تفسير سورة الحشر

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الحشر
هذه السورة مدنية. وقيل : نزلت في بني النضير، وتعد من المدينة لتدانيها منها. وكان بنو النضير صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لا يكونوا عليه ولا له. فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة، لا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أُحد، ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة، وكان أخاه من الرضاعة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، منصرفه من بئر معونة ؛ فهموا بطرح الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله تعالى. فلما قتل كعب، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة. فساروا، وهو عليه الصلاة والسلام على حمار مخطوم بليف، فوجدهم ينوحون على كعب، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك، فقال : اخرجوا من المدينة، فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك، وتنادوا بالحرب. وقيل : استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج. ودس المنافق عبد الله بن أبيّ وأصحابه أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم، وإن أخرجتم لنخرجن معكم. فدرّبوا على الآزفة وحصنوها، ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك، فإن صدقوا آمنا كلنا، ففعل، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، ففعلوا، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك. فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها، وكان مسلماً، فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فساره بخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم. فلما كان من الغد، غدا عليهم بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين، فطلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أحطب، فلحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً. وكان ابن أبي قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فلما نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضاً، ذكر أيضاً ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم، وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام ممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش.

ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ
سورة الحشر
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٢٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣) لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩)
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
133
اللِّينَةُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَنَّهُ لَوْنٌ مِنَ النَّخِيلِ، أَيْ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَأَصْلُهَا لَوْنُهُ، قَلَبُوا الْوَاوِ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ:
قَدْ شَجَانِي الْأَصْحَابُ لَمَّا تَغَنَّوْا بِفِرَاقِ الْأَحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ
انْتَهَى. وَجَمْعُهَا لَيْنٌ، كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَقَدْ كَسَرُوهُ عَلَى لِيَانٍ، وَتَكْسِيرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ شَاذٌّ، كَرُطَبَةٍ وَرُطَبٍ، شَذُّوا فِيهِ فَقَالُوا: أَرْطَابٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَسَالِفَةٌ كسحقوق اللِّيَانِ أَضْرَمَ فِيهَا الْغَوِيُّ السُّعُرْ
وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ: اللِّيَانُ جَمْعُ لِينَةٍ، وَهِيَ النَّخْلَةُ. انْتَهَى، وَتَأْتِي أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي اللِّينَةِ. أَوْجَفَ الْبَعِيرَ: حَمَلَهُ عَلَى الْوَجِيفِ، وَهُوَ السَّيْرُ السَّرِيعُ. تَقُولُ: وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا وَوَجِيفًا وَوَجْفَانًا قَالَ الْعَجَّاجُ:
نَاجٍ طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا وَقَالَ نَصِيبٌ:
أَلَا رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قَطَعْتُ وَجِيفَهُمْ إِلَيْكِ وَلَوْلَا أَنْتِ لَمْ يُوجِفِ الرَّكْبُ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
135
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَتُعَدُّ مِنَ الْمَدِينَةِ لِتَدَانِيهَا مِنْهَا.
وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ. فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَعَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ. فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، ارْتَابُوا وَنُكِثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ الَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ فَهَمُّوا بِطَرْحِ الْحَجَرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ، أُمِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا الزُّهْرَةُ. فَسَارُوا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِلِيفٍ، فَوَجَدُهُمْ يَنُوحُونَ عَلَى كَعْبٍ، وَقَالُوا: ذَرْنَا نَبْكِي شُجُونًا ثُمَّ مُرْ أَمْرَكَ، فَقَالَ: «اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ»، فَقَالُوا:
الْمَوْتُ أَقْرَبُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ، وَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ. وَقِيلَ: اسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ.
وَدَسَّ الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ أَنْ لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدُرِّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَيَخْرُجُ مِنَّا ثَلَاثُونَ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا، فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَفَعَلُوا، فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ وَأَرَادُوا الْفَتْكَ.
فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةً إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ، فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ، فَجَلَوْا إلى الشام إلى أريحا وَأَذْرِعَاتٍ، إِلَّا أَهْلَ بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلَ أَبِي الْحَقِيقِ وآل حيي بن أحطب، فَلَحِقُوا بِخَيْبَرَ، وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ بِالْحِيرَةِ، وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فَوَجَدَ خَمْسِينَ دِرْعًا وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا. وَكَانَ ابْنُ أُبَيٍّ قَدْ قَالَ لَهُمْ: مَعِي أَلْفَانِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرِهِمْ، وَتَمُدُّكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ. فَلَمَّا نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ وَخَذَلَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ.
