هذه السورة مدينة وآياتها أربع وعشرون. وهي سورة بني النضير، وذلك لكبير المجال الذي احتله الحديث عنهم في السورة، على أن بني النضير فئة من اليهود أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خارج المدينة، إذ ذهب بعضهم إلى خيبر، وذهب آخرون إلى أرض الشام وهي من أرض المحشر يوم القيامة. ولقد أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم بما نقضوه من المواثيق وخيانتهم للعهود.
وفي السورة بيان بالفيء من حيث معناه وحكمه وكيفية تقسيمه. وهو المال المأخوذ من المشركين من غير قتال، إذ ينتزع المسلمون منهم المال الفاضل عن حاجتهم عقب قتالهم والتغلب عليهم. وذلك لإضعافهم وثنيهم عن قتال المسلمين، ذلك أن الظالمين يتقوون بالمال على حرب الإسلام والمسلمين. فهم بالمال يستطيعون أن يملكوا وسائل الحرب والقتال من السلاح بمختلف أصنافه وغير ذلك من أسباب القتال ولوازمه لا جرم أن المال في أيدي المشركين الظالمين لهو وسيلة أساسية وكبرى تمكنهم من العدوان على المسلمين وإشاعة الشر والأذى والإرهاب والأراجيف في الأرض، فإذا انتزعت منهم هذه الوسيلة المؤثرة الخطيرة، قبعوا خاسئين خاضعين خانعين وقد سكنت فيهم بواعث الشر وأخرست فيهم ألسنة السوء من الدعاية الفاجرة الظالمة، والتحريض المدمّر الشرير ومن أجل ذلك كله شرع الإسلام انتزاع المال من أيديهم إلا ما كانوا يحتاجون إليه ليعيشوا في ظل الإسلام آمنين سالمين.
ﰡ
﴿ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ١ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولى الأبصار ٢ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ٣ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ٤ ما قطعتم من لّينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾.
يبين للناس أن كل شيء في السماوات أو في الأرض يعظمه تعظيما ويمجّده تمجيدا، وهو مذعن له بالوحدانية والإلهية وأنه الرب القادر ذو الملكوت، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ العزيز يعني القوي القاهر المنتقم من الظالمين المتجبرين، وهو الحكيم في تدبير أمور خلقه، وهو قوله سبحانه :﴿ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ﴾.
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديه ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما. وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال : أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، ( رضي الله عنهم ) فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - يعني السلاح - ففعلوا فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف١ بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام ٢.
قوله :﴿ لأول الحشر ﴾ يعني أخرجهم عند أول الحشر فكان هذا أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام، فقد كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط. وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. قال ابن عباس : من شك في أن أرض المحشر ههنا الشام فليقرأ هذه الآية ﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخرجوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة، لأن المحشر يكون بالشام.
قوله :﴿ ما ظننتم أن يخرجوا ﴾ ما ظن المسلمون أن تخرج يهود بهذه السهولة في هذه المدة القصيرة من محاربتهم وهي ستة أيام ومع تمكنهم في حصونهم المنيعة ﴿ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴾ ظنت يهود - واهمين - أن حصونهم القوية البنيان تمنعهم من أمر الله إن نزل بهم بأسه. وقد كان المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول يحرّضونهم على الثبات في وجه المسلمين وقد وعدوهم بالتأييد والمناصرة لكنهم سرعان ما تخلوا عنهم فلم يغنوا عنهم من بأس الله شيئا ﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ أي أتاهم من بأس الله وشديد بلائه ما لم يخطر لهم على بال ﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ ألقى الله في قلوبهم الجزع والفزع وغشيهم من الترعيب والهلع ما غشيهم.
قوله :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ كان المسلمون يهدمون ما يليهم من حصون يهود للدخول عليهم. وكان اليهود يخربونها من داخلها قبل رحيلهم عنها. فكان أحدهم ينظر إلى ما يستحسنه في بيته من الخشبة أو العمود أو الباب فينزعه. فاحتملوا من أموالهم وأمتعتهم ما أقلّته افبل فكانوا بذلك يهدمون بيوتهم عن نجاف أبوابها فيضعونها على ظهور الإبل ثم ينطلقون بها راحلين. وذلكم تخريبهم بيوتهم بأيديهم.
