تفسير سورة سورة غافر من كتاب تفسير السمعاني
المعروف بـتفسير السمعاني
.
لمؤلفه
أبو المظفر السمعاني
.
المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة المؤمن
ويقال : سورة الطول، وهي مكية
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات أتأنق فيهن، وتسمى الحواميم ديابيج القرآن. وفي بعض الأخبار :" أن مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب ".
وفي بعض الأخبار أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من قام بالحواميم في ليلة غفر الله له ".
قوله تعالى :( حم ) قال ابن عباس : قسم أقسم الله به. وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن. وعن بعضهم : الحاء من ( الحليم )، والميم من الملك. وعن سعيد بن جبير قال :" الر " و " حم " و " نون والقلم " بمجموعها هو اسم الرحمن. ويقال :" حم " معناه : حم ما هو كائن أي : قضى ما هو كائن. وقرأ عيسى بن عمر :" حم " على نصب الميم على معنى اتل حميم.
قال الأشتر النخعي شعرا :
يذكرني حميم والرمح شاجر *** فهلا تلا حميم قبل التقدم
وقال الشاعر في حم بمعنى قضى :
فحم يومي فسر قوم *** كأن ليس للشامتين يوم
ﰡ
قَوْله تَعَالَى: ﴿حم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ. وَقَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَعَن بَعضهم: الْحَاء من (الْحَلِيم)، وَالْمِيم من الْملك. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الر " و " حم " و " نون والقلم " بمجموعها هُوَ اسْم الرَّحْمَن. وَيُقَال: " حم " مَعْنَاهُ: حم مَا هُوَ كَائِن أَي: قضى مَا هُوَ كَائِن. وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " حم " على نصب الْمِيم على معنى اتل حميم.
قَالَ الأشتر النَّخعِيّ شعرًا:
(يذكرنِي حميم وَالرمْح شَاجر... فَهَلا تَلا حميم قبل التَّقَدُّم)
وَقَالَ الشَّاعِر فِي حم بِمَعْنى قضى:
(فَحم يومي فسر قوم... كَأَن لَيْسَ للشامتين يَوْم)
وَقَوله: ﴿تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم﴾ أَي: المنيع فِي ملكه، الْعَلِيم بخلقه.
قَوْله تَعَالَى:
﴿غَافِر الذَّنب﴾ أَي: سَاتِر الذَّنب.
5
﴿الْعقَاب ذِي الطول لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير (٣) مَا يُجَادِل فِي آيَات الله إِلَّا الَّذين كفرُوا فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد (٤) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ﴾
وَقَوله:
﴿وقابل التوب﴾ أَي: التَّوْبَة.
وَقَوله:
﴿شَدِيد الْعقَاب﴾ أَي: شَدِيد الْعقَاب للْكفَّار.
وَقَوله:
﴿ذِي الطول﴾ أَي: الْقُدْرَة. وَقيل: السعَة والغنى. وَيُقَال: هُوَ التَّفْضِيل. وَقَالَ بَعضهم: غَافِر الذَّنب لمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله. وروى حَمَّاد عَن ثَابت قَالَ ثَابت: كنت فِي فسطاط مُصعب بن الزبير أَقرَأ هَذِه الْآيَة
﴿غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول﴾ فَمر شيخ على بغلة شهباء، فَقَالَ لي: قل يَا غَافِر الذَّنب اغْفِر لي، وَيَا قَابل التوب اقبل تَوْبَتِي، وَيَا شَدِيد الْعقَاب [اعْفُ] عني، وياذا الطول طل عَليّ بِخَير، ثمَّ لم أر الشَّيْخ بعد.
وَقَوله
﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
6
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا يُجَادِل فِي آيَات الله﴾ أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الَّذين كفرُوا﴾ أَي: جَحَدُوا. وَقَوله: ﴿فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد﴾ أَي: تقلبهم سَالِمين فِي الْبِلَاد. قَالَ ابْن جريج: لَا يغررك تِجَارَتهمْ من مَكَّة إِلَى الشَّام، وَمن الشَّام إِلَى الْيمن. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا متوجعين: نَحن فُقَرَاء، وَالْكفَّار مياسير ذُو أَمْوَال، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فعلى هَذَا معنى قَوْله: ﴿لَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد﴾ أَي لَا يغررك يسارتهم وسعتهم.
قَوْله:
﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ﴾ وهم الَّذين تحدثُوا على الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله:
﴿وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه﴾ أَي: ليقتلوه. وَيُقَال: ليأسروه.
