وتتحدث السورة في أكثر من موضع عن آيات الله وقدرته في السموات والأرض، ودعوة الناس إلى توحيده بالعبادة. ﴿ فادْعوا الله مخلصين له الدين ﴾. وقد اشتملت السورة في عدد من آياتها على التذكير باليوم الآخر :﴿ وأنذرهم يوم الآزفة، إذِ القلوب لدى الحاجر كاظمين ﴾.
وجوّ السورة كله جوّ المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض، وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والعذاب. وتجد بين ذلك استراحات لطيفة من جوّ نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين.
وكما ذكرت في مقدمة الكلام فإن السورة افتتحت بقوله تعالى ﴿ غافر الذنب وقابل التوب ﴾ فالله سبحانه وتعالى تغلب عنده صفاتُ الرحمة والرأفة على صفات العذاب والعقاب، وبذلك سميت سورة " غافر ".
وفي أثناء السورة يقع الحديث عن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، ويأتي فيها ذكر رجل مؤمن من آل فرعون يُخفي إيمانه، يَصْدَع بكلمة الحق في تلطف وحذر، ثم في صراحة ووضوح. وهو ينصح قومه ألاّ يقتلوا موسى، ويذكّرهم بعذاب الله وانتقامه.. ولكن فرعون لا يسمع له، ويظل على استبداده وتجبره وطغيانه. ويكرر الرجل المؤمن نصائحه ولكن لا أحد يسمع له. وتنتهي القصة بهلاك فرعون وأتباعه، ونجاة المؤمن، الذي يقول لهم :﴿ يا قوم، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار... ﴾ إلى أن يقول لهم :﴿ فستذكرون ما أقول لكم، وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ﴾. وتختم القصة بنجاته وهلاك فرعون وآله ﴿ فوقاه الله سيئات ما مكروا، وحاق بآل فرعون سوء العذاب... ﴾.
وفي جو السورة عرض لمصارع الغابرين، وعرض لمشاهدَ من القيامة، وتتكرر آياتها بشكل ظاهر. وهي تعرض في صورها العنيفة المخيفة تلك المشاهدَ متناسقة مع جو السورة كله، مثل طلب أهل النار الخروجَ منها لشدة الهول، ورفض طلبهم، وغير ذلك مما يدور فيه الحوار.
وتختم السورة بدعوة الناس إلى أن يسيروا في الأرض لينظروا ما حل بالأمم قبلهم، وكيف كان عاقبة غرورهم بما عندهم من العلم. فلما حل بهم عذاب الله قالوا : آمنا بالله وحده، وكفرنا بما أشركنا به، ولكنهم آمنوا بعد فوات الأوان، ﴿ فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، سنة الله التي قد خلت في عباده وخَسِرَ هنالك الكافرون ﴾. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ﰡ
ذي الطَّول : ذي الفضل.
وهو الذي يغفر الذنبَ مهما جلّ، ويقبل التوبة من عباده في كل آن، فبابُه مفتوح دائما وأبدا، فلا يقنط أحدٌ من ذلك. وهو شديد العقاب، ومع هذا فهو صاحبُ الإنعام والفضل، لا معبودَ بحقٍّ إلا هو، إليه وحده المرجع والمآل.
وقد كثر في القرآن الكريم الجمع بين الوصفين كقوله تعالى :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ] ليبقى الناسُ بين الرجاء والخوف، ولكن الرحمة دائماً مقدَّمة على العذاب.
تقلُّبهم في البلاد : تصرفهم فيها للتجارة ونحوها.
وبعد أن بيّن الله أن القرآن كتابٌ أُنزل لهداية الناس وسعادتهم في الدارَين، بيّن هنا أنه لا يخاصِم في هذا القرآن - بالطعن فيه وتكذيبه - إلا الذين كفروا، فلا يخدعك أيها الرسول تقلّبُهم في البلاد وما يفعلونه من تجارة وكسب، ولا تغترَّ بسلامتهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
همّت : عزمت على قتلهم.
ليأخذوه : ليقتلوه أو يعذبوه.
ليدحضوا : ليبطلوا.
ثم قال مسلّياً رسوله عن تكذيب مَن كذّبه من قومه بأن له أسوةً في الأنبياء مع أقوامهم من قبله بقوله :
﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ ﴾
الأحزابُ كل من تحزَّب ضد الحق وأهله في كل زمان ومكان، وقصة الرسالة والتكذيب والطغيان طويلة على مدى القرون.
﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾
ليقتلوه أو يعذّبوه، وخاصموا رسولهم بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله.
