تفسير سورة التحريم

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة التحريم
١٨٧ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة: أن أيَّتَنَا دخل عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلتَ مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، قال: (لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له) فنزلت: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) - إلى - (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) لعائشة وحفصة: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ
1027
إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) لقوله: (بل شربت عسلاً).
زاد البخاري من رواية هشام بن يوسف عن ابن جريج: وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحداً.
٢ - أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له أَمةٌ يطؤها، فلِم تزل به عائشة وحفصة حتي حرمها فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ.. ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقبل الخوض في نقل
1028
أقوال المفسرين في سبب النزول أهي قضية العسل أم قضية الجارية يحسن أولاً نقل ما روى الشيخان أيضاً في قضية العسل من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر، دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أَهدت لها امرأة من قومها عُكةً من عسل، فسقت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه شربة، فقلت: أما واللَّه لنحتالنَّ له فقلت لسودة بنت زمعة إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلتَ مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة، عسل، فقولي له: جَرَسَتْ نحلة العُرفُط، وسأقول ذلك، قولي أنت يا صفية ذاك.
قالت: تقول سودة: فواللَّه ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أَن أُبَاديَه بما أمرتني به فرقًا منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) فقالت: جرست نحلة العرفط، فلما دار إليَّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت: يا
1029
رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: (لا حاجة لي فيه). قالت: تقول سودة: واللَّه لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي.
فبين الروايتين اختلاف من وجوه:
١ - أن رواية عبيد بن عمير جاء فيها ذكر النزول، أما رواية عروة عن عائشة فقد خلت من ذكر النزول.
٢ - أن المتواطئتين في رواية عبيد بن عمير هما عائشة وحفصة، بينما المتواطئات في رواية عروة بن الزبير هن عائشة، وسودة، وصفية.
٣ - أن ساقية العسل في رواية عبيد بن عمير هي زينب بنت جحش، بينما الساقية في رواية عروة هي حفصة بنت عمر.
فإن قيل: ما هو الراجح من هاتين الروايتين؟
فالجواب: الحافظ ابن حجر جنح إلى التعدد فقال: (وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدد فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد).
ومن إنصافه - رحمه الله - ذكره حجج المرجحين لرواية عبيد بن عمير وأن الساقية زينب ومنها:
أولاً: أنها توافق قول ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في أن المتظاهرتين حفصة وعائشة كما أخبره عمر بذلك، فقد روى الشيخان عن ابن عبَّاسٍ قال: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أزواجه فقال: تلك حفصة وعائشة. فلو كانت حفصةُ ساقيةَ العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة.
ثانياً: أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة،
1030
وسائر نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... الحديث.
وجه الدلالة: - أن زينب ليست من حزب عائشة ولهذا غارت منها بخلاف حفصة فإنها من حزبها.
ثالثاً: أن كون الساقية زينب يوافق سياق القرآن لأن قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) يدل على أنهما ثنتان لا أكثر، وهو ما جزم به عمر لابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بينما لو كانت الساقية حفصةَ لكانت المتظاهرات عائشة، وسودة، وصفية، وهذا يخالف التلاوة لمجيئها بلفظ خطاب الاثنين، ولو كانت كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنث.
رابعاً: أن عائشة - رضي الله عنها - تصرح بقولها: (تواصيت أنا وحفصة) وهذا يوافق ظاهر الآية، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بينما لا يتأتى هذا لكون الساقية حفصة.
خامساً: أن الرواية في تظاهرهن على حفصة قد خلت من ذكر النزول، فلم يجئ له ذكر فيها، بينما الرواية في تظاهرهن على زينب قد تضمنت النزول، وإذا كان الأمر كذلك صارت على صلة بالآية، وارتباط بها اهـ. كلامه بمعناه.
وحيث إن اختيار إحدى الروايتين من حديث عائشة يقتضي المقابلة بينها وبين حديث أنس في قصة تحريم الجارية ولا بد فإني سأذكر أقوال المفسرين وما اختاروه في القضيتين العسل أو الجارية، ثم أذكر جوابًا واحدًا يحدد الصواب - بإذن اللَّه - في الروايتين والقضيتين معاً.
والبداية بمن يرجح أن قضية العسل هي سبب النزول وهذا القول الأول واختاره ابن العربي والقرطبي وابن كثير، وابن عاشور.
قال ابن العربي لما ذكر الأقوال: (وإنما الصحيح أنه كان في العسل،
1031
وأنه شربه عند زينب وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، وجرى ما جرى، فحلف ألا يشربه، وأسر ذلك ونزلت الآية في الجميع).
وقال عن حديث مارية: (وأما من روى أنه حرم مارية فهو أمثل في السند، وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدوَّن في صحيح، ولا عُدِّل ناقله، أما إنه روي مرسلاً) اهـ.