قوله :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾ يعني اتعظوا يا أهل العقول والنهى واعتبروا مما حل بهؤلاء الظالمين، إذ لم تغنهم حصونهم المنيعة شيئا من بأس الله لما نزل بهم. وقد هدموا بيوتهم فخربوها بأيديهم تخريبا. والله عز وعلا ولي عباده المتقين فهو ناصرهم ومؤيدهم ومخزي الظالمين.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٣١..
على أن المقصود من قطع النخيل لبني النضير، هو إضعافهم والتضييق عليهم من أجل الخروج. فأخبر الله بعد ذلك أن قطع النخل إنما كان بإذن الله أي بأمره وقدره. وقد كان ذلك ردا لمقالة يهود، إذ بعثوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية ﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾ أي أن قطعها لم يكن فسادا وإنما كان بأمر الله ليذل الخارجين عن طاعته وهم بنو النضير٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٣١ –٣٣٣ وتفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٢٣، ٢٤..
يبين الله في هذه الآية حقيقة الفيء وحكمه، فهو المال المأخوذ من الكافرين من غير قتال كأموال بني النضير فإن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ولم يقاتلوهم عليها بالمبارزة أو اللقاء، بل خرج بنو النضير إلى الشام وخيبر بعد أن قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا تاركين وراءهم أموالهم. وبذلك لم يأخذها المسلمون بالحرب والقتال والشدة. فهذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها في وجوه الخير من مصالح المسلمين ويأخذ هو منها ما يكفيه وعياله قوت عامه. وهذا الضرب من المال المأخوذ، بخلاف الغنائم التي يستولي عليها المسلمون بالحرب والقتال.
وروى مسلم في صحيحه عن عمر قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت للنبي خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله تعالى ويستدل من الآية أن الفيء هو المال الذي رده الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أو رجعه عليه من بني النضير وأمثالهم من غير إيجاف ولا قتال فحكمه أن يصرف في وجوهه التي بينتها الآية، فهي لله، وهو سبحانه مالك كل شيء، يحكم في ملكوته كما يشاء، ثم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه في قوت نفسه وعياله. ثم لذي القربى، وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقات فجعل لهم الحق في الفيء. ثم اليتامى وهم المحاويج من أطفال المسلمين. ثم المساكين وهم أهل الفاقة الذين لا يملكون شيئا. ثم ابن السبيل وهو المنقطع في بلاد الله من المسافرين في غير معصية لله سبحانه. وقيل : ثمة سهم لله سادس، يصرف في وجوه القرب كعمارة المساجد وبناء القناطر و الجسور وغير ذلك من مصالح المسلمين.
قوله :﴿ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾ يعني قسمنا هذا الفيء الذي أخذتموه من غير قتال لهذه الأصناف المبيّنة في الآية كيلا يكون هذا الفيء متداولا بين الأغنياء من الناس يستأثرون به لأنفسهم دون غيرهم من الفقراء والعالة والمحاويج.
ويستدل من ذلك : كراهة الحصر للأموال فتكون كثيرة مركومة لدى قلة قليلة من الناس دون الأكثرين الفقراء الذين يكابدون القلة والجوع والمسألة. وذلكم تشريع عظيم ومميز لسياسة المال في الإسلام، إذ يستطيع الحاكم بموجبه أن يصطنع من الأساليب في الاقتصاد وتوزيع الثروة ما يحول دون حصر المال والثراء لدى فئة قليلة في المجتمع. لا جرم أن نظام الإسلام في هذه المسألة وغيرها من المسائل، مغاير كليا للنظام الرأسمالي، الذي يقيم الحياة على الحرية المطلقة أو الانمياع في التصرف والسلوك والعلاقات الاجتماعية برمتها. وهو في تصوره للمال يعتمد النظام الربوي أسلوبا أساسيا للكسب وجمع الثروة.
