تفسير سورة غافر

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة غافر من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية، وهي في جلال شأنها وعظيم قدرها، فياضة بالمعاني والأخبار والعبر، حافلة بألوان الترهيب والتحذير والتذكير مما فيه موعظة بالغة ومزدَجَر. ويأتي في طليعة ذلك كله بيان كريم بصفة الله جل وعلا على أنه ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾.
وفي السورة إخبار عن الأمم السابقة الذين نكلوا عن دين الله، وآذوا النبيين الذين أرسلوا إليهم وهمّوا بقتلهم.
وفي السورة تذكير بأهوال يوم القيامة، يوم التلاق ؛ إذ تتلاقى الخلائق في يوم عصيب بئيس، فظيع الكرب، شديد الزحام ؛ إذ الناس فيه مضطربون وجلون مذعورون.
وتتضمن السورة إنباءً عن قصة فرعون وظلمه وطغيانه وتجبره وفساده في الأرض. إن ذلكم شقي أثيم أسرف في الكفر والعتو وهَمَّ بقتل موسى عليه السلام لولا أن تجرجر ذلك الطاغوت خاسئا مدحورا غريقا وقومه المجرمون في البحر.
وفي السورة لون من ألوان التخاصم والتلاوم في النار بين الكبراء المضلين والأتباع الضالين. وثمة إعلان رباني داوٍ بأن الله ينصر رسله والذين آمنوا معهم في هذه الحياة ويوم يقوم الأشهاد.
وفيها تحضيض كريم من الله على الدعاء. لا جرم أن الدعاء ضرب عظيم من ضروب العبادة التي تكشف عن شديد الإخلاص لله وصادق الإنابة إليه.
إلى غير ذلك من البراهين والعبر وألوان الإنذار والترهيب والتخويف والذكر ما فيه موعظة لكل متدبِّر مدَّكر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :﴿ حم ( ١ ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٢ ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ٣ ) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ﴾.
﴿ حم ﴾، من فواتح السور. وهي وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم ما يراد بها.
قوله :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ﴾ أي أن القرآن منزَّل من عند الله، فهو ليس من صنع بشر ولا يقدر أن يعارضه إنس ولا جن. و ﴿ الْعَزِيزِ ﴾ معناه القوي القاهر الذي لا يغلبه أحد. وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء، فقد أحاط بكل شيء علما.
قوله :﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾ ﴿ غافر ﴾ ﴿ وقابل ﴾ و ﴿ شديد ﴾ : نُعوت للفظ الجلالة. وقيل : مجرورة على البدل١ و ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ ﴾ : أي لمن قال لا إله إلا الله. أو يستره على أوليائه. و ﴿ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ : أي من الشرك والمعاصي. و ﴿ الثّوب ﴾ : مصدر بمعنى التوبة من تاب يتوب توبة وتوبا. وقيل : جمع توبة ﴿ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾ لمن لم يقل لا إله إلا الله، أو للعصاة غير التائبين.
قوله :﴿ ذِي الطَّوْلِ ﴾ أي ذي النعم. واصل الطول : الإنعام والتفضّل. وقيل : المن.
قوله :﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ الله وحده المعبود، لا شريك له. إليه تصير الأمور كلها فإليه يرجع المآب.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٥٣.
قوله :﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الجدال معناه الخصام. والمراد ههنا : الذي يخاصم في تكذيب آيات الله ؛ وذلك هو الجدال بالباطل ابتغاء الطعن في دين الله أو تنفيذ آياته ودحضها، وإطفاء نور الله سبحانه ؛ وذلك هو ديدن الأشقياء المضلين في كل زمان. أولئك الذين يخاصمون في آيات الكتاب الحكيم أو في دينه العظيم سواء في ذلك عقيدة الإسلام أو تشريعه أو ما ارتبط به من القيم والأحكام والمعاني والأخبار والسِّيَر، فالأشقياء من المتربصين والحاقدين والمتعصبين يكيدون للإسلام بالطعن في أحكامه وآياته ومقاصده وتاريخه، يريدون بذلك تشويه الإسلام لينفر منه الناس نفورا ويزهدوا فيه ويجتنبوه أيما اجتناب. وذلكم هو خصام المضلين المغرضين في آيات الله. وذلك بخلاف الجدال في آيات الله من أجل إيضاح ما التبس منها أو أشكل، ولتفنيد ما يفتريه المبطلون من خصوم الإسلام على هذا الدين، أو ما كان للبحث عن الراجح والمرجوح أو لتبيين المحكم والمتشابه فمثل ذلك جهاد عظيم في سبيل الله.
قوله :﴿ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ﴾ ينهى الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بتصرف هؤلاء في البلاد فيما يفعلون من التجارب وتحصيل الأرباح وجمع الأموال الكثيرة وما هم فيه من الخير وسعة الحظوظ الدنيوية، فذلك كله متاع صائر إلى زوال١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٤١٥ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٦٩.
قوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( ٥ ) ﴾.
يبين الله في ذلك حال المشركين السابقين من الأمم الغابرة. وأن هؤلاء المشركين الذين جاءوا من بعدهم قد سلكوا طريقهم في الكفر والزيغ عن منهج الله والصَّدِّ عن دينه. وفي ذلك تسلية من الله لرسوله في تكذيب المشركين من قومه له، بأن له أسوة في الذين سلفوا من النبيين ؛ فقد كذبتهم أممهم وتحزّبوا عليهم بالصدِّ والجحود وهو قوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ والأحزاب من بعد نوح، كقوم عاد وثمود وغيرهم من المكذبين الذين جحدوا ما جاءهم به المرسلون ﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾ أي همت كل أمة من هذه الأمم الجاحدة برسولهم المبعوث فيهم لهدايتهم ﴿ لِيَأْخُذُوهُ ﴾ أي ليأسروه أو ليحبسوه ويعذبوه أو ليقتلوه.
قوله :﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي خاصموا رسولهم بغير حق ؛ بل خاصموه بالشرك والضلال والتكذيب ﴿ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي ليزيلوه. وذلك هو ديدن المشركين المكذبين في كل زمان، إذ يصطنعون الحجج الفاسدة والمخاصمة الشريرة ليبددوا دعوة الحق والهدى وليزيلوا منهج الله من الأرض أو ليُلْبِسوه على الناس إلباسا فيظل في أذهانهم مشوّها مستهجنا.
قوله :﴿ فَأَخَذْتُهُمْ ﴾ أي أهلكت هؤلاء المخاصمين المبطلين بالعذاب ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ أي فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به. ألم يروا أنه حق وأنه شديد. وأنتم تمرون على مساكنهم وأرضهم فتعاينون أثر التدمير والعقاب.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة لمصدر محذوف. وحقت بمعنى وجبت ولزمت ؛ أي مثل ذلك الوجوب من العقاب وجب على الكافرين كونهم من أصحاب النار١
والمعنى : وكما وجب إهلاكهم في الدنيا بالاستئصال بسبب كفرهم وجدالهم بالباطل وجب إهلاكهم وتعذيبهم بالنار يوم القيامة.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٥٩.
قوله :﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ ﴿ الذين ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ يُسَبِّحُونَ ﴾ والجملة مستأنفة وقد تمَّ من قبلها الكلام. وهي مسوقة تأنيسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له. والمعنى : أن الملائكة الذين يحملون عرش الرحمن – هذا البناء الهائل المذهل – وكذلك الملائكة الذين من حول هذا العرش، هم جميعا يسبِّحون بحمد ربهم ؛ أي ينزهونه عن النقائص والعيوب وهم يحمدونه على أنعمه ﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي يسألون الله للمؤمنين المغفرة.
ثم يبين الله كيفية استغفار الملائكة للمؤمنين ؛ فإنهم يستغفرون لهم قائلين ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ ﴿ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ منصوبان على التمييز ؛ أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء١.
قوله :﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ﴾ يسألون التوبة للتائبين من الشرك والمعاصي والمتبعين سبيل الحق وهو الإسلام ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ يسألون الله أن يصرف عن المؤمنين المتقين عذاب الجحيم. والمراد بالجحيم، النار الشديدة التأجّج. وكل نار بعضها فوق بعض٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦٠.
٢ القاموس المحيط ص ١٤٠٣.
قوله :﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ يسألون الله أن يدخل المؤمنين المتقين جنات عدن. وهي دار النعيم الدائم والإقامة الأبدية ﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ يسألون الله أن يدخل الجنة مع المؤمنين، من كان صالحا من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. وذلك من الصلاح وهو الإيمان بالله إيمانا صحيحا صادقا مقترنا بصالح الأعمال والطاعات. ومن كان كذلك فقد صلح لدخول الجنة. وتلكم هي غاية السعادة والهناء والحبور، وهي أن يفوز المرء بالجنة حيث الإقامة الأبدية السَّرْمَدِية ومعه أهله وأحباؤه الصالحون من الوالدين والزوجات والأولاد. لا جرم أن هذا هو الفوز الأكبر والقرار الأعظم الكريم.
قوله :﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ يعني القوي القاهر الذي لا يُغْلَب، والحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره.
قوله :﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ يسألون الله أن يصرف عنهم جزاء السيئات والمراد بها صغائر الذنوب، أو كبائرها المتوب عنها.
قوله :﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ يعني من تصرف عنه جزاء السيئات يوم القيامة أو تحفظه من العذاب ﴿ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ غشيته برحمتك الواسعة ونجيته من العذاب وجزيته الجنة ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ الإشارة إلى ما تقدم من تنجيتهم من العذاب وإدخالهم الجنة ؛ فإنه هو الجزاء الكريم الذي لا يعدله في الحسن والكمال جزاء١.
١ فتح القدير ج ٤ ص ٤٨١-٤٨٢ والكشاف ج ٣ ص ٤١٦-٤١٧.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( ١٠ ) ﴾.
المقْتُ : أشد الغضب. وهنا يبين الله حال الخاسرين في النار وما يغشاهم من التعْس والتعنيف والتوبيخ ومقت الله إياهم، حتى إنهم أنفسهم يمقتون أنفسهم. فقد قال المفسرون : لما رأى الكافرون أعمالهم يوم القيامة ونظروا في كتاب أعمالهم وأدخلوا النار فعاينوا العذاب الشديد مقتوا أنفسهم بما أسلفوه من سوء الفعال وقبيح الأعمال.
