تفسير سورة التحريم

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾ الخ، هذا الخطاب مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم على غاية من التفخيم والتعظيم، حيث عابته على إتعاب نفسه والتضييق عليها، من أجل مرضاة أزواجه، كأن الله تعالى يقول له: لا تتعب نفسك في مرضاة أزواجك، بل أرح نفسك ولا تتعبها، وأزواجك يسعون في مرضاتك فإن سعين في مرضاتك سعدن، وإلا فلا. قوله: (من أمتك مارية القبطية) هذا قول أكثر المفسرين. ومحصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة، استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبويها فأذن لها، فلما خرجت، ارسل إلى جاريته مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس ملك مصر، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً، فجلست عند الباب، فخرج النبي ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل ذلك، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي على فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً؟ فقال: أليست هي جاريتي قد أحلها الله لي؟ وهي عليَّ حرام التمس بذلك رضاك، ولا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرجت قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وإن الله قد أراحنا منها، وأخبرتها بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر ازواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الذي حرمه على نفسه هو شرب العسل، وهو ما في الصحيحين، لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر، دار على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير؟ بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء، جمع مغفور بالضم كعصفور أي صمغاً حلواً له رائحة كريهة، ينضجه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون في الحجاز له رائحة كرائحة الخمر، فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريج؟ وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت نحلة العرفط حتى صار فيه، أي في العسل، ذلك الريح الكريه، وإذا دخل علي فأسقول ذلك، وقولي أنت وصفية ذلك، فلما دخل على سودة قالت له مثل علمتها عائشة، وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك، فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر، دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة إلي به، قالت: إن سودة تقول: سبحان الله لقد حرمناه منه، فقال لها: اسكتي اهـ. قوله: (حيث قلت) ظرف لقوله: ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾ أو تعليل له. قوله: ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ حال من فاعل ﴿ تُحَرِّمُ ﴾ والمعنى: لا ينبغي لك أن تشتغل بما يرضي الخلق، بل اللائق أن أزواجك وسائر الخلق تسعى في مرضاتك. قوله: (أي رضاهن) مصدر مضاف لفاعله أو مفعوله. قوله: (شرع) أي فالمراد بالفرض الشرع والمعنى بين واظهر وجعل لكم تحلة أيمانكم، والضمير عائد عليه وعلى أمته. قوله: ﴿ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ مصدر حلل ككرم تكرمة، فأصله تحلله فأدغم. قوله: (تحليلها بالكفارة) ألخ، اشار إلى أن التحلة تحليل اليمن، فكأنه عقد وتحلته بالكفارة. قوله: (ومن الأيمان تحريم الأمة) أي بقوله: أنت علي حرام، فتجب به كفارة يمين عند الشافعي، وعند مالك التحريم في غير الزوجة لغو، لا يلزم به شيء، ما لم يقصد به الأمة عتقها، وإلا فيلزمه عتقها، وأما التحريم في الزوجة، فعند الشافعي إن نوى به الطلاق وقع، وإلا فيلزمه كفارة يمين، وعند مالك يلزمه به الطلاق الثلاث إن كان مدخولاً بها، وواحدة في غير الدخول بها، وإن لم ينو به حل العصمة. قوله: (قال مقاتل) الخ أي وبه أخذ الشافعي. قوله: (وقال الحسن لم يكفر) الخ، أي وبه اخذ مالك، والأصل عدم الخصوصية إلا بدليل. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ ﴾ أي متولي أموركم.