قوله :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ وهذا بعمومه يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر من الله، وأن ما نهى عنه فهو نهي من الله كذلك. وعلى هذا مهما أمر به النبي فإنه يجب فعله، ومهما نهى عنه فإنه يجب اجتنابه. فلا يأمر النبي إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر. وهو ( عليه السلام ) مخوّل من ربه أن يبين للناس ما نزل إليهم من عند الله. فما يصدر عنه من شيء في ذلك إلا هو وحي أوحى الله به إليه، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل " فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت. قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله. فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قالت : بلى. قال : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ".
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ أي خافوا الله في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وزواجره، فإن عقابه شديد، وأخذه أليم وجيع لمن عصاه ونكل عن طاعته فخالف أمره١.
ذلك ثناء من الله وإطراء للمهاجرين والأنصار. فالأولون تركوا الأهل والديار طلبا لمرضاة ربهم، والآخرون استقبلوهم في دارهم وأحسنوا استقبالهم فكانوا بعظيم تكريمهم لهم وبالغ إتحافهم إياهم، مثالا للكرم والتواضع والإيثار والمناصرة مما ليس له في تاريخ الأمم والشعوب نظير.
وههنا يقول الله عز وجل وعلا : ائتمروا بما أمركم به الله من صرف الفيء وجوهه المذكورة كيلا يكون متداولا بين الأغنياء منكم بل يكون للفقراء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم وعشيرتهم. وإنما خرجوا من ديارهم ابتغاء مرضاة الله وحبا في الله ورسوله واستنقاذا لأنفسهم من الشرك والفتنة وظلم الظالمين.
قوله :﴿ أولئك هم الصادقون ﴾ أي الصادقون في أقوالهم وأفعالهم، ذلك أنهم التزموا عقيدة التوحيد قولا وإيمانا واتخذوا دين الله شرعة لهم ومنهاجا.
وقال :﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ﴾ يعني لا يجد الأنصار وهم الذين نزلوا المدينة من قبل المهاجرين شيئا من الحسد في قلوبهم مما أعطي المهاجرون من الفيء، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الفيء بين المهاجرين دون غيرهم من الأنصار باستثناء اثنين أعطاهما لفقرهما، وقيل : باستثناء ثلاثة.
وقال :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ربهم خصاصة ﴾ الخصاصة والخصاص بمعنى الفقر٢، أي يقدمون الفقراء والمحاويج على حاجة أنفسهم ﴿ ولو كان بهم خصاصة ﴾ يعني ولو كان بهم حاجة أو فاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم. وقد روى الترميذي عن أبي هريرة : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نوّمي الصّبية وأطفئي السراج وقرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾. وروي عن أبي هريرة أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى رجل من الأنصار رجلا من أهل الصّفّة فذهب به الأنصاري إلى أهله فقال للمرأة : هل من شيء ؟ قالت : لا، إلا قوت الصبية. قال : فنوّميهم، فإذا ناموا فأتيني فإذا وضعت فاطفيء السراج، ففعلت، وجعل الأنصاري يقدم إلى ضيفه ما بين يديه، ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد عجب من فعالكما أهل السماء " ونزلت الآية٣.
تلك هي شيمة الإيثار المرغوب التي تتجلى في خلق المؤمنين الأتقياء الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله وحده فغشي قلوبهم من برد اليقين ما كانوا به أوفياء مخلصين أبرار. إن هذه الفضلية الكريمة، فضيلة الإيثار على النفس إنما تتجلى في خلق المسلمين الغيورين من الطيبين. أولئك الذين صنعهم الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة، وتشريعه الوارف المبارك.
إن ذلكم هو الإسلام العظيم الذي يصنع الإنسان الصالح الرفّاف ويخلق الحياة الكريمة الطاهرة الفضلى.