﴿ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾
فاستأصلتهم فلم أُبْقِ منهم أحدا وكان عقابي لهم شديداً مدمرا.
كلمة ربك : حكمه بالهلاك.
وكما حقت كلمةُ العذاب على الأمم التي كذّبت أنبياءها - حقّت كلمة ربك على الكافرين، لأنهم أصحاب النار. وهذا تحذير شديد لجميع المنحرفين من أهل الضلال.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر : حقت كلمات بالجمع، والباقون : كلمة بالإفراد.
قِهِم : احفظهم، من الفعل : وقَى يقي.
ثم بين الله تعالى أن حملة العرش من الملائكة، ومَن حول العرش مِنهم ﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود، يذكُرون المؤمنين عند ربهم ويستغفرون لهم ضارعين إلى الله تعالى بقولهم :
﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ ﴾
اغفر لهم ذنوبهم بعد أن تابوا واستقاموا على هداك، وجنّبهم عذاب النار
ويقولون في دعائهم أيضا : واحفظْهم يا رب من سوء عاقبة سيّئاتهم التي وقعوا فيها، ومَنْ جنّبتَه سيئاتِه يوم القيامة فقد رَحِمتَه بفضلك، ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ بل هو أكبر فوز يحصل عليه المؤمن مكافأة له على ما قدّم من صالحات الأعمال.
وتنادي الملائكةُ الكافرين يوم القيامة وهم في أشد العذاب فيقولن لهم : إن مَقْتَ الله لكم وغضبه عليكم في الدنيا على كفركم أشدُّ من مقتكم الآن لأنفسِكم، فقد دعاكم سبحانه بواسطة رسُله إلى الإيمان فأبيتم إلا الكفر. وما أوجعَ هذا التأنيبَ في هذا الموقف العصيب ! !.
ويقول الكافرون يوم القيامة : يا ربنا أمتّنا موتَتين : الأولى حين خلقْتَنا من العدم، والثانية يوم توفّيتنا عند انقضاء أجلنا. وأحييتنا مرتين : مرة هي حياتنا الدنيا، والثانية يوم بعثِنا هذا فاعترفنا أننا أنكرنا البعث وكفرنا وأذنبنا. ونحن الآن قادمون، فهل من سبيل الى الخروج من النار، ولك منا عهدَ الطاعة والامتثال ؟ فيجيبهم الله : لا.
فادعوا الله مخلصين له العبادةَ ولو كره الكافرون عبادتكم.. ولن يرضوا عنكم أبدا. والدعاء عبادة، وفي الحديث الصحيح :« ادعوا الله تباركَ وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءَ قلبٍ غافل لاهٍ ».
ثم ذكر الله تعالى بعض صفاته بقوله :
﴿ رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق ﴾.
فهو وحده صاحبُ المقام العالي، وصاحب المُلك والسلطة المطلقة، وهو الذي يلقي الوحيَ على من يشاء من رسُله. وسمّى الوحيَ روحاً لأنه روحٌ وحياة للبشر. وذلك لينذر هؤلاء الرسلُ الناسَ أنهم سيُبعثون يوم التلاقي ( وهو يوم القيامة ) حيث يتلاقون.
في ذلك اليوم يبرزون مكشوفين ظاهرين لا يخفى على الله من أمرهم شيء، ويسمعون نداءً رهيباً :﴿ لِّمَنِ الملك اليوم ؟ ﴾ ويأتي الجواب الحاسم ﴿ لِلَّهِ الواحد القهار ﴾. وفي ذلك اليوم يتضاءل المتكبرون، ويقف الوجود كله خاشعاً، والعباد كلهم خاضعين.
الحناجر : جمع حنجرة، الحلقوم.
كاظمين : ممسكين، محزونين.
حميم : صديق.
أنذِر أيها الرسول، مشركي قومك عذابَ يوم القيامة وهوله، حين تصير القلوب عند الحناجر من شدة الخوف. يومئذ ليس لهم صديق ينفعهم، ولا شفيع تُقبل شفاعته لهم.
وما تخفي الصدور : ما تكتمه الضمائر.
والله تعالى لا يخفى عليه شيء، يعلم النظرة الخائنة، والسرَّ المستور الذي تخفيه الصدور.
قراءات :
قرأ نافع وهشام : والذين تدعون : بالتاء. والباقون : يدعون : بالياء.
ألم يسافر المشركون في الأرض، فيروا كيف كان مآل الأمم الماضية ! ! كانوا أشدّ منهم قوة وتركوا آثاراً عظيمة في الأرض، فاستأصلهم الله بذنوبهم.
﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾
لم يكن لهم من ينصرهم ويحفظهم من عذاب الله.
ولقد نزل بهم ذلك العذاب لأنهم كذّبوا رسُلهم وجحدوا آيات الله ﴿ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب ﴾
لقد تقدمتْ قصةُ موسى أكثر من مرة، ذُكر هامان وقارون كل منهما ست مرات، وهذه آخر سورة يُذكران فيها. والجديد في قصة موسى هنا هو ذِكر الرجل المؤمن من آل فرعون.
قارون : من أغنى الأغنياء في ذلك الزمان.
فإن الله تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون كذّبوه وقالوا ساحر مبالغ في الكذب.
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب : أو أن يظهر، والباقون : وأن يظهر.
وقرأ حفص ونافع ويعقوب وأبو عمرو : يُظهر الفسادَ بضم الياء ونصب الدال. والباقون : يَظهر الفسادُ بفتح الياء، وبضم الدال.
فقال موسى لفرعون وملئه : إني تحصنت والتجأتُ إلى ربي ولا أخاف منكم أحدا.
المسرف : الذي تجاوز الحد في المعاصي.
وهنا يتدخل الرجل المؤمن من آل فرعون فيما لا يعرفُ أحدٌ أنه آمن، فيقول : أتقتلون رجلاً لأنه يقول : إن الهي الله ! ! ولقد جاءكم بالأدلة الواضحة من رب العباد، وأفحمكم بالحجة القاطعة وعجزتم عن إقناعه !
﴿ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾ وما عليكم من تبعته شيء.
﴿ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾.
ما أريكم إلا ما أرى : ما أعلّمكم إلا ما أعلم من الصواب.
ثم أضاف يقول : يا قومي، إن الملك لكم اليوم وأنتم ظاهرون في أرض مصر، فمن ينقذنا من عذاب الله إن جاءنا ! ؟
فلم يلتفت فرعون إليه، وقال لقومه :﴿ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد ﴾ واستمر على عناده وكفره.
ولا أقول لكم هذا إلا خوفاً عليكم من أن يصيبكم ما أصاب هؤلاء الأولين من الهلاك،
﴿ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ فهم يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان.
﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ ﴾ أن يجادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾.
كما يطبع الله على قلوب المسرفين المرتابين فهو يطبعُ على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
الأسباب : واحدها سبب، وهو ما يُتوصَّل به إلى الغرض المطلوب.
لا يزال الكلام في قصة فرعون وموسى.
ظن فرعون أن الأمر بهذه البساطة فقال لوزيره هامان : ابنِ لي صرحا عالياً لأصعد به إلى السماء.
لعلّي أطّلع إلى إله موسى هذا. ثم قال مستهزئا :
﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ﴾
وهو يعني موسى في دعواه أنه رسولُ رب العالمين.
وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العملَ السيء حتى رآه حسنا، ولم يرعوِِ بحال، وحاد عن سبيل الرشاد.
إن مكر فرعون وعاقبة أمره وكذبه تذهب سدى وفي خيبة ودمار.
قراءات :
قرأ حفص وعاصم : فأطلعَ بنصب العين. والباقون : فأطلعُ بالرفع.
وقرأ أهل الكوفة : وصُد بضم الصاد. والباقون : وصَد بفتح الصاد.
دار القرار : الجنة، دار البقاء.
يا قوم، ما هذه الحياة الدنيا إلا متاع زائل لا دوام له، ﴿ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار ﴾.
وهذه أكبر بشرى للمؤمنين، ورحمة الله وسِعتْ كل شيء.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : يُدخَلون : بضم الياء وفتح الخاء. والباقون : يدخُلون بفتح الياء وضم الخاء.
ثم أكد أن أولئك الشركاء الذين يعبدونهم لا مقدرة لهم على شيء، ولا شأن لهم في الدنيا ولا في الآخرة، وأن مرد الجميع إلى الله.
﴿ وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار ﴾ سيدخلون فيها.
ثم ختم نصيحته بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم فقال :
﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾
وذلك يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله، ويأخذ كل واحد منكم كتابه.
ثم لما يئس منهم قال :
﴿ وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد ﴾.
من ثم نجّاه الله من مكرهم، وأحاط بآل فرعون العذابُ السيّء،
قراءات :
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : أدْخِلُوا آل فرعون، بقطع الهمزة. والباقون : ادخلوا آل فرعون، على أن آل فرعون منادى.
الضعفاء : الأتباع.
المستكبرون : الرؤساء، السادة أولو الرأي فيهم.
تبعا : تابعين لهم.
