تفسير سورة الحشر

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الحشر مدنية عددها أربع وعشرون آية كوفي.

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ يقول ذكر الله ما في السموات من الملائكة وما في الأرض من الخلق ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١] في أمره ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني يهود بني النضير ﴿ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ بعد قتال أحد أخرجهم ﴿ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ يعني القتال والحشر الثانى للقيامة، وهو الجلاء من المدينة إلى الشام وأذرعات ﴿ مَا ظَنَنتُمْ ﴾ يقول للمؤمنين ما حسبتم ﴿ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ ﴾ يعني وحسبوا ﴿ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾ يعني من قبل قتل كعب بن الأشرف، ثم قال: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾ بقتل كعب بن الأشرف أرعبهم الله بقتله لأنه كان رأسهم وسيدهم قتله محمد بن مسلمة الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة وغيره، وكان محمد ليلة قتل كعب بن الأشرف أخو محمد بن سلمة، وأبو ليل، وعتبة كلهم من الأنصار. قوله: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾" وذلك أن المنافقين دسوا وكتبوا إلى اليهود ألا يخرجوا من الحصن، وأن يدبروا على الأزقة وحصونها، فإن قاتلتم محمداً فنحن معكم لا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فلما سار النبى صلى الله عليه وسلم إليهم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، قالوا: يا محمد، واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، وناتحة أعلى ناتجة، قال: نعم، قالوا: فذرنا نبكى شجونا، ثم نأتمر لأمرك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أخرجوا من المدينة، قالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، فنادوا الحرب، واقتتلوا وكان المؤمنون إذا ظهروا على درب من دروبهم تأخروا إلى الذى يليه فنقبوه من دبره، ثم حصنوها ويخرب المسلمون ماظهروا عليه من نقض بيوتهم، فيبتون دوربا، على أفواه الأزقة، فذلك قوله: يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين "﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾ [آية: ٢] يعني المؤمنين أهل البصيرة في أمر الله، وأمر النضير.
ثم قال: ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ ﴾ يعني قضى الله، نظيرها في المجادلة قوله:﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ ﴾[آية: ٢١] يعني قضى الله ﴿ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ ﴾ من المدينة ﴿ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ بالقتل بأيديكم ﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ٣] ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي نزل بهم من الجلاء ﴿ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ يعني عادوا الله ورسوله ﴿ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ ﴾ ورسوله يعني ومن يعادي الله ورسوله ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٤] إذا عاقب، نظيرها في هود:﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ ﴾[الآية: ٨٩] يعني عداوتى ﴿ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: ٥] يعني وليهن اليهود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع ضرب من النخيل من أجود التمر يقال له اللين شديد الصفرة ترى النواة من اللحى من أجود التمر يغيب فيه الضرس، والنخلة أحب إلى أحدهم من وضيف، فجزع أعداء الله لما رأوا ذلك الضرب من النخيل يقطع، فقالوا: يا محمد، أوجدت فيما أنزل الله عليك الفساد في الأرض أو الإصلاح في الأرض، فأكثروا القول ووجد المسلمون ذمامة من قطعهم النخيل خشية أن يكون فساداً. فأنزل الله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ ﴾ وكانوا قطعوا أربع نخلات كرام عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم غير العجوة ﴿ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا ﴾ هو كله ﴿ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ يعني بأمر الله ﴿ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٥] لكى يخزى الفاسقين وهم اليهود بقطع النخل، فكان قطع النخل ذلا لهم وهوانا. قال أبو محمد: قال الفراء: كل شىء من النخيل سوى العجوة فهو اللين. قال أبو محمد: قال الفراء: حدثني حسان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل كله إلا العجوة ذلك اليوم فكل شىء سوى العجوة فهو اللين. وقال أبو محمد: وقال أبو عبيدة: اللين ألوان النخل سوى العجوة والبرنى، واحدتها لينة. فلما يأس اليهود أعداء الله من عون المنافقين رعبوا رعباً شديداً بعد قتال إحد وعشرين ليلة، فسألوا الصلح فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنوا على دمائهم وذراريهم وعلى أن لكل ثلاثة منهم بعيراً يجعلون عليه ما شاءوا من عيال أو متاع وتعيد أموالهم فيئا للمسلمين، فساروا قبل الشام إلى أذرعات وأريحا، وكان ما تركوا من الأموال فيئا للمسلمين، فسأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم الخمس كما خمس يوم بدر، ووقع في أنفسهم حين لم يخمسا.
فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ ﴾ يعني أموال بني النضير ﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ يعني على الفىء ﴿ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ يعني الإبل يقول لم تركبوا فرساً، ولا بعيراً، ولكن مشيتم مشياً حتى فتحتموها، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له، فذلك قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، يعينهم ﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من النصر وفتحها ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٦].
قوله: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ يعني قريظة والنضير، وخيبر، وفدك، وقريتى عرينة ﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً ﴾ يعني يكون المال دولة ﴿ بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ﴾ يعني لئلا يغلب الأغنياء الفقراء على الفىء، فيقسمونه بينهم، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الفىء للمهاجرين، ولم يعط الأنصار غير رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم أرضاً من أرض النضير، وإنما سموا المهاجرين لأنهم هجروا المشركين وفارقوهم، قوله: ﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾ يقول: ما أعطاكم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الفىء ﴿ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ يخوفهم الله من المعاصي. ثم خوفهم، فقال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٧] إذا عاقب أهل المعاصي.
ثم ذكر الفىء فقال: ﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ أخرجهم كفار مكة ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ يعني يطلبون ﴿ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ يعني رزقاً من الله في الجنة ﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ يعني رضى ربهم ﴿ وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾ [آية: ٨] في إيمانهم وليسوا بكاذبين في إيمانهم كالمنافقين، ثم ذكر الأنصار فأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفىء، إذ جعل المهاجرين دونهم.
فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ يعني أوطنوا دار المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين. ثم قال: ﴿ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من قبل هجرة المهاجرين، ثم قال: للأنصار: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ من المؤمنين ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ﴾ يعني قلوبهم ﴿ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾ يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفىء ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾ يقول: لا تضيق ﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ يعني الفاقة فآثروا المهاجرين بالفىء على أنفسهم، ثم قال: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ يعني ومن يقيه الله حرص نفسه، سعنى الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفىء لإخوانهم ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٩] فقد ذهب صنفان المهاجرون والأنصار وبقي صنف واحد، وهم التابعون الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة.
﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ يعني من بعد المهاجرين والأنصار، فدخلوا في الإسلام إلى يوم القايمة، وهم التابعون ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ ﴾ الماضين من المهاجرين، والأنصار فهذا استغفار، ثم قال التابعون: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٠].
وأنزل في دس المنافقين إلى اليهود أنا معكم في النصر والخروج، فقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ نزلت في عبدالله بن نتيل، وعبدالله بن أبى رافع بن يزيد، كلهم من الأنصار ﴿ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ من اليهود منهم حيى بن أخطب، وجدى، وأبو ياسر، ومالك بن الضيف، وأهل قريظة ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾ لئن أخرجتكم محمد من المدينة كما أخرج أهل النضير ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً ﴾ يقول لا نطيع في خذلانكم أحداً ﴿ أَبَداً ﴾ يعني بأحد النبي صلى الله عليه وسلم وحده ﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾ يعني لنقاتلن معكم. فكذبهم الله تعالى، فقال: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ ﴾ كم أخرج أهل النضير من المدينة ﴿ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ ﴾ يعني لئن قاتلهم المسلمون ﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ يعني لا يعاونوهم يقول الله تعالى: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ يعني ولئن عاونوهم ﴿ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ [آية: ١٢] فغرهم المنافقون فلزموا الحصن، حتى قتلوا وأسروا، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً، فذلك قوله من الأحزاب:﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾يعني المقاتلة الأربع مائة وخمسين﴿ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ﴾[الأحزاب: ٢٦]، يعني السبع مائة.
ثم قال: ﴿ لأَنتُمْ ﴾ معشر المسلمين ﴿ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ يعني قلوب المنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ [آية: ١٣] فيعتبرون ﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ تَحْسَبُهُمْ ﴾ يا محمد ﴿ جَمِيعاً ﴾ المنافقين واليهود ﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾ يعني متفرقة مختلفة ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٤] عن الله فيوحدونه ﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يعني من قبل أهل بدر، كان قبل ذللك بسنتين، فذلك قوله: ﴿ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾ يعني جزاء ذنبهم، ذاقوا القتل ببدر ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٥].