قوله :﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ يوق، من الوقاية والشح، في اللغة بمعنى البخل من حرص٤. على أن المراد بالشح ههنا في قول العلماء أنه أكل أموال الناس بغير حق. قال ابن مسعود : الشح أن تأكل مال أخيك ظلما أو بغير حقه. وقيل : معناه الظلم. وقيل : ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والأظهر من الآية أن المراد بالشح : الضّنّ بالخير وعدم أدائه في وجوهه كالزكاة والصدقة وقرى الضيف وغير ذلك من وجوه الأداء والبذل فيما ينفع الناس أو يدفع عنهم الكروب والحوائج. وفي الخبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة " : وفي التنديد بالشح روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وروى عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش، فإن الله لا يحب الفحش، وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ".
قوله :﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ وهم الذين تبرأوا من ذميمة الشح فغلبوا ما أمرتهم به أنفسهم وخالفوا هواهم بإذن الله وتوفيقه فأولئك هم الظافرون الفائزون.
٢ مختار الصحيح ص ١٧٧..
٣ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٨١..
٤ مختار الصحاح ص ٣٣١..
وعلى هذا فإنه لا يسب الصحابة أو أحدهم إلا فاسق ضال أو كاذب مغرور، فإن من تقوى القلوب أن تذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يذكر ما شجر بينهم على سبيل التجريح أو التنديد أو التشهير.
قوله :﴿ ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ﴾ يعني طهر قلوبنا من الحقد والحسد فلا تجعل فيها بغضا أو حسدا لأحد من المؤمنين ﴿ ربنا إنك رؤوف رحيم ﴾ إنك يا ربنا شديد الرحمة بعبادك ترحم التائبين منهم والمستغفرين١.
يبين الله في ذلك حقيقة المنافقين الكاذبين الذين يكنون في صدورهم الغيظ والكراهية للإسلام والمسلمين فهم يحرّضون الكافرين من أهل الكتب على قتال الرسول والمسلمين، ويعدونهم بالنصرة والتأييد ويحلفون لهم أنهم لن يتخلوا عنهم إذا حوربوا، والله يشهد إنهم لكاذبون. أولئك هم المنافقون المذبذبون الذين يتدسّسون في الظلام ليكيدوا للإسلام والمسلمين كيدا. وهم في كل الأحوال مخذولون مفضوحون، فما يلبثون أن يظهروا وينكشفوا فيعلمهم الناس. فقال سبحانه :﴿ ألم تر الى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن المنافقين وفي طليعتهم عبد الله بن أبي ابن سلول - بعثوا ليهود بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم - أن اثبتوا لقتال محمد والمسلمين فإنا مؤيدوكم وناصروكم ولن نتخلى عنكم. فلئن قاتلكم المسلمون قاتلنا معكم ولئن أخرجوكم فإنا خارجون معكم. فاغترّ اليهود بهذا القول من المنافقين وانتظروا منهم أن يعينوهم ويقاتلوا معهم لكنهم لم يجدوا منهم شيئا وقد قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا هاربين. وهو قوله :﴿ لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ﴾ يعني لا نطيع أحدا يسألنا أن نخذلكم ونتخلى عنكم، ولكننا معكم في التأييد والمناصرة، ﴿ وإن قوتلتم لننصرنكم ﴾ يعني إن قاتلكم محمد والمسلمون فلسوف نكون معكم لمناصرتكم وتأييدكم. ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ الله جل جلاله يشهد أن هؤلاء المنافقين كاذبون فيما وعدوا به بني النضير من العون والنصر.
وفي قوله ههنا ﴿ جدر ﴾ بالتنكير لا التعريف ما يثير الانتباه ويلفت النظر.
فهؤلاء القوم لا يجرؤون على قتال المسلمين إلا من خلف جدر صلبة تقيهم الضربات من أمامهم. ولئن كانت الجدر الواقية فيما مضى تعني الحيطان الواقية، فهي في العصر الراهن صفائح سميكة ومتينة من الحديد الصلب الذي تتركب منه الحافلات والناقلات والدبابات. فما كان ليهود أن يجرؤوا على قتال المسلمين في معركة من المعارك إلا أن يحسبوا لذلك كل حساب ثم يقاتلون وهم محصنون في أجواف الدبابات المنيعة الصلبة، يستترون بجدرها الواقية القوية.