136
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ذَكَرَ أَيْضًا مَا حَلَّ بِالْيَهُودِ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَلَائِهِمْ، وَإِمْكَانِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَرَامَ الْغَدْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ بِحِلْفِهِمْ مَعَ قُرَيْشٍ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ الَّتِي يَشْمَلُهَا الْعُمُومُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِمَا، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: هُمْ قُرَيْظَةُ، وَكَانَتْ قَبِيلَةً عَظِيمَةً تُوَازِنُ فِي الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيُقَالُ لَهُمَا الْكَاهِنَانِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ، نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. مِنْ دِيارِهِمْ: يَتَعَلَّقُ بأخرج، ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِبَرِيَّةٍ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، فَبَنَوْا فِيهَا وَأَنْشَئُوا. وَاللَّامُ فِي لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تتعلق بأخرج، وَهِيَ لَامُ التَّوْقِيتِ، كَقَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «١»، وَالْمَعْنَى: عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ لِلتَّوْجِيهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا. وَالْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا هُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حُشِرُوا وَلَا أُجْلُوا وَإِنَّمَا قُتِلُوا، وَهَذَا الْحَشْرُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِإِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ. وَقِيلَ الْحَشْرُ هُوَ حَشْرُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَتَائِبَ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ، وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ. وَأَوَّلُ يَقْتَضِي ثَانِيًا، فَقِيلَ: الْأَوَّلُ حَشْرُهُمْ لِلْجَلَاءِ، وَالثَّانِي حَشْرُ عُمَرَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ وَجَلَاؤُهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَلَاءِ أَهْلِ خَيْبَرَ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ حَشْرَ الْقِيَامَةِ، أَيْ هَذَا أَوَّلُهُ، وَالْقِيَامُ مِنَ الْقُبُورِ آخِرُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ:
الْمَعْنَى: الْأَوَّلُ مَوْضِعُ الْحَشْرِ، وَهُوَ الشَّامُ.
وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِبَنِي النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا»، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ».
وَقِيلَ: الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهَذَا الْجَلَاءُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ نُسِخَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ.
مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، لِعِظَمِ أَمْرِهِمْ وَمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَوَثَاقَةِ حُصُونِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ حَرْبِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ. وَلَمَّا كَانَ ظَنُّ الْمُؤْمِنِينَ مَنْفِيًّا هُنَا، أُجْرِيَ مُجْرَى نَفْيِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، فَتَسَلَّطَ عَلَى أَنِ النَّاصِبَةِ للفعل، كما
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٨.
137
يَتَسَلَّطُ الرَّجَاءُ وَالطَّمَعُ. وَلَمَّا كَانَ ظَنُّ الْيَهُودِ قَوِيًّا جِدًّا يَكَادُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعِلْمِ تَسَلَّطَ عَلَى أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَصْحَبُهَا غَالِبًا فِعْلُ التَّحْقِيقِ، كَعَلِمْتَ وَتَحَقَّقْتَ وَأَيْقَنْتَ، وَحُصُونُهُمُ الْوَصْمُ وَالْمِيضَاةُ وَالسَّلَالِيمُ وَالْكَثِيبَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِكَ:
وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ أَوْ مَانِعَتُهُمْ، وَبَيْنَ النَّظْمِ الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ وُثُوقِهِمْ بِحَصَانَتِهَا وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ، وَفِي تَصْيِيرِ ضَمِيرِهِمُ اسْمًا لِأَنَّ وَإِسْنَادِ الْجُمْلَةِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَمَنْعَةٍ لَا يُبَالِي مَعَهَا بِأَحَدٍ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَوْ يَطْمَعُ فِي مُعَازَّتِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِكَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ.
انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّ حُصُونَهُمْ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وما نعتهم الْخَبَرُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا، بَلِ الرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ حُصُونُهُمْ فَاعِلَةً بِمَانِعَتِهِمْ، لِأَنَّ فِي تَوْجِيهِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَفِي إِجَازَةِ مِثْلِهِ مِنْ نَحْوِ:
قَائِمٌ زَيْدٌ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ خِلَافٌ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَنْعُهُ.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ: أَيْ بَأْسَهُ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا: أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَهُوَ قَتْلُ رَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أَضْعَفَ قُوَّتَهُمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَلَبَ قُلُوبَهُمُ الْأَمْنَ وَالطُّمَأْنِينَةَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: خَرَّبَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَارِجٍ لِيَدْخُلُوا، وَخَرَّبُوا هُمْ مِنْ دَاخِلٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا: كَانُوا كُلَّمَا خَرَّبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ، هَدَمُوا هُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، خَرَّبُوا الْحِصْنَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانُوا، لَمَّا أُبِيحَ لَهُمْ مَا تَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِبِلُ، لَا يَدَعُونَ خَشَبَةً حَسَنَةً وَلَا سَارِيَةً إِلَّا قَلَعُوهَا وَخَرَّبُوا الْبُيُوتَ عَنْهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِسْنَادُ التَّخْرِيبِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُحَاصَرَتُهُمْ إِيَّاهُمْ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: شَحُّوا عَلَى بَقَائِهَا سَلِيمَةً، فَخَرَّبُوهَا إِفْسَادًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَأَبُو عمرو: يخربون مُشَدَّدًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُخَفَّفًا، وَالْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عُدِّيَ خَرِبَ اللَّازِمُ بِالتَّضْعِيفِ وَبِالْهَمْزَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ فِي الْقِرَاءَاتِ التَّشْدِيدُ الِاخْتِيَارُ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:
خَرَّبَ بِمَعْنَى هَدَّمَ وَأَفْسَدَ، وَأَخْرَبَ: تَرَكَ الْمَوْضِعَ خَرَابًا وَذَهَبَ عَنْهُ. فَاعْتَبِرُوا: تَفَطَّنُوا لِمَا دَبَّرَ اللَّهُ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ.