وحينئذ ينادون وهم في النار : لَمَقْتُ الله إياكُم في الدنيا أشدُّ من مقتكم أنفسَكم اليوم. وهذه زيادة في التنكيل بالمكذبين الخاسرين وقد طرحوا في النار جزاء نكولهم عن دين الله. وقيل : معناه، لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض.
قوله :﴿ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ ﴾ منصوب بمقدر، وتقديره : اذكروا حين تدعون١ وذلك تعليل لمقتهم بما قدموه من الكفر وسوء الفعال ؛ أي واذكروا حين دعائكم إلى الإيمان بالله فتجحدون وتكذبون وتأبون إلا الشرك والباطل.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦١.
قوله :﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ ﴿ اثْنَتَيْنِ ﴾، نعت لمصدر محذوف ؛ أي أمتنا إماتتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين. والمراد بالإماتتين، خَلْقهم أمواتا أولا ؛ إذ كانوا نُطفا لا روح فيها، ثم إماتتهم عند انقضاء آجالهم بعد أن كانوا أحياء في الدنيا. وأما المراد بالإحياءتين : الإحياءة الأولى في الدنيا، ثم إحياءة البعث.
قوله :﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾ ذلك اعتراف منهم بذنوبهم بعد أن عاينوا عذاب النار وأيقنوا أنهم مكبكبون في الجحيم، فقالوا : اعترفنا بما أسلفنا من الذنوب والسيئات في الدنيا من تكذيب وإشراك وتلبُّس بالسيئات والمعاصي. يقولون ذلك وقد غشيهم من الندامة والحسرة ما غشيهم وهم حينئذ موقنون أنهم لا ينفعهم الاعتراف أو الندم.
قوله :﴿ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ يعني هل من سبيل إلى خروج لنا من النار ورجوع إلى الدنيا. ذلك هو تمنِّي الخاسرين يوم القيامة عند معاينة العذاب ؛ وذلك لفرط ما يصيبهم من الذعر، وفرط ما يحيط بهم من شدة البأس والقنوط.
قوله :﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ﴾ الإشارة عائدة إلى ما هم فيه من الفزع والعذاب والقنوط. وذلك سببه أنكم إذا دُعيتم إلى عبادة الله وحده كفرتم وأعرضتم عن دينه وأشركتم معه غيره من الأصنام والأنداد.
وهو قوله :﴿ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ﴾ وقوله :﴿ وحده ﴾ منصوب على أنه مصدر في موضع الحال١.
قوله :﴿ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ الحكم حينئذ لله وحده دون غيره ؛ فهو وحده الذي حكم عليكم بالخلود في النار، وأنكم في العذاب السَّرْمد ماكثون لا تخرجون وهو سبحانه ﴿ الْعَلِيِّ ﴾ المتعالي عن الشركاء والأنداد. وهو الكبير، له الكبرياء في عظمته وجبروته وبالغ قدرته وسلطانه٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦.
٢ فتح القدير ج ٤ ص ٤٨٣-٤٨٤ والكشاف ج ٣ ص ٤١٨-٤١٩ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٢-٧٣.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ( ١٣ ) ﴾.
يبين الله للناس علامات قدرته البالغة وأنه الصانع المقتدر الحكيم. ومن آياته الدالة على ذلك : الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحو ذلك.
قوله :﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ﴾ المراد بالرزق ههنا، المطر ؛ فالله يأتي بالرزق بسبب المطر.
قوله :﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ﴾ أي ما يتعظ وما يعتبر بآيات الله الكثيرة الدالة على عظمته وتوحيده وتفرِّده في الخلْق إلا من خشع قلبه لله ورجع عن الشرك والعصيان إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته.
قوله :﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ يخاطب الله المؤمنين الطائعين من عباده الذين صلحت نفوسهم واستقامت فطرتهم فيأمرهم بالإيمان به وحده مخلصين له العبادة المبرأة من الشرك ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ أي اعبدوا الله وحده واخلصوا له الطاعة والعبادة وابتغوا مرضاته في القول والعمل ولو كره الكافرون ذلك. ودأب الكافرين الحقد وكراهية الحق، والصدِّ عن منهج الله. الكافرون على اختلاف أهوائهم ومللهم ودياناتهم يكرهون الإسلام والمسلمين، وهم يغتاظون ويحنقون أيَّما حَنَق أن يروا في المسلمين إخلاصا لربهم واستمساكا بعقيدتهم أو التزاما حقيقيا لشريعة الإسلام. من أجل ذلك ينبه الله عباده المؤمنين لكي يبادروا طاعته والتزام منهجه وأن لا يعبئوا بما يُكنه الظالمون من الكافرين والمنافقين والمتربصين من الكراهية لهم.
قوله :﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾ ﴿ رفيع ﴾ : مبتدأ، وخبره :﴿ ذو العرش ﴾ ويجوز أن تكون ﴿ رفيعُ ﴾ و ﴿ ذُو الْعَرْشِ ﴾ خبرين لمبتدأ محذوف ؛ أي هو رفيع الدرجات، وهو ذو العرش١ والمعنى : أن الله رفيع الشأن والسلطان، عظيم الجلال والمقام. والمراد بذلك : التنبيه على رفعة شأنه وعلو سلطانه وأنه سبحانه مالك العرش وخالقه ومدبره.
قوله :﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ المراد بالروح : الوحي. وقد سمي روحا بما يتنزل به من آيات الله التي تثير في الناس الهداية والنور وحسن التوجه إلى الله بعد أن كانوا موتى لا خير فيهم ولا حياة. أو لأن الناس يَحيَوْنَ بالوحي من موت الكفر كما تحيى الأبدان بالأرواح ؛ فالله يُلقي ذلك ﴿ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ يُلْقي الله وحيه بقضائه وحكمه – على النبيين المصطفين الذين يختارهم من عباده.
قوله :﴿ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴾ وذلك يوم القيامة ؛ إذْ تتلاقى فيه الخلائق كافة. وقيل : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض في المحشر.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦٢.
قوله :﴿ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ﴾ بدل من قوله :﴿ يَوْمَ التَّلاقِ ﴾ وقيل : يوم منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر١ وبارزون : أي خارجون من قبورهم ؛ فهم ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمةٍ أو بناء عال ؛ فالأرض بارزة بهم ؛ لأنها قاع مستوية صفصف. وحينئذ يحشرون عراة لا يسترهم شيء من ثياب أو غواش ولا ينفعهم شيء إلا الإيمان وعمل الصالحات.
قوله :﴿ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾ ذلك بيان من الله لعباده أن الناس بارزون يوم القيامة لا يحجبهم ولا يسترهم شيء ولا يخفى منهم على الله شيء ؛ بل هم ظاهرون مكشوفون، مستبينون لله في أقوالهم وأعمالهم.
قوله :﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ ينادي يوم القيامة منادٍ بذلك. وذلك إذا هلك أهل السماوات والأرض فليس حينئذ من حيِّ موجود إلا الله الخالق الموجد. وقيل : قائل ذلك هو الرب سبحانه وليس حينئذ من مجيب ؛ بل الله وحده يجيب نفسه فيقول :﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ الملك لله وحده ؛ فهو سبحانه له ملكوت كل شيء وليس له في ذلك شريك ولا نديد. وهو سبحانه القوي الغالب الذي لا يقهره أحد بل هو القاهر الجبار، المنتقم من الظالمين والخاسرين والأشرار.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦٤.
قوله :﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ قائل ذلك هو المجيب وهو المنادي في الأظهر. وذلك نداء رعيب ومزلزل من الواحد القهار يعلن فيه للخلائق أن كل نفس إما تُجزى بما عملت من خير وشر وأنه ﴿ لا ظُلْمَ اليَوْمَ ﴾ ليس من ظلم البتة. ولا يحيق بأحد جور فما الله بظلام للعبيد.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ الله سبحانه يقضي بين العباد في الآخرة سريعا وهو يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد من غير إبطاء في ذلك ولا إنظار ؛ إذ لا يشغله حساب عن حساب. وهو سبحانه لا يحتاج إلى تفكُّر في القضاء بين الخلْق أو تدبُّر كالذي يحتاج إليه القضاء من العباد. بل الله خبير مقتدر لا يعزّ عليه فعل ما يشاء وهو أسرع الحاسبين.
قوله :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ ﴾ ﴿ يَومَ ﴾ مفعول به، أو ظرف. و ﴿ الْآَزِفَةِ ﴾ بمعنى القريبة من أزف الشيء أي قرب١ والمراد بالآزفة : القيامة، سميت بذلك لقربها. وأزفت الآزفة أي قربت الساعة. وقيل : المراد بالآزفة يوم حضور الموت. والمعنى الأول أظهر وأولى بالصواب. وحين تقوم الساعة تضطرب القلوب وتذل النواصي ويشيب من فرط الهول الولدان.
ويأتي وصف الرحمن للساعة على أكمل وأروع ما يكون عليه البيان المؤثر النافذ إلى أعماق القلوب وذلك في قوله :﴿ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾ ﴿ كَاظِمِينَ ﴾، منصوب على الحال ؛ أي مغمومين مكروبين ممتلئين غمّا. والمعنى : أن قلوب الظالمين الخاسرين يوم القيامة تزول عن مواضعها من شدة الخوف ومن فظاعة المشهد المرعب حتى تصير إلى الحناجر. ومفردها حنجرة. وقيل : إن ذلك إخبار عن فظاعة الخوف ونهاية الشدة والذعر.
قوله :﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ الحميم، القريب المحب أي ليس للخاسرين يوم القيامة حيث الفزع والإياس واشتداد الهول، من قريب مشفق محب ينفعهم، ولا ذو شفاعة يطاع في شفاعته لهم.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٦٦.
