرسول وإعظام مناجاته، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استُعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.
( ٢ ) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
( ٣ ) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا- من المؤمنين حق الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.
قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾ أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناجي الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه- فليقدم صدقة قبل هذا، لما في ذلك من تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقا والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ومن دفع التكاثر عليه صلى الله عليه وسلم من غير حاجة ملحّة إلى ذلك. ثم ذكر العلة في هذا فقال :﴿ ذلك خير لكم وأطهر ﴾ أي إن هذا التقديم خيرا لكم لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع في جمع المال وحب ادخاره، وتعويدها بذله في المصالح العامة كإغاثة ملهوف، ودفع خصاصة فقير، وإعانة ذي حاجة، والنفقة في كل ما يرقّي شأن الأمة ويرفع من قدرها، ويعلي كلمتها، ويؤيد الدين وينشر دعوته.
ثم أقام العذر للفقراء فقال :﴿ فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ﴾ أي فإن لم تجدوا الصدقة أيها الفقراء وعجزتم عن ذلك، فالله قد رخص لكم في المناجاة بلا تقديم لها، لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها.
﴿ أأشفقتم ﴾ : أي خفتم، تاب الله عليكم : أي رخص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة.
من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه، لما في ذلك من منافع ومزايا :
( ١ ) إعظام الرسول وإعظام مناجاته، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استُعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.
( ٢ ) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
( ٣ ) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا- من المؤمنين حق الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.
قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة. المعنى الجملي : علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديث ولمناجاته في أمور الدين، وأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة، والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربه في خلواته.
من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه، لما في ذلك من منافع ومزايا :
( ١ ) إعظام الرسول وإعظام مناجاته، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استُعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.
( ٢ ) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
( ٣ ) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا- من المؤمنين حق الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.
قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة.
وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق، فلما تم هذا الغرض انتهى ذلك الحكم ورخص في المناجاة بدون تقديم صدقة، فقال :
﴿ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ﴾ أي أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات، ووسوس لكم الشيطان أن في هذا الإنفاق ضياعا للمال ؟.
﴿ فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم ﴾ أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به، وشق ذلك عليكم، خفف عليكم ربكم فرخص في المناجاة من غير تقديم صدقة، فتداركوا ذلك بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال :﴿ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله ﴾ أي فأدّوا الصلاة وقوموها بأدائها على أكمل الوجوه، لما فيها من الإخبات إلى الله والإنابة إليه والإخلاص له في القول والعمل، ونهيها عن الفحشاء والمنكر، ولما في الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشح بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام. وأطيعوا الله فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات، وينهاكم عنه من الموبقات.
ثم وعد وأوعد فقال :﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ فهو محيط بنواياكم وأعمالكم، ومجازيكم بما قدمتم لأنفسكم من خير أو شر، كما قال :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ] وقال :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى ( ٣٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾ [ النجم : ٣٩-٤١ ].
شرح المفردات : ألم تر : أي أخبرني وهو أسلوب من الكلام يراد به التعجب وإظهار الغرابة للمخاطب، والمراد من الذين تولوا : المنافقون، والتولي : من الموالاة وهي المودة والمحبة، والقوم : هم اليهود، وغضب الله : سخطه والطرد من رحمته، ما هم منكم و لا منهم : أي لأنهم مذبذبون، على الكذب : أي على أنهم معكم على الإيمان.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقي الدين عنه والاهتداء بهديه حتى كان يضيق بهم المجلس، فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا- ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، فهم عيون لهم عليهم، وإذا لاقوا المؤمنين قالوا لهم : إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون في كل ما يقولون وقد جعلوا الإيمان وقاية لستر ما يبطنون، فأمنوا من المؤاخذة وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدين ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه ؛ ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابا شديدا يوم القيامة، وما هم فيه من مال وولد في الدنيا لن يغني عنهم شيئا حينئذ ؛ ثم ذكر أن الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان، فقد استولى على عقولهم، وزين الشيطان قبيح أعمالهم، فأنساهم عذاب اليوم الآخر ؛ ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان، وجنود الشيطان لن تفلح في شيء، وسيرد الله عليهم كيدهم في نحورهم، ويحبط سعيهم، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون.
الإيضاح :﴿ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ﴾ أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ؛ إن حالهم لتستدعي العجب، يقابلون كل قوم بوجه، فهم مع اليهود نصحاء أمناء يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابا لصداقتهم وودهم، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم، وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم ؛ والحقيقة أنهم يخدعون الفئتين كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
﴿ ما هم منكم ولا منهم ﴾ أي فلا هم بالمؤمنين حقا بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراة للمؤمنين وخوفا من بطشهم، ولا هم مع اليهود، لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدين الحق، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عَرَض الدنيا، وأن يحتفظوا بمودتهم إذا احتاجوا إليها، فهم كما قال الله فيهم :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾[ النساء : ١٤٣ ] وفي الخبر :" مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين- أي المترددة بين قطيعين-لا تدري أيهما تتبع ".
ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم الأيمان الكاذبة فقال :﴿ ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ﴾، أي وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا آمنا وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له : نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما يقولون، لأنهم لا يعتقدون صدقه.