وَقِيلَ: وَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُورِثَهُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَالَ: فَكَانَ كَمَا قَالَ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا
: أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى قَضَى أَنَّهُ سَيُجْلِيهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيَبْقَوْنَ مُدَّةً يُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ وَيُولَدُ لِبَعْضِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ،
138
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، كَمَا فَعَلَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ عَصَوْا مُوسَى فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَقْتُلُوا الْغُلَامَ ابْنَ مَلِكِ الْعَمَالِيقِ، تَرَكُوهُ لِجِمَالِهِ وَعَقْلِهِ.
وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَسْتَحْيُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الشَّامِ، وَجَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَاتَ.
فَقَالَ لَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ عُصَاةٌ، وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُمْ عَلَيْنَا بِلَادَنَا، فَانْصَرَفُوا إِلَى الْحِجَازِ، فَكَانُوا فِيهِ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءُ الَّذِي أَجْلَاهُ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ جَلَاءً، فَنَالَهُمْ هَذَا الْجَلَاءُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَالْقَتْلِ، كَأَهْلِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَيُقَالُ: جَلَا الْقَوْمُ عَنْ مَنَازِلِهِمْ وَأَجْلَاهُمْ غَيْرُهُمْ. قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَلَاءِ وَالْإِخْرَاجِ: أَنَّ الْجَلَاءَ مَا كَانَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالْإِخْرَاجُ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْجَلَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِجَمَاعَةٍ، وَالْإِخْرَاجُ قَدْ يَكُونُ لِوَاحِدٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْجَلَاءُ مَمْدُودًا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ: مَقْصُورًا وَطَلْحَةُ:
مَهْمُوزًا مِنْ غَيْرِ ألف كالبنأ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ: أَيْ إِنْ نَجُوا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، لَمْ يَنْجُوا فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ طلحة: وَمَنْ يُشَاقِقْ بِالْإِظْهَارِ، كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْأَنْفَالِ وَالْجُمْهُورُ بِالْإِدْغَامِ. كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ شَرَعَ فِي بَعْضِ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ يَقْطَعُ وَيَحْرِقُ، وَذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَرْبِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا الْإِفْسَادُ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ تَنْهَى عَنِ الْإِفْسَادِ؟ فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ، وَنَزَلَ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَإِخْبَارًا أَنَّ ذَلِكَ بِتَسْوِيغِ اللَّهِ وَتَمْكِينِهِ لِيُخَرِّبَكُمْ بِهِ وَيُذِلَّكُمْ. وَاللِّينَةُ وَالنَّخْلَةُ اسْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ قُيُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ عَلَى لِينَةٍ سَوْقَا يهفو حيونها
وَقَالَ آخَرُ:
طِرَاقُ الْحَوَامِي واقع فوق لينة يدي ليلة في ولشه يَتَرَقْرَقُ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: هِيَ النَّخْلَةُ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ:
الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّخْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسُفْيَانُ: مَا ثَمَرُهَا لَوْنٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يُقَالُ لَهُ اللَّوْنُ. قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يَشِفُّ عَنْ نَوَاهُ فَيُرَى مِنْ خَارِجٍ. وَقَالَ أَيْضًا أَبُو عُبَيْدَةَ:
اللِّينُ: أَلْوَانُ النَّخْلِ الْمُخْتَلِطَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عَجْوَةٌ وَلَا بَرْنِيٌّ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هِيَ الْعَجْوَةُ،
وَقِيلَ: هِيَ السَّيَلَانُ، وَأَنْشَدَ فِيهِ:
139
غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرًى مَعِينٍ ثُمَّ حُفَّ النَّخِيلُ بِالْآجَامِ
وَقِيلَ: هِيَ أَغْصَانُ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ أَصْلُ الْيَاءِ الْوَاوَ. وَقِيلَ: هِيَ النَّخْلَةُ الْقَصِيرَةُ. وقال الأصمعي: هي الدفل، وَمَا شَرْطِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِقَطَعْتُمْ، وَمِنْ لِينَةٍ تَبْيِينٌ لِإِبْهَامٍ مَا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ فَقَطَعَهَا أَوْ تَرَكَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قائِمَةً، أَنَّثَ قَائِمَةً، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكْتُمُوها عَلَى مَعْنَى مَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: قِوَمًا عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ، كَضِرَبٍ جَمْعُ قَائِمٍ. وقرىء: قَائِمًا اسْمَ فَاعِلٍ، فَذُكِّرَ عَلَى لَفْظِ مَا، وَأُنِّثَ في على أصولها. وقرىء: أَصْلِهَا بِغَيْرِ وَاوٍ.