قوله: ﴿ حَدِيثاً ﴾ أي ليس من الأحكام البلاغية. قوله: (وهو تحريم مارية) أي وأسر إليها أيضاً أن أباها عمر، وأبا عائشة أبا بكر، يكونان خليفتين على الأمة بعده. قوله: ﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ﴾ (عائشة) قدره إشارة إلى أنه يتعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف المفعول الأول للدلالة عليه. قوله: (ظناً منها) أي فهو باجتهاد منها، فهي مأجورة فيه. قوله: (أطلعه) ﴿ عَلَيْهِ ﴾ أي على لسان جبريل، فأخبره بأن الخبر قد أفشي. قوله: (على النبأ به) أي وهو تحريم مارية، والمناسب أن يقول: على أنها قد انبأت به. قوله: ﴿ عَرَّفَ بَعْضَهُ ﴾ أي هو تحريم مارية أو العسل. قوله: ﴿ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ﴾ أي وهو أن أباها وأبا بكر يكونان خليفتين بعده، وإنما أعرض عن ذلك البعض، خوفاً من أن ينتشر في الناس، فربما أثاره بعض المنافقين حسداً. قوله: (تكرماً منه) أي وحياء وحسن عشرة. قوله: ﴿ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا ﴾ أي وقد ظنت أن عائشة هي التي أخبرته. قوله: (أي سركما ذلك مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له) أي ومحبة الأمر الذي يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم زيغ وميل عن الحق. قوله: (وجواب الشرط محذوف) أي فقوله: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ تعليل للشرط، والمعنى إن تتوبا إلى الله من أجل ميل قلوبكما تقبلاً. قوله: (ولم يعبر به) أي فيقول قلباكما. قوله: (فيما هو كالكلمة الواحدة) أي لأن بين المضاف والمضاف إليه علقة وارتباطاً. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ ﴾ تعليل الجواب الشرط المحذوف تقديره: فلا يعدم ناصراً فإن الله الخ. قوله: (فصل) أي ضمير فصل لا محل له من الإعراب. قوله: ﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ اسم جنس لا جمع، ولذلك يكتب من غير واو بعد الحاء، ويصح أن يكون جمعاً بالواو والنون، حذفت النون للإضافة، وكتب بدون واو اعتبارً بلفظه، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين نحو (سندع الزبانية). قوله: (معطوف على محل اسم إن) أي قبل دخول الناسخ، وهذا على بعض المذاهب النحويين، ويجوز أن يكون ﴿ جِبْرِيلُ ﴾ مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و ﴿ ظَهِيرٌ ﴾ خبر الجميع. قوله: ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ أخبر بالمفرد على الجمع، لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره، إن قلت: إن نصرة الله هي الكفاية العظمى، وما الحكمة في ضم ما بعدها إليها؟ قلت: تطييباً لقلوب المؤمنين، وتوقيراً لجانب الرسول.
قوله: ﴿ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ﴾ الخ، سبب نزولها:" أنه صلى الله عليه وسلم لما اشاعت حفصة ما أسرها به، اغتم صلى الله عليه وسلم وحلف أن لا يدخل عليهن شهراً مؤاخذة عليهن، ومكث الشهر في بيت مارية، فلما مضت تسع وعشرون ليلة، بدأ بعائشة فدخل عليها فقالت له: إنك أقسمت على شهر، وإن دخلت في تسع وعشرين ليلة، فقال لها: هذا الشهر تسع وعشرون ليلة، ولما بلغ عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، وشاع عند الناس أنه طلقهن، أتاه فوجده في مشربة، قال عمر: فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت عليه، فإذا هو متكئ على رمال حصير قد آثر في جنبه، فقلت: يا رسول أطلقت نساءك؟ فرفع رأسه إلي قوال: لا، فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة، وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤها يتعلمن من نسائهم، فما زال يلاطفه بالكلام حتى تبسم، وقال له: يا رسول الله، لا يشق عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن، فإن الله معك، وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، قال عمر: وقلما تكلمت بكلام، إلا رجوت الله بصدق قولي الذي أقوله، فنزلت هذه الآية وآية ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ﴾ "الخ، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه، فأذن له، فقام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته: لم يطلق رسول الله نساءه، قالت عائشة: ثم بعد هذه القضية نزلت آية التخيير، فبدأ بي فاخترته، ثم خيرهن فاخترنه، وآية التخيير هي قوله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾[الأحزاب: ٢٨] إلى قوله﴿ عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٢٩].
قوله: ﴿ إِن طَلَّقَكُنَّ ﴾ أي جميعاً، فلا ينافي أنه وقع منه طلاق لحفصة طلقة واحدة وأمر بمراجعتها، فطلاقه لها كالعدم، فالتعليق إنما هو على تطليق الجميع، مع عدم المراجعة والتبديل للكل، لكونه مرتباً على تطليق الكل. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتات سبعيتان. قوله: ﴿ خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾ أي بأن يطردكن ويأتي له بنساء أخر خيراً منكن، إذ قدرة الله صالحة لرفع اقوام ووضع آخرين، فلا يقال كيف تكون المبدلات خيراً منهن، مع أنه لم يكن على وجه الأرض نساء خير منهن، لأننا نقول قدرة الله صالحة لذلك إن حصل المعلق عليه وهو لم يحصل. قوله: (خبر عسى) أي جملة ﴿ أَن يُبْدِلَهُ ﴾.