ثم ضرب مثلاً حين غروا اليهود فتبرؤا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال: ﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ ﴾ وذلك أنه كان راهباً في بني إسرائيل اسمه برصيصا، وكان في صومعته أربعين عاماً، يعبد الله، ولا يكلم أحداً، ولا يشرف على أحد، وكان لا يكل من ذكر الله عز وجل، وكان الشيطان لا يقدر عليه مع ذكره الله تعالى. فقال الشيطان لإبليس: قد غلبنى برصيصا، ولست أقدر عليه، فقال إبليس: اذهب، فانصب لهم ما نصبت لأبيه من قبل، وكانت جارية ثلاثة من بني إسرائيل عظمية الشرف جميلة في أهل بيت صدق، ولها إخوة فجاء الشيطان إليها، فدخل في جوفها فخنقها حتى ازبدت، فالتمس إخواتها لها الإطباء، وضربوا لها ظهراً وبطناً ويميناً وشمالاً، فأتاهم الشيطان في منامهم، فقال: عليكم ببرصيصا الراهب، فليدع لها، فإنه مستجاب الدعاء، فلما أصبحوا، قال بعضهم لبعض: انطلقوا بأختنا إلى برصيصا الراهب، فليدع لها، فإنا نرجوا البركة في دعائه، فانطلقوا بها إليه، فقالوا: يا برصيصا أشرف علينا، وكلمنا فإنا بنو فلان، وإنما جئنا لباب حسنة، وأجر، فأشرف فكلمهم وكلموه، فلما رد عليها وجد الشيطان خللا فدخل في جوفه، ووسوس إليه، فقال: يا برصيصا هذا باب حسنة وأجر، تدعو الله لها فيشفيها، فأمرهم أن يدخلوها الخربة وينطلقوا هم، فأدخلوها الحربة ومضوا، وكان برصيصا لا يتهم في بني إسرائيل، فقال له الشيطان: يا برصيصا انزل فضع يدك على بطنها، وناصيتها، وادع لها، فمازال به حتى أنزله من صومعته، فلما نزل خرج منه، فدخل في جوف الجارية فاضطربت، وانكشفت، فلما رأى ذلك، ولم يكن له عهد بالنساء وقع بها. قال الشيطان: يا برصيصا يا أعبد بني إسرائيل ما صنعت؟ الزنا بعد العبادة يا برصيصا؟ إن هذه تخبر أخواتها بما أتيت لها فتفتضح في بني إسرائيل فاعمد إليها، فاقتلها وادفنها في التراب، ثم اصعد إلى صومعتك، وتب إلى الله، وتعبد فإذا جاء أخوتها، فسألوا عنها، فأخبرهم أنك دعوت لها، وأن الجنى طار عنها، وأنهم طاروا بها، فمن هذا الذي يتهمك في بني إسرائيل، فقتلها ودفنها في الحربة، فلما جاء إخواتها، قالوا: أين أختنا؟ فقال: أختكم طارت بها الجن، فرجعوا وهم لا يتهمونه، فأتاهم الشيطان في المنام، فقال: إن برصيصا قد فضح أختكم، فلما أصبحوا جعل كل واحد منهم يكلم صاحبه بما رأى، فتكلم بما رأى. فقال الآخر: لقد رأيت مثل ما رأيت، فقال الثالث: مثل ذلك، فلم يرفعوا بذلك رأسا حتى رأوا ثلاث ليل، فانطلقوا إلى برصيصا، فقالوا: أين أختنا؟ فقال: لا أدرى طارت بها الجن، فدخلوا الخربة، فإذا هم بالتراب ناتىء في الخربة فضربوه بأرجلهم فإذا هم بأختهم فأتوه، فقالوا: يا عدو الله، قتلت أختنا، فانطلوا إلى ذلك فأخبروه، فبعث إليه فاستنزله من صومعته، ونحتوا له خشبة، فأوثقوه عليها فأتاه الشيطان، فقال: أتعرفنى يا برصيصا، قال: لا، قال: أنا الذي أنزلتك هذه المنزلة، فإن فعلت ما آمرك به استنقذتك مما أنت فيه، وأطلعتك إلى صومعتك؟ فقال: وبماذا؟ قال: أتمثل لك في صورتي، فتسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما هنا؟ قال: نعم، فتمثل له الشيطان في صورته فسجد له سجدة وكفر بالله فانطلق الشيطان، وتركه، وقتل برصيصا، فذلك قوله: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر ﴿ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ١٦] ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ ﴾ يعني الشيطان والإنسان ﴿ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ الشيطان والراهب ﴿ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٧] يقول: هكذا ثواب المنافقين واليهود والنار.
ثم حذر المؤمنين ولاية اليهود، فقال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ﴾ يعني ولتعلم نفس ﴿ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ يعني ما عملت لغد، يعني ليوم القيامة ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ يحذرهم ولاية اليهود ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٨] من الخير والشر، ومن معاونة اليهود، ثم وعظ المؤمنين ألا يتركوا أمره، ولا يكونوا بمنزلة أهل الكتاب.
فقال: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ ﴾ يعني تركوا أمر الله ﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ أن يقدموا لها خيرا ﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ١٩] يعني العاصين.
