تفسير سورة الحشر

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
وهي مدنية. وهي سورة بني النضير وفيها مواضع١.
١ أوصلها ابن الفرس إلى ست آيات..

– قوله تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ :
عنى الله تعالى بذلك جلاء بني النضير من اليهود عن موضعهم، فمنهم من خرج إلى خيبر، ومنهم من خرج إلى الشام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم على الجلاء على أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة ١، والحلقة السلاح.
وقوله تعالى :﴿ لأول الحشر ﴾ أي أن إجلاءهم ذلك كان أول الحشر إلى الشام. قال قتادة : تجيء نار من المشرق تحشر الناس إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف ٢. يريد أن هذا هو الحشر المشار إليه.
ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء يؤخذ منهم، الظاهر أنه يجوز.
وقال أبو الحسن لا يجوز الآن وإنما جاز أول الإسلام ثم نسخ ولا بد من قتلهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم ٣ ذكر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل خيبر سأل اليهود منهم أن يقرهم فيها على أن يكفوهم مؤونة التمر ولهم النصف من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقركم فيها " حتى أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجتمع دينان بجزيرة العرب " ٤.
١ راجع أسباب النزول للواحدي ص ٣١٠، ٣١١..
٢ راجع التفسير الكبير ٢٩/ ٢٧٩..
٣ راجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤٠٥..
٤ الحديث أخرجه مالك في الموطأ عن ابن شهاب الزهري، كتاب الجامع، باب: ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة ٢/ ٢٣٧..
– قوله تعالى :﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه..... ﴾.
سبب قوله تعالى :﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ الآية أن بعض أصحابه عليه الصلاة والسلام جعلوا يقطعون نخل بني النضير ويحرقونه. فقال بنو النضير : ما هذا الإفساد يا محمد، وأنت تنهى عن الفساد ؟ فكف بعض أصحابه لذلك، وذلك في صدر الحرب معهم. فنزلت الآية رادة على بني النضير وأن ما كان من ذلك فبإذن الله تعالى ١. واللينة : قال مجاهد : كل نخلة لينة. وقيل هي كرام النخل، وقيل هي ما عدا العجوة ٢، وقال بعضهم : نهى بعض المهاجرين عن القطع فنزلت الآية بتصويب الرأيين في القطع ثم الترك. وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب وإن كان ذلك يبعد مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعويل في الجواز إنما هو على أنه رأى ذلك فأقره. وقد اختلف الناس في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم. فأجازه الجمهور وكرهه الجماعة وتأولوا على ذلك حديث أبي بكر المشهور في توجيهه الجيش إلى الشام ووصيته إياهم ٣، وحكي عن الشافعي أنه قال : يحرق الشجر المثمر والبيوت إذا كانت لهم معاقل وكره تحريق الزرع والكلأ. والحجة لقول الجمهور ظاهر الآية وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على تحريق نخل بني النضير.
١ راجع ذلك في أسباب النزول للواحدي ص ٣١٢، وفي لباب النقول ص ٧٥٧، وفي أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٥٦..
٢ وقيل غير ذلك فراجعه في أحكام القرآن لابن العربي الذي ذكر فيها سبعة أقوال ٤/ ١٧٥٦..
٣ الحديث رواه مالك عن يحيى بن سعيد، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار، كتاب الجهاد، باب: الكف عن المثلة والتحريق ٨/ ٧٤..
– قوله تعالى :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ :
أعلم الله تعالى في هذه الآية أن ما أخذ لبني النضير وما أخذ من فدك فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها، بل على حكم خمس المغانم، وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا، غير أن أبا دجانة سماك بن خدشة ١ وسهل بن حنيف ٢ شكوا فاقة فأعطاهما صلى الله عليه وسلم. هذا قول جماعة من أهل العلم. وذكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على عياله نفقة سنة وما بقي منها جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. قال قوم من العلماء : وكذلك كل ما افتتح على الأئمة مما لا يوجف عليه فهو لهم خاصة.
١ أبا دجانة سماك بن خدشة: هو سماك بن خدشة الخزرجي البياضي الأنصاري المعروف بأبي دجانة. صحابي شجاع. توفي سنة ١١هـ/ ٦٣٢م. انظر الإصابة ٤/ ٥٦..
٢ سهل بن حنيف: هو سهل بن حنيف بن وهب الأنصاري الأوسي، أبو سعد. صحابي شهد بدرا وثبت يوم أحد. توفي سنة ٣٨هـ/ ٦٥٨م. انظر الإصابة ٢/ ٨٤..