قوله :﴿ بأسهم بينهم شديد ﴾ يعني عداوة بعضهم لبعض شديدة فهم فيما بينهم متدابرون وإنما يتناسبون مباغضاتهم فيما بينهم إذا دهمهم العدو لقتالهم أو حزبتهم الشدائد من الخارج.
قوله :﴿ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴾ أي تحسب أن هؤلاء اليهود مؤتلفون متوادون فيما بينهم ولكنهم في الحقيقة، قلوبهم متنافرة متباغضة. فهم أولو أهواء كثيرة ومختلفة فتختلف بذلك قلوبهم. وهم لا يجتمعون إلا ليواجهوا المسلمين في قتال أو حرب وحينئذ يتعارفون ويتلاقون ثم تنقلب قلوبهم في أحوال السلم لتكون متفرقة شتى.
قوله :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ سبب ضلالهم وفسقهم وما بينهم من المباغضات وتفرق القلوب أنهم ﴿ قوم لا يعقلون ﴾ لا يعلمون أن الصواب في منهج الله الحق وفي سبيله المستقيم. وإنما يتبعون أهواءهم وما تحفزهم إليه شهواتهم ومصالحهم.
يأمر الله عباده المؤمنين أن يخشوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه والعمل لما بعد الموت وهو قوله :﴿ ولتنظر نفس ما قدمت لغد ﴾ والمراد بغد، يوم القيامة. وقد ذكرت القيامة بغد لشدة قربها ودنو أجلها. وهذه حقيقة لا ريب فيها، فإن الموت آت لا محالة. وإن كل ما هو آت آت. وما على الناس - وهم موقنون بهذه الحقيقة- إلا أن يتقوا ربهم بالتزام شرعه والإذعان لجلاله بالطاعة والامتثال وأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ كرر الأمر بالتقوى لعظيم أهميته وتأثيره ليبين لهم بعد ذلك أنه يعلم ما يفعلون أو يقولون وهو يعلم سرهم ونجواهم.
يبين الله علو قدر القرآن وعظيم شأنه وأنه ينبغي أن تتدبره العقول وتخشع منه القلوب. فهو الكلام الرباني المعجز بعجيب أسلوبه ونظمه، وجمال وصفه وتركيبه، وكمال مضمونه ومعناه، وحلاوة جرسه وإيقاعه ما يشده البال ويأخذ بالقلوب، ويملك الأسماع. فقال سبحانه :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ خاشعا متصدعا، منصوبان على الحال، لأن ( رأيت ) ههنا من رؤية البصر١ المعنى : لو أننا أنزلنا هذا القرآن. بجلال قدره وعظيم شأنه وسمو معناه على جبل ذي عقل وفهم لخشع هذا الجبل وتشقق بالرغم من كبير حجمه وصلابة صخره. وذلك مما يجده في القرآن من عجائب تثير في النفس الخشوع والرهبة والورع. فخليق بالإنسان ذي العقل والفهم أن يتفكر في هذا القرآن ليتدبر معانيه فيتعظ ويخشع.
قوله :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ المراد بالأمثال، تعريفه جل وعلا بأن الجبال شديدة التعظيم للقرآن وأنها لو أنزل عليها هذا الكتاب الحكيم لخشعت وتصدعت خوفا ورهبة من الله ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ أي ليتفكروا في مثل هذه الأمثال فينيبوا إلى الله مذعنين منقادين.
قوله :﴿ يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ كل شيء في الوجود يسبح بحمد الله فينزهه عن النقائص والعيوب. وهو سبحانه ﴿ العزيز الحكيم ﴾ أي القوي الذي لا يغلب، والحكيم في أفعاله وأقواله وتدبير خلقه٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٣٥ – ٣٧ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٤٤ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٠٨..