وقال القرطبي بعد أن ذكر الأقوال مبتدئًا بقضية العسل: (أصح هذه الأقوال أولها) اهـ.
وقال ابن كثير: (اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة فقيل: نزلت في شأن مارية وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حرمها فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) ثم ساق الأحاديث في تلك القضية ثم قال:
(والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل ثم ساق الأحاديث) اهـ.
القؤل الثاني: أن سبب النزول، كان تحريمه للجارية وليس العسل واختار هذا ابن عطية والقاسمي.
قال ابن عطية: (والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح وعليه تفقه الناس في الآية) اهـ.
وقال القاسمي: (والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها وذلك لوجوه:
منها: أن مثله يُبتغى به مرضات الضرات، ويهتم به لهن.
ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه، ابتغاء مرضاتهن بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفةً من ريحه.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدةٍ لتقريع أزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءَه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون كل ذلك يدل على أن أمرًا عظيمًا دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا
1032
الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرةِ الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية هذا ما ظهر لي الآن.
وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عُرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا كما نبهنا عليه مراراً) اهـ.
القول الثالث: ما ذهب إليه الطبري والبغوي والسعدي من إطلاق القولين احتمالاً بلا تعيين.
قال الطبري بعد عرض الروايات: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نفسه شيئاً كان اللَّه قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك غير أنه أيَّ ذلك كان فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً، فعاتبه اللَّه على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبيّن له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرم على نفسه) اهـ.
أما البغوي فقال ابتداءً: (سبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي... ثم ساق قصة العسل ثم قال: وفاك المفسرون: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين نسائه ثم ذكر قضية حفصة مع الجارية... ) اهـ.
وقال السعدي: (هذا عتاب من الله لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حرم على نفسه سريته (مارية) أو شرب العسل، مراعاةً لخاطر بعض زوجاته في قصة معروفة) اهـ.
هذه أقوال المفسرين خاليةً من الحجج والبراهين باستثناء القاسمي، الذي ذكر ثلاثاً من الحجج تدل على أن القضية في الجارية لا في العسل.
وسأذكر ما تبين لي في الموضوع، ثم أجيب عما احتج به مرجحو قضية العسل فأقول: قد دلّ حديث عائشة من رواية عبيد بن عمير على أن السر الذي
1033
أسره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض أزواجه هو شرب العسل، فقد جاء في الحديث: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه) - لقوله -: (بل شربت عسلاً).
وهذا يخالف القرآن من وجوه:
الأول: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أسر الحديث إلى زوجه لا يريد أن يفشو، وهذه حقيقة السر بين الاثنين، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يفشي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السرَّ بنفسه، وقد نهى عن ذلك.
وحديث عائشة بروايتيه نصَّ على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفشاه.. ففي رواية عبيد بن عمير عن عائشة أنها قالت: أن أيتنا دخل عليها فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فقال: (بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش).
وفي رواية عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت لسودة: فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل، وهذا ما حصل ووقع، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - ما كتم ولا أخفى.
وبناء على هذا فهل يصح أن يستسرَّها الحديث ثم يفشيه؟.
الثاني: أن الله ذكر أن سرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حديثاً بقوله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرّف المفشية بعضه، وأعرض عن بعض، وهذا يعني أن الحديث فيه طُوْل، وعلى أقل تقدير يقبل القسمة. فهل يتفق هذا مع السر المذكور في الحديث وهو قوله: (بل شربتِ عسلاً)؟ الواقع أن هذا لا يمكن لأن السر هنا كلمتان فقط فما الذي يمكن أن يعرَّف، وما الذي يمكن أن يعرض عنه هنا.
الثالث: أنه لو كان السرُّ شربَهُ العسل ما كان لقوله الله تعالى: (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أيُّ معنى، إذ كيف يطلعه اللَّه على أمرٍ قد فعله بنفسه، بينما سياق القرآن يدل على أنه لم يكن يعلم بفشو السر.
الرابع: أنه لو كان السرُّ شربه العسل ما كان لقول الله - تعالى -: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أدنى فائدة لأنه هو أَنبأ بذلك، فلم تختص زوجه بالإنباء.
الخامس: أن الله قال: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) - إلى قوله -: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) وهذا يعني أنه حرم الحلال لإرضائهن، بينما لا تدل الأحاديث على أنهن طلبن تحريم العسل، بل غاية الأمر أنهن شكون من رائحته فهل هذا يعني المطالبة بالتحريم؟
1034
والجواب: لا؛ لأن هذا لا ينهي القضية فلئن كانت رائحةُ العسل هذا ريحَ مغافير فليس كل العسل كذلك. وهن يعلمن هذا تماماً.
