تفسير سورة التحريم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة التحريم
مدنية. وهي اثنتا عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : أنه لما كان الطلاق إنما يحرم الحرة دون الأمة ذكر حكم الأمَة معاتبا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تحريمها، فقال :
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.

يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ ﴾. في سبب نزول هذه السورة روايتان ؛ إحداهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية، فقال معها في البيت، فجاءت حفصة، فقالت : يا رسول الله ؛ أما كان في نسائك أهون مني، أتفعل هذا في بيتي، وعلى فراشي ؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام :" أيُرضيك أن أُحَرِّمها " ؟ فقالت : نعم، فقال :" إني قد حَرّمتها " زاد ابن عباس : وقال مع ذلك :" والله لا أطؤها أبداً "، ثم قال لها :" لا تُخبري بهذا أحداً، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ". ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها، وكانتا مصادقتين، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً، واستكتمتها، فأوحى الله إلى نبيه بذلك. ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة، واعتزل نساءه، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية، فنزل جبريلُ، وأمره برَدِّها، وقال له : إنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فردَّها.
والرواية الثانية : أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش، فتسقيه عسلاً، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن : أكلتَ مغافير، وهو صمغ العُرفُط، وهو حلو كريه الريح، ففعل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :" لا، ولكني شربتُ عسلاً "، فقُلن له : جَرَست نحلُه العُرفُط، أي : أكلت، ويقال للنحل : جراس، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا أشربه أبداً "، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت : ألاَ أسقيك من ذلك العسل ؟ فقال :" لا حاجة لي به " فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل. والرواية الأولى أشهر عند المفسرين والثانية خرّجها البخاري١ في صحيحه.
فإن قلتَ : لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران٢ ؟ قلتُ : رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع في المحبة والاعتناء، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه، ووسعتَ عليه، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه، فإنك لا ترضى له ذلك، محبةً فيه، وشفقة عليه. وانظر تفسير ابن عرفة.
قال ابن جزي : ولنتكلم على فقه التحريم : فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء فلا يلزم، ولا شيء عليه فيه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام، وأمَا تحريم الزوجة، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين. ه. قلت : وظاهره : سواء قال لها : أنتِ حرام، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً، وسواء كان منجّزاً أو معلّقاً، كما إذا قال : كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام، مثلاً، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم. ثم قال : وقال مالك في المشهور عنه : هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها، وقال ابن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين، ورُوي عن مالك : أنها طلقة بائنة قلتُ : وبهذا جرى العمل اليوم وقيل : رجعية. ه.
﴿ تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك ﴾ : حال، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي، أي : تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك، والمراد : رضا حفصة، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه، وإنما تركه لرائحته. ﴿ واللهُ غفور ﴾ أي : غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ، ولا تُضيّق على نفسك، ﴿ رحيم ﴾ بك، حيث وسّع عليك، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك. قال القشيري : ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته، والإشارة فيه : وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت. ثم قال تعالى، عنايةً بأمره :﴿ قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم ﴾ وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى. ه.
والحاصل : أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً، والسهو قهرية الحق تعالى، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر، لكنه لمّا كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة، كما قال تعالى في حق آدم :﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ [ طه : ١١٥ ]، فالمغفرة في الحقيقة، وطلب التوبة من السهو، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة، حيث حرّم ما أحلّ الله، فإنه تجاسر على منصب النبوة، وقلة أدب. وقوله تعالى :﴿ ما أحلّ الله لك ﴾ زيادة " لك " تَرُدّ ما زعمه الزمخشري، ولو كان كما قال لقال له : لِم تحرم ما أحلّ الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي : أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا : أنه يقرأ عليّ أو معي :﴿ يا أيها النبي لِمَ تُحرم... ﴾ الخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك : لا يلزمه شيء. هـ.
وقال الورتجبي : أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه. هـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي : يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو : لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول :" لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي " ٢ وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق :" كلميني حركيني يا حميراء "، وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال : كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه.
وقوله تعالى :﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي : فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي : الميل اليسير إلى الرفق بالنفس ؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.