قوله :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ﴾ الله يعلم مسارفة النظر إلى ما لا يحل لنظر إليه ؛ أي يعلم الله الأعين الخائنة. وقيل : المراد النظرة بعد النظرة. والمعنى الأول أولى بالصواب لشموله ؛ فالله – جل وعلا – يعلم ما تسترقه الأنظار مما لا يحل النظر إليه مما فيه انتهاك لحرمات المسلمين واطلاع على أستارهم وعوراتهم وهو ما يفعله أهل الرِّيب ﴿ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ الله عليم بما تكنه قلوب الناس من خفايا ؛ فإنه سبحانه عليم بالأسرار والنوايا ؛ إذ يستوي لديه الظاهر والباطن.
قوله :﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ﴾ الله جل وعلا يقضي بين عباده بالصدق والعدل. وهو سبحانه لا يحيف في قضائه وليس لعدله البالغ المطلق أيما نظير.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾ يعني ما تعبدونه من آلهة مصطنعة مفتراة لا تقضي بشيء. وذلك من باب التهكم بهم لفرط سفاهتهم وجهالتهم ؛ فإن ما يعبدونه من أصنام صماء لا يوصف بالقدرة وليس من شأن هذه المعبودات المفتراة أن تقضي. قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ ذلك تقدير لوصفه سبحانه بأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ فالله عز وجل يسمع ما تنطق به الألسن من كلام مسموع أو خفي. وهو سبحانه بصير يرى ويعلم ما يجري في الوجود من أحداث وأشياء. وفي ذلك من الوعيد والتهديد ما لا يخفى١.
١ فتح القدير ج ٤ ص ٤٨٤-٤٨٧ والكشاف ج ٣ ص ٤١٩-٤٢١ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٤.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( ٢١ ) ﴾.
الاستفهام للتوبيخ والتعنيف لهؤلاء المشركين الخاسرين. والمعنى : أو لم ير هؤلاء المشركون في أسفارهم للتجارات ما حلَّ بالأمم الظالمة المكذبة من قبلهم من سوء العاقبة. فقد أتاهم من الله العذاب والتدمير والاستئصال. وتلك مساكنهم الخاوية وآثارهم الدوارس تدل على ما نزل بهم من الإهلاك والإبادة. وقد كانوا أشد من هؤلاء المشركين قوة وذلك في كثرة الأعداد والأموال وشدة البأس. وكانوا كذلك أشد منهم آثارا. والمراد بالآثار، الحصون المنيعة، والقصور الحصينة وغير ذلك من وجوه الآثار التي تدل على قوة الأمم السابقة وأنهم أشد بأسا من هؤلاء المشركين. وهم مع شديد قوتهم وبأسهم وظاهر منعتهم ؛ فقد أخذهم الله بعقابه بسبب كفرهم بالله ورسله وصدهم عن دين الله. وهو قوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ دمَّر اللهُ عليهم وأهلكهم بشركهم وما تلبسوا به من الذنوب والمعاصي. وما كان لهم من أحد يدفع عنهم البلاء أو يقيهم مما حلَّ بهم من عقاب الله.
قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا ﴾ لقد كان سبب إهلاكهم وتدميرهم أنهم جاءتهم رسل الله يبلغونهم دعوة ربهم وينذرونهم لقاء الله يوم البعث ويحذرونهم الكفر والنكول عن منهج الله ﴿ فَكَفَرُوا ﴾ جحدوا ما أتتهم به رسل الله وأعرضوا عن الحق وأبوا إلا التلبُّس بالشرك وعبادة الأصنام واتخاذ الآلهة المفتراة المزعومة من دون الله ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ﴾ أهلكهم بعقابه ﴿ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ الله القوي الغالب، المنيع الجناب، يأخذ الظالمين المجرمين بعقابه الشديد١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٤٢١-٤٢٢ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٤-٧٥.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( ٢٣ ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ٢٤ ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ( ٢٥ ) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ( ٢٦ ) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾.
ذلك بيان من الله عن المستكبر الخاسر فرعون. هذا الطاغوت العاتي الذي طغى في البلاد وأكثر في الأرض الفساد وزعم لنفسه من الصفة المفتراة ما يزلزل القلوب لفظاعته وشدة إجرامه ونكره ؛ إذ ادعى لنفسه الإلهية. وذلكم غاية الطغيان والعتوِّ والكفران، وأشنع ما يصخ الأسماع من شنيع الاجتراء والظلم.
يُبيّن الله حال هذا المتجبِّر العُتُلِّ الذي عتا عن أمر الله واستكبر عن دينه وكذَّب رسوله وآذى المؤمنين من بني إسرائيل أفظع إيذاء من غير ذنب ولا جريرة. وهو قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ أرسل الله رسوله موسى عليه السلام بالآيات البينات من عنده إلى فرعون وهامان وقارون وجنودهم لهدايتهم وتبليغهم ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ وهو الحجة الظاهرة والمراد به هنا المعجزات الحسبة المنظورة التي لا ينكرها إلا مكابر جهول أو مستكبر غاشم.
فكذب بها فرعون وقومه الطغاة ﴿ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ سموا الحجة الصادقة والمعجزة الباهرة سحرا وكذبا، ورموا النبي وكليمه موسى بأنه ساحر كذاب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( ٢٣ ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ٢٤ ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ( ٢٥ ) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ( ٢٦ ) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾.
ذلك بيان من الله عن المستكبر الخاسر فرعون. هذا الطاغوت العاتي الذي طغى في البلاد وأكثر في الأرض الفساد وزعم لنفسه من الصفة المفتراة ما يزلزل القلوب لفظاعته وشدة إجرامه ونكره ؛ إذ ادعى لنفسه الإلهية. وذلكم غاية الطغيان والعتوِّ والكفران، وأشنع ما يصخ الأسماع من شنيع الاجتراء والظلم.
يُبيّن الله حال هذا المتجبِّر العُتُلِّ الذي عتا عن أمر الله واستكبر عن دينه وكذَّب رسوله وآذى المؤمنين من بني إسرائيل أفظع إيذاء من غير ذنب ولا جريرة. وهو قوله سبحانه :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ أرسل الله رسوله موسى عليه السلام بالآيات البينات من عنده إلى فرعون وهامان وقارون وجنودهم لهدايتهم وتبليغهم ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ وهو الحجة الظاهرة والمراد به هنا المعجزات الحسبة المنظورة التي لا ينكرها إلا مكابر جهول أو مستكبر غاشم.
فكذب بها فرعون وقومه الطغاة ﴿ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ سموا الحجة الصادقة والمعجزة الباهرة سحرا وكذبا، ورموا النبي وكليمه موسى بأنه ساحر كذاب.

قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ لما جاءهم موسى برسالة التوحيد ودين الحق من عند الله استكبروا وعتوا عتوا وقالوا في طغيان ولجوج :﴿ اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ﴾ أمر قومه وجنوده المجرمين وجنوده المجرمين بقتل أبناء بني إسرائيل واستبقاء بناتهم. وهذا قتل آخر غير القتل الأول الذي أمر فرعون بإنزاله ببني إسرائيل بعد أن أنذرته الكهنة بزوال ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. وذكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله في ذلك : أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا. يريد بذلك أن هذا القتل غير القتل الأول.
قوله :﴿ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ﴾ أي أن كيد هؤلاء الطغاة المجرمين ومكرهم الظالم ببني إسرائيل ؛ إذْ قتلوا أولادهم الذكور واستحيوا نساءهم، إنْ هو إلا عبث لا يغنيهم وهو باطل لم يُجْدهم نفعا ولم يدفع عنهم قدر الله بهلاكهم مغرقين في البحر. وبذلك قد ذهب كيد فرعون وانقضى فكان ضربا من المكر الخبيث الضائع الذي لا يغيِّر قدرا لله مسطورا في علمه القديم. ومضت سنة الله بتدمير الباطل وأهله واستعلاء الفئة المؤمنة المستضعفة من بني إسرائيل.
قوله :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ كانوا إذا همّ فرعون بقتل موسى كفّوه ع ذلك وقالوا له : ليس هذا ممن تخافه فهو أضعف من ذلك، وما هو إلا ساحر لا يقاومه إلا مثله. وإنْ أنت قتلته أدخلت على الناس الشبهة واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة. والظاهر أن فرعون كان يعلم أن موسى نبي وأن ما جاء به لهو معجزات وما هو بسحر، فكان خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لهول الجزع. وكان اللعين مُحبّا للقتل وسفك الدماء.
قوله :﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ يدل على خوف فرعون من موسى لكونه نبيّا، وهذا من تمويهاته ؛ إذ يُظهر لقومه قلة احتفاله به فيوهمهم أنهم هم الذين يكفونه. والصواب أنه ما كان يكفّه إلا ما في نفسه من شديد الفزع.
قوله :﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾ ذلك تعليل فاسد لقتل موسى وهو زعْم فرعون : إني أخاف أن يغيِّر ما أنتم عليه من دين، وقد كانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام.
قوله :﴿ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ أي أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بإشاعة الفتن بينكم وبين والاقتتال الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المعايش ويهلك الناس.
قوله :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ لما سمع موسى عن حديث فرعون بقتله قال مستعينا بالله مستعيذا من ظلم الظالمين وشر الأشرار ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ إنما ألجأ إلى الله وحده وأعتصم به متوكلا عليه ﴿ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ أي من كل ظالم مستكبر عن الإذعان لله مكذب بيوم القيامة. وذلكم أشد الجرائم نكرا. فإذا اجتمع في الرجل الطغيان والتجبر والظلم والتكذيب بيوم البعث فقد استجمع أسباب الكفر والفساد والشر. وذلك الذي عليه فرعون من الجحود والفسق والاستكبار والغفلة عن شدائد اليوم الآخر.
وكذلك غيره من الطغاة والعتاة والمتجبرين في كل زمان. أولئك الذين يكفرون بدين الله الحق، ويصدون عن منهجه القويم ويثيرون في الأرض الخراب والفساد بإشاعة الكفر والإلحاد والإباحية وتدمير القيم والأخلاق ومقتضيات الفطرة السليمة.
أولئك هم شياطين البشرية في كل زمان. وأولئك هم الأخسرون الأذلون الأشقياء حَصَبُ جهنم ووقود النار١.
١ فارغ؟؟؟؟؟؟؟.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( ٢٨ ) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾.