ثم ذكر مستقر الفريقين، فقال: ﴿ لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ يوم القيامة فى الثواب والمنزلة ﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾ [آية: ٢٠] يعني هم الناجون من النار، وأصحاب النار هم فى النار خالدون فيها أبدا.
ثم وعظهم، فقال: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ الذي فيه أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحرامه وحلاله ﴿ عَلَىٰ جَبَلٍ ﴾ وحملته إياه ﴿ لَّرَأَيْتَهُ ﴾ يا محمد ﴿ خَاشِعاً ﴾ يعني خاضعاً ﴿ مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾ فيكف لا يرق هذا الإنسان ولا يخشى الله فأمر الله الناس الذين هم أضعف من الجبل الأصم الذي عروقه في الأرض السابعة ورأسه في السماء أن يأخذوا القرآن بالخشية والشدة، والتخشع، فضرب الله لذلك مثلا، فقال: ﴿ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ ﴾ يعني لكي ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٢١] في أمثال الله فيعتبروا في الربوبية.
فوحد الرب نفسه، فقال: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ يعني غيب ما كان وما يكون ﴿ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾ يعني شهادته بالحق فى كل شىء ﴿ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ٢٢] اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، فلما ذكر ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾، قال مشركو العرب: ما نعرف الرحمن الرحيم إنما اسمه الله.
فأراد الله تعالى أن يخبرهم أن له أسماء كثيرة، فقال: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ اسم الرب، تعالى، هو الله وتفسير الله: اسم الربوبية القاهر لخلقه وسائر أسمائه على فعاله ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ فوحد نفسه، فقال لنفسه: ﴿ ٱلْمَلِكُ ﴾ يعني يملك كل شىء دونه ﴿ ٱلْقُدُّوسُ ﴾ يعني الطاهر ﴿ ٱلسَّلاَمُ ﴾ يسلم عباده من ظلمه ﴿ ٱلْمُؤْمِنُ ﴾ يؤمن أولياءه من عذابه ﴿ ٱلْمُهَيْمِنُ ﴾ يعني الشهيد على عباده بأعمالهم من خير أو شر، كقوله:﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾[المائدة: ٤٨] كقوله:﴿ شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾[المزمل: ١٥] على عباده بأعمالهم من خير أو شر المصدق بكتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ يعني المنيع بقدرته في ملكه ﴿ ٱلْجَبَّارُ ﴾ يعني القاهر على ما أراد بخلقه ﴿ ٱلْمُتَكَبِّرُ ﴾ يعني المتعظم على كل شىء ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ نزه الرب نفسه عن قولهم البهتان ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٢٣] معه فنزه الرب نفسه أن يكون له شريك، فقال: ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ معه غيره أن يكون له شريك.
ثم قال عن نفسه: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ﴾ يعني خالق كل شىء خلق النطفة والمضغة، ثم قال: ﴿ ٱلْبَارِىءُ ﴾ الأنفس حين يراها بعد مضغة إنسانا فجعل له العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، ثم قال: ﴿ ٱلْمُصَوِّرُ ﴾ في الأرحام، كيف يشاء ذكر وأثنى، أبيض وأسود، سوي وغير سوي، ثم قال: ﴿ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ يعني الرحمن الرحيم العزيز الجبار المتكبر، ونحوها من الأسماء يعني هذه الأسماء التي ذكرها في هذه السورة، ثم قال: ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يعني يذكره ويوحده ما في السموات والأرض وما فيها من الخلق وغيره ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٢٤] في أمره. قوله: ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ الرحيم أرق من الرحمن يعني المترحم يعني المتعطف بالرحمة على خلقه. حدثنا عبدالله، قال: حدثني أبى، وحدثنا الهذيل عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن النبى صلى الله عليه وسلم، وبإسناده عن مقاتل، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال:" إن لله تسعة وتسعين اسما في القرآن فمن أحصاها دخل الجنة ". حدثنا عبدالله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل، عن المسيب، قال سبحان الله: انصاف الله من السوء. وقال علىي بن أبي طالب، رضي الله عنه: سبحان الله كلمة رضيها الله لنفسه. وقال الهذيل: قال مقاتل: سبحان الله في القرآن تنزيه نزه نفسه، من السوء إلا أول بني إسرائيل﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ﴾[الإسراء: ١] يقول عجب و﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ ﴾[يس: ٣٦] يعني عجب الذي خلق الأزواج، وقوله: ﴿ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾ يقول صلو لله. حدثنا عبدالله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مطرف بن الشخير، قال: إن الله تعالى لم يكلنا في القرآن على القدر.
Icon