تفسير سورة غافر

معاني القرآن
تفسير سورة سورة غافر من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قوله عز جل :﴿ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾.
جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة ؛ ألا ترى أنك تقول : مررت برجل شديد القلب، إلاّ أنه وقع معها قوله :﴿ ذي الطول ﴾، وهو معرفة فأجرين مجراه. وقد يكون خفضها على التكرير فيكون المعرفة والنكرة سواء. ومثله قوله :﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُودُ، ذُو العرشِ المجيدُ، فعَّالٌ لما يريدُ ﴾ فهذا على التكرير ؛ [ ١٦٣/ا ] لأن فعّال نكرة محضة، ومثله قوله :﴿ رفيعُ الدرجاتِ ذو العرشِ ﴾، فرفيع نكرة، وأجرى على الاستئناف، أو على تفسير المسألة الأولى.
وقوله :﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ ﴾.
ذهب إلى الرجال، وفي حرف عبدالله «برسولها »، وكلّ صواب.
وقوله :﴿ وَأَدْخِلْهُمْ جَناتِ عَدْنٍ ﴾.
وبعضهم يقرأ «جنة عدن » واحدة، وكذلك هي في قراءة عبدالله : واحدة.
وقوله :﴿ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائهِمْ ﴾.
من نصبٌ من مكانين : إن شئتَ جعلتَ ( ومن ) مردودة على الهاء والميم «وأدخلهم »، وإن شئت على الهاء والميم في :«وعدتهم ».
وقوله :﴿ يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ ﴾.
المعنى فيه : ينادَوْن أنّ مقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم يوم القيامة ؛ لأنهم مقتوا أنفسهم إذ تركوا الإيمان، ولكن اللام تكفي من أن تقول في الكلام : ناديت أن زيداً قائم، وناديت لزيد قائم، ومثله :﴿ ثم بَدا لهم من بعدِ ما رَأوا الآياتِ ﴾ الآية، اللام بمنزلة أنّ في كل كلام ضارع القول مثل : ينادون، ويخبرون، وما أشبه ذلك.
وقوله :﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ على مَن يشاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾.
الروح في هذا الموضع : النبوة ؛ لينذر من يلقى عليه الروحَ يوم التلاق. وإنما قيل «التلاق » ؛ لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض.
وقوله :﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ﴾.
هُمْ في موضع رفع بفعلهم بعده، و[ هو ] مثل قولك : آتيك يوم أنت فارغ لي.
وقوله :﴿ الآَزِفَةِ ﴾.
وهي : القيامة.
وقوله :﴿ كَاظِمِينَ ﴾.
نصبت على القطع من المعنى الذي يرجع من ذكرهم في القلوب والحناجر، والمعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين. وإن شئت جعلت قطعه من الهاء في قوله :«وأنذرهم »، والأول أجود في العربية.
ولو كانت «كاظمون » مرفوعة على قولك : إذ القلوب لدى الحناجر إذ هم كاظمون، أو على الاستئناف كان صوابا.
وقوله :﴿ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾.
تقبل شفاعته، ثم قال :﴿ يَعْلَمُ خَائنَةَ الأَعْيُنِ ﴾ يعنى : الله عز وجل، يقال : إنّ للرجل نظرتين : فالأولى مباحة له، والثانية محرمة عليه، فقوله :﴿ يعلم خائنة ﴾ الأعين في النظرة الثانية، وما تخفي الصدور في النظرة الأولى. فإن كانت النظرة الأولى تعمُّداً كان فيها الإثْمُ أيضاً، وإن لم يكن تَعَمَّدَها فهي مغفورة.
وقوله :﴿ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾.
رفع ( الفساد ) الأعمش، وعاصم جعلا له الفعل. وأهل المدينة والسلمى قرءوا :[ وأن ] يُظهرَ في الأرض الفسادَ، نصبوا الفساد، وجعلوا يظهر لموسى. وأهل المدينة يلقون الألف الأولى يقولون : وأن يظهر، وكذلك [ هي ] في مصاحفهم. وفي مصاحف أهل العراق :«أو أن يَظْهَرَ » [ المعنى ] أنه قال : إني أخاف التبديل على [ ١٦٣/ب ] دينكم، أو أن يتسامع الناس [ به ]، فيصدقوه فيكون فيه فساد على دينكم.
وقوله :﴿ [ وَ ] يا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ﴾.
قرأها العوام على التنادِ بالتخفيف، وأثبت الحسن وحده [ فيه ] الياء، وهي من تنادى القومُ. [ حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال ] حدثنا الفراء قال : وحدثني حبان عن الأجلح عن الضحاك بن مزاحم أنه قال : تَنْزِلُ الملائكةُ من السموات، فتحيط بأقطار الأرض، ويُجَاء بجهنم، فإذا رأوها هالتهم، فندّوا في الأرض كما تند الإبل، فلا يتوجهون قُطْراً إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاءوا، وذلك قوله :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ والإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تنفذوا من أقطار السماواتِ والأرضِ ﴾ وذلك قوله :﴿ وجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ وذلك قوله :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماء بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائكَةُ تَنْزِيلاً ﴾. قال الأجلح، وقرأها الضحاك :«التنادّ » مشددة الدال. قال حبان : وكذلك فسّرها الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس.
