هذه السورة مدنية وعدد آياتها اثنتان وعشرون. وهي مبدوءة بسبب نزولها وهي المرأة التي جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجادله في زوجها فأنزل الله قوله :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾ وعقب ذلك يأتي البيان بحقيقة الظهار من حيث معناه وحكمه وما يجب فيه من كفارة.
وتتضمن السورة نهيا عن التناجي والاستسرار بالإثم والعدوان مما يثير الريبة والرهبة في نفوس المسلمين.
وفي السورة تعظيم للعلم وتوقير للعلماء إذ ﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾.
وفي السورة نهي للمسلمين عن موادة المشركين الذين يحادون الله ورسوله ولو كانوا أقرب الأقربين إليهم. إنما ينشدّ المسلم برباط العقيدة إلى إخوانه المسلمين. فلا يعبأ بغير ذلك من روابط العصبية والنسب. إلى غير ذلك مما تضمنته السورة من المعاني والحقائق والعبر.
ﰡ
﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾.
روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ﴾ إلى آخر الآية.
وفي رواية عن عروة عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خويلة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذ كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ﴾ فالمشتكية إلى الله هي خولة بنت ثعلبة في الأصح. وزوجها هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت. ذكر أن خولة قالت : دخل علي ذات يوم وكلمني بشيء وهو فيه كالضجر فراددته فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي. ثم خرج في نادي قومه ثم رجع إلي فراودني عن نفسي فامتنعت منه، فشادّني فشاددته فغلبته بما تغلب به المرأة الرجل الضعيف. فقلت : كلا والذي نفس خويلة بيده لا تصل إليّ حتى يحكم الله تعالى فيّ وفيك بحكمه ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أشكو ما لقيت. فقال : " زوجك وابن عمك اتقي الله وأحسني صحبته ". فما برحت حتى نزل القرآن ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ﴾ إلى قوله :﴿ إن الله سميع بصير ﴾ حتى انتهى إلى الكفارة قال : " مريه فليعتق رقبة ". قلت : يا نبي الله والله ما عنده رقبة يعتقها. قال : " مريه فليصم شهرين متتابعين " قلت : يا نبي الله شيخ كبير ما به من صيام، قال : " فليطعم ستين مسكينا " قلت : يانبي الله والله ما عنده ما يطعم، قال : " بلى سنعينه بعرق من تمر مكتل يسع ثلاثين صاعا " قلت : وأنا أعينه بعرق آخر، قال : " قد أحسنت فليتصدق " ١.
قوله :﴿ والله يسمع تحاوركما ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال. أو مستأنفة، والتحاور بمعنى التجاوب٢ أي والله يسمع ما جرى من تراجع في الكلام ومن تحاور بين رسوله صلى الله عليه وسلم وخولة بنت ثعلبة. قوله :﴿ إن الله سميع بصير ﴾ الله يسمع ويرى. فما من صوت ولا همس ولا نبس ولا حركة ولا سكنة ولا حدث إلا يسمعه الله أو يراه.
٢ مختار الصحاح ص ١٦١..
هذه الآية أصل الظهار، وهو مشتق من الظهر. وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها أنت علي كظهر أمي. وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا عليه في جاهليتهم.
وقد أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. أما إن قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غيرهما من ذوات المحارم فإنه مظاهر كذلك في قول أكثر العلماء. وهو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة وآخرين. وروي عن الشافعي قوله مثل ذلك. ووجهه أنه شبّه امرأته بظهر محرم عليه على التأبيد كالأم. وفي رواية عنه أخرى أنه لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها.
على أن ألفاظ الظهار ضربان : صريح وكناية. أما الصريح فقوله لها : أنت علي كظهر أمي. أو أنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحو ذلك. وكذلك قوله لها : فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر. كما لو قال لها : يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق فإنها تطلق عليه. وهو قول المالكية والشافعية. أما الحنيفة فقالوا : إذا قال لها أنت عليّ كيد أمي أو كرأسها. أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا. وإن قال لها : أنت علي كبطنها أو فخذها ونحو ذلك كان مظاهرا، لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر. أما الكناية فقوله لها : أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه ينظر إلى نيته. فإن أراد الظهار كان ظهار. وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا.