وَلَمَّا جَلَا بَنُو النَّضِيرِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَتَرَكُوا رَبَاعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ تَخْمِيسَهَا كَغَنَائِمِ بَدْرٍ، فَنَزَلَتْ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ: بَيَّنَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ فَيْءٌ، لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا خَيْلٌ وَلَا رِكَابٌ وَلَا قُطِعَتْ مَسَافَةٌ، إِنَّمَا كَانُوا مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَشَوْا مَشْيًا، وَلَمْ يَرْكَبْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَآثَرَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ وَقَسَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ وَالْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ، أَعْطَاهُمْ لِفَقْرِهِمْ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَأَفَاءَ بِمَعْنَى:
يَفِيءُ، وَلَا يَكُونُ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ إِذَا كَانَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ شُبِّهَتْ بِاسْمِ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ جَلَائِهِمْ، كَانَتْ مُخْبِرَةً بِغَيْبٍ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَتْ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ حُصُولِ أَمْوَالِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَحُكْمُ الْمَاضِي الْمُتَقَدِّمِ حُكْمُهُ. وَمَنْ فِي: مِنْ خَيْلٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَالرِّكَابُ: الْإِبِلُ، سَلَّطَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا كَانَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَى الْأَئِمَّةِ مِمَّا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً.
مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَدْخُلِ الْعَاطِفُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْأُولَى، فَهِيَ مِنْهَا غَيْرُ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهَا. بَيَّنَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَصْنَعُ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَضَعُ الْخُمْسَ مِنَ الغنائم مقسوم عَلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَهْلُ الْقُرَى الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أَهْلُ الصَّفْرَاءِ وَيَنْبُعَ وَوَادِي الْقُرَى وَمَا هُنَالِكَ مِنْ قُرَى الْعَرَبِ الَّتِي تُسَمَّى قُرَى عُرَيْنَةَ، وَحُكْمُهَا مُخَالِفٌ
140
لِبَنِي النَّضِيرِ، وَلَمْ يَحْبِسْ مِنْ هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، بَلْ أَمْضَاهَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فُتِحَتْ. انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَيْ لَا يَكُونَ بِالْيَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَهِشَامٌ: بِالتَّاءِ.
وَالْجُمْهُورُ: دُولَةً بِضَمِّ الدَّالِ وَنَصْبِ التَّاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَهِشَامٌ: بِضَمِّهَا وَعَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَحُذَّاقُ الْبَصْرَةِ:
الْفَتْحُ فِي الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ لِأَنَّهَا الْفَعْلَةُ فِي الدَّهْرِ، وَالضَّمُّ فِي الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ.
وَالضَّمِيرُ فِي تَكُونَ بِالتَّأْنِيثِ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَا، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْوَالُ وَالْمَغَانِمُ، وَذَلِكَ الضَّمِيرُ هُوَ اسْمُ يَكُونَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى لَفْظِ مَا، أَيْ يَكُونَ الْفَيْءُ، وَانْتَصَبَ دُولَةً عَلَى الْخَبَرِ. وَمَنْ رَفَعَ دُولَةً فتكون تَامَّةٌ، وَدُولَةٌ فَاعِلٌ، وَكَيْلَا يَكُونَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ فَالْفَيْءُ وَحُكْمُهُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، يُقَسِّمُهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَيْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دُولَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ، كَمَا كَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنَائِمِ وَيَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْ لَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً وَأَثَرَةً جَاهِلِيَّةً.
وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْقُرَى الْمُفْتَتَحَةِ وَقَالُوا: لَنَا مِنْهَا سَهْمُنَا، فَنَزَلَ
: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وَعَنِ الكلبي: أن رؤوسا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ صَفِيَّكَ وَالرُّبُعَ وَدَعْنَا وَالْبَاقِيَ، فَهَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَ:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ، وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَةُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ وَالْغَنَائِمُ وَغَيْرُهَا حَتَّى إِنَّهُ قَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْعُمُومِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمِ الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ، وَتَحْرِيمِ الْمَخِيطِ لِلْمُحْرِمِ.
وَمِنْ غَرِيبِ الْحِكَايَاتِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ: أَنَّ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكُمْ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتدوا باللذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ».