وبهذه الوجوه الخمسة يتبين الدليل الأول على أن العسل لا صلة له بآيات السورة.
الدليل الأول: أن سبب اجتماعهن عليه ليس بسبب شرب العسل، بل بسبب احتباسه زمنا أكثر عند صاحبة العسل ولهذا قالت عائشة: فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغِرت فسألت عن ذلك فقيل لي: أَهدت لها امرأة من قومها عُكةً من عسل، فسقت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه شربةً فقلت: أما والله لنحتالن له.
فعائشة غارت قبل علمها بالعسل، لكنها اتخذت من العلم بالعسل وسيلةً للحيلة فعلم بهذا أنه لم يكن مقصودهن العسل حتى يرضيهن بتحريمه أو تركه، بل منعه من الاحتباس زمناً أكثر عند صاحبة العسل.
الدليل الثالث: أن الامتناع من شرب العسل لم يكن ابتغاء مرضاتهن لأنهن يعلمن من قبل أنه يحب العسل والحلواء - كما قالت عائشة - وإذا كان يحبهما فسيتناولهما إذا وجدهما فليس في الأمر جديد.
وقول سودة لما ترك شربه مرة ثانية عند حفصة: واللَّه لقد حرمناه يشير إلى أن حرمانه منه ليس مقصوداً لهن لكنه وقع تبعاً لذلك.
وإنما الدافع لامتناعه أَنَفَةً من رائحته، ولجوؤهن إلى ذكر الرائحة مع ترك أصلها يدل على هذا.
الدليل الرابع: أن أكثر السلف يقولون إن سبب نزول الآيات قصة الجارية. فقد روى الطبري ذلك عن ابن عبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومسروق، والشعبي، وزيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد.
وزاد ابن الجوزي على هؤلاء سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل ونسب هذا القول إلى الأكثرين.
وقال الشوكاني: (اختُلف في سبب نزول الآية على أقوال، الأول قول
1035
أكثر المفسرين ثم ساق قصة تحريم الجارية) اهـ.
بينما اختار أن القضية في العسل عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وابن أبي مُليكة وهذا برهان بيِّن على أن القضية في الجارية، كيف لا إذا علمنا أن هؤلاء التابعين إنما تلقوا علومهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما الجواب عن حجج من يرجح قضية العسل فكالآتي:
أولاً: أنها توافق قول ابن عبَّاسٍ حين سأل عمر فقال تلك حفصة وعائشة فلو كانت حفصة ساقية العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة.
فيقال: هذا حقُّ، المتظاهرتان عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لكن هل قال عمر لابن عبَّاسٍ: إنهما تظاهرتا عليه في شأن العسل؟ الجواب: لا لم يقل هذا.
بل لنا أن نقول: ربما أخبره بأنهما تظاهرتا عليه في شأن الجارية، والدليل على هذا ما روى الشيخان عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
ولا يُعرف أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم امرأة من نسائه، فلم يبق إلا تحريمه الجاربة.
ولو لم يكن المستقر عند ابن عبَّاسٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم الجارية لما استدل بالآية عند من حرم امرأته.
ثانياً: أن زينب ليست من حزب عائشة ولهذا غارت منها بخلاف حفصة فإنها من حزبها.
فيقال: عائشة لا تغار من حفصة إذا وافقتها وطاوعتها، أما إذا خالفتها وخدعتها فإنها تغار منها أشد الغيرة، والدليل على هذا ما روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة
1036
لعائشة وحفصة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث. فقالت حفصة: ألا تركبين الليلةَ بعيري، وأركب بعيرك تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبتْ فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا ربِّ سَلِّط عليَّ عقرباً أو حيَّةً تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له شيئاً.
فانظر إلى أيِّ حد بلغت غيرتها من حفصة - رضي الله عنها - مع أنها من حزبها.
ثالثاً: أن كون الساقية زينب يوافق سياق القرآن لأن قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) يدل على أنهما ثنتان لا أكثر.
فيقال: نعم هما ثنتان لا أكثر ولكن ليس في العسل؛ لأن سياق القرآن كما تقدم يأبى هذا.
رابعاً: أن عائشة تصرح بقولها: (تواصيت أنا وحفصة) فيقال نعم قد تواصتا لكن ليس في العسل لأن هذا الحديث معارض بسياق القرآن، وحديث أنس في قصة الجارية، بل وبحديث عائشة من طريق عروة أيضاً.
خامساً: أن الرواية في تظاهرهن على حفصة قد خلت من ذكر النزول، فلم يجيء له ذكر فيها، بينما الرواية في تظاهرهن على زينب قد تضمنت النزول.