أما الظهار بغير ذوات المحارم كما لو ظاهر بالأجنبية فإنه ليس بشيء وهو قول الحنفية والشافعية وبعض المالكية. ووجه ذلك أن الأجنبية قد تحل له بتملك بعضها فتكون مثل زوجته وفي حكمها. وفي رواية عن مالك أن ذلك ظهار. وروي عنه أيضا أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء.
أما النساء فليس عليهن ظهار وإنما الظهار على الرجال فقط، لصريح قوله :﴿ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ﴾ ولم يقل " اللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن " وقد ذهب إلى ذلك عامة أهل العلم. وعلى هذا لو قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي فلا تكون متظاهرة وليس ذلك بشيء.
واختلفوا فيما يحرمه الظهار. فقد ذهبت الحنفية والمالكية وآخرون إلى أن المظاهر لا يلمس ولا يقبّل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر. وقال مالك : لا ينظر إلى شعرها ولا إلى صدرها حتى يكفّر. وقيل : يأتيها فيما دون الفرج. ولو ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة كان مظاهرا من كل واحدة منهن وليس له أن يطأ إحداهن حتى يكفر، وتجزئه كفارة واحدة. وعند الإمام الشافعي أنه تلزمه أربع كفارات١.
قوله :﴿ ما هن أمهاتهم ﴾ يعني ما نساؤهم اللاتي يظاهرون منهن بأمهاتهم بل هن زوجاتهم وهن لهم حلال ﴿ إن أمهاتهم إلا اللاّئي ولدنهم ﴾ يعني ما أمهاتهم إلا اللائي ولدوا منهن أو والدتهم وليس اللائي ظاهروا منهن ﴿ وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ﴾ منكرا وزورا منصوب على الوصف لمصدر محذوف وتقديره : وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا٢ يعني وإن هؤلاء الرجال المظاهرين ليقولون قولا مستقبحا لا تعرف صحته في الشرع ﴿ وزورا ﴾ أي كذبا ﴿ وإن الله لعفو غفور ﴾ الله يصفح عن ذنوب عباده ويستر عليهم سيئاتهم وقد جعل لهم الكفارة سبيلا للتخلص من هذه الخطيئة. وكذلك يعفو الله عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم كما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته : يا أختي. فقال : " أختك هي ؟ " فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك، لأنه لم يقصده ولو قصده لحرّمت عليه.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٢٦..
القول الأول : المراد بالعود هو أن يعود المظاهر إلى لفظ الظهار فيكرره وهو قول أهل الظاهر. وهو غير صحيح، لأن الله وصف الظهار بأنه منكر من القول وزور. فكيف يقال للمظاهر بمعاودة المحرم المحظور نفسه.
القول الثاني : أن يمسك المظاهر زوجته مدة بعد الظهار يكون فيها قادرا على الطلاق، لأنه بإمساكه عن الطلاق يكون قد عاد إلى ما كان عليه قبل الظهار.
القول الثالث : أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وهو قول أحمد بن حنبل.
القول الرابع : أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه. فإذا ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. وهو مذهب الحنيفة، وقال به الليث بن سعد.
قوله الخامس : أن يعزم على الإمساك بعد أن يظاهر منها. وهو قول الإمام مالك. وروي عنه أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا.
قوله :﴿ فتحرير رقبة ﴾ يعني على المظاهر من امرأته أن يعتق رقبة، جزاء تلبسه بالمحظور وهو الظهار. ويشترط في الرقبة أن تكون مسلمة في قول المالكية والشافعية، خلافا للحنيفة إذ لم يشترط إسلام الرقبة في الظهار، فالرقبة في الكفارة تجزي.
قوله :﴿ من قبل أن يتماسا ﴾ والمراد بالتماس الجماع، في قول الجمهور أي يكفّر المظاهر بالعتق قبل أن يجامع زوجته التي ظاهر منها. وبذلك ليس للمظاهر الوطء قبل التكفير. فإن جامع قبل أن يكفّر فقد عصى الله وكان آثما ولا يسقط عنه التكفير بالعتق. وقيل : إذا جامع قبل التكفير لزمته كفارة أخرى. وليس على ذلك دليل.