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي فِي
141
الْإِحْرَامِ. بَيَّنَ أَنَّهُ يُقْتَدَى بِعُمَرَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَبُولِ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
لِلْفُقَراءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَالَّذِي مَنَعَ الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْرَجَ رَسُولَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّهُ يَتَرَفَّعُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْفَقِيرِ، وَأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ خِلَافِ الْوَاجِبِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَعَلَا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ:
وَلِذِي الْقُرْبى، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْقُرْبَى الْفَقِيرُ. فَالْفَقْرُ شَرْطٌ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَيَرَى أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْقَرَابَةُ، فَيَأْخُذُ ذُو الْقُرْبَى الْغَنِيُّ لِقَرَابَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَكُرِّرَتْ لَامُ الْجَرِّ لَمَّا كَانَتِ الْأُولَى مَجْرُورَةً بِاللَّامِ، لِيُبَيِّنَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، أَيْ وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ. انْتَهَى. ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ بِمَا يَقْتَضِي فَقْرَهُمْ وَيُوجِبُ الْإِشْفَاقَ عَلَيْهِمْ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ: أَيْ فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ، فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاشْتِرَاكُ
142
فِيمَا يُقَسَّمُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يُحِبُّونَ. أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ الجليلة، كما أنثى عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِقَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا إِلَخْ، وَالْإِيمَانَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدَّارَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، وَالْإِيمَانُ لَيْسَ مَكَانًا فَيُتَبَوَّأُ. فَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، أَيْ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ وَأَخْلَصُوا فِيهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ يكون ضمن تَبَوَّؤُا مَعْنَى لَزِمُوا، وَاللُّزُومُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الدَّارِ وَالْإِيمَانِ، فَيَصِحُّ الْعَطْفُ. أَوْ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ قَدْ شَمِلَهُمْ، صَارَ كَالْمَكَانِ الَّذِي يُقِيمُونَ فِيهِ، لَكِنْ يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ الْإِيمَانِ، فَأَقَامَ لَامَ التَّعْرِيفِ فِي الدَّارِ مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَحَذَفَ الْمُضَافَ مِنْ دَارِ الْإِيمَانِ وَوَضَعَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ سَمَّى الْمَدِينَةَ، لِأَنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَكَانُ ظُهُورِ الْإِيمَانِ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى تبوؤا الدَّارَ مَعَ الْإِيمَانِ مَعًا، وَبِهَذَا الِاقْتِرَانِ يَصِحُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِمْ فَتَأَمَّلْهُ. انْتَهَى. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِهِمْ: مِنْ قَبْلِ هِجْرَتِهِمْ، حاجَةً: أَيْ حَسَدًا، مِمَّا أُوتُوا: أَيْ مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ، وَنِعْمَ الْحَاجَةُ مَا فَعَلَهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي إِعْطَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَالْقُرَى.
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ: مِنْ ذَلِكَ
قِصَّةُ الْأَنْصَارِيِّ مَعَ ضَيْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا ما يأكل الصبية، فأوهمهم أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ»،
فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي إِيثَارِهِمْ. وَالْخَصَاصَةُ: الْفَاقَةُ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَصَاصِ الْبَيْتِ، وَهُوَ مَا يَبْقَى بَيْنَ عِيدَانِهِ مِنَ الْفُرَجِ: وَالْفُتُوحِ، فَكَأَنَّ حَالَ الْفَقِيرِ هِيَ كَذَلِكَ، يَتَخَلَّلُهَا النَّقْصُ وَالِاحْتِيَاجُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: شِحٌّ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَالشُّحُّ: اللُّؤْمُ، وَهُوَ كَزَازَةُ النَّفْسِ عَلَى مَا عِنْدَهَا، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا
وَأُضِيفَ الشُّحُّ إِلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا. وَقَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ «١»،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى في النائبة فقد برىء من الشح».
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ من
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢٨.
143
الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمُ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَنْ آمَنَ أَوْ كَفَرَ فِي آخِرِ مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ مَنْ يَجِيءُ مِنَ التَّابِعِينَ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: أَيْ مِنْ بَعْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ، وَهَؤُلَاءِ تَأَخَّرَ إِيمَانُهُمْ، أَوْ سَبَقَ إِيمَانُهُ وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ حَتَّى انْقَرَضَ مُعْظَمُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَكُونُ مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: أَيْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِ الْمُهَاجِرِينَ، مُهَاجِرِيهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ. وَإِذَا كَانَ وَالَّذِينَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مُشَارِكُو مَنْ تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الْفَيْءِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: قَرَأَ عَمْرٌو: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ «١» الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ «٢»، فَقَالَ: وَهَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ حَتَّى بَلَغَ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إِلَى وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَنُؤْتِيَنَّ الرَّاعِيَ، وَهُوَ يَسِيرُ نَصِيبَهُ مِنْهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ اسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فِيمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ آخِرُهُ أَنَّهُ تَلَا: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قَالَ: هِيَ لِهَؤُلَاءِ فقط، وتلا: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ، إِلَى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ ثُمَّ قَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَوْلَا مَنْ يَأْتِي مِنْ آخِرِ النَّاسِ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَّمْتُهَا، كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ.