١ انظر البخاري في الطلاق حديث ٥٢٦٧، ومسلم في الطلاق حديث ٢٠، ٢١..
٢ انظر تفسير الآية ٩٣ من سورة آل عمران..
ثم قال تعالى :﴿ قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم ﴾ أي : شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقده بالكفَّارة، أو بالاستثناء متصلاً، والأول هو المراد هنا، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام ؟ قال مقاتل : أعتق رقبةً، وقال الحسن : لم يُكفِّر ؛ لأنه مغفور له. قال بعضهم : هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم، وقال بعضهم : بل هي لنفس التحريم، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال، فأوجب كفارةَ اليمين. ﴿ واللهُ مولاكم ﴾ أي : سيدكم ومتولي أمورَكم، فلا يُحب ما ضيّق عليكم. قال في الحاشية الفاسية : ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول عائشة :" يا رسول الله ؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك " ١ الحديث متفق على صحته ه ﴿ وهو العليمُ ﴾ بما يُصلحكم، فيشرعه لكم، ﴿ الحكيمُ ﴾ المتقن في أفعاله وأحكامه، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي : أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا : أنه يقرأ عليّ أو معي :﴿ يا أيها النبي لِمَ تُحرم... ﴾ الخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك : لا يلزمه شيء. هـ.
وقال الورتجبي : أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه. هـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي : يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو : لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول :" لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي " ٢ وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق :" كلميني حركيني يا حميراء "، وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال : كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه.
وقوله تعالى :﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي : فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي : الميل اليسير إلى الرفق بالنفس ؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.


١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٣ حديث ٤٧٨٨، ومسلم في الرضاع حديث ٤٩، ٥٠..
ثم ذكر النازلة، فقال :
﴿ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾*﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾*﴿ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وإِذ أَسَرَّ ﴾ أي : واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ ﴿ النبيُّ إِلى بعض أزواجه ﴾ يعني حفصة ﴿ حديثاً ﴾ ؛ حديث تحريم مارية، أو العسل، أو إمامة الشيخين، ﴿ فلما نَبَّأَتْ به ﴾ أي : أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته، فحذف المفعول، وهو عائشة، ﴿ وأظْهَرَه اللهُ عليه ﴾ أي : أطلع اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام، أو : أظهر الله عليه الحديث، من الظهور، ﴿ عَرَّفَ بعضَه ﴾ أي : عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته، قيل : هو حديث الإمامة، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها :" ألم أقل لك اكتمي عليّ " ؟ قالت :" والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي " فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها.
﴿ وأَعْرَضَ عن بعضٍ ﴾ فلم يُخبرها تكرُّماً. قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن : ما استقصى كريم قط. وقرأ الكسائي :" عَرَف " بالتخفيف، أي : جازى عليه، من قولك للمسيء : لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت، أي : لأجازينَّك عليه، فجازاها عليه السلام بأن طلَّقها، وآلى من نسائه شهراً، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير، وقيل : هَمَّ بطلاقها، فقال له جبريل : لا تُطلِّقها، فإنها صوّامة قوّامة. ه. قيل : المعرّف : حديث الإمامة، والمعرَض عنه : حديث مارية. ﴿ فلما نَبَّأها به ﴾ أي : أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث، قالت حفصة للنبي عليه السلام :﴿ مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ ﴾ الذي لا تخفى عليه خافية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى :﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، ففيه من التصوُّف : أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :" لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر " ١ إذ ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري : وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " ٢ فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي : عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت : مَن أنبأك هذا.. الخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي : تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.

﴿ إِن تتوبا إِلى الله ﴾، الخطاب لحفصة وعائشة، على الالتفات للمبالغة في العتاب، ﴿ فقد صَغَتْ قُلوبُكما ﴾ ؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن حُب ما يُحبه، وكراهة ما يكرهه، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه، وهما فرحا بذلك. وجواب الشرط : محذوف، أي : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب، فقد زالت قلوبكما عن الحق، أو : تُقبلْ توبتكما، أو هو :" فقد صغت " أي : إن تتوبا زاغت قلوبكما فاستوجبتما التوبة، أو : فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه. قال ابن عطية : وهذا الجواب للشرط، وهو متقدم في المعنى، وإنما نزلت جواباً في اللفظ. ه. وقُرئ " زاغت " من الزيغ.
