هذه السورة مدنية، وهي اثنتا عشرة آية. وهي مبدوءة بالعتاب من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حرّمه على نفسه من الحلال استرضاء لبعض زوجاته. وما ينبغي أن يحرّم النبي على نفسه الحلال ليرضين عنه.
ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصونوا أنفسهم ومن يلون من الأهلين من العذاب الحارق في نار متسعرة متأججة وقودها الناس والحجارة فيتقون ربهم ويأتمرون بأوامره ويفعلون الخير لعلهم ينجون.
ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكافرين والمنافقين. فيجاهد الأولين الظالمين بالقتال، ويجاهد الآخرين المخادعين بالحجة والمجادلة والبرهان. ثم يضرب الله لعباده مثلين من النساء. فمثل من النساء الكوافر، زوجات لمؤمنين، ومثل من النساء المؤمنات، زوجات لكافرين.
ﰡ
﴿ ياأيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ١ قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ٢ وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ٣ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ٤ عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ﴾.
في سبب نزول هذه الآيات روى ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده، مارية القبطية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها. فقالت : لم تدخلها بيتي، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها : " لا تذكري هذا لعائشة، وهي عليّ حرام إن قربتها ". قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك. فحلف لها لا يقربها وقال لها لا تذكريه لأحد. فذكرته لعائشة. فأبى أن يدخل على نسائه شهرا واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة. فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ لم تحرّم ما أحل الله لك ﴾ الآية١.
وروى مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا. قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير. أكلت مغافير٢ ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال : " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل ﴿ لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ﴾ يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معاتبا : لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة زوجاتك ﴿ والله غفور رحيم ﴾ الله يغفر الذنوب لعباده المؤمنين، وقد غفر لك هذه الزلة وهي تحريمك على نفسك ما أحله الله لك. والله جل وعلا رحيم بعباده أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا.
٢ المغافير: جمع مغفار، وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٥٦..
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن تحريم الحلال يمين في كل شيء ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه الإنسان على نفسه. فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكل هذا الطعام. وإذا حرم أمة فقد حلف على وطئها، وإذا حرم زوجة فقد آلى منها إذا لم يكن له نية. وإن نوى الظهار فهو ظهار. وإن نوى الطلاق فهو طلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا فكما نوى. وإن قال : كل حلال عليّ حرام، كان ذلك على الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. أما الشافعي فلا يرى ذلك يمينا، بل يراه سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو عنده طلاق رجعي. وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد ( رضي الله عنهم ) أن الحرام يمين١.
قوله :﴿ والله مولاكم ﴾ أي سيدكم ومتولّي أموركم ﴿ وهو العليم الحكيم ﴾ الله العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم. وهو سبحانه الحكيم فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما تقتضيه الحكمة مما فيه مصلحتكم ونفعكم.
قوله :﴿ وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ﴾ يعني إن تتظاهرا و تتعاضدا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء وإفشاء السر ﴿ فإن الله هو مولاه ﴾ أي ناصره ومؤيده فلا يصيبه شيء من تظاهركما وتعاونكما عليه. وكذلك يظاهره ويؤيده جبريل عظيم الملائكة، والصالحون من المؤمنين ﴿ والملائكة بعد ذلك ظهير ﴾ أي أن الملائكة بعد تأييد الله له وتأييد جبريل وصالح المؤمنين أعوان له يظاهرونه ويؤيدونه.
يأمر الله عباده المؤمنين أن يدرأوا عن أنفسهم النار يإيمانهم الراسخ وبفعلهم الطاعات ومجانبتهم السيئات. وكذلك أن يدرأوا عن أهليهم وأولادهم وزوجاتهم النار، إذ يأمرونهم بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ومعاصيه. وهو قوله :﴿ ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ أي قوا أنفسكم النار بحسن فعالكم وصالح أعمالكم. وكذلك قو أهليكم النار بإصلاحهم وبأمرهم أن يتقوا الله فيخشوه ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا معاصيه وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم " وقال عليه الصلاة والسلام : " حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ " وعنه صلى الله عليه وسلم : " ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن ".
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وكذلك يؤمر الصغار بالصوم قدر طاقتهم لينشأوا على العبادة عن رغبة وطواعية.
قوله :﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ حطب جهنم من جثث بني آدم ومن الحجارة الضخمة. وقيل : الأصنام التي أشركها الظالمون مع الله في العبادة.
قوله :﴿ عليها ملائكة غلاظ شداد ﴾ ذلك وصف لزبانية جهنم من الملائكة فهم غلاظ الطباع وقد خلت قلوبهم من الرحمة بالمجرمين. وهم كذلك شداد أي أقوياء أشداء في هيئاتهم وأبدانهم وفظاعة جسومهم المخوفة. قوله :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ يعني لا يخالفون الله فيما أمرهم به ويبادرون طاعته وامتثال أوامره دون تمهل أو وناء. فهم طائعون منيبون مذعنون لله بالخضوع والامتثال.