قوله :﴿ ذلكم توعظون به ﴾ الإشارة عائدة إلى ما تبين من حكم وهو إيجاب الكفارة بسبب الظهار ﴿ توعظون به ﴾ أي تزجرون به لتنتهوا عن ارتكاب الظهار فهو منكر وزور ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ الله مطلع على أعمالكم وأقوالكم وما تقارفونه من محظور كالظهار فاحذروا وانتهوا.
وبذلك على المظاهر غير الواجد للرقبة أن يصوم شهرين متتابعين من غير فصل بينهما بإفطار، فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنف صيام الشهرين وإن أفطر لعذر كمرض أو سفر أو نحوهما فإنه يبني على صيامه ولا يستأنف وهو الصحيح من مذهب الشافعية، وعند الحنفية يستأنف الصيام سواء أفطر بينهما أو بغير عذر، وهو أحد القولين للإمام الشافعي.
قوله :﴿ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ﴾ من لم يطق من المظاهرين من نسائهم الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا، لكل واحد منهم مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول المالكية، وعند الشافعية لكل مسكين مدّ من طعام بلده المقتات سواء كان حنطة أو شعيرا أو أرزا أو تمرا أو إقطا، وعند الحنفية، لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير.
قوله :﴿ ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله ﴾ أي هذا الذي فرضه الله على المظاهر من الكفارة الغليظة، لتوقنوا أن الله قد أمر به وشرعه وكيلا تعودوا للظهار وهو منكر من القول وزور.
قوله :﴿ وتلك حدود الله ﴾ حدود الله، ، أحكامه من الفروض والنواهي، فقد بينها الله لكم فلا تعتدوها ﴿ وللكافرين عذاب أليم ﴾ ذلك وعيد من الله لمن جحد أحكام ربه فلم يطع أمره، وعصاه فإنه يصلى العذاب في جهنم ١.
ذلك تحذير للكافرين المكذبين الذين يشاقون الله ورسوله فإنهم بكفرهم وعصيانهم مصيبهم ما أصاب الظالمين السالفين من الخزي والخسران في الدنيا والآخرة. وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ﴾ يحادون، من المحادّة وهي المخالفة، ومنع ما يجب فعله١.
يعني : إن الذين يخالفون أوامر الله وأحكام دينه ولا يرعون حدوده ويجعلون لأنفسهم حدودا غير حدود الله ﴿ كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ﴾ أي ذلوا وخزوا وأذاقهم الله من الهوان ما أذاق الخاسرين من قبلهم. ولقد أذلّ الله سائر الطغاة والمجرمين والفاسقين من الأمم السابقة الذين شاقوا الله ورسوله وفسقوا عن دينه وأذوا أولياءه.
قوله :﴿ وقد أنزلنا آيات بينات ﴾ أنزلنا إليكم أيها الناس علامات ودلالات ظاهرة تبين لكم صدق ما جاءكم به الرسول الأمين. أو بينا لكم الآيات في الذين خلوا من قبلكم من الفاسقين الذين حادوا الله ورسوله وما نزل بهم من سوء العقاب ﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ ينذر بذلك، الكافرين المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه من الحق، فإنهم بتكذيبهم سيصلون العذاب الأليم في النار.
قوله :﴿ أحصاه الله ونسوه ﴾ أحصى الله على الناس أعمالهم وحفظها في صحائفهم ليذكرهم بها يوم المعاد. وهم قد نسوا ما قد فعلوه في الدنيا.
قوله :﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾ الله يعلم ما يأتيه العباد من قول أو عمل وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء من أخبارهم وأسرارهم.
قوله :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ من، حرف جر زائد ويكون تامة، ونجوى فاعل يكون. والنجوى بمعنى السرار وهي مصدر، والنجو معناه السر بين اثنين. يقال نجوته نجوا، أي ساررته. وانتجى القوم وتناجوا أي تساروا، أو ناجى بعضهم بعضا١ وثلاثة، مجرور بالإضافة، أو مجرور على البدل، أي ما يكون من متناجيين ثلاثة٢. والمعنى : ما يقع من سرار ثلاثة أو مسارّة ثلاثة إلا كان الله رابعهم يسمع إسرارهم وما يتناجون به ﴿ ولا خمسة إلا هو سادسهم ﴾ فليس من خمسة يتناجون بينهم في السر إلا كان الله سادسهم.