﴿ وإِن تَظَاهرا عليه ﴾ أي : تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سرّه، والفرح بتحريم مارية، ﴿ فإِنَّ اللهَ هو مولاه ﴾ ؛ وليُّه وناصره، وزيادة " هو " إيذان : أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة، ﴿ وجبريلُ ﴾ أيضاً وليّه، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين، ﴿ وصالحُ المؤمنين ﴾ أي : ومَن صلح مِن المؤمنين، أي : كل مَن آمن وعمل صالحاً، وقيل : مَن برئ مِن النفاق، وقيل : الصحابة جملة، وقال ابن عباس : أبو بكر وعمر، ورُوي مرفوعاً، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق ؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب بنتيْهما، وتوهيناً في حقهما، فكانا حقيقا بالذكر، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور. قاله أبو السعود.
﴿ والملائكةُ ﴾ مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم ﴿ بعد ذلك ﴾ أي : بعد نصرةِ الله عزّ وجل، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين، ﴿ ظهيراً ﴾ أي : فوْج ظهير مُعاون له، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه ؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، قال :﴿ بعد ذلك ﴾ تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى :﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، ففيه من التصوُّف : أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :" لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر " ١ إذ ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري : وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " ٢ فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي : عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت : مَن أنبأك هذا.. الخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي : تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.

﴿ عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه ﴾ بالتخفيف، والتشديد للتكثير، أي : يعطيه اللهُ تعالى بدلكن ﴿ أزواجاً خيراً منكن ﴾، قال النسفي : فإن قلتَ : كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟ قلتُ : إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن. ه. وأجاب أبو السعود : بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه. ه. وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة.
ثم وصف المبدَلات بقوله :﴿ مُسلماتٍ مؤمناتٍ ﴾ أي : مُقرّات مخلصات، أو : منقادات مصدّقات، ﴿ قانتاتٍ ﴾ ؛ طائعات، فالقنوت : هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، ﴿ تائباتٍ ﴾ من الذنوب ﴿ عابداتٍ ﴾ ؛ متعبدات متذللات، ﴿ سائحاتٍ ﴾ ؛ صائمات، وقيل للصائم : سائح ؛ لأنَّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره، أو : مهاجرات. قال زيد بن أسلم : لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة، ﴿ ثيباتٍ وأبكاراً ﴾، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار، دون سائر الصفات ؛ لأنهما صفتان متباينتان، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً. . . ﴾ [ التوبة : ١٢١ ]. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى :﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، ففيه من التصوُّف : أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :" لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر " ١ إذ ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري : وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " ٢ فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي : عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت : مَن أنبأك هذا.. الخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي : تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.

ثم أمر الحق تعالى بإرشاد النساء وتأديبهن، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾*﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا قُو أنفسَكم ﴾ أي : نَجُّوها من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، ﴿ وأهليكم ﴾ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم، أو بان تُعلِّموهم وتُرشدوهم. قال القشيري : أظهٍروا من أنفسكم الطاعات ليتعلموا منكم ويقتادوا بأفعالكم. ه. وفي الحديث :" رحِم الله امرءاً قال : يا أهلاه، صلاتَكم صيامَكم مسْكينَكم، يتيمَكم " أي : الزموا ما ينفعكم، فمَن له أهل وأهملهم من التعلُّم والإرشاد عُوتب عليهم، أي : احملوهم على الطاعة، لتَقُوهُمْ ﴿ ناراً وقُودُهَا الناسُ والحجارةُ ﴾ أي : نوعاً من النار لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارة، كما تتّقد غيرها بالحطب. قال ابن عباس : هي حجارة الكبريت، فهي أشد الأشياء حرًّا. ﴿ عليها ملائكةٌ ﴾ تلي أمرها والتعذيبَ بها، وهي الزبانية، ﴿ غِلاظٌ شِدادٌ ﴾ ؛ غلاظُ الأقوال، شِدادُ الأحوال، أو : غلاظُ الخلْق، شِداد الخُلُق، أقوياءُ على الأفعال الشديدة، لم يخلق اللهُ فيهم رحمة، ﴿ لا يَعْصُون اللهَ ما أَمَرَهم ﴾ أي : لا يعصون أمره، فهو بدل اشتمال من " الله " أو : فيما أمرهم، على نزع الخافض، ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ من غير تراخ ولا تثاقل، وليست الجملتان في معنى واحد ؛ إذ معنى الأولى : أنهم يمتثلون أمره ويلتزمونها، ومعنى الثانية : أنهم يُؤدون ما يُؤمرون به، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوَانون فيه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة، بتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، ليلحقوا بكم في درجاكم. ونار القطيعة وقودها الناس، أي : عامة الناس والقلوب القاسية، عليها ملائكة غِلاظ شِداد، وهم القواطع القهرية، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق.