ثم ذكر مآلهم وبين ما يلقون من النكال والوبال فقال :
﴿ أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ أي أرصد الله لهم نكالا وعذابا أليما جزاء صنيعهم بغش المسلمين وإطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم.
جنة : أي وقاية وسترا عن المؤاخذة، ثم ذكر ما جعلوه تُكأة على تصديقهم فقال :
﴿ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ﴾ أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وتستروا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون ؛ وبهذه الوسيلة صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام بتحقير شأنه في نظرهم. ثم بين ما كافأهم به على عملهم فقال :﴿ فلهم عذاب مهين ﴾ أي فلهم عذاب يلحقهم به الذل والهوان في النار جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبا.
ثم أرشد إلى أن ما ظنوه منجيا لهم من عذاب الله من المال والأولاد- ليس بنافع لهم حينئذ فقال :
﴿ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي لن تغني عن هؤلاء المنافقين الأموال فيفتدوا بها من عذاب الله، ولا الأولاد فينصروهم وينقذوهم من العذاب إذا هو عاقبهم، فأولئك هم أهل النار وهم خالدون فيها أبدا، وقد تقدم مثل هذا في غير موضع من الكتاب الكريم.
على شيء : أي من جلب منفعة أو دفع مضرة، ﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم، فيحلفون له قائلين :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] كما كانوا يحلفون لكم في الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم.
﴿ ويحسبون أنهم على شيء ﴾ أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الضير، كما كان ذلك شأنهم في الدنيا، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى.
ثم رد عليهم منكرا لهم فقال :
﴿ ألا إنهم هم الكاذبون ﴾ فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروّجه لدى المؤمنين في الدنيا.
ونحو الآية قوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ [ الأنعام : ٢٣- ٢٤ ].
استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به ؛ قال المبرد ويقال حاوزت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها، قالت عائشة : كان عمر أحوذيا نسيج وحده : أي سائسا ضابطا للأمور لا نظير له، فأنساهم ذكر الله : أي لم يمكنهم من ذكره بما زين لهم من الشهوات، وحزب الشيطان : جنوده وأتباعه.
ثم بين السبب الذي أوقعهم في الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال :﴿ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ﴾ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه، فلم يمكنهم من ذكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم في دركات جهنم، وبئس المصير.
﴿ أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ﴾ أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون في صفتهم، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، واستبدلوا به العذاب الأليم، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه.
شرح المفردات : يحادون : أي يعادون ويشاقون، في الأذلين : أي في جملة أذل خلق الله، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا- بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا الله ورسوله وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة في الدنيا والآخرة، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه ؛ ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذي العشيرة، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقواهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصرو دينه، وحزب الله مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة في الدارين كما قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٧ ].
الإيضاح ﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ﴾ أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه، هم في جملة أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم في الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه :﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ].
وفي هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء.
كتب الله : أي قضى وحكم، لأغلبن : أي بالحجة والسيف.
ثم أكد ما سلف بقوله :
﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ أي قضى الله وحكم في أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجري مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم ( والحرب بين نبينا وبين المشركين، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام ) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال.
وعن مقاتل قال : لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ﴾[ الصافات : ١٧١- ١٧٣ ].
﴿ إن الله قوي عزيز ﴾ أي إن الله الذي له الأمر كله- قوي على نصر رسله لا يغلب على مراده، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾[ النحل : ٤٠ ].
وأيدهم : أي قواهم، بروح من عنده : أي بنور يقذفه في قلب من يشاء من عباده، لتحصل له الطمأنينة والسكينة.
﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾ أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وموادّة أعداء الله ورسوله، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالي كافرا، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالي عدوه، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له في الدين والدنيا، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ؛ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت في أخريات الأمم، وأبناؤها في شمال إفريقية وفي مصر وغيرها يوالون الإفرَنجة وينصرونهم على أبناء جنسهم، ولو كان في هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بالغ في الزجر وأبان أنه لا ينبغي لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد ؛ أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.
والخلاصة : إنه لا يجتمع إيمان مع موادة أعداء الله، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.
أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا :( يقول الله تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي )، وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علي يدا ولا نعمة فيوده قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ﴾.
قيل إن الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، أخرج ابن المنذر، عن ابن جريج قال : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :( أفعلت يا أبا بكر ؟ ) قال نعم، قال :( لا تَعُد )، قال والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته.
وقيل نزلت في أبي عبيدة بن عبد الله الجراح، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصدَه أبو عبيدة فقتله فنزلت :﴿ لا تجد قوما ﴾ الآية.
﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ﴾ أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت الله في قلوبهم الإيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ الله ورسوله.
وفي هذا مبالغة في الزجر عن موادة أعداء الله.
ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال :
﴿ وأيده بروح منه ﴾ أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق، فلا يبالون بموادة أعداء الله ولا يأبهون لهم.
ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال :
﴿ ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ أي ماكثين فيها أبدا. ثم ذكر السبب فيما أفاض الله عليهم من نعمة فقال :
﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى- عوضهم الله بالرضا عنه، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال :
﴿ أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ أي أولئك أنصار الله وجنده وأهل كرامته، وهم أهل الفلاح والسعادة والنصرة في الدنيا والآخرة.