الظاهر أن الرجل المؤمن كان قبطيّا من آل فرعون وقد آمن بموسى سرّا. وقيل إنه من بني إسرائيل وكونه قبطيّا أولى بالصواب.
وقوله :﴿ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ ﴾ صفة لرجل.
قوله :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ الاستفهام للإنكار والتعنيف الشديد وأن يقول، يعني كراهية أن يقول ربي الله ؛ فقد أنكر عليهم الرجل المؤمن عزمهم على قتل موسى لقوله :﴿ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ والمعنى : أتفعلون هذه الفعلة الفظيعة الشنعاء وهي قتل نفس مؤمنة محرمة دون على أو سبب إلا قول كلمة الحق ودعوتكم إلى توحيد الله وعبادته وحده. وقد استدرجهم هذا المؤمن إلى الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام لتليين قلوبهم القاسية وكسر سَوْرَتهم الجامحة وترغيبا لهم في الإيمان بالله ورسوله.
قوله :﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ بيَّن لقومه جملة البراهين من المعجزات الظاهرة التي جاءهم بها موسى فشاهدوها وعاينوها. وهي تشهد بصدق رسالته وأنه مبعوث أمين قد جاءهم برسالة الحق واليقين من عند الله.
قوله :﴿ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾ احتج عليهم بأن هذا الذي جاءكم يدعوكم إلى دين الله، لا يخلو من كونه كاذبا أو صادقا، فإن كان كاذبا فإنما يعود ضرر كذبه عليه ﴿ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾ يعني إن تعرضتم له بالسوء يصبكم بعض الذي يعدكم ؛ فقد ذكر ﴿ بعضُ ﴾ مع تقديره أنه نبي صادق في كل ما يقوله، وهو يبتغي بذلك أن يسلك معهم سبيل المناصحة والبرهان بما يبين لهم أنه لا يتعصب لهذا الرجل فيكون ذلك أقرب إلى تسليمهم له وقبولهم به.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ لا يجعل الله الهداية والتوفيق للذي يشتط ويفتري الكذب، ومن كان كذلك لا يستقيم أمره بل إن الله خاذله ومهلكه. أو لو كان ذا إسراف وكذب فيما يقول لما عضده الله بالبينات الظاهرة والمعجزات العجاب. وكذلك قال لهم :﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ ﴾.
﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ ﴾ حال من ضمير ﴿ لكم ﴾ وفي ذلك ينبههم الرجل المؤمن إلى أنهم في زمامهم أولو مُلك ومنعة وشوكة ﴿ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ يعني أولي بأس وقوة في أرض مصر، عالين فيها على بني إسرائيل. أي لكم ملك مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله وشديد بأسه وانتقامه. وهو قوله :﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ يحذِّرُ قومه بأس الله وأليم عقابه وانتقامه فإنه إن نزل بهم فلا طاقة لهم بدفعه أو احتماله وليس لهم من أحد يغنيهم أو يمنعهم من البلاء إن حاق بهم. لكن فرعون ذو طبع غليظ كزٍّ، وقلب شديد القسوة بور، لا يصيخ لموعظة ولا يرق لعبرة أو نصح. بل ظل موغلا في الجحود والتكذيب والصدِّ عن دين الله بالقهر والتجبر فقال :﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ يعني ما أشير عليكم بما أراه وهو قتل موسى ولا أستصوب غير قتله. وما تقولونه أنتم خلاف ذلك فهو غير سديد ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ يعني ما أدلكم برأيي هذا إلا سبيل الصواب والسداد١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٤٢٣-٤٢٥ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٦-٧٧.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ( ٣٠ ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( ٣١ ) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( ٣٢ ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( ٣٤ ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾.
قال الرجل المؤمن لقومه ناصحا محذرا إياهم ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ أي مثل أيامهم التي غشيهم فيها من الانتقام ما غشيهم. وفي ذلك إشعار لهم بأنه يحب لهم الخير والنجاة ويخشى عليهم مما يسيئهم أو يكرهونه. والمراد بالأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم الكافرة الضالة ؛ فقد كان لكل حزب منهم يوم دمار أهلكهم الله فيه ؛ فمرة هلك قوم نوح بالطوفان، ومرة أهلك عادا بالريح العاتية، وكذلك أهل ثمود بالصيحة، وأهلك الذين من بعدهم من الضالين الخاسرين. وهو بذلك يحذر قوم فرعون مما حاق بأولئك السابقين ويخوفهم نزوله بهم لكي ينزجروا عن طغيانهم وباطلهم، فيفيئوا إلى الحق والصواب بعبادة الله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ أي أن تدمير أولئك الظالمين، وأخْذَهم بالعقاب والانتقام كان عدلا من الله ؛ لأنهم استوجبوا ما نزل بهم من الانتقام الشديد بسبب كفرهم وعتوهم وإيغالهم في الضلال والباطل وصدهم عن دين الله.
وما يريد الله سبحانه ظلما لعباده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ( ٣٠ ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( ٣١ ) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( ٣٢ ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( ٣٤ ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾.
قال الرجل المؤمن لقومه ناصحا محذرا إياهم ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ أي مثل أيامهم التي غشيهم فيها من الانتقام ما غشيهم. وفي ذلك إشعار لهم بأنه يحب لهم الخير والنجاة ويخشى عليهم مما يسيئهم أو يكرهونه. والمراد بالأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم الكافرة الضالة ؛ فقد كان لكل حزب منهم يوم دمار أهلكهم الله فيه ؛ فمرة هلك قوم نوح بالطوفان، ومرة أهلك عادا بالريح العاتية، وكذلك أهل ثمود بالصيحة، وأهلك الذين من بعدهم من الضالين الخاسرين. وهو بذلك يحذر قوم فرعون مما حاق بأولئك السابقين ويخوفهم نزوله بهم لكي ينزجروا عن طغيانهم وباطلهم، فيفيئوا إلى الحق والصواب بعبادة الله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ أي أن تدمير أولئك الظالمين، وأخْذَهم بالعقاب والانتقام كان عدلا من الله ؛ لأنهم استوجبوا ما نزل بهم من الانتقام الشديد بسبب كفرهم وعتوهم وإيغالهم في الضلال والباطل وصدهم عن دين الله.
وما يريد الله سبحانه ظلما لعباده.

قوله :﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ أي التنادي ؛ وهو تصايحهم بالويل والثبور، من هول العذاب وفظاعة التحريق في النار وقرئ بالتشديد وهو أن يندَّ بعضهم من بعض. كقوله سبحانه :﴿ يوم يَفِرّ المرء من أخيه ( ٣٤ ) وأمه وأبيه ﴾ وقيل : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبينما هم يموج بعضهم في بعض ؛ إذ سمعوا مناديا : أقبلوا إلى الحساب.
قوله :﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾ تولون منصرفين فرارا من موقف الحساب، أو فارِّين عن النار غير معجزين. فكيفما توليتم أو أدبرتم أو فررتم هربا من العذاب فلستم بخارجين من ملكوت الله وسلطانه ﴿ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ ليس لكم من أحد يعصمكم من بأس الله إ نزل بكم، ومن شديد عقابه إن أحاط بكم.
قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ يوسف : هو نبي الله ابن يعقوب عليهما الصلاة والسلام ؛ فقد وبخهم الله توبيخا ؛ إذ بيّن لهم أن يوسف قد أتاكم من قبل بالمعجزات فشككتم فيها وارتبتم وما تزالون شاكين مكذبين ما جاءكم به من عند الله حتى إذا مات ﴿ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ وذلكم قولكم بأفواهكم من غير حجة لكم فيه ولا برهان، إلا أنكم جامحون للظلم والضلال وتكذيب المرسلين.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل هذا الإضلال أو الخذلان يخذلُ الله كل مسرف في عصيانه وعتوه، مرتاب في دينه لحق المنزل عليه من عند الله.
قوله :﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ﴾، مسرفا واحدا بل يريد كل مسرف. ويجوز رفع ﴿ الذين ﴾ على الابتداء١.
والمعنى أن جدال المكذبين الجاحدين الذين يخاصمون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ فاعل ﴿ كَبُرَ ﴾، هو الضمير العائد على ﴿ من هو مسرف ﴾ وقيل : راجع إلى مصدر الفعل المتقدم وهو قوله :﴿ يجادلون ﴾ وتقديره : كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا أي يمقته الله ويبغضه أشد البغض وكذلك الذين آمنوا يمقتونه ويبغضونه. ويراد بذلك التعجب ولاستعظام لجدالهم بغير حق ولا برهان إلا العناد والرغبة في الباطل.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ أي مثل ذلك الختم على قلوب المسرفين المرتابين والذين يجادلون في آيات الله بالباطل والهوى، يختم الله على كل ذي قلب مستكبر عن الحق، متجبِّر لا يلين بحجج الله وآياته.
وقرئ ( قلبٍ )، بالتنوين، فوصف بالتكبر والتجبر ؛ لأنه مركزهما ومنبعهما٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٧٨.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٤٢٦-٤٢٧ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٧٧-٧٨.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ( ٣٦ ) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾.
يخبر الله فرعون، هذا الطاغوت المتجبر العاتي ؛ إذ قال لوزيره الأثيم هامان على سبيل التجبر والتكبر والغرور ﴿ ابْنِ لِي صَرْحًا ﴾ والصرح معناه القصر العالي المنيف من الآجر المضروب من الطين المشوي.
﴿ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ( ٣٦ ) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ﴾ ﴿ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ﴾ بدل من ﴿ الْأَسْبَابَ ﴾ أو عطف بيان له١ و ﴿ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ﴾ أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها. فكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه وذلك كالرشاء ونحوه.
والفائدة من تكرير الأسباب تفخيم شأنها، والتأكيد على أنه قصد أمرا عظيما.