قوله: (والجملة جواب الشرط) أي جملة عسى واسمها وخبرها. إن قلت: إن هذه الجملة فعلها جامد، والجملة إذا كانت كذلك، ووقعت جواب شرط، وجب اقترانها بالفاء، فالمناسب أن تجعل دليل جواب محذوف. قوله: (ولم يقع التبديل) جواب عما يقال: إن الترجي في كلام الله للتحقيق مع أنه لم يحصل هنا، فأجاب: بأنه معلق على شرط وهو التطليق للكل ولم يطلقهن، وأجيب: بأن ﴿ عَسَىٰ ﴾ هنا للتخويف. قوله: ﴿ تَائِبَاتٍ ﴾ أي راجعات عن الزلات والهفوات. قوله: ﴿ عَابِدَاتٍ ﴾ أي خاضعات متذللات. قوله: (صائمات) هذا قول ابن عباس، وسمى الصائم سائحاً، لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فكذلك الصائم يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره. قوله: (أو مهاجرات) هذا قول الحسن. قوله: ﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾ أي بعضهن كذا، وبعضهن كذا، ودخلت الواو بين الوصفين لتغايرهما دون سائر الصفات، والثيب من ثاب يثوب أي رجع، سميت بذلك لأنها راجعة إلى زوجها إن قام معها، أو إلى غيره إن فارقها، أو لأنها رجعت إلى بيت أبويها، والأبكار جمع بكر وهي العذراء، وسميت بكراً لأنها على أول حالتها التي خلقت بها، فمدح الثيبات من حيث إنها أكثر تجربة وعقلاً واسرع حبلاً، والبكر من حيث إنها اطهو وأطيب وأكثر مداعبة.
قوله: ﴿ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي اجعلوا لها وقاية بفعل الطاعات واجتناب المعاصي: وقوا امر من الوقاية، فوزنه عوا، لأن فاءه حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة، والأمر محمول عليه، وحذفت اللام حملاً له على المجزو؛ فأصله أوقيوا فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة حملاً على المضارع، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها لزوال الساكن الذي جيء به لأجله، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الياء وضم ما قبل الواو لتصح. قوله: ﴿ وَأَهْلِيكُمْ ﴾ أي مرورهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم، والمراد بالأهل النساء والأولاد وما ألحق بهما. قوله: ﴿ وَقُودُهَا ﴾ أي ما توقد به. قوله: (كأصنامهم) مثال للحجارة التي توقد النار بها، قوله: (منها) حال من الأصنام والضمير للحجارة. قوله: ﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ ﴾ أي يتولى أمرها وتعذيب أهلها. قوله: (من غضب القلب) أي قسوته فلا يرحمون أحداً، لأنهم خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق، كما حبب لبني آدم الطعام والشراب، وقيل: غلاظ الأبدان لما روي ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب. قوله: ﴿ شِدَادٌ ﴾ (في البطش) أي فقد روي أنه من جملة قوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع، فتدفع الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. قوله: (بدل من لفظ الجلالة) أي بدل اشتمال كأنه قال لا يعصون أمره، وفيه إشارة إلى أن ﴿ مَآ ﴾ مصدرية. قوله: ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ أي به. قوله: (تأكيد) جواب عما يقال: إن الجملة الأولى هي عين الجملة الثانية فلم كررها؟ فأجاب: بأنه كررها للتأكيد. وأجيب أيضاً: بأن مفاد الجملة الأولى، أنهم لا يقع منهم عصيان لأمر الله ولا مخالفة، ومفاد الجملة الثانية، أن قضاء الله نافذ على أيديهم، لا يعوقهم عنه عائق، بخلاف أهل طاعة الله في الدنيا، قد يتخلف ما أمروا به لعجز أو نسيان مثلاً، فتغايرا بهذا الاعتبار. قوله: (والآية تخويف للمؤمنين) أي الخالصين، وهو جواب عما يقال: إن هذا خطاب للمشركين، فلأي شيء خوطب به المؤمنون؟ فأجاب: بأنه على سبيل التخويف للمؤمنين الخالصين، وللمنافقين الذين هم مؤمنون ظاهراً. قوله: (يقال لهم ذلك) أي ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ. قوله: (أي لأنه لا ينفعكم) أي لأنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، إذ قد فات زمنه. قوله: (أي جزاءه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف في قوله: ﴿ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالإيمان. قوله: (بفتح النون) أي على أنه صيغة مبالغة كالشكور صفة لتوبة، أي بلغت الغابة في الخلوص، قوله: (وضمها) أي فهو مصدر يقال: نصح نصحاً ونصوحاً، كشكر شكراً وشكوراً، وصفت به التوبة مبالغة على حد: زيد عدل، والقراءتان سبعيتان، قوله: (صادقة) راجع لكل من القراءتين. قوله: (بأن لا يعاد إلى الذنب) الخ، هذا أحد ثلاثة وعشرين قولاً في تفسير التوبة النصوح، كلها ترجع إلى التي استجمعت الشروط، واعلم أن التوبة مما لا يتعلق به حق لآدمي لها شروط ثلاثة: أن يقلع عن المعصية في الحال، وأن يندم على ما فعله، وأن يعزم على أنه لا يعود وإن كانت متعلقة بحق آدمي، فيزاد على هذه الثلاثة رد المظالم إلى أهلها إن أمكن، وإلا فيكفي استسماحهم، وهي واجبة من كل ذنب كان كبيرة أو صغيرة بإجماع لما ورد:" يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة "وفي رواية" إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "وورد:" أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في التوبة. قوله: (ترجية تقع) أشار بذلك إلى أن هذا الترجي واجب الوقوع على القاعدة المتقدمة، أن كل ترج من الله في القرآن فهو واقع لكونه بمنزلة التحقيق وترجية كتزكية. قوله: ﴿ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ ﴾ إما منصوب بيدخلكم أو بأذكر مقدراً. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ما معطوف على ﴿ ٱلنَّبِيَّ ﴾ فالوقف على قوله: ﴿ مَعَهُ ﴾ ويكون قوله: ﴿ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ ﴾ مستأنفاً أو حالاً أو مبتدأ خبره جملة ﴿ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ ﴾.
قول: ﴿ وَ ﴾ (يكون) ﴿ بِأَيْمَانِهِمْ ﴾ قدره دفعاً لما يتوهم من تسليط يسعى على الأيمان أنه وإن كان في جهتها إلا أنه بعيد عنها، فأفاد أنه كما يكون في جهة الأيمان يكون قريباً منها، وتقدم ذلك في سورة الحديد. قوله: (والمنافقون يطفأ نورهم) عطب سبب، أي أن سبب قول المؤمنين ما ذكر، أنهم يرون المنافقين يتقد لهم نور في نظير إقرارهم بكلمة التوحيد، فإذا مشوا طفئ، فيمشون في ظلمة فيقعون في النار، فإذا رأى المؤمنون هذه الحالة، سألوا الله دوامه حتى يوصلهم إلى الجنة، والجنة لا ظلام فيها. إن قلت: كيف يخافون من طفء نورهم مع أنهم آمنون، لا يحزنهم الفزع الأكبر؟ أجيب: بأن دعاءهم ليس من خوف ذلك، بل تلذذاً وطلباً لما هو حاصل لهم من الرحمة. قوله: ﴿ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ (باللسان والحجة) إنما خصهم بذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بقتالهم بالسيف لأنهم مسلمون ظاهراً، والإسلام بقي من قتال السيف، وإنما أمر بفضيحتهم وإخراجهم من مجلسه كما تقدم ذلك. قوله: ﴿ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي شدد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم باللين. قوله: (بالانتهار) أي الزجر، وقوله: (والمقت) أي البغض والطرد.