قال الفراء : ومن قرأها «التناد » [ خفيفة ] أراد يوم يدعو أهل الجنة أهل النار، وأَهل النار أهل الجنة، وأصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم.
وقوله :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ ﴾.
أي : كبر ذلك الجدال مقتا، وَمثله :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أضمرت في كبرت قولهم :﴿ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً ﴾ ومن رفع الكلمة لم يضمر، وَقرأ الحسن بذلك برفع الكلمة ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ ﴾.
وقوله :﴿ على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾.
يضيف القلب إلى المتكبر، ومن نوّن جعل القلب هو المتكبر الجبار، وهي في قراءة عبدالله «كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ على قَلْبِ كلِّ متكبر جبار »، فهذا شاهدٌ لمن أضاف، والمعنى في تقدم القلب وَتأخره وَاحد وَالله أعلم.
قال : سمعت بعض العرب يرجّل شعره يوم كل جمعة، يريد : كل يوم جمعة، والمعنى واحد.
وقوله :﴿ لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ... { أَسْبَابَ السَّماوَاتِ ﴾ فَأَطَّلِعُ }.
بالرفع، يردّه على قوله :«أبلغُ ». وَمن جعله جوابا لِلَعلي نصبه، وقد قرأ به بعض القراء قال : وأنشدني بعض العرب :
علَّ صروفَ الدَّهر أو دولاتها يدللنا اللَّمَّةَ من لَماتها
فتستريحَ النفسُ من زَفْراتها ***
فنصب على الجواب بلعلَّ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:وقوله :﴿ لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ... ﴿ أَسْبَابَ السَّماوَاتِ ﴾ فَأَطَّلِعُ ﴾.
بالرفع، يردّه على قوله :«أبلغُ ». وَمن جعله جوابا لِلَعلي نصبه، وقد قرأ به بعض القراء قال : وأنشدني بعض العرب :
علَّ صروفَ الدَّهر أو دولاتها يدللنا اللَّمَّةَ من لَماتها
فتستريحَ النفسُ من زَفْراتها ***
فنصب على الجواب بلعلَّ.

وقوله :﴿ النارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ﴾.
رفعت ( النار ) بما عاد من ذكرها في عليها، ولو رفَعْتها بما رفعْتَ به ﴿ سُوءَ الْعَذَاب ﴾ كان صوابا، ولو نصبت على أنها وقعت [ ١٦٤/ا ] بين راجع [ من ] ذكرها، وبين كلام يتصل بما قبلها كان صوابا، ومثله :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُم النارُ وَعَدها ﴾.
وقوله :﴿ غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾.
ليس في الآخرة غدو ولا عشي، ولكنه مقادير عشيات الدنيا وغدوها.
وقوله :﴿ [ وَ ] يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ ﴾.
همز الألف يحيى بن وثاب وأهل الحجاز، وخففها عاصم والحسن فقرأ «وَيَوْمَ تَقُوم السَّاعَة اَدْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ » ونصب ها هنا آل فرعون على النداء : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، وفي المسألة الأولى توقَّع عليهم «أَدْخِلُوا ».
وقوله :﴿ إِنا كُلٌّ فِيها ﴾.
رَفَعْتَ ( كلّ ) بفيها، ولم تجعله نعتا لإنا، ولو نصبته على ذلك، وجعلت خبر إِنا [ فيها ]، ومثله :﴿ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ﴾ ترفع ﴿ كلّه لله ﴾، وتنصبها على هذا التفسير.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ ﴾.
قرأت القراء بالياء يعنى : يقوم بالتذكير، ولو قرأ قارىء : ويوم تقوم كان صوابا ؛ لأن الأشهاد جمع، والجمع من المذكر يؤنث فعله ويذكر إِذا تقدم. العرب تقول : ذهبت [ الرجال، وذهب الرجال.
وقوله :﴿ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُم بِبَالِغِيهِ ﴾.
يريد : تكبروا ] أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه ما هم ببالغي ذلك : بنائلي ما أرادوا.
وقوله :﴿ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً ﴾.
وفي حرف عبدالله «ومنكم من يكون شيوخا » فوحّد فِعل مَن، ثم رجع إلى الشيوخ فنوى بمن الجمع، ولو قال : شيخا لتوحيد من في اللفظ كان صوابا.
وقوله :﴿ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْناقِهِمْ والسَّلاَسِلُ ﴾.
[ ترفع السلاسل والأغلال، ولو نصبت السلاسل وقلت : يسْحَبون، تريد ] يَسْحَبونَ سَلاسلَهم في جهنم.
وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال :[ وهم ] في السلاسل يُسْحبون، فلا يجوز خفض السلاسل، والخافض مضمر ؛ ولكن لو أنّ متوهما قال : إِنما المعنى إذ أعناقهم في الأغلال وفي السلاسل يسحبون جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب، ومثله مما رُدّ إِلى المعنى قول الشاعر :
قد سالم الحياتِ منه القدَما الأُفعوانَ والشُّجاعَ الشجعما
فنصب الشجاع، والحيات قبل ذلك مرفوعة ؛ لأَنَّ المعنى : قد سالمت رجله الحيات وسالمتها، فلما احتاج إلى نصب القافية جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات.
Icon