ويُقال للكفرة يوم القيامة عند دخولهم النار :﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليومَ ﴾ إذ لا ينفعكم عذركم ؛ حيث فرَّطتم في الدنيا، ﴿ إِنما تُجْزَون ﴾ اليوم ﴿ ما كنتم تعملون ﴾ في الدنيا من الكفر والمعاصي، بعدما نُهيتُم عنها، وأُمرتم بالإيمان والطاعة، فلا عُذر لكم قطعاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة، بتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، ليلحقوا بكم في درجاكم. ونار القطيعة وقودها الناس، أي : عامة الناس والقلوب القاسية، عليها ملائكة غِلاظ شِداد، وهم القواطع القهرية، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق.
ولما حض المتظاهرين على الرسول صلى الله عليه وسلم على التوبة، أمر بها الجميع ؛ إذ لا يخلو أحد من ذنب أو عيب، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إِلى الله توبةً نَصوحاً ﴾ أي : بالغة في النصح، وُصفت بذلك مجازاً، وهي وصف للتائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم، فيأتوا بها على طريقتها، وذلك أن يتوبوا عن القبائح، لقبْحها، نادمين عليها، مغتمِّين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون إلى قبيح من القبائح، وقيل : نصوحاً : صادقة، وقيل : خالصة، يُقال : عسل ناصح : إذا خلص من شمعه، وقيل : مِن نصاحة الثوب، أي : ترقيعه، لأنها ترقع خروقك في دينك وترمّ خللك، وقيل : توبة تنصح الناس، أي : تدعوهم إلى مثلها ؛ لظهور آثارها في صاحبها، باستعمال الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، ومَن قرأ بضم النون فمصدر، أي : ذات نصوح، أو تنصح نصوحاً. وفي الحديث :" التوبة النصوح أن يتوب، ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع " ١. وعن حذيفة :" بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه " وعن ابن عباس رضي الله عنه :" هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان ".
﴿ عسى ربُّكم أن يُكَفِّرَ عنكم سيئاتِكم ﴾، هذا على ما جرى به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. وقيل : عبّر ب " عسى " للإشعار أنّ المغفرة تفضل وإحسان، وأنّ التوبة غير موجبة لها، ولِيَبقى العبد بين خوف ورجاء ولو عمل ما عمل. ﴿ ويُدْخِلَكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخزي اللهُ النبيَّ ﴾. هو ظرف ل " يدخلكم " ﴿ والذين آمنوا معه ﴾ : عطف على " النبي "، و " معه " : ظرف لآمنوا، وفيه تعريض بمَن أخزاهم الله من الكفرة. ﴿ نُورُهُمْ ﴾ : مبتدأ، و﴿ يسعى ﴾ خبره، أي : يُضيء ﴿ بين أيديهم وبأَيمانهم ﴾ أي : على الصراط وفي مواطن القيامة، ﴿ يقولون ﴾ حال، أي : قائلين حين ينطفئ نور المنافقين :﴿ ربنا أتمم لنا نورنا واغفرْ لنا إِنك على كل شيءٍ قديرٌ ﴾، وقيل : يدعون بذلك تقرُّباً إلى الله مع تمام نورهم، وقيل : تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضُّلاً، وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كأجاود الخيل، وبعضهم حبواً، وزحفاً، وهم الذين يقولون :﴿ ربنا أَتمم لنا نورنا ﴾. وقد تقدّم : أنَّ مِن المقربين مَن تُقرّب لهم غُرف الجنات، فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة، ومنهم مَن يطير في الهواء إلى باب الجنة، فيقول الخزنة : مَن أنتم ؟ فيقولون : نحن المتحابُّون في الله، فيقول : اذهبوا فنِعْمَ أجر العاملين، ويقول بعضهم لبعض : أين الصراط الذي وُعدنه، فيُقال لهم : جزتموه ولم تشعروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : توبةُ العامة من الذنوب، وتوبةُ الخاصة من العيوب، وتوبة خاصة الخاصة من الغيبة عن حضرة علاّم الغيوب، فهؤلاء أشد الناس افتقاراً إلى التوبة ؛ إذ لا بُد للعبد من سهوٍ وسِنةٍ حتى يجول بقلبه في الأكوان، أو يميل عن الاعتدال، فيجب في حقهم الاستغفار منها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة.