– وقوله تعالى :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ :
أهل القرى في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية. وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير لأنه عليه الصلاة والسلام لم يحبس من هذه لنفسه شيئا بل أمضاها لغيره. واختلف في صفة فتحها، فقيل طوعا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان حكمه حكم خمس الغنائم. وليس في الآية نسخ على هذا.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منه شيئا. وقيل بل كانت مما أوجف عليها بالخيل والركاب ولكن كان هذا حكم ما يوجف عليه ثم نسخ بما في سورة الأنفال. وقد مر الكلام على هذه ١ الآية مستوعبا هناك فأغنى عن إعادته. وهذه الآية من المشكلات إذا نظرت مع الآية التي بعدها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال، ويحصل القول فيها أنه لا خلاف في قوله تعالى :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه.... ﴾ الآية إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب وهي أموال بني النضير. وبذلك فسرها عمر رضي الله تعالى عنه ولم يخالفه أحد في ذلك، ولا خلاف في هذا النوع أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء. وأما آية الأنفال – قوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء... ﴾ الآية [ الأنفال : ٤١ ] فلا خلاف أيضا أنها نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بإيجاف الخيل والركاب، ولا خلاف أن الحكم فيه كما تضمن في الآية. أما الآية الثانية من الحشر وهي قوله تعالى :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول.... ﴾ الآية، فاختلف أهل العلم فيها، فمنهم من أضافها إلى الآية التي قبلها في الحشر ورآهما فيما يصير من الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب. ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها الخيل والركاب. وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر. ومنهم من قال إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين المذكورتين٢. واختلف الذاهبون إلى هذا في ذلك المعنى، فقيل نزلت في خراج الأرض ومال الجزية وأن ذلك موقوف لمصالح المسلمين. وقيل نزلت في حكم أرض الكفار خاصة إذا أخذت عنوة دون سائر أموالهم. فهي على هذا القول مضافة إلى آية الأنفال إلا أنها في حكم الأرض، وآية الأنفال في حكم ما عدا الأرض. فمن أهل هذه المقالة من ذهب إلى أن الأرض تقر ولا / تقسم كما يقسم سائر الغنائم واحتجوا لذلك بما فعل عمر رضي الله تعالى عنه فإنه لما فتح العراق سأل قوم من الصحابة قسمتها بينهم. فقال : إن قسمتها بينكم بقي آخر المسلمين لا شيء لهم واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله تعالى :﴿ والذين جاءوا من بعدهم... ﴾ الآية، وشاور عليا في ذلك، فأشار عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها فيها ويضع الخراج عليها ففعل ذلك. وإلى هذا ذهب مالك رحمه الله تعالى. والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة. ومن أهل هذه المقالة من ذهب إلى تخيير الإمام في ذلك فإن رأى قسمتها قسمها وإن رأى تركها تركها. قال أبو الحسن : والذي ذكر من احتجاج عمر رضي الله تعالى عنه بعيد جدا لأن قوله تعالى :﴿ والذين جاءوا من بعدهم ﴾ لا يعطي أن لهم حقا من الغنيمة وأن غير من شهد الواقعة يستحق منها شيئا. والعجب أن الذين هم في الحياة لا يستحقون إذا لم يشهدوا الوقعة فكيف يستحقها من جاء بعدهم ؟ قال : فدل ذلك على أن معنى الآية ظاهرها وهو ندب الآخرين إلى الدعاء للأولين. قال : ودل هذا على أن الحق هو ما ذهب إليه الشافعي وهو أن ما كان عنوة من الأرضين وغيرها مقسومة على حكم آية الأنفال وأن الذي صنع عمر إنما صنعه بعد استيطاب أنفس الغانمين ورأى اشتراء الأرض منهم٣. وقد مر الكلام على ترجيح قول مالك على قول غيره بما أغنى عن إعادته.
قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، روي في سبب هذه الآية أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه المواضع المفتتحة وقالوا : لنا منها سهم، فنزلت الآية تأديبا وزجرا ٤. والآية – إن كانت على سبب – فهي عامة عند جمهور العلماء في جميع الأحكام الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال قوم : إن الخمر محرمة في كتاب الله تعالى بهذه الآية. وانتزع منها ابن مسعود لعن الواشمة والمستوشمة. حكى أن امرأة من بني أسد ٥ يقال لها أم يعقوب قالت : لقد قرأت بين لوحي المصحف فما وجدته فذكر لها الآية، فقالت له المرأة : إني أرى من هذا شيئا على امرأتك، فقال : اذهبي فانظري، فذهب فنظرت فلم تر شيئا. وروي أنه رأى محرما في ثيابه المخيطة فقال له : اطرح هذا عنك. فقال له الرجل : لتقرأ علي بذلك آية في كتاب الله : فقال ابن مسعود : نعم، وتلا هذه الآية ٦.
١ "مما أوجف عليها بالخيل.... إلى: على هذه" كلام ساقط في (أ)..
٢ راجع أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٦٠..
٣ راجع قول أبي الحسن في أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤٠٦، ٤٠٧، راجع أيضا تفسير هذه الآية في أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٦٠، ١٧٦١، وفي أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣١٦ – ٣٢٥..
٤ راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٩..
٥ في (أ)، (ز): "من بني إسرائيل"..
٦ راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨..
– قوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين... ﴾ إلى قوله :﴿ ورضوانا ﴾ : أي الغنائم للفقراء ومن ذكر بعدهم من المهاجرين الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ والذين تبوأوا الدار ﴾ وهم الأنصار، ﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ يعني كل من جاء بعد الصحابة من المسلمين الذين هم على الصفة المذكورة، فساق هذه الأصناف الثلاثة تبيينا لقوله :﴿ والمساكين وابن السبيل ﴾ وهو بدل منه بإعادة حرف الجر. والكلام في هذا يطول وليس فيه ما يتعلق بالأحكام فيضطر إلى ذكره.
– قوله تعالى :﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ﴾، بهذه ١ الآية قال مالك وغيره إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض فلا حض له في الفيء أدبا له ٢.
١ "بهذه" كلمة ساقطة في (ب)، (د)، (هـ)..
٢ قال ابن العربي: قال مالك: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حق له في الفيء. راجع ذلك في أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٦٦..
Icon