مغنون عنا : دافعون الشر عنا.
نصيبا : قسطا، وجزءا.
اذكرْ لهم أيها النبي، حين يتخاصم أهل النار فيها، فيقول الأتباع من الضعفاء للذين أضلوهم من الرؤساء : إنا كنّا لكم في الدنيا تَبَعا، فهل أنتم حاملون عنا بعض العذاب ؟
فيرد المستكبرون قائلين : إننا جميعاً في النار، هذا هو حكم الله في عباده، ولا نستطيع أن نساعدكم بشيء. وفي سورة إبراهيم ﴿ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ [ الآية : ٢١ ].
ثم خاطب الضعفاءُ خزنةَ جهنم وتوسّلوا إليهم أن يخفّف الله عنهم يوما من العذاب
إن طلبَكم مرفوض، فلوموا أنفسَكم على ما أسلفتم.
ثم بين الله تعالى أنه ينصر رسُله، والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا، ﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ وهو يوم القيامة. وقد يكون الشهود من الإنسان نفسه كما قال تعالى ﴿ حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٠ ].
﴿ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سوء الدار ﴾
جزاؤهم الطردُ من رحمة الله وإنزالهم من جهنم في أسوأ مكان.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة ونافع : يوم لا ينفع الظالمين : بالياء والباقون : لا تنفع بالتاء.
الإِبكار : أول النهار.
وبعد أن بيّن أنه ينصر رسله والمؤمنين خاطب الرسولَ الكريم أن يصبر، وطمأنه إلى أن النصر له فقال :﴿ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار ﴾
اصبر أيها الرسول، على ما ينالك من الأذى من الناس، إنّ وعد الله بنصرك ونصر المؤمنين حقٌّ لن يتخلف. ثم أكد عليه بأن لا يترك الاستغفار والدعاء والتسبيح بحمده دائماً صباحاً ومساء، شكراً له على نعمه التي لا تحصى.
اعلم يا محمد أن الذين يجادلونك في دين الله بغير حجّةٍ أو برهان يعلمونه إنما يدفعهم إلى ذلك ما يجدونه في صدورهم من الكيد والحسد، وعنادُهم وطمعهم في أن يغلبوك.
﴿ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴾
وما هم ببالغي إرادتهم، ولن يصِلوا إلى ذلك أبدا.
ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين بقوله :
﴿ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير ﴾
الجأ إلى الله واستعنْ به فهو السميع لأقوالهم، البصيرُ بأفعالهم.
﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
هذا ما يفهمه أصحاب العقول المدركة، فان إعادة خلْق الإنسان أهونُ بكثير من ابتداء خلقه، ومن خلْق هذا الكونِ العجيب. إن قدرةَ الله لا تُحَدّ، فأين الإنسان من هذا الكون الهائل ؟.
داخرين : صاغرين، أذلاء.
ليس يستوي الأعمى عن الحق والبصير العارف به، ولا يستوي المؤمن العامل بإيمانه والمسيء في عقيدته وعمله، ذلك أن المؤمنين أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير، أما الأعمى بجهله فهو يسيء كل شيء. ﴿ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ وما أقلّ ما تتذكرون.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة : تتذكرون بتاءَين، والباقون : يتذكرون بالياء.
﴿ إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
فآمنوا بها أيها الناس تفوزوا،
قراءات :
قرأ ابن كثير ورويس سيدخَلون : بضم الياء وفتح الخاء. والباقون : سيدخُلون بفتح الياء وضم الخاء.
ثم شرع الله يبين بعض نعمه على الناس، وهي تُظهر عظمته تعالى، لكنهم
لا يشكرون عليها فقال :
﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾
من أكبرِ النعم على الناس أن الله جعل لهم الليلَ ليستريحوا فيه من العمل، والنهارَ مضيئا ليعملوا فيه ويكسبوا رزقهم، والله هو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعم، ولا يعترفون بها. ﴿ إنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ الآية [ إبراهيم : ٣٤ ].
ثم بين الله كمالَ قدرته وأنه الإله الواحد فقال :
﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾
ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة هو الله خالق هذا الكون وما فيه،
الإله الواحد المنفرد في الألوهية.
﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾
فإلى أي جهة تُصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره !.
﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾
فكما ضلّ هؤلاء بعبادة غير الله ضل الذين قبلهم بلا دليل ولا برهان.
بناء : مبنية بنظام لا يختل.
فتبارك : فتقدّس وتنزه.