والعدد هنا غير مقصود. وإنما المراد التذكير بأن الله مع كل عدد من العباد قلّ العدد أو كثر. فالله يعلم ما يقولون أو يخفون أو يستسرون وهو قوله :﴿ ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ﴾ إن ذلكم خطاب كريم مؤثر، وكلمات ربانية بلغية نفّاذة تثير في الأذهان والقلوب دوام اليقظة والحذر، ليستيقن الإنسان أنه محوط بقدرة الله وسلطانه، وأنه ينفذ إلى أعماقه علم الله المحيط ، فلا يخفى عليه من أخباره أو أسراره شيء. ويوم القيامة يخبرهم الله بما قدموه في الدنيا من عمل، خيرا أو شرا ليجدوا في مقابلة الجزاء. قوله ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ الله عليم بأخبار الكون كله ولا يغيب عن علمه شيء من أخبار العباد وما قدموه من عمل٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٢٧..
٣ فتح القدير جـ ٥ ص ١٨٦ والكشاف جـ ٤ ص ٧٣..
ذكر عن ابن عباس قوله في سبب نزول الآية : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين يتغامزون بأعينهم فيقول المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقراباتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم للنبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت.
وقيل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت١.
قوله :﴿ ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول ﴾ أي يتسارّون بينهم بالظلم والكذب ومخالفة الرسول، أو يتناجون بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول.
قوله :﴿ وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله ﴾، روي عن السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة : وعليكم السام : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ياعائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " فقالت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما سمعت أقول وعليكم ؟ " فأنزل الله قوله تعالى :﴿ وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله ﴾ ٢، يعني إذا جاءك هؤلاء الماكرون الخبثاء من أهل الكتاب والمنافقين الذين نهوا عن النجوى، حيوك بغير التحية المشروعة المعروفة التي يحييك بها الله وهي السلام عليكم، بل كانوا يحيونه بقولهم له : السام عليك يا محمد، والسام معناه الموت. ﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ يقول هؤلاء الذين يحيون النبي بهذه التحية الخبيثة من اليهود والمنافقين في أنفسهم : هلا عاقبنا الله بما نقول لمحمد فعجل لنا العقاب على ذلك، أو لو كان محمد نبيا لعذبنا الله جزاء قولنا له : السام عليك. وهم في الحقيقة موقنون في أنفسهم أن الأنبياء، يستغضبون فلا يجعل الله العذاب لمن يستغضبهم، إنما يعذبهم الله في الدنيا إن شاء، وهم في الآخرة حصب جهنم يصلونها مذمومين خزايا، وهو قوله :﴿ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ﴾ أي كافيهم جهنم يعذبون فيها يوم القيامة فبئس المرجع والمآب والمأوى.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٧٥ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٢٣..
قوله :﴿ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ﴾ أي خافوا ربكم الذي ترجعون إليه لتلاقوا الحساب والجزاء، فاعملوا بأوامره وانتهوا عن معاصيه وزواجره.
قوله :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ على المؤمنين في كل الأحوال أن يعتمدوا على ربهم فيعولوا عليه تعويلا، ويفوضوا أمرهم كله إليه فعليه الاعتماد والاستناد والتكلان١.
وقد وردت السنة الكريمة بالنهي عن التناجي والمسارة إن علم المتناجون أن ذلك يحزن من كان بجانبهم من الناس، فيتأذون أو يرتابون ويتوهمون. فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه " وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد " يتبين من ذلك النهي عن التناجي بين اثنين في حضرة ثالث، لما في ذلك من إحزان له أو إثارة للشك والقلق في نفسه. ويستوي في هذا النهي ما إذا كان المتناجون كثرة أو قلة، ثلاثة أو عشرة أو ألفا، فما ينبغي لهم أن يتناجوا في معزل عن واحد منهم وهو يراهم يتناجون ويتسارون، فيقع في قلبه الخوف والارتياب منهم.
يأمر الله عباده المؤمنين بحسن الأدب في مجالس العلم والذكر، فما ينبغي أن تكون بينهم أثرة أو فظاظة في الأسلوب والتخاطب، وإنما يأمرهم ربهم بالتعاطف والتآلف والتواضع فيما بينهم، ليكونوا على الدوام إخوة مؤتلفين متحابين.
وفي سبب نزول هذه الآية قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض.