وقد تكلم السّلفُ عن التوبة النصوح دون ما تقدّم، فقال ابن جبير : هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل إلا بثلاثة شروط : خوف ألاَّ تُقبل منه، ورجاء أن تُقبل، وإدمان الطاعة. وقال ابن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم، وقال القرظي : يجمعها أربعة : الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الخلان. وقال الثوري : علامتها أربعة : القِلة، والعِلة، والذلة، والغربة. وقال الفضيل : هو أن يكون الذنب نصب عينيه. وقال الواسطي : تكون لا لعرض دنيوي ولا أخروي. وقال أبو بكر الورّاق : هي أن تضيق عليك الدنيا بما رَحُبتْ، كحالة الذين خُلِّفوا. وقال رُويم : أن تكون لله وجهاً بلا قفا، كما كنت عند المعصية قفا بلا وجه، وقالت رابعة : توبة لا ارتياب فيها، وقال السري : لا تصلح التوبة النصوح إلاّ بنصيحة النفس والمؤمنين ؛ لأنَّ مَن صحّت توبته أَحبَّ أن يكون الناس مثله، وقال الجنيد : هي أن تنسى الذنب فلا تذكره أبداً ؛ لأنَّ مَن أحب اللهَ نسي ما دونه. ه.
١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٣٧٦، وابن حجر في المطالب العالية ٣/٣٩٠..
ثم أمر بالجهاد بعد التوبة ؛ لأن النصر لا يكون إلا مع التطهر من دنس المخالفة، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكفارَ ﴾ بالسيف ﴿ والمنافقين ﴾ بالحجة، أو : بالقول الغليظ والوعظ البليغ، أو : بإقامة الحدود، ولم يؤمر بقتالهم لِتَسَتُّر ظاهرهم بالإسلام، " أُمرت أن أحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر " ١، ﴿ واغْلُظْ عليهم ﴾ ؛ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمخاصمة باللسان. ﴿ ومأوَاهم جهنمُ ﴾ يُباشرون فيها عذاباً غليظاً، ﴿ وبئس المصيرُ ﴾ جهنم، أو مصيرهم.
الإشارة : كُلُّ إنسان مأمور بجهاد أعدائه، من النفس، والهوى، والشيطان، وسائر القواطع، وبالغلاظ عليهم، حتى يُسلموا وينقادوا لحُكمه أو تقل شوكتهم، وهذا هو الجهاد الأكبر، لدوامه واتصاله، فمَن دام عليه حتى ظفر بعدوه، أو لقي ربه، كان مِن الصدّيقين، الذين درجتهم فوق درجة الشهداء، تلي درجة المرسَلين. وبالله التوفيق.
١ أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١/٢٢١، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١١٤، والسيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ٢٠..
ثم ضرب مثلا بمن صحب أهل الخذلان، فلم يضره خذلانهم، حيث لم يوافقهم، وبمن صحب أهل التوفيق فلم تنفعه صحبتهم، حيث خالف أمرهم، تهديدا لمن تظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، فقال :
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾*﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾*﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾.