في هذه الآيات يؤكد الله تعالى حقيقة الوحدانية، كما يؤكد على حقيقة ألوهيته وربوبيته. فالله وحده هو الذي جعل لنا هذه الأرض لنستقر عليها، وجعل السماء بناءً محفوظا زيّنه بهذه النجوم والكواكب التي نراها. ولقد خلقَ الإنسان فأبدع تصويره، وجعله في أحسن تقويم ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ المباحةِ ما يلذّ لكم، ﴿ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾، الذي يخلق ويقدّر ويدبّر.
ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعدما استعرض آياته في هذا الكون العجيب، وهذه الآية هي الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة فيقول :
﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ... ﴾
رتّب الله سبحانه تطور حياة الإنسان في ثلاث مراتب : الطفولة، وبلوغ الأشُدّ في الشباب والكهولة، والشيخوخة. ومن الناس من يُتوفى قبل سن الشباب، أو الشيخوخة. والله يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقِلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
﴿ هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ ﴾
وتكثر الإشارة في القرآن الكريم إلى آيتي الحياة والموت، لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدّة وعمق، فالحياة ألوان، والموت ألوان، منها رؤية الأرض الميتة ثم رؤيتها مخضرة بألوان النبات والزهور، وكذلك رؤية الأشجار وهي جافة ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، وغيرها وعكس هذه الرحلة من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة، إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع، وهو في ذلك كله كما يقول :
﴿ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ ﴾ بلا معاناة، ولا توقف ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
لقد كذّبوا بالقرآن، وبما أرسلنا به رسُلَنا جميعا، فسوف يرون جزاء تكذيبهم
حين تكون الأغلال في رقابهم يُجرون بها في الماء الحار،
يُسْجَرون : يحرقون.
ثم يُحرقون في نار جهنم.
فيقولون : لقد غابوا عنا ﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ بل تبيَّن لنا أننا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يُعتد به. وكما أضل الله تعالى هؤلاء، كذلك يضلُّ الكافرين.
تمرحون : تختالون من شدة الفرح.
وهذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب إنما هو جزاء بسبب ما كنتم تفرحون وتبطرون وتتكبرون في الأرض بغير الحق، وما كنتم تتمتعون به وتمرحون.
ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس منزل المتكبرين.
أو نتوفينك قبل أن تراه، ﴿ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ جميعا فنجازيهم بما كانوا يعملون.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾
وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء : ١٦٤.
﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾
يبين الله تعالى أن الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والإنذار وتعليم الناس،
أما المعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته. ولا يمكن لرسول أن يأتي بمعجزة إلا بأمر الله ومشيئته. فإذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قضى بين الناس بالعدل.
﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون ﴾
ولم يعد هنا ك مجال للتوبة ولا للرجعة إلى الدنيا.
يبين الله تعالى في هذه الآيات بعضَ هذه المعجزات التي يطلبها الجاحدون، ولكنهم لا يحسّون بها لأنهم ألِفوها، ثم يذكّرهم بما في هذه الآيات من نعم كبار.
إن الله تعالى خلق هذه الأنعام من الإبل والغنم والبقر، وذلّلها للإنسان، منها
ما يركبه ويستعمله في قضاء حاجاته، ومنها ما يأكله.
فقد كانت وسائط السفر من هذه الأنعام ولا يزال هناك حاجة لها في التنقّل بين الأماكن الوعرة في الجبال رغم وجود الوسائط الحديثة. ومنها ما يأكلونه ويشربون لبنه، كما يستعملون جلودها.
﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾
وقد تقدم في سورة النحل في الآيات ٥ و ٦ و ٧ و ٨ بأوسع من ذلك.
﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ ! ﴾.
والله تعالى يريكم دلائلَ قدرته، لا تقدِرون على إنكار شيء منها لأنها واضحة لا يُنكرها من له أدنى عقل.
وحاق بهم : أحاط بهم.
وتلك الأمم السابقة حين جاءتهم رسُلهم بالشرائع والمعجزات الواضحة، فرحوا بما عندهم من علوم الدنيا، واستهزأوا بالمرسَلين، فنزل بهم العذابُ وأحاط بهم.
فلما رأوا العذاب آمنوا بالله وحده وكفروا بآلهتهم التي عبدوها، ولكن ذلك لم يُفِدْهم شيئاً. لقد فات الأوان، فلا يفيد الندم.
سنّة الله : طريقته.
وتلك سنَّةُ الله قد سبقت في عباده أن لا يقبل الإيمان حين نزول العذاب، ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون ﴾ وسنة الله ثابتة لا تختلف ولا تحيد عن الطريق.
اللهم اقبل توبتنا، وأحسن ختامنا، واسترنا واغفر لنا يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.