6
﴿وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب (٥) وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم أَصْحَاب النَّار (٦) الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم﴾
وَالْعرب تسمي الْأَسير أخيذا، قَالَ الْأَزْهَرِي: ليأخذوه فيتمكنوا من قَتله.
وَقَوله:
﴿وجادلوا بِالْبَاطِلِ﴾ أَي: بالجدال الْبَاطِل ليدحضوا بِهِ الْحق. والجدال: هُوَ فتل الْخصم عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ بِحَق أَو بَاطِل، وَأما المناظرة لَا تكون إِلَّا بَين محقين، أَو بَين محق ومبطل، والجدال قد يكون بَين المبطلين.
وَقَوله:
﴿فَأَخَذتهم﴾ أَي: أخذتهم بالعقوبة.
وَقَوله:
﴿فَكيف كَانَ عِقَاب﴾ قَالَ قَتَادَة: شَدِيد وَالله.
7
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا﴾ أَي: وَجب حكم رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم ﴿أَصْحَاب النَّار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله﴾ ذكر النقاش: أَن حَملَة الْعَرْش الكروبيون، وهم سادة الْمَلَائِكَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَقْدَامهم فِي تخوم الْأَرْضين، والأرضون وَالسَّمَوَات إِلَى حُجَزهمْ، وهم يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزّ والجبروت، سحان ذِي الْملك والملكوت، سُبْحَانَ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح.
وَقَوله:
﴿وَمن حوله﴾ أَي: حول الْعَرْش.
وَقَوله:
﴿يسبحون بِحَمْد رَبهم﴾ قد بَينا.
وَقَوله:
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما﴾ أَي: وسع [علمك] ووسعت رحمتك كل شَيْء.
وَقَوله:
﴿فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك﴾ أَي: دينك وطاعتك.
7
﴿عَذَاب الْجَحِيم (٧) رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (٨) وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (٩) إِن الَّذين كفرُوا ينادون لمقت الله﴾
وَقَوله:
﴿وقهم عَذَاب الْجَحِيم﴾ مَعْنَاهُ: وادفع عَنْهُم عَذَاب الْجَحِيم، والجحيم مُعظم النَّار. وَعَن بعض السّلف: أنصح الْخلق للْمُؤْمِنين هم الْمَلَائِكَة، وأغش الْخلق للْمُؤْمِنين هم الشَّيَاطِين.
8
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم﴾ بَينا أَن جنَّة عدن هِيَ بطْنَان الْجنَّة. وَيُقَال: مصر الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وَمن صلح من آبَائِهِم﴾ أَي: وَمن وحد من آبَائِهِم، وَيُقَال: وَمن عمل صَالحا من آبَائِهِم.
وَقَوله: ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾ أَي: وأهليهم وَأَوْلَادهمْ، قَالَ سعيد بن جُبَير: يدْخل الْمُؤمن الْجنَّة فَيَقُول: أَيْن أبي؟ أَيْن أُمِّي؟ أَيْن زَوْجَتي؟ فَيُقَال: إِنَّهُم لم يعملوا مثل عَمَلك، فَيَقُول: إِنِّي عملت لنَفْسي وَلَهُم، فيدخلهم الله الْجنَّة ويجمعهم إِلَيْهِ.
وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: إِن الْمُؤمن يحب أَن يجمع شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله، فَيجمع الله شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وقهم السَّيِّئَات﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ﴾ أَي: وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ أَي: الْعُقُوبَات، وَيُقَال: جَزَاء السَّيِّئَات.
وَقَوله: ﴿فقد رَحمته﴾ أَي: أَنْعَمت عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم﴾ يَعْنِي: النجَاة الْعَظِيمَة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الَّذين كفرُوا ينادون﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر تعرض إِلَيْهِ أَعماله السَّيئَة فيمقت نَفسه أَشد المقت، فيناديهم الله تَعَالَى: {لمقت الله أكبر من مقتكم
8
﴿أكبر من مقتكم أَنفسكُم إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون (١٠) قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحيينا اثْنَتَيْنِ فاعترفنا بذنوبنا فَهَل إِلَى خُرُوج فِي سَبِيل (١١) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعِي الله﴾ أَنفسكُم) أَي: مقت الله إيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا أعظم من مقتكم الْيَوْم أَنفسكُم بِمَا ظهر لكم من أَعمالكُم السَّيئَة. وَقد حكى معنى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ بَعضهم: لمقت الله أياكم فِي الدُّنْيَا أكبر من مقت بَعْضكُم بَعْضًا، وَذَلِكَ حِين يتبرأ بَعضهم من بعض.