فيقال: وهذا يدل على أن رواية عروة عن عائشة التي خلت من النزول أتقن وأحفظ من رواية عبيد بن عمير التي تضمنت النزول.
وبما تقدم يتبين أنه ليس لقضية شرب العسل ارتباط أو صلة بنزول الآيات وأن أثبت الروايتين في حديث العسل عن عائشة رواية عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأنها خلت من الشذوذ والتناقض الذي اكتنف رواية عبيد بن عمير وبناءً عليه فالصواب في سبب النزول ما ثبت عند النَّسَائِي من حديث
1037
أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له أمةٌ يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله الآيات، وليس لهذا الحديث أيُّ معارض.
وأما تفصيل ذلك، كيف حدث، وفي يوم مَن، وفي بيت مَن، فأنا أمسك القلم عن الخوض في ذلك لأمرين:
الأول: أن القضية تتعلق برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو في أعلى المقامات البشرية، وأحق الناس بالتعزير والتوقير وأبعدهم عن التنقيص والتجريح.
الثاني: أن تلك التفصيلات قد رويت في أحاديث ضعيفة ومرسلة لا يحتج بها على أقل من هذا فكيف بهذا؟ إلا أن التي تلقت السر من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حفصة، قال ابن الجوزي: (من غير خلاف علمناه).
وحسبي أن أقف على المجمل من القضية الذي دلّ عليه حديث أنس الصحيح - والله أعلم -.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآيات الكريمة ما جاء في قصة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حرم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاريته، لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واختيار جمهور السلف من المفسرين له. والله أعلم.
* * * * *
1038
١٨٨ - قال الله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبةُ النبيِّ بعضَ نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتُن أو لَيُبدِّلنَّ اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيراً منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يعظ نساعه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ).
وفي لفظ للبخاري وأحمد والنَّسَائِي قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتمع نساءُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية.
٢ - أخرجه مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه... فذكر الحديث وفيه: فقلت: يا رسول اللَّه ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلَّما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون اللَّه يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه
1039
الآية: آية التخيير: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر هذا الحديث من المفسرين الطبري وابن عطية وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: عسى رب محمد إن طلقكن يا معشر أزواج محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبدله منكن أزواجًا خيرًا منكن.
وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحذيرًا من اللَّه نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة) اهـ.
وقال ابن عطية: (وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن فنزلت الآية على نحو قوله) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وهذه الآية - إلى قوله - (خَيْرًا مِّنكُنَّ) نزلت موافقةً لقول عمر لابنته حفصة - رضي الله عنها - مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقًا لقول عمر أو رأيه تنويهًا بفضله.. ) اهـ.
وعند النظر في سياق الآيات تجد أنها من أول السورة تتحدث عن تحريم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للجارية - إلى قوله -: ظَهِير.
ثم قال: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) وهذا يشير إلى تعلق الآية بالسياق السابق وأن اللَّه لما توعد المرأتين على فعلهما حذر سائر النساء بهذه الآية أن الله سيبدل رسوله نساءً خيرًا منهن.
1040
وبين سياق القرآن من جانب آخر أن يقال: إنه لما وقعت قضية التظاهر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن الجارية، غضب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهدد نساءه قائلا: إن انتهيتن أو ليبدلن اللَّه رسوله خيرًا منكن، أو: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن.
فنزلت الآية تهديدًا للمتظاهرتين، وتحذيرًا لسائر نسائه أن يفعلن مثله، وموافقة لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
بقي أن يقال: ما الجواب عن حديث ابن عبَّاسٍ عند مسلم، ونزلت هذه الآية آية التخيير: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ).
فالجواب: أن هذه الآية ليست آية التخيير، فآية التخيير هي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) الآية، وقد تقدمت دراستها.
وربما أراد أمير المؤمنين بالتخيير هنا الكف عن أذى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمظاهرة عليه أو طلاقهن إن لم يمتثلن، لكن يعكر على هذا أن حديث عمر إنما جاء في قضية الإيلاء واعتزالهن شهرًا، بينما المظاهرة عليه وقعت من عائشة وحفصة فقط وليس لنسائه البواقي فيها صلة فكيف آلى منهن في أمر لا صلة لهن فيه.
والظاهر - والله أعلم - أن ذكر قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) في سياق قضية الإيلاء لا يصح بدليل أنها سميت آية التخيير، وليست كذلك.
* النتيجة:
أن الآية جاءت في سياق آيات التقريع والتحذير من المظاهرة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموافقة لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في دفاعه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ناله من أذى نسائه وذلك لصحة سند الحديث وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن واللَّه أعلم.
1041
سورة الجن
1043
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ثم أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) الآية. ولعل الجمع بين الأحاديث وأقوال المفسرين من جانب