وقيل: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، مَعْطُوفٌ عَطْفَ الْجُمَلِ، لَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ فَإِعْرَابُهُ: وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، نُدِبُوا بِالدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِينَ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ لِإِيمَانِهِمْ وَمَحَبَّةِ أَسْلَافِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ يَقُولُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، قيل: أو حال.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي، وَرِفَاعَةَ بْنِ التَّابُوتِ، وَقَوْمٍ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ الْمَحْكِيَّةُ بِقَوْلِهِ:
يَقُولُونَ، وَاللَّامُ فِي لِإِخْوانِهِمُ لِلتَّبْلِيغِ، وَالْأُخُوَّةُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةُ الْكُفْرِ وَمُوَالَاتُهُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ: أَيْ فِي قِتَالِكُمْ، أَحَداً: مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ لَا نُطِيعُ فِيكُمْ:
أَيْ فِي خُذْلَانِكُمْ وَإِخْلَافِ مَا وَعَدْنَاكُمْ مِنَ النصرة، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ: جواب قسم محذوف
(١) سورة التوبة: ٩/ ٦٠.
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ٤١.
144
قَبْلَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَجَوَابُ إِنْ مَحْذُوفٌ، وَالْكَثِيرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِثْبَاتُ اللَّامِ الْمُؤْذِنَةُ بِالْقَسَمِ قَبْلَ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَمِنْ حَذْفِهَا قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ «١»، التَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَكَاذِبُونَ، أَيْ فِي مَوَاعِيدِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْرُجُوا حِينَ أُخْرِجَ بَنُو النَّضِيرِ، بَلْ أَقَامُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَهَذَا إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِإِخْوانِهِمُ أَنَّهُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَقِيلَ: هُمْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ، وَالضَّمَائِرُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: فِيهَا اخْتِلَافٌ، أَيْ لَئِنْ أُخْرِجَ الْيَهُودُ لَا يَخْرُجُ الْمُنَافِقُونَ، وَلَئِنْ قُوتِلَ الْيَهُودُ لَا يَنْصُرُهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَلَئِنْ نَصَرَ الْيَهُودُ الْمُنَافِقِينَ لَيُوَلِّي الْيَهُودُ الْأَدْبَارَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَكَيْفَ يَأْتِي وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ؟ فَأَخْرَجَهُ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُمْ، فَلَا يُمْكِنُ نَصْرُهُمْ إِيَّاهُمْ بَعْدَ إِخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّمَائِرُ مُتَّفِقَةً، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «٢»، وَكَمَا يُعْلَمُ مَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ: وَلَئِنْ خَالَفُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ، وَفِي ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَفْرُوضِ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ، أَيْ وَلَئِنْ نَصَرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ لَيُوَلُّنَّ الْمُنَافِقُونَ الْأَدْبَارَ، ثُمَّ لَا يُنْصَرُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي التَّوَلِّي عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَكَذَا فِي لَا يُنْصَرُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْأَفْعَالُ غَيْرَ مَجْزُومَةٍ فِي قوله:
لا يَخْرُجُونَ ولا يُنْصَرُونَ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ عَلَى حُكْمِ الْقَسَمِ، لَا عَلَى حُكْمِ الشَّرْطِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى. وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا؟ وَهَذَا جَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ كَانَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَانَ فِعْلُهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ، أَوْ مَجْزُومًا بِلَمْ، وَلَهُ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُ طَالِبُ خَبَرٍ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ لَهُ. وَقَدْ أَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يُجَابَ الشَّرْطُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَسَمَ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ. ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَخَافُونَكُمْ أَشَدَّ خِيفَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ عَاجِلَ شَرِّكُمْ، وَلِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَا يَتَوَقَّعُونَ أَجَلَ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لقلة فهمهم، ورهبة: مَصْدَرُ رَهِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَشَدُّ مَرْهُوبِيَّةً، فَالرَّهْبَةُ وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْمُخَاطَبُونَ مَرْهُوبُونَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ:
فَلَهُوَ أخوف عندي إذا أُكَلِّمُهُ وَقِيلَ إِنَّكَ مَأْسُورٌ ومقتول
(١) سورة المائدة: ٥/ ٧٣.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٥.