قلت :" مثلاُ " : مفعول ثان لضرب، أي : جعل، و " امرأةَ " : مفعول أول، أي : جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا ﴾، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن : إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى، مشاكِلة لها في الغرابة، أي : ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين، ﴿ امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ ﴾ قيل : اسم الأولى : واهلة، والثانية : راعلة، ﴿ كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ ﴾ أي : كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، ﴿ فخانتاهما ﴾ بإفشاء سرهما، أو بالكفر والنفاق، ﴿ فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً ﴾ أي : فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى، ﴿ وقيل ﴾ لهما عند موتهما، أو يومَ القيامة :﴿ ادخلا النارَ مع الداخلين ﴾ أي : مع سائر الداخلين من الكفرة، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
قال القشيري : لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة، لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة. ه. قال ابن عطية : وقول مَن قال : إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد. ه. قلت : لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، وصيانة سِره، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه، وكل مَن نصحك فقد أحبّك، وكل مَن أهملك فقد مقتك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي : كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة : ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية.
قال الورتجبي :﴿ فنفخنا فيه... ﴾ الآية، أي : ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً. وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله :﴿ وصَدَّقت بكلمات ربها ﴾ ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألا ترى كيف قال :﴿ وكانت من القانتين ﴾ أي : من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. هـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

﴿ وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا ﴾ في أنهم ينفعهم إيمانهم، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة، حيث لم يميلوا عنه، ﴿ امرأة فرعونَ ﴾، وهي آسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى عليه السلام، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها، وألقى عليها صخرةَ عظيمة، فأبصرت بيتَها في الجنة، من دُرة، وانتزع اللهُ روحَها، فلقيتها الصخرة بلا روح، فلم تجد ألماً، وقال سَلْمَان : كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب، وكذا فليكن صوالح النساء، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه. ه. من الثعلبي.
﴿ إِذ قالتْ ﴾ : ظرف لمحذوف، أي : ضرب مثلاً لحالها حين قالت :﴿ رَبِّ ابْنِ لي عندكَ ﴾ أي : قريباً من رضوانك ﴿ بيتاً في الجنة ﴾ أو : في أعلى درجات المقربين، رُوي : أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة. ﴿ ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ ﴾ أي : من نفسه الخبيثة وعمله السيئ ﴿ ونجني من القوم الظالمين ﴾ أي : من القبط التابعين له في الظلم. قال الحسن وابن كيسان : نجاها الله أكرمَ نجاةٍ، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي : كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة : ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية.
قال الورتجبي :﴿ فنفخنا فيه... ﴾ الآية، أي : ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً. وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله :﴿ وصَدَّقت بكلمات ربها ﴾ ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألا ترى كيف قال :﴿ وكانت من القانتين ﴾ أي : من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. هـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

﴿ ومريمَ ابنة عمرانَ ﴾ : عطف على " امرأة فرعون " أي : وضرب اللهُ مثلاً للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع كون قومها كفاراً، ﴿ التي أحْصَنَتْ فَرْجَها ﴾ ؛ حفظته ﴿ فنفخنا في مِن روحنا ﴾ المخلوقة لنا، أو : من روح خَلقتُه بلا واسطة، ﴿ وصدَّقتْ بكلماتِ ربها ﴾ ؛ بصُحفه المنزلة، أو : بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه، ﴿ وكتابه ﴾ أي : جنس الكتاب الشامل للكل، وقرأ البصري وحفص بالجمع، أي : كُتبه الأربعة، وقُرئ :" بكلمة الله وكتابه " أي : بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل، ﴿ وكانت من القانِتين ﴾ أي : من عدة المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال، حتى عُدت من جملتهم، أو كانت من نسل القانتين ؛ لأنها من أعقاب هارون، أخي موسى عليهما السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " ١.
قال النسفي : وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم. ه. وفي الثعلبي : وقال ابن عباس وجماعة : قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي : كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة : ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية.
قال الورتجبي :﴿ فنفخنا فيه... ﴾ الآية، أي : ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً. وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله :﴿ وصَدَّقت بكلمات ربها ﴾ ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألا ترى كيف قال :﴿ وكانت من القانتين ﴾ أي : من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. هـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.


١ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٥/٩٩، والحاكم في المستدرك ٣/١٥٧، وعبد الرزاق في المصنف ١١/٤٣٠، وأحمد في المسند ٣/١٣٥، والبغوي في شرح السنة ١٩/١٥٧..
Icon