قوله: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً ﴾ لما كان لبعض الكفار قرابة بالمسلمين، فربما توهموا أنها تنفعهم، وكان لبعض المسلمين قرابة بالكفار، وربما توهموا أنها تضرهم فضرب الله لكل مثلاً، وضرب بمعنى جعل، فمثلاً مفعول ثان مقدم، وقوله: ﴿ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ ﴾ الخ، أي حالهما، مفعول أول أخر عنه ليتصل به ما هو تفسير وشرح لهما، والمعنى جعل الله حال هاتين المرأتين مشابهاً لحال هؤلاء الكفرة، فالكفار اتصلوا بالنبي والمؤمنين، ولم ينفعهم الاتصال بدون الإيمان، والمرأتان كذلك. قوله: ﴿ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ ﴾ ترسم امرأة في هذه المواضع الثلاثة، وابنت بالتاء المجرورة، وفي الوقف عليها خلاف بين القراء، فبعضهم يقف بالتاء، وبعضهم بالهاء. قوله: ﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ ﴾ أظهر في مقام الإضمار لتشريفهما بهذه النسبة والوصف بالصلاح. قوله: ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ (في الدين) أي لا في الزنا، لما ورد عن ابن عباس:" أنه ما زنت امرأة نبي قط ". قوله: (إذ كفرتا) تعليل لقوله فخانتا. قوله: (واسمها واهلة) بتقديم الهاء على اللام، وقيل بالعكس، وقوله: (واعلة) بتقديم العين على اللام، وقيل بالعكس. قوله: ﴿ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ أي لم يدفع نوح ولوط، مع كرامتهما عند الله عن زوجتيهما لما كفرتا من عذاب الله شيئاً، تنبيهاً بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة والامتثال، لا بمجرد الصحبة قوله: ﴿ شَيْئاً ﴾ أي من الإغناء فهو مفعول مطلق أو مفعول به. قوله: ﴿ وَقِيلَ ﴾ (لهما) التعبير بالماضي لتحقق الوقوع والقائل خزنة النار. قوله: ﴿ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ﴾ أي جعل حالها مثلاً بحال المؤمنين، في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان. قوله: (آمنت بموسى) أي لما غلب السحرة، وتبين لها أنه على الحق، فأبدلها الله بسبب ذلك الإيمان، أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا زوجه الله في الجنة مريم بنت عمران لما ورد" أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت فقال لها: يا خديجة إذا لقيت ضراتك فأفرئيهن مني السلام، فقالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وكلثوم أخت موسى، فقالت: يا رسول الله بالفاء والبنين "وفي الحديث:" كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بن مزاحم امرأة فرعون ". قوله: (واسمها آسية) بالمد وكسر السين، قيل: إنها عمة موسى فتكون اسرائيلية، وقيل: ابنة عم فرعون، فتكون من العمالقة. قوله: (بأن أوتد يديها) الخ، أي دق لها أربع أوتاد في الأرض، وشبحها فيها كل عضو بحبل. قوله: (وألقى على صدرها رحى) الخ، في القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلما أتوها بالصخرة قالت ﴿ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ ﴾ فأبصرت البيت من مرمرة بيضاء، وانتزعت روحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، ولم تجد ألماً. قوله: (واستقبل بها الشمس) أي جعلها مواجهة للشمس، وهو معطوف على قوله: (أوتد يديها) وليس متأخراً عن إلقاء الرحى، لأن إلقاء الرحى كان في آخر الأمر، لما آيس من رجوعها عن الإيمان، فالواو لا تقتضي ترتيباً. قوله: ﴿ ٱبْنِ لِي عِندَكَ ﴾ أي قريباً من رحمتك، فالعندية عندية مكانة لا مكان. قوله: (وتعذيبه) عطف تفسير لعلمه. قوله: (عطف على امرأة فرعون) أي فهي من جملة المثل الثاني، فمثل حال المؤمنين بامرأتين، كما مثل حال الكفار بامرأتين. قوله: (حفظته) أي عن الرجال، فلم يصل إليها أحد بنكاح ولا بزنا. قوله: (أي جبريل) تفسيراً ﴿ رُّوحِنَا ﴾.
قوله: (حيث نفخ) الخ، بين به أن الإسناد في نفخنا، من حيث إنه الخالق والموجد، والإسناد لجبريل من حيث المباشرة. قوله: (بخلق الله) بيان لحقيقة الإسناد. قوله: (فعله) أي فعل جبريل وهو النفخ، قوله: (الواصل إلى فرجها) أي بواسطة كونه في جيب القميص قوله: (فحملت بعيسى) أي عقب النفخ، فالنفخ والحمل والوضع في ساعة واحدة، كما تقدم في سورة مريم. قوله: ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ (المنزلة) أي في زمانها، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم. قوله: ﴿ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ ﴾ أي معدودة منهم، فيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين. قوله: (أي من القوم المطيعين) أي وهم رهطها وعشيرتها، لأنها من أهل بيت صالحين، من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام.
Icon