145
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الْأَرْضِ مُخْدِرَةً بِبَطْنِ عِثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَخُوفٌ لَا خَائِفٌ، وَالضَّمِيرُ فِي صُدُورِهِمْ. قِيلَ: لِلْيَهُودِ، وَقِيلَ:
لِلْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: لِلْفَرِيقَيْنِ. وجعل المصدر مَقَرًّا لِلرَّهْبَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْهُمْ بِحَيْثُ صَارَتِ الصُّدُورُ مَقَرًّا لَهَا، وَالْمَعْنَى: رَهْبَتُهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
لَا يُقاتِلُونَكُمْ: أَيْ بَنُو النَّضِيرِ وَجَمِيعُ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ جَمِيعاً: أَيْ مُجْتَمِعِينَ مُتَسَانِدِينَ يُعَضِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ: لَا فِي الصَّحْرَاءِ لِخَوْفِهِمْ مِنْكُمْ، وَتَحْصِينِهَا بِالدُّرُوبِ وَالْخَنَادِقِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ يَتَسَتَّرُونَ بِهِ مِنْ أَنْ تُصِيبُوهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جُدُرٍ بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ جِدَارٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِإِسْكَانِ الدَّالِ تَخْفِيفًا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَكِّيِّينَ: جِدَارٍ بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَكِّيِّينَ، وَهَارُونَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: جَدْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُوَ وَاخِذٌ بِلُغَةِ الْيَمَنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ أَصْلُ بُنْيَانٍ كَالسُّورِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من جِدْرِ النَّخْلِ، أَيْ مِنْ وَرَاءِ نَخْلِهِمْ، إِذْ هِيَ مِمَّا يُتَّقَى بِهِ عِنْدَ الْمُصَافَّةِ. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ: أَيْ إِذَا اقْتَتَلُوا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. كَانَ بَأْسُهُمْ شَدِيدًا أَمَّا إِذَا قَاتَلُوكُمْ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ بَأْسٌ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خُذِلَ. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً: أَيْ مُجْتَمِعِينَ، ذَوِي أُلْفَةٍ وَاتِّحَادٍ. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى: أَيْ وَأَهْوَاؤُهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ، وَكَذَا حَالُ الْمَخْذُولِينَ، لَا تَسْتَقِرُّ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ الشَّتَاتِ هُوَ انْتِفَاءُ عُقُولِهِمْ، فَهُمْ كَالْبَهَائِمِ لَا تَتَّفِقُ عَلَى حَالَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
شَتَّى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ وَمُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: مُنَوَّنًا، جَعَلَهَا أَلِفَ الْإِلْحَاقِ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ: أَيْ أَشَدُّ تَفَرُّقًا، وَمِنْ كَلَامِ العرب: شتى تؤوب الْحَلْبَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى اللَّهِ أشكوا فِتْيَةً شَقَّتِ الْعَصَا هِيَ الْيَوْمَ شَتَّى وَهِيَ أَمْسِ جَمِيعُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ، لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ
146
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
كَمَثَلِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَثَلُهُمْ، أَيْ بَنِي النَّضِيرِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً:
وَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ، أَجْلَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَنِي النَّضِيرِ فَكَانُوا مَثَلًا لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
أو أَهْلُ بَدْرٍ الْكُفَّارُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَتَلَهُمْ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ فِي أَنْ غُلِبُوا وَقُهِرُوا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ قَبْلِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: مُنَافِقُو الأمم الماضية، غلبوا ودلوا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَهَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ. وَيُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ لَفْظَةُ قَرِيباً إِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَقَرِيبًا ظَرْفُ زَمَانٍ وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَعْمُولًا لَذَاقُوا، أَيْ ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ قَرِيبًا مِنْ عِصْيَانِهِمْ، أَيْ لَمْ تَتَأَخَّرْ عُقُوبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَمْ تَتَأَخَّرْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ: لَمَّا مَثَّلَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، ذَكَرَ مَثَلَهُمْ مَعَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْمُنَافِقُونَ كَالشَّيْطَانِ، وَبَنُو النَّضِيرِ كَالْإِنْسَانِ، وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْإِنْسَانَ اسْمَا جِنْسٍ يُوَرِّطُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَفِرُّ مِنْهُ. كَذَلِكَ أَغْوَى الْمُنَافِقُونَ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَرَّضُوهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ، وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ. فَلَمَّا نَشَبَ بَنُو النَّضِيرِ، خَذَلَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَتَرَكُوهُمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ اسْتِغْوَاءُ الشَّيْطَانِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ لَهُمْ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ «١». وَقِيلَ: التَّمْثِيلُ بِشَيْطَانٍ مَخْصُوصٍ مَعَ عَابِدٍ مَخْصُوصٍ اسْتُودِعَ امْرَأَةً، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَخَشِيَ الْفَضِيحَةَ، فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا. سَوَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، ثُمَّ شَهَرَهُ، فَاسْتُخْرِجَتْ فَوُجِدَتْ مَقْتُولَةً وَكَانَ قَالَ إِنَّهَا مَاتَتْ وَدَفَنْتُهَا، فَعَلِمُوا بِذَلِكَ، فَتَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ: اكْفُرْ وَاسْجُدْ لِي وَأَنَا أُنَجِّيكَ، فَفَعَلَ وَتَرَكَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْكَ. وَقَوْلُ الشَّيْطَانِ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رِيَاءٌ، وَلَا يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ عَنْ سُوءٍ يُوقِعُ ابْنَ آدَمَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عاقِبَتَهُما بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَسَلِيمُ بْنُ أَرْقَمَ: بِرَفْعِهِمَا. وَالْجُمْهُورُ: خالِدَيْنِ بِالْيَاءِ حالا، وفِي النَّارِ خَبَرُ أَنَّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ علي وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَبْلَةَ: بِالْأَلِفِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ، وَالظَّرْفُ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ قَدْ أُكِّدَ بِقَوْلِهِ: فِيها، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مذهب
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٤٨.
147
سِيبَوَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُكِّدَ عِنْدَهُمْ لَا يُلْغَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ خَبَرًا، لِأَنَّ خالِدَيْنِ خَبَرٌ ثَانٍ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.