قوله :﴿ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ جواب الأمر في قوله :﴿ ابْنِ لِي ﴾ فنصب بأمن مضمرة بعد الفاء٢ والمعنى : فأنظر إلى إله موسى. وهذا من فرط طغيانه وبالغ عتوه وتمرده ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ أي في كونه نبيا وفي زعمه الإلهية لغيري.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ الكاف صفة لمصدر محذوف ؛ أي ومثل ذلك التزيين والصد عن سبيل الله ﴿ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ فقد زيّن له الشيطان بوسوسته سوء فِعاله من الكفر والاستكبار وفرط الغرور وزعمه أنه إله. فقد كان عاتيا متجبرا مضلاًّ ؛ إذ صد عن سبيل الحق، سبيل الله المستقيم.
قوله :﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾ التباب، الهلاك والخسران أي ما يكيده فرعون لدين الله بالصد وللمستضعفين بالقهر والإذلال، إنما مصيره الخسران ولن يدفع عنه ذلك من ينتظره من سوء المصير، في الدنيا حيث التغريق الشنيع، وكذلك في الآخرة حيث النار وبئس القرار.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٨١.
٢ الدر المصون ج ٩ ص ٤٨٢.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( ٣٨ ) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( ٣٩ ) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٤٠ ) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ( ٤١ ) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴾.
دعا الرجل المؤمن قوم فرعون إلى استماع نصحه لهم وإلى طاعته فيما دلَّهم عليه ﴿ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ أي أسلككم في طريق الحق ولهداية والنجاة.
ثم وضّح لهم ذلك بذم الدنيا وتصغير شأنها ؛ لأن الإخلاد إلى الدنيا أو الركون إليها أصل الشر كله. فقال :﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾ إنها متاع يتلهّى به الناس فيغفلون عن دين الله ويزيغون عن سبيله المستقيم ليسلكوا سبل الضلال والباطل فيبوءون بسخط الله وغضبه ثم يصيرون بعد ذلك إلى النار ﴿ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ ذلك تعظيم لشأن الآخرة فإنها الدائمة الباقية التي لا تفنى ولا تزول. وهي المستقر الذي لا يتغير ولا يتحول.
قوله :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ يحذر الله عباده من فعل المعاصي فإنها سبيل الهلاك والخسران، وإنه لا يجزي المسيئون منن جزاء السوء إلا بمثل إساءتهم ؛ لأن الزيادة على مقدار جزاء السيئة ظلم وما الله بظلام للعبيد.
قوله :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ ذلك ثناء من الله على عباده المؤمنين، وفيه تحريض لهم على الإيمان وفعل الطاعات والصالحات التي تفضي بهم إلى الجنة. فما يبادر المرء للإيمان والطاعة إلا جوزي خير الجزاء من الله سواء كان المبادر ذكرا أو أنثى. على أنه يشترط لصحة العمل وقبوله أن يكون العامل مؤمنا، وهو قوله :﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ فإنما الإيمان الصحيح سبيل القبول والنجاة ولن تغني العاملين أعمالهم إن لم يكونوا مؤمنين.
على أن جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ﴿ الجَنَّة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ بغير تقدير، لفرط كثرته وزيادته. بخلاف السيئة فإن جزاءها مثلها بغير زيادة.
قوله :﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴾ كرَّرَ نداء قومه زيادة في تنبيههم وإيقاظهم من الغفلة. وفي ذكر قومه ما يكشف عن شدة حرصه على إيمانهم وخلاصهم، وعلى تَحَزُّنه لهم وتلطفه بهم عسى أن يتعظوا ويبادروا الإيمان والإذعان لله ؛ إذ يقول لهم :﴿ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ ﴾ في مقابلة دعائي لكم أن تسلكوا سبيل الرشاد فتحظوا بالنجاة والجنة، أنتم تدعونني إلى خلاف ما أدعوكم إليه. تدعونني للكفر والباطل، وهما السبيل إلى النار.
وقد بيَّن سبيل النار بقوله :﴿ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾
والمراد بنفي العلم، نفي المعلوم، كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله. وما ليس بإله كيف يصح أن يُعلم إلها ؟.
قوله :﴿ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴾ أدعوكم إلى عبادة الله وحده وهو القوي القاهر الذي يغفر الذنوب ويسترها وإنْ كانت كثيرة، فهو وحده الإله المقتدر المستحق للعبادة والإذعان دون غيره من الشركاء والأنداد١
١ الكشاف ج ٣ ص ٤٢٩ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٨٠.
قوله تعالى :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( ٤٣ ) ﴾ سياق لا جرم : أن تكون لا، رذّا لما دعاه قومه من إشراك بالله. وجرم بمعنى حق ووجب ؛ أي حق ووجب بطلان دعوته. ويجوز أن يكون لا جرم، نظير لابد. من الجرم وهو القطع، فكما أنك لابدّ لك أن تفعل. والبُدّ من التبديد الذي هو التفريق. ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا ؛ فكذلك لا جرم معناه : لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام ﴿ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الْآَخِرَةِ ﴾ أي أن الذي تدعونني إليه من الأصنام والشركاء ليس له دعوة إلى نفسه قط، ومن حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته. وما تدعو إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك، أو لا يجيب داعيه في الدنيا ولا في الآخرة ؛ فهو في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا من دعاء أو غيره، وفي الآخرة يتبرأ من الدعاء ومن عبدته.
قوله :﴿ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ﴾ نحن جميعا صائرون إلى الله يوم القيامة، محشورون بين يديه لملاقاة الحساب والجزاء ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ المراد بالمسرفين، المشركون المكذبون بيوم الدين. وقيل : هم الذين غلب شرهم خيرهم. فأولئك يصار بهم إلى النار لتكون لهم مستقرا ومقاما.
قوله :﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ﴾ أي سوف تتذكرون يوم القيامة إذا عاينتم العذاب، ما أقوله لكم اليوم من النصح والتبليغ ودعوتكم للإيمان ومجانبة الشرك والباطل ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ﴾ توعده المشركون الظالمون بالإيذاء والاعتداء فسلم أمره إلى الله بتمام التوكل عليه، والركون إلى جنابه المنيع الذي لا يُغلب ولا يقهر.
قوله :﴿ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ الله سبحانه مطلع على أفعال العباد وأقوالهم وأسرارهم وما تخفيه صدروهم ؛ فهو سبحانه لا تخفى عليه الخوافي ولا تعزب عن علمه الغيوب والأسرار.
قوله :﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ﴾ أي حفظه الله من شدائد مكرهم وسوء كيدهم وتربصهم وما هموا به من إلحاق العذاب بمن خالفهم في شركهم وباطلهم وذلك عقب نصحه لهم ودعوته إياهم إلى عقيدة التوحيد ثم توكّله على الله حق التوكل.
قوله :﴿ وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾
نزل فرعون وملئه المجرمين الظالمين عذاب من الله شديد وهو ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾
﴿ النَّارُ ﴾ بدل من سوء العذاب. أو خبر لمبتدأ محذوف. تقديره : هو النار ؛ فهم يعرضون عليها. وعرضهم عليها معناه إحراقهم بها ﴿ غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ أي يعرضون على النار بحرقهم ما دامت الدنيا ؛ فإذا قامت الساعة قال لهم خزنة جهنم ﴿ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ يعني عذاب جهنم. وهذه الآية مما استدل به أهل السنة على عذاب القبر، ويعزز هذه الحقيقة من السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر ؛ فإن عذاب القبر حق " ١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٢ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٨٠ والكشاف ج ٣ ص ٤٣٠.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ( ٤٧ ) ﴾.
﴿ إذْ ﴾ منصوب بإضمار فعل تقديره اذكر١ يعني : واذكر وقت يتحاجّون في النار ؛ أي يتخاصمون ويتجادلون وتُنْحِي كل فئة باللائمة على الأخرى أنهم هم الذين أضلوهم وفتنوهم عن الحق فيقول الضعفاء الأتباع وهم المقلدون الخائرون من الناس – للسادة والكبراء الذين كانوا متبوعين في الدنيا ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ جمع تابع، أي كنا لكم أتباعا أو خدما فتتبع خطاكم في الأقوال والأفعال، إذ نعبد ما تعبدون ونصنع ما تصنعون ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ﴾ أي هل أنتم دافعون عنا جزءا من عذاب النار. يقولون ذلك في حال من الهوان الكامل والاستيئاس المطبق.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٨٦.
والتابعون والمتبوعون جميعا يعلمون – وهم في النار – أنهم غير قادرين على دفع العذاب عن أنفسهم أو غيرهم. وهو قوله :﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا ﴾
أي كلنا في النار فنحن وإياكم معذبون ولا يغني أحد منا عن أحد شيئا. يقولون ذلك وهم آيسون من الرحمة أو تخفيف العذاب، موقنون بأنهم ماكثون في النار لا يبرحون. وذلك هو حكم الله وقضاؤه. وهو قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ أي قضى بينهم وبينهم وفصل بأن أدخل المؤمنين الجنة، والخاسرين النار.
قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ خزنة جهنم : هم الملائكة الموكلون بعذاب الكافرين والعصاة. والمعنى : أن أهل النار من الخاسرين المعذبين يصطرخون جميعا وهم في النار ؛ إذ ينادون الخزنة القائمين على النار مستغيثين أن اسألوا الله أن يكف عنا عذاب جهنم ولو يوما واحدا.
ثم تجيبهم ملائكة النار الخزنة ﴿ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ استفهام توبيخ وتعنيف وإلزام للحجة وإشعار بعدم الجدوى من التذلل والندامة ؛ فقد مضى وقت التضرع والدعاء ؛ إذ كانت الدنيا زمانا لذلك فهي دار اختبار وابتلاء وعمل وتبليغ ؛ فقد بعث الله فيهم رسله يبلغونهم دعوته وينذرونهم لقاء يومهم هذا فأعرضوا وجحدوا واستكبروا فإذا نقضت الحياة الدنيا ووقعت الواقعة فحينئذ لا ينفع العمل أو الدعاء ولا تجدي الضراعة والتوبة.
قوله :﴿ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا ﴾ أقروا بتفريطهم وخطيئتهم ؛ إذ جحدوا نبوة المرسلين وكذبوا بما جاءوهم به. فقالت لهم الملائكة على سبيل التهكم والتيئيس زيادة في التنكيل بهم ﴿ فَادْعُوا ﴾ أي ادعوا أنتم أن يخفف عنكم شيئا من العذاب فإن لا نجترئ على مثل هذا الدعاء ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ﴾ لا يستجاب للكافرين في النار دعاء. وأيما دعاء لهم حينئذ إنما هو ضرب من اليأس والعبث وهو صائر إلى البطلان والخيبة١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٤٣٠-٤٣١ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٨١..
قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ( ٥١ ) ﴾.
ذلك إخبار من الله ووعد صِدْق، ووعدُهُ حق ولن يخلف الله وعده ؛ فإنه جل وعلا ينصر عباده المرسلين الذين أرسلهم للناس هداةً منذرين، وينصر الذين آمنوا معهم من عباده الطيبين المتقين. ينصرهم الله جميعا في الدنيا ؛ إذ يجعل لهم الغلبة والاستعلاء والهيمنة. أو يكتب الله لدينه الظهور والشيوع والانتشار. وذلك نصر من الله، إذ يوفق الله عباده للإقبال على دينه الحق. الدين المبرأ من الشرك والزيف والضلال. وهو الذي بني على التوحيد وإفراد الله وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية والإذعان لجلاله بالخضوع والاستسلام، وذلكم هو الإسلام الذي اجتمعت على أركانه وقواعده الثوابت كلمة النبيين والمرسلين جميعا. أولئك الذين اجتمعوا على التوحيد وعبادة الله وحده دون غيره من الأرباب والأوثان والأنداد على اختلاف صورها ومسمياتها.
فإذا كتب الله لدينه الظهور والشيوع والانتشار فلا جرم أن يكون ذلك نصرا عظيما من الله كتبه لرسله والذين آمنوا معهم، وذلك في الحياة الدنيا، سواء كان هذا النصر في حياتهم أو عقب مماتهم وغيابهم عن هذه الدنيا. وبذلك لا ينبغي أن يقال : إن بعض النبيين عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيبا.
ومنهم من خرج من بين أظهرهم : إما مهاجرا كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى ابن مريم، فأين النصرة في الدنيا ؟ فالمراد بالنصر هو الانتصار لهم ممن أذاهم سواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم فإن الله منتقم لعباده المؤمنين ممن آذاهم وظلمهم فيأخذهم بالنوازل والنقم جزاء اعتدائهم على أنبياء الله والمؤمنين. وإذا أخذ الله قوما بسبب ظلمهم وطغيانهم وعدوانهم على المسلمين فلا جرم أن يكو أخْذُه أليما شديدا، وأن ينتقم من الطغاة والمستبدين والمجرمين أفظع انتقام، فضلا عما يكتبه الله لدينه الحق، دين التوحيد – من الشيوع والظهور والانتشار.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ ﴿ الأشهاد ﴾ يجوز أن يكون جمع شهيد. وأن يكون جمع شاهد١ والمراد بهم الأنبياء والحفظة ؛ فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ؛ وأما الحفظة فيشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال في الدنيا. وحينئذ تكون النصرة من الله لرسله والمؤمنين أجلَّ وأعظم.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٩٣.
قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ بدل من قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ أي يوم القيامة حيث الإياس والحسرات والفزع وشهادة النبيين والملائكة على الناس بأعمالهم – لا يقبل الله من المشركين والظالمين الخاسرين عذرا بل إنهم صائرون لا محالة إلى النار.
قوله :﴿ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ يلحق المجرمين يوم القيامة اللعنُ من الله وهو الإبعاد والطرد من رحمته وفضله ﴿ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ أي لهم بئس المنزل والمقام في النار.
قوله :﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ﴾ أي ما يهتدي به من النبوة والمعجزات والشرائع ﴿ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴾ ﴿ الكتاب ﴾ اسم الجنس ؛ أي أورثناهم التوراة والإنجيل والزبور وقيل : جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وخزائنه وأرضه بصبرهم على دين الله واتباعهم رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام.
والأظهر المعنى الأول ويعززه قوله :﴿ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
﴿ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ ﴿ هُدًى وَذِكْرَى ﴾، منصوبان على المفعول لأجله أو على الحال. والمراد : أن فيما أورثه الله بني إسرائيل من الكتاب، إرشادا وتذكرة لأولي العقول المستنيرة. العقول التي لا تميل صوب الهوى ولا تجنح للباطل، بل تتدبر وتفكر تفكيرا سليما مستقيما.
قوله :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ ذلك تحريض من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الصبر على البلاء واحتمال المكاره وما يضعه الظالمون والمشركون في طريقه من أسباب الصد والأذى ؛ فإن الله مُنجِزٌ له ما وعده من النصر والغلبة وظهور دينه الإسلام.
قوله :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ استغفر الله لذنب أمتك ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ أمره الله بالديمومة على عبادته والثناء عليه. أو أن يقول : سبحان الله وبحمده. وذلك بالعشي أي أواخر النهار وأوائل الليل. ﴿ والإبكار ﴾ أي أوائل النهار وأواخر الليل. وقيل : عبّر بالطرفين وأريد جميع الأوقات.
قوله :﴿ إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ ذلك تنديد من الله بالمشركين الظالمين الذين يخاصمون في آيات الله وهي كتبه المنزلة من عند الله وما فيها من أحكام وأخبار وأدلة ومعجزات ﴿ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ أي يخاصمون في كل ذلك بغير برهان ظاهر ولا حجة نَيِّرة. وهذا عام في كل مجادل مُبْطل يخاصم في آيات الله سفها بغير علم ولا حجة ﴿ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ﴾ الجملة في موضع رفع خبر ﴿ إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ﴾ و ﴿ إن ﴾ نافية ؛ أي ما في قلوب هؤلاء المخاصمين الذين يحاجّون بالباطل إلا الغرور والاستكبار عن الحق وعن التعلم والاستفسار وطلب المعرفة. أو هو إرادة الرياسة أو أن تكون لهم النبوة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا من عند أنفسهم.
قوله :﴿ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ﴾ أي ما هم ببالغي موجب كبرهم وما يقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من طمع في الرياسة أو النبوة. وقيل : المعنى ما يحملهم على تكذيبك يا محمد إلا ما في صدورهم من الكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ؛ لأن الله قد أذلهم وأخزاهم.
قوله :﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ أي احْتَم بالله والتجئ إليه من كيد الذين يحسدونك ويبغون عليك. والله جل وعلا يسمع ما تقولون ويقولون. وهو كذلك بصير بكم وبما تفعلون ويفعلون، لا يخفى عليه من ذلك شيء. والله جل جلاله ناصرك ومؤيدك وعاصمك من كيد الظالمين والمتربصين والحاقدين ومكرهم١.
١ روح المعاني ج ٢٤ ص ٧٦-٧٨ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٨٢ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٥-٨٦.
قوله تعالى :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٥٧ ) ﴾.
ذلك تنبيه من الله على حقيقة كونية مذهلة، وهي زوال الدنيا وفناء العالمين وقيام الساعة ليقوم الناس للحساب والجزاء. وهذه حقيقة أساسية مركوزة في صميم العقيدة الإسلامية ؛ بل هي ركن أساسي ركين أجمعت عليه الأديان السماوية كافة وجاء بها النبيون والمرسلون. فما يكذِّب بهذه الحقيقة الركينة الكبرى إلا كل خاسر ظلوم أو غافل تائهٍ جهول قد أودى بنفسه في الأذلين الأخسرين والله جل وعلا يؤكد على حقيقة القامة تأكيدا ؛ إذ يبين للناس أن بعث العالمين وإحياء الموتى للحساب أمر هين يسر على الله، بل ذلك أهون على الله م خلق هذا الكون الهائل المثير. وهو قوله سبحانه :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ كلا المصدري وهما : خلق السماوات والأرض، وخلق الناس، مضاف لمفعوله، والفاعل محذوف وهو لفظ الجلالة١ والمعنى : أن خَلْقَ الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خَلْقِهِ الناس ؛ لأن الناس بالنسبة إلى السماوات والأرض وما فيهما من الخلائق والأجرام العظام كأنهم لا شيء. والمراد من ذلك : أن من قدر على خلق الخلائق العظام والأجرام الهائلة الجسام لهو أقدر على خلق ما هو دو ذلك مما هو بالغ الهوان والبساطة.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس ضالون غافلون عن هذه الحقيقة المبيَّنة في الآية فهم سادرون في الغفلة والعِماية، لاهون عن التفكر في جلال الله وفي عظيم شأه وجبروته.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٩٢.
قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ لا يستوي من كان غافلا عن جلال الله وعظيم قدره وعن حقيقة البعث والمعاد، ومن هو مؤمن بأن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها ؛ فهو ذو بصيرة يدرك بها الحق والصواب. وبذلك شَبَّهَ المؤمن المستيقن المتذكر بالبصير الذي يمشي مهتديا لا يضل ولا يتعثر.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولاَ الْمُسِيءُ ﴾ لا : زائدة للتوكيد ؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة أعاد معه ﴿ وَلاَ ﴾ توكيدا١ والمعنى : أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات محسنون، وخلافهم الكافرون الفجار وهم مسيئون، ولا يستوي الفريقان ﴿ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ ﴿ قليلا ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي تذكُّرًا قليلا تتذكرون. و ﴿ مَّا ﴾ صلة زائدة. وذلك هو دأب الإنسان في طول غفلت وكثرة إعراضه عن الحق وسرعة إقباله على الشهوات ومتاع الدنيا.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٤٩٢.
قوله :﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ ذلك إعلان رباني مجلجل يبين الله فيه حقيقة مزلزلة كبرى، وهي قيام الساعة وفناء العالمين. وذلك حدث شامل مذهل، وانقلاب كوني رعيب يأتي على الوجود كله فيحيله إلى يباب صفصف. وهذه حقيقة مسطورة كبرى، وخَطْبٌ جلل رهيب يشهد الله أنه واقع لا محالة ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أكثر الناس تائهون سادرون في الضلالة ؛ فقد غشيتهم الغفلة وأذهلهم النسيان وأعمتهم الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها، وأضلهم الشيطان بتزيينه وإغوائه. وهو قوله :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ ١.
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ٨٢، وروح المعاني ج ٢٤ ص ٨٠.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾.