وقيل : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فأتى ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : " قم يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ ١ فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم، وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله :﴿ ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ﴾ تفسحوا، من الفسحة وهي السعة. وفسح له في المجلس أي وسع له، وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا٢.
والآية عامة في سائر المجالس التي يجتمع فيها المسلمون للخير والبر والصلاح سواء جلسوا للذكر أو العلم أو الحرب. فكل مسلم هو أحق بمكانه الذي سبق إليه، وفي الحديث : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به " ومع ذلك فإن على المسلم أن يفسح لأخيه في المجلس وهو أن يوسع له، ليمكنه الجلوس فيه من أجل الاستفادة وكسب الأجر، وفي النهي عن أن يقام المرء من مجلسه ليجلس فيه آخر، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وعلى هذا إذا قعد الرجل في موضع من المسجد فليس لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، وفي ذلك روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : " افسحوا ".
قوله :﴿ يفسح الله لكم ﴾ أن يوسع الله منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وإذا قيل انشزوا فانشزوا ﴾ انشزوا، من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض. ونشز الرجل، أي ارتفع في المكان، وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض، ونشزت المرأة، أي استعصت على بعلها وأبغضته٣.
والمعنى : إذا دعيتم إلى خير أو معروف أو إصلاح فأجيبوا، أو إذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة أو إلى قتال العدو، أو قيل لكم : تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا.
قوله :﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات ﴾ وذلك تكريم من الله للعلم وأهله، فهم أولو درجات عالية في الآخرة ولهم من الله في الدنيا حسن الثواب.
وإنما يكون التكريم والاعتبار للناس بحسب ما في قلوبهم من الإيمان والعقيدة والتقوى، وبما أوتوه من رصيد العلم في مختلف علوم الإسلام، وغير ذلك من العلوم الكونية التي لا مناص للمسلمين من تعلمها والاستفادة منها لتقووا بها على رد العدوان من المعتدين، ودفع الشر والكيد عن أنفسهم من الظالمين المتربصين.
ويستفاد من الآية أيضا أن المؤمن العالم خير من المؤمن غير العالم، وإن كان في كل منهما خير. وبذلك فإن العالم لذو شأن عظيم في ميزان الله، وكذلك العلماء المؤمنون فإنهم أولو كرامة ظاهرة ومميزة يفوقون بها غيرهم درجات، وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء ".
قوله :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ الله خبير بأهل الإيمان والعلم والطاعة الذين يخشون ربهم ويخافون عقابه ويبتغون بعلمهم وجه ربهم٤.
٢ مختار الصحاح ص ٥٠٣..
٣ مختار الصحاح ص ٦٦٠..
٤ تفسير القرطبي جـ ١٧ ص ٣٠٠ وتفسير الطبري جـ ٢٨ ص ١٣..
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم فلما قال ذلك كف كثير من الناس، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها ﴿ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ﴾، وقيل : نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما أهل الميسرة فبخلوا واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة١.
وذكر عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ﴿ ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ﴾ كان لي دينار فبعته وكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى ﴿ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ﴾.
قوله :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾ يأمر الله المؤمنين أنه إذا أراد أحدهم أن يناجي الرسول - أي يسارّه فيما بينه وبينه - أن يتصدق قبل المسارة بصدقة على المساكين والمحاويج ﴿ ذلك خير لكم وأطهر ﴾ فإن تقديمكم الصدقة لأهل الحاجة قبل المسارة أطهر لقلوبكم، فالصدقة طهرة للنفس من الذنوب ثم تكونون بعذ ذلك أكفياء للوقوف في هذا المقام الكريم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ فإن لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم ﴾ يعني من عجز عن التصدق لفقره فما عليه بعد ذلك من بأس، وإنما يؤمر بالصدقة من له القدرة عليها.
قوله :﴿ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله ﴾ يعني إذ لم تقدموا صدقات من قبل مناجاتكم الرسول ومن الله بالتوبة من ترككم ذلك فأدوا ما عليكم من فرائض أوجبها الله عليكم وهي الصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله في أوامره ونواهيه ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ الله عليم بأمركم كله. فهو يعلم ما تفعلون وما تقولون وما تخفون في صدوركم من المقاصد والنوايا١.