وَلَمَّا انْقَضَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَصْفُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ. وَعَظَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُصِيبَةِ لَهَا مَوْقِعٌ فِي النَّفْسِ لِرِقَّةِ الْقُلُوبِ وَالْحَذَرِ مِمَّا يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ لِاخْتِلَافٍ مُتَعَلِّقٍ بِالتَّقْوَى. فَالْأُولَى فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْعَمَلِ وَالثَّانِيَةُ فِي تَرْكِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلْتَنْظُرْ: أَمْرًا، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ: بِكَسْرِهَا.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ وَالْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقِيَامَةِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْغَدِ، وَهُوَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَمْ يَزَلْ يُقِرُّ بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْغَدِ، وَنَحْوُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، يُرِيدُ تَقْرِيبَ الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْآخِرَةِ بِالْغَدِ، كَأَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَهَارَانِ، يَوْمٌ وَغَدٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِغَدٍ: لِيَوْمِ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كَغَدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: بِالْأَمْسِ الدُّنْيَا وَغَدٌ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا تَنْكِيرُ النَّفْسِ فَاسْتِقْلَالٌ لِلْأَنْفُسِ النَّوَاظِرِ فِيمَا قَدَّمْنَ لِلْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ: قِيلَ لِغَدٍ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لِعِظَمِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسٌ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْجِنْسِ كَالَّذِينَ نَسُوا:
هُمُ الْكُفَّارُ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَامْتِثَالَ مَا أَمَرَ وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَرْطِ غَفْلَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. عُوقِبُوا عَلَى نِسْيَانِ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ سُفْيَانُ: الْمَعْنَى حَظُّ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مُبَايَنَةَ الْفَرِيقَيْنِ: أَصْحَابُ النَّارِ فِي الْجَحِيمِ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ، كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «١»، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «٢».
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ «٣»، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ «٤»، وَالْغَرَضُ تَوْبِيخُ الْإِنْسَانِ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ، وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ لِهَذَا الَّذِي لَوْ أنزل على
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ١٨.
(٢) سورة ص: ٣٨/ ٢٨.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٧٢.
(٤) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٣. [.....]
148
الْجَبَلِ لَتَخَشَّعَ وَتَصَدَّعَ. وَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ عَلَى عِظَمِهِ وَتَصَلُّبِهِ يَعْرِضُ لَهُ الْخُشُوعُ وَالتَّصَدُّعُ، فَابْنُ آدَمَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَلَى حَقَارَتِهِ وَضَعْفِهِ لَا يَتَأَثَّرُ. وقرأ طلحة: مُصَّدِّعًا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ وَأَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو دِينَارٍ الْأَعْرَابِيُّ: الْقَدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْفَكِّ وَالضَّمِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُؤْمِنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى أَمَّنَ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ:
الْمُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهُمْ آمَنُوا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أَوْ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: الْمُصَدِّقُ نَفْسَهُ فِي أَقْوَالِهِ الْأَزَلِيَّةِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بن الْحُسَيْنِ، وَقِيلَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: الْمُؤْمَنُ بِفَتْحِ الْمِيمِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمَنُ بِهِ وَكَانَ جَائِزًا، لَكِنَّ الْمُؤْمَنَ الْمُطْلَقَ بِلَا حَرْفِ جَرٍّ يَكُونُ مِنْ كَانَ خَائِفًا فَأُومِنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْمُؤْمَنُ بِهِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا تَقُولُ فِي قَوْمِ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «١» : الْمُخْتَارُونَ. الْمُهَيْمِنُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
الْجَبَّارُ: الْقَهَّارُ الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا أَرَادَ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يُدَانِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُلْحَقُ، وَمِنْهُ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إِذَا لَمْ تُلْحَقُ، وَقَالَ امرؤ القيس:
سوابق جبار أتيت فُرُوعُهُ وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْعَظِيمُ، وَجَبَرُوتُهُ: عَظَمَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِصْلَاحُ. جَبَرْتُ الْعَظْمَ: أَصْلَحْتُهُ بَعْدَ الْكَسْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ: قَهَرَهُ، قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي جَبَّارٍ وَدَرَّاكٍ. انْتَهَى، وَسُمِعَ أَسَّارٌ فَهُوَ أَسَارُ.
الْمُتَكَبِّرُ: الْمُبَالِغُ فِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ. وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، الْخالِقُ:
الْمُقَدِّرُ لِمَا يُوجِدُهُ. الْبارِئُ: الْمُمَيِّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، الْمُصَوِّرُ: الْمُمَثِّلُ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَالْحَسَنُ وابن السميقع: الْمُصَوَّرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ،
وانتصب مفعولا بالباري، وَأَرَادَ بِهِ جِنْسَ الْمُصَوَّرِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرُ الرَّاءِ عَلَى إِضَافَةِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ
، نَحْوَ: الضَّارِبُ الْغُلَامِ.
(١) سُورَةُ الأعراف: ٧/ ١٥٥.
149
Icon