اختلف المفسرون في تأويل قوله :﴿ ادْعُونِي ﴾ وفي المراد بالاستجابة. فقد قيل : ادعوني بمعنى اعبدوني فيكون معنى الآية : اعبدوني أثبكم وأغفر لكم ؛ فالدعاء معناه العبادة ويؤيد هذا التأويل ورود الدعاء في كثير من الآيات بمعنى العبادة. وكذلك سياق الآية هنا وهو قوله بعد ذكر الدعاء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ وفي ذلك روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدعاء هو العبادة ".
وقيل : المعنى اسألوني أعطكم. فالدعاء معناه السؤال والطلب.
والصواب : شمول الدعاء للعبادة والسؤال. على أن التوجه إلى الله بالسؤال والطلب لهو ضرب من العبادة، بل إنه أعظم العبادة وأجلُّها. وفي الحديث الصحيح " الدعاء مخ العبادة " ولا يستنكف عن التضرع إلى الله بالطلب أو يستكبر عن السؤال لدفع الشر وتحقيق الخير إلا خاسر أثيم. وهو قوله سبحانه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ أي صاغرين ذليلين. وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " ١.
والمؤمن مدعُوٌّ في كل الأوقات أن يستعين بالله فيرتجيه ويسأله مستغيثا به، طالبا منه العون والصون والتوفيق لدفع المكاره والشرور واستجلاب الحسنات والخيرات والمسرات. وليس للمرء أيُّما غنى عن التضرع إلى الله بالدعاء وهو الطلب المكرور المتواصل في كل الأحيان، ليدعوه بقلبه الخاضع الخاشع، ولسانه الذاكر الشاكر من غير أن يستشعر في ذلك ملالة ولا سأما بل يدعو الله ويُلحُّ عليه في الدعاء والرجاء حتى يقضي له بُغيته إن شاء سبحانه. والله جل جلاله يفيض على عباده المؤمنين المخبتين المتضرعين من واسع ملكوته وعظيم فضله ورحمته ما يقضي به حاجات عباده المكروبين ويكفكف عنهم المكاره والنائبات ويُجنِّبهم المزالق والعثرات.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٥ وفتح القدير ج ٤ ص ٤٩٨.
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( ٦١ ) ﴾.
يبين الله نعمته على خلقه. وأنعهم كثيرة ومختلفة ومبسوطة في سائر أنحاء السماء والأرض ؛ فهو سبحانه ﴿ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ أي خلق الله الليل لعباده من أجل السكينة والاستقرار ؛ إذ يهجعون فيه فيجدون فيه الراحة والطمأنينة عقب السعي والكد والنصب طلبا للأرزاق والمعايش في النهار.
قوله :﴿ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ أي جعله مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتسعوا في طلب معايشكم.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ الله المتفضل على العباد بما أسبغ عليهم من جزيل النعم وعظيم الآلاء ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أكثر الناس يجحدون نعمة الله عليهم فلا يشكرونه بالطاعة والخضوع وإفراده بالعبادة والإذعان وذلك إما بسبب كفرهم وجحودهم، أو لطول غفلتهم عن ذكر الله وشكره.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ يبين الله أنه هو المنعم المتفضل على عباده بما امتنَّ به عليهم من جزيل النعم ؛ فذلكم هو الخالق والمالك والمتفضل الذي لا تنبغي الإلهية والعبادة إلا له وحده دون غيره من المخاليق فهو سبحانه :﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾.
قوله :﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف تنقلبون عن دين الله الحق، وتنصرفون عن عبادة الله وحده إلى غيره من الشركاء والأنداد المصطنعين بعد أن تبين لكم من الدلائل أن الله هو الخالق المنعم المقتدر.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الإفك يؤفك الجاحدون الذين كذبوا بآيات الله واتخذوا من دونه أندادا آلهة مفتراة، والمعنى : مثل ضلالكم عن الحق إلى الباطل وانصرافكم عن عقيدة التوحيد إلى الشرك ضل الجاحدون من قبلكم وانصرفوا عن سبيل الله وعن دينه القويم.
قوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ يعني من فضل الله عليكم أن جعل لكم الأرض مستقرّا ممهدا تعيشون على ظهرها وتسعون في مناكبها لتجدوا فيها معايشكم وأرزاقكم ﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ أي رفع السماء فوقكم وزيَّنها بالكواكب ومختلف الأجرام وجعلها في تماسكها العجيب، ومتانتها المكينة، واتساقها المنتظم أية عظيمة تستدلون بها على عظمة الصانع القدير وعلى أنه موجِدُ الوجود.
قوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ أي خلقكم في أحسن خلقة وجعلكم في أحسن هيئة من جمال الشكل والمنظر، وبديع السمت والتناسق في الأجزاء والأعضاء والقسمات والمركبات ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ رزقكم من مختلف المطاعم والمشارب ما تتنعمون وتتلذذون.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ الذي لا تنبغي الإلهية والعبادة والإذعان إلا لجلاله ؛ فهو الخالق المالك المقتدر المنّان.
قوله :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ تعظم الله وتقدس في عليائه فهو خالق كل شيء وهو مالك ما في العالمين من إنس وجن وغيرهم من أجناس الخَلْق.
قوله :﴿ هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ من صفات الله الحياة ؛ فهو سبحانه الدائم الباقي الذي لا يموت. وما من شيء سواه إلا زائل صائر إلى الفناء. والله سبحانه المتفرد في الإلهية ؛ فليس من معبود سواه ولا تصلح الألوهة والعبادة إلا له سبحانه.
قوله :﴿ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ أي أفردوه وحده في الإلهية ولا تتخذوا من دونه شركاء وأندادا. فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة ؛ فإنه الإله الخالق المالك رب كل شيء وإليه المآب.
قوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ لله الثناء الحسن وله وحده الشكر الكامل على ما أنعم به وتفضل ؛ فله الحمد والمنّةُ دائمين لا ينقطعان. وفي ذلك روي عن ابن عباس أنه قال : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين. ١
١ فتح القدير ج ٤ ص ٤٩٨ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٧.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦٦ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٦٧ ) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنني نهاني ربي أن أشرك به شيئا أو أتخذ معه أندادا آلهة مما تعبدونهم أنتم من مختلف الأوثان ﴿ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي ﴾ أي جاءني من الله آيات واضحات وهي آيات الكتاب الحكيم، أو دلائل وحجج على وحدانية الله، وأنه المتفرِّد بالخلْق والإلهية.
قوله :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أمرني ربي، وهو رب كل شيء ومالكه والمتصرف بتدبيره – أن أخضع له وحده وأذعن لجلاله بالطاعة والعبادة والإخبات. وهو سبحانه الجدير بالإذعان والاستسلام دون غيره ؛
فهو الإله القادر المتفضل الذي بدأ خلق الإنسان من تراب وهو آدم أبو البشر، ثم خلق نسله من ماء مهين، وهي النطفة ؛ أي الماء القليل المهين يكون في الأرحام ثم يصير بعد ذلك علقة، وذلك في حجمها وشكلها من البساطة والهوان، ثم يخرجكم عقب ذلك أطفالا صغارا لا تعقلون شيئا، ثم تبلغون بعد ذلك أشدكم من سن الشباب حيث القوة والمتانة في الجسم، واستكمال الوعي والإدراك والعقل، ثم تصيرون بعد ذلك شيوخا. ومفرد شيخ وهو من جاوز سن الأربعين. ويقال للأنثى شيخة. وذلك كله بتقدير الله وإرادته وتدبيره ؛ إذ جعلكم تتقلَّبون في هذه المراحل، واحدة بعد أخرى ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ﴾ أي من قبل أن يصير شيخا. أو من قبل هذه المراحل جميعها إذا خرج من بطن أمه سقطًا.
قوله :﴿ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ﴾ أي لتبلغوا أجلا محدودا لا تجاوزنه ولا تسبقونه وهو الموت ؛ فهو مصير كل واحد، لا يستأخر عنه ولا يستقدم.
قوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي بيَّن الله لكم هذه الأخبار عن خَلْقكم ؛ إذْ تصيرون خلقا من بعد خلْق سواء في الأرحام أو خارجها، لتتعظوا بذلك وتعتبروا فتوقنوا أن الله حق، وأنه وحده خَليقٌ بالعبادة والطاعة.
قول :﴿ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ ذلك تنبيه من الله إلى أن الإحياء والإماتة بيده ؛ فهو سبحانه قادر على ذلك وهو بيده مقاليد كل شيء ولا يعجزه صنع شيء.
قوله :﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ إذا أراد أن يخلق شيئا أو يفعل أمرا من الأمور ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي يقول للذي يريد تكوينه أو خلْقه ﴿ كُنْ ﴾ فإنه يكون دون تردد أو تخلف. ودون نَصَب من الله أو معاناة. ١
١ تفسير الطبري ج ٢٤ ص ٥٣-٥٤ وتفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٣٠.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ( ٦٩ ) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( ٧٠ ) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ( ٧١ ) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( ٧٢ ) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٧٣ ) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( ٧٤ ) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( ٧٥ ) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾.
يندّد الله بالظالمين الذين يُمارون في آيات الله الباطل. وهو قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ﴾ استفهام تعجيب من هؤلاء المشركين المكذبين الذين يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات الله وحججه ودلائله الواضحة. وعن شرعه السديد. وقيل : المراد بهم القدرية. وهم أهل القدر. وهذه فرقة من الفرق الإسلامية كانوا يزعمون أن الإنسان قادر على إتيان ما يفعله.
والصواب أنها في المشركين المكذبين بآيات الله. ويستدل على هذه الآية التي بعدها وهي قوله :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ ﴾
﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ ﴾ فهم مكذبون بما أنزل إليهم وهو القرآن ﴿ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ﴾ أي كذَّبوا – مع تكذيبهم بكتاب الله – بما أرسلنا به المرسلين من الهدى والبينات والتبرؤ من الشرك، وإخلاص العبادة لله.
قوله :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وذلك وعيد وتهديد من الله لهؤلاء المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير حق ويكذبون بما جاء به المرسلون.