ذلك تنديد بليغ بالمنافقين الذين يوالون الكافرين من أهل الكتاب، ويمالئونهم على المسلمين الذين يخفون لهم في قلوبهم الحقد والكراهية. أولئك هم المنافقون الموغلون في الخطيئة والرجس وفساد القلوب، أولئك الذين يأتون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه وهم في الحقيقة ليسوا من أحد الفريقين وإنما يتلبّسون بهذه الصفة الخسيسة لفرط كراهيتهم للإسلام والمسلمين وبالغ حسدهم لهم. فقال سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ﴾ المراد بهم المنافقون فقد تولوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود، إذ كانوا يوالونهم ويمالئونهم على الإسلام والمسلمين، وهم في الحقيقة ليسوا من اليهود ولا من المسلمين، ولكنهم كانوا مذبذبين بين ذلك وكان من عادتهم أن يحملوا أخبار النبي والمسلمين إلى اليهود.
قوله :﴿ ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ﴾ يحلفون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لم يمالئوا عليه أحدا ولم يبتغوا له وللمسلمين الأذية، وهم موقنون في قرار أنفسهم أنهم كاذبون. وقد روي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة وعنده نفر من المسلمين قد كان الظل يقلص عنهم، فقال لهم : " إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين شيطان وإذا أتاكم فلا تكلموه " فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه فقال : " علام تشتمني أنت وفلان وفلان " نفر دعا بأسمائهم. فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه فأنزل الله هذه الآية.
قوله :﴿ فلهم عذاب مهين ﴾ أعد الله لهم عذاب جهنم يوم القيامة حيث الهون والذل والنكال.
٢ الكشاف جـ ٤ ص ٧٨ وفتح القدير جـ ٥ ص ١٩٢..
يبين الله في ذلك أنه خصيم للكافرين الذين يحادون الله ورسوله وذلك بعصيانه ومخالفة أمره فيكونون في حد، ودين الله ومنهجه للعالمين في حد آخر، ﴿ أولئك في الأذلّين ﴾ يعني المرتكسين في الذل.
قوله :﴿ إن الله قوي عزيز ﴾ الله ذو قوة بالغة لا تعرف القيود وهو المنتقم من الظالمين الخاسرين الذين يحادون الله ورسله بصريح المشاقة والتمرد والعصيان. وهو سبحانه عزيز، أي منيع الجناب لا يغلبه غالب.
ولئن كان هذا التنديد الشديد بالذين يوالون أعداء الله وهم أولو قرابة في النسب منهم، فكيف بمن يوالي أعداء الله الكافرين وهم عنه غرباء في النسب والأصل والجنس فضلا عن غرابة الدين، كمن يوالي الصليبيين من النصارى أو الصهيونيين من اليهود أو الوثنيين من المشركين وغيرهم من الملحدين، فيسارونهم مسارة ويوادونهم موادة ويمالئونهم على المسلمين، كأولئك الجواسيس الخائنين الذين يحملون للكافرين في الظلام أخبار المسلمين وأسرارهم، من أجل أجر ممتهن نجس، دراهم معدودة، أولئك نفر ممتهن مستقذر من سقط الأوباش، لا جرم أنهم قد خانوا الله ورسوله والمسلمين. فهم في الأذلين الأخسرين في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ﴾ اسم الإشارة عائد إلى المؤمنين الذين يتصفون بأنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الأقربين إليهم كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة، فأولئك ممن أثبت الله في قلوبهم الإيمان وجعله مستقرا في صدورهم، فهم مؤمنون صادقون قد أخلصوا دينهم لله، ﴿ وأيّدهم بروح منه ﴾ أي قواهم ونصرهم بفيض رحمته ونوره، ﴿ ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ وهذا جزاؤهم في الآخرة، أن لهم جنات النعيم بظلها الناعم الوارف الظليل، ومائها العذب السائح الجاري، مقيمين فيها آبدين ماكثين لا يبرحون، ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ أي تقبّل الله منهم أعمالهم وسعدوا أكمل السعادة بما أعطوه في الآخرة من النعيم المقيم١.
قوله :﴿ أولئك حزب الله ﴾ هؤلاء المؤمنون الصادقون الذين لا يوادون غير المؤمنين، هم جند الله وأولياؤه وأنصاره، قوله :﴿ ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ هؤلاء المؤمنون الصادقون هم الفائزون السعداء المنصورون في الدنيا والآخرة. جعلنا الله منهم.