قوله :﴿ عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ﴾ عسى من الله واجبة، يعني توبوا إلى الله يوجب لكم تكفير سيئاتكم وإدخالكم جنات شاسعة عظام بظلها الوارف الظليل، وأنهارها الجارية السائحة ونعيمها الدائم المقيم. وهو قوله :﴿ ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
قوله :﴿ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ يوم، منصوب على أنه ظرف متعلق بقوله :﴿ ويدخلكم ﴾ أي ويدخلكم ﴿ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ فالله ينجي رسوله والمؤمنين من العذاب والخزي فلا يخزيهم كما خزى المجرمين فحل بهم العذاب والخزي والافتضاح.
قوله :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ﴾ يسأل المؤمنون ربهم يوم القيامة أن يبقى لهم نورهم فلا ينطفئ كما انطفأ نور المنافقين عند تجاوز الصراط. وقيل : ليس من أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فيطفأ نور المنافق فيمشي تائها هائما على وجهه يتخبط وحينئذ يخشى المؤمن أن ينطفئ نوره كما انطفأ نور المنافق فيسأل الله أن يتمم له نوره فلا يطفئه.
وكذلك يسأل المؤمنون ربهم يوم القيامة أن يعفو عنهم ويتجاوز عن سيئاتهم وهو قوله :﴿ واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ﴾ أي استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بها فإنك يا ربنا مقتدر على فعل ما تشاء من غفران الذنوب والستر على العيوب والتنجية من البلايا والكروب١.
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بكل أوجه الجهاد المشروعة، وأولها أن يدعوهم إلى الله وأن يفيئوا إلى دين الحق. وذلك بالحجة القاطعة والبرهان الساطع، حتى إذا استبان أنهم معاندون متربصون موغلون في الجحود والعتو قاتلهم بالسلاح لكسر شوكتهم وفض جمعهم وكلمتهم، وإزالة عدوانهم وطغيانهم. وأمره أيضا أن يجاهد المنافقين بالتحذير والوعيد عسى أن يرعووا ويزدجروا.
قوله :﴿ واغلظ عليهم ﴾ أي واشدد عليهم في القتال إن كانوا كافرين وفي الموعظة والتخويف وإقامة الحدود إن كانوا منافقين.
قوله :﴿ ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ أي مقامهم النار بكفرهم ونفاقهم، فساء المستقر والمرجع.
وليس المقصود بخيانتهما اقتراف الزنا. فما كان لامرأة نبي أن تزني البتة. ولكن خيانتهما كفرهما وتمالؤهما مع الكافرين على زوجيهما النبيين الصالحين ﴿ فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ﴾ أي لم يغن نوح ولوط. عن امرأتيهما الخائنتين من عذاب الله شيئا. فالنبيان الكريمان لا يملكان دفع العذاب عن المرء إلا بالطاعة وإخلاص العبادة لله.
ثم قيل للزوجين الظالمتين ﴿ ادخلا النار مع الداخلين ﴾ وهذه عاقبة الذين يخونون النبيين بمعاداتهم والكيد لهم والتمالؤ عليهم مع الكافرين. إن عاقبتهم النار يصلونها مقهورين مذمومين١.
وهذا مثل ثان ضربه الله للمؤمنين الموقنين القانتين الثابتين على الإيمان والحق الذين لا يضربهم من خالفهم من الظالمين والطغاة. ضرب الله لذلك امرأة فرعون. هذه المرأة التقية الصابرة الفضلى التي احتملت من نكال فرعون وقهره وتعذيبه ما لا يطيقه إلا الصادقون الأبرار، وأولئك هم أولو العزم المكين والإيمان المتوطد الراسخ الذي لا يهون ولا يضطرب.
تلك هي امرأة فرعون، وهي آسية بنت مزاحم، كانت زوجة لواحد من أعتى العتاة وأظلم الجبابرة في الأرض. وذلكم هو فرعون الطاغوت الشقي الأثيم، الذي زعم – بفرط غروره وجهالته وكبريائه – أنه إله، ثم استخف قومه من حوله فأطاعوه وعبدوه من دون الله. لكن امرأته آسية آمنت بالله وحده وصدقت بدعوة موسى عليه والسلام. فلما علم فرعون بإيمانها نكّل بها تنكيلا وعذبها أشد العذاب. فدعت ربها ﴿ رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ﴾ ذكر أنها كانت تعذّب بالشمس فإذا آذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها.
وقيل : سمّر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله حتى رأت مكانها في الجنة. ومن دعائها أيضا ﴿ ونجني من فرعون وعمله ﴾ أي خلصني من كيد فرعون واكتب لي النجاة من شره وعدوانه ﴿ ونجني من القوم الظالمين ﴾ وهم القبط، أو المشركين من قوم فرعون. سألت ربها أن يدفع عنها كفر هؤلاء الظالمين وكيدهم وفسادهم.
قوله :﴿ وصدّقت بكلمات ربها وكتبه ﴾ المراد بكلمات ربها عيسى وأنه نبي. فقد أيقنت مريم بذلك تمام اليقين ﴿ وكتبه ﴾ وهي الكتب الأربعة المنزلة على النبيين ﴿ وكانت من القانتين ﴾ أي العابدين المخبتين الخاشعين لله٣.
٢ مختار الصحاح ص ١٤٠..
٣ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ١١٠ والكشاف جـ ٤ ص ١٣٢..