وبيَّن ذلك بقوله :﴿ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ ﴿ إذ ﴾ ظرف متعلق بقوله :﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ وَالسَّلاسِلُ ﴾، معطوف على ﴿ الأغلال ﴾. أي سوف يعلم هؤلاء المكذبون الذين يخاصمون في آيات الله بالباطل عاقبة كفرهم وجحودهم. حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم، مسحوبين.
﴿ في الحميم ﴾ وهو ما بلغ حرُّه غايته ونهايته ﴿ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ أي يحرقون في النار ويكونون لها وقودا. سَجَر التنور. أي أحماه وأوقده. ١
١ مختار الصحاح ص ٢٨٧.
قوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٧٣ ) مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ. أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الشركاء والآلهة المفتراة حتى يستنقذوكم مما أنتم فيه الآن من شديد الوبال والنكال. فأجابوا في استيئاس وحسرة ﴿ ضَلُّوا عَنَّا ﴾ أي ذهبوا عنا وتركونا في العذاب من غير نصير ولا مجير ﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ أي ما كنا نعبد في الدنيا شيئا فقد كانت عبادتنا باطلة ؛ إذ كنا نعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يُغْني شيئا.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي مثل ذلك الإضلال يضل الله كل كافر به، مكذب بآياته ورسله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:قوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٧٣ ) مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ. أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الشركاء والآلهة المفتراة حتى يستنقذوكم مما أنتم فيه الآن من شديد الوبال والنكال. فأجابوا في استيئاس وحسرة ﴿ ضَلُّوا عَنَّا ﴾ أي ذهبوا عنا وتركونا في العذاب من غير نصير ولا مجير ﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ أي ما كنا نعبد في الدنيا شيئا فقد كانت عبادتنا باطلة ؛ إذ كنا نعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يُغْني شيئا.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي مثل ذلك الإضلال يضل الله كل كافر به، مكذب بآياته ورسله.

قوله :﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ الإشارة عائدة إلى العذاب ؛ أي ذلك العذاب الذي حاق بكم سببه ما كنتم تفرحون به من إتيان المعاصي والسيئات وبكثرة المال والمتاع والزينة ؛ إذ كنتم لاهين غافلين عن ذكر الله وهن لقائه ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾ من المرح وهو شدة الفرح والنشاط١ والمراد به هنا البطر والأشر.
١ مختار الصحاح ص ٦٢٠.
قوله :﴿ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ يقال لهم حينئذ : ادخلوا جهنم من أبوابها السبعة، لكل باب منها جزء مقسوم منهم.
قوله :﴿ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ أي بئس منزل المتكبرين عن دين الله ومقامهم في جهنم١.
١ فتح القدير ج ٤ ص ٥٠٢ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ٥٦.
قوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ٧٧ ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾.
يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصبروا. فما من مؤمن إلا هو مدعوٌّ للصبر على البلاء والمكاره. والصبر خصلة عظيمة حميدة من خصال المؤمنين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام الحق. وهو عدة المؤمنين المتقين ؛ إذ تنزل بهم النوائب وتجتاحهم المحن ويعتدي عليهم الظالمون والمجرمون. وههنا يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر وهو قوله :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي اصبر يا محمد على خصومة المشركين وإيذائهم لك وعلى تكذيبهم إياك فإن الله منجز لك ما وعدك من الغلبة والظهور عليهم وإنزال العقاب بهم في الدنيا والآخرة، ووعد الله حق وصدق ولن يخلف الله وعده.
قوله :﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ يعني إما ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من الانتقام أن يحل بهم. وما، في قوله :﴿ فَإِمَّا ﴾ زائدة على الشرط للتأكيد. والأصل : فإن نرك ولحقت بالفعل نون التوكيد ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ معطوف على ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ أي نتوفينك قبل إنزال العقاب بهم ﴿ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ أي مصيرهم إلينا يوم القيامة وحينئذ نحكم بينك وبينهم بالحق ؛ إذ يكبكبون في النار ويكرمك الله في جنات النعيم.
قوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ ذلك إخبار من الله بأنه أرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم رسلا آخرين إلى أممهم. ومن أولئك الرسل من قصَّ الله نبأهم على رسوله، ومنهم من لم يقصص نبأهم عليه. وهم في الحقيقة كثيرون ولا يعرف حقيقة عددهم إلا الله سبحانه. والمراد من هذا الإخبار تأنيس الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسليته بما يثبت فؤاده ويزيد من قوة احتماله واصطباره على الأذى والمكاره.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي ليس لرسول من المرسلين أن يأتي قومه بمعجزة من المعجزات أو خارق من الخوارق إلا أن يأذن الله له في ذلك فيتبين أنه صادق ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ﴾ أي إذا جاء الوقت المسمى لإهلاكهم قضى الله حينئذ بالعدل وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ وهم أهل الباطل من الظالمين والجاحدين والمكذبين، فإنهم يبوءون بالهلاك وسوء المصير١.
١ تفسير الطبري ج ٢٤ ص ٥٦-٥٧ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٩.
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٧٩ ) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( ٨٠ ) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ﴾.
يمنُّ الله على عباده أنه خلق لهم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ﴿ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ﴾ أي لتركبوا بعضا منها مما يصلح للركوب ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ أي ولتأكلوا من بعضها مما يصلح للأكل. فالإبل تركب ويؤكل لحما ويحمل عليها الأثقال في الأسفار البعيدة وقطع المسافات النائية. والبقر يؤكل لحمها ويشرب لبنها ويحرث عليها الأرض. والغنم يؤكل لحمها ويشرب لبنها.
قوله :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ منافع الأنعام كثيرة وقد سخرها الله لعباده لينتفعوا بها كالاستفادة من أصوافها وأشعارها وأوبارها ؛ إذ يُتخذ منها الأثاث واللباس والفراش والزينة.
قوله :﴿ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾ أي لتبلغوا بالحمولة على بعضها وهي الإبل ما لا تستطيعون بلوغه من دونها إلا بشق النفس.
قوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ أي وعلى هذه الإبل وغيرها من الأنعام الحوامل وعلى الفلك وهي السفائن تُحملون أنتم وأمتعتكم وحاجاتكم.
قوله :﴿ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ ﴾ أي يريكم الله بما خلق لكم من الأنعام والسفن حججه وبراهينه في الحياة وفي الكائنات لتوقنوا بأن الله حق وأنه الخالق الصانع المقتدر.
قوله :﴿ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ﴾ أيَّ، استفهام منصوب بقوله :﴿ تُنْكِرُونَ ﴾ ١.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٣٤.
قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٨٣ ) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( ٨٤ ) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾.
ذلك توبيخ وتعنيف لهؤلاء المشركين المكذبين الذين كانوا يخاصمون في دين الله بالباطل وكانوا يكذبون بيوم القيامة، فيقول الله لهم :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
يعني أفلم يسر هؤلاء المشركون الذين يحادون في آيات الله من مشركي قومك – في البلاد، فهم أهل سفر وتجارات وتجوال ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي فيروا ما حل بالجاحدين من سوء العاقبة حيث البلاء والنكال بسبب كفرهم وتكذيبهم، مع أنهم ﴿ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ كان المشركون الأقدمون أكثر من هؤلاء عددا وتنفيرا وكانوا أعظم منهم بأسا وقوة في الأجساد والأموال وقد أثاروا الأرض وعمروها ؛ إذْ شادوا فيها المصانع والعمائر والبنيان ﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ﴿ مَّا ﴾، نافية ؛ أي لم يغن عنهم ما اكتسبوه شيئا ولا دفع عنهم من بأس الله وانتقامه مثقال ذرة. وقد تكون ﴿ مَّا ﴾ استفهامية. فيكون المعنى : ماذا أغنى عنهم ما كسبوه من الأموال والخيرات والعمران والقوة حين نزل بهم الهلاك ؟ !
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ لما جاءهم المرسلون بالآيات من عند الله، وبالحجج والبراهين الظاهرة ﴿ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ ﴿ مِنَ ﴾ للتبيين، وفيه وجهان : أحدهما، أنه تبيين لقوله :﴿ ما ﴾ أي فرحوا بالشيء الذي عندهم من العلم. وثانيهما : أنه تبيين للبينات. والوجه الأول أولى بالصواب١.
والمراد بالذين فرحوا، الكافرون من الأمم السابقة، فقد أخذهم الغرور والجهالة وظنوا أنهم أولو علم يستغنون به عما جاءهم به النبيون، فلم يلتفتوا إليهم بل كذبوهم وأذوهم وتولوا عنهم مدبرين. وظنوا – واهمين – أنهم مستغنون بعلمهم عنهم. من أجل ذلك أخذهم الله بالعذب والنكال. وهو قوله :﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي نزل بهم، أو أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٣٥.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ لما عاينوا وقوع العذاب بهم وأن نقمة الله قد نزلت بهم ولم يجدوا من دون ذلك أيَّما ملجأ أو مهرب يفرون إليه أظهروا الإيمان لينجوا به من العذاب وهو قوله :﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ آمنوا بالله وحده دو غيره من الشركاء، وكفروا بما كانوا يعبدونه من الأوثان والأنداد.
ومثل هذا الإيمان لا يعني صاحبه ولا ينفعه وهو لا يدفع عن المشركين داهية العذاب الأليم. وهو قوله سبحانه ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾ ﴿ سُنَّةَ ﴾ منصوب على المصدر. وفعله سنّ يسنُّ سنًّا وسنةً.
والمعنى : أن الله قد سنّ في الكافرين، أو حكم فيهم أنه لا ينفعهم الإيمان إذا عاينوا العذاب. وبذلك فإن التوبة عقب رؤية العذاب لا تقبل. وفي الحديث : " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وذلكم هو حكم الله في الذي يتوب عند معاينة العذاب، فإن توبته لا قيمة لها.
وقيل :﴿ سُنَّةَ ﴾ منصوب على التحذير ؛ أي احذروا سنة الله في إهلاك الكافرين.
قوله :﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ إذا نزل العذاب بالكافرين فرأوه وعاينوه أيقنوا حينئذ أنهم خاسرون هلكى وأنهم صائرون إلى العذاب المقيم في النار، فبئس النُّزُلُ والقرار. ١
١ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٣٦ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٨٩-٩٠.
Icon