قَوْله:
﴿إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون﴾ يَعْنِي: إِن مقت الله إيَّاكُمْ كَانَ لِأَن الله دعَاكُمْ إِلَى الْإِيمَان فكفرتم.
9
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ﴾ الإماتة الأولى: هُوَ أَنهم كَانُوا نطفا فِي أصلاب الْآبَاء موتى، ثمَّ أحياهم بالخلق وَإِدْخَال الرّوح، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْلُوم الَّذِي لَا بُد من ذوقه، ثمَّ يحييهم يَوْم الْقِيَامَة. هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَجَمَاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْإِحْيَاء الأول حِين أخرجهم من صلب آدم وَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق، ثمَّ أماتهم بِالرَّدِّ إِلَى الأصلاب، ثمَّ أحياهم بِالْإِخْرَاجِ ثَانِيًا، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْرُوف. فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْحَيَاة فِي الْآخِرَة؟ قُلْنَا: المُرَاد على هَذَا القَوْل حياتان وموتتان فِي الدُّنْيَا سوى الْحَيَاة فِي الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الإماتة الأولى هُوَ الْمَوْت الْمَعْرُوف، والإحياء الأول هُوَ الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر للمسائلة، والإماتة الثَّانِيَة هِيَ الإماتة بعد الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر، والإحياء الثَّانِيَة هِيَ الْإِحْيَاء للبعث، هَكَذَا ذكره السدى.
وَقَوله: ﴿فاعترفنا بذنوبنا﴾ أَي خطايانا
وَقَوله ﴿فَهَل إِلَى خُرُوج من سَبِيل﴾ أَي: فَهَل إِلَى خُرُوج عَن النَّار من سَبِيل.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ﴾ مَعْنَاهُ: أَن تخليدكم فِي النَّار
9
﴿وَحده كَفرْتُمْ وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير (١٢) هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب (١٣) فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ (١٤) رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش يلقِي الرّوح من أمره على من﴾ ومكثكم فِيهَا كَانَ بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ.
﴿وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا﴾ أَي: يُشْرك بِاللَّه تؤمنوا، أَي: تصدقوا بالشرك.
وَقَوله:
﴿فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
10
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته﴾ أَي: عبره ودلائله.
وَقَوله: ﴿وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا﴾ أَي: الْمَطَر؛ لِأَنَّهُ سَبَب الأرزاق.
وَقَوله: ﴿وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب﴾ أَي: وَمَا يتعظ إِلَّا من يرجع إِلَى الله فِي جَمِيع أُمُوره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾ أَي: مُخلصين لَهُ التَّوْحِيد. وَمَعْنَاهُ: وحدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا.
وَقَوله: ﴿وَلَو كره الْكَافِرُونَ﴾ أَي: سخط الْكَافِرُونَ، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ﴾ وَقد بَينا هَذَا من قبل.
قَوْله تَعَالَى:
﴿رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَطاء: رَافع السَّمَوَات، سَمَاء فَوق سَمَاء. وَعَن بَعضهم: رَافع دَرَجَات الْأَنْبِيَاء والأولياء. وَقَالَ بَعضهم: رفيع الدَّرَجَات أَي: عَظِيم الصِّفَات، وَهُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى، قَالَه مقَاتل. قَالَ: الله فَوق كل شَيْء، وَلَيْسَ فَوْقه شَيْء.
وَقَوله:
﴿ذُو الْعَرْش﴾ أَي: لَهُ الْعَرْش خلقا وملكا.
وَقَوله:
﴿يلقِي الرّوح من أمره﴾ قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْوَحْي، وَسمي روحا؛ لِأَنَّهُ يحيا بِهِ الْخلق. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ النُّبُوَّة. وَقيل: هُوَ جِبْرِيل يُرْسِلهُ على من يَشَاء من أنبيائه
10
﴿يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق (١٥) يَوْم هم بارزون لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء لمن الْملك الْيَوْم لله الْوَاحِد القهار (١٦) الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم﴾ وروح الْإِنْسَان مَا يحيا بِهِ الْإِنْسَان.
وَقَوله:
﴿من أمره﴾ أَي: بأَمْره.
وَقَوله:
﴿على من يَشَاء من عباده﴾ من النَّبِيين وَالرسل.
وَقَوله:
﴿لينذر يَوْم التلاق﴾ الْمَعْرُوف بِالْيَاءِ، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ.
بِالْيَاءِ أَي: لينذر الله، وَقيل: لينذر الْوَحْي. وَأما بِالتَّاءِ فَالْمُرَاد بِهِ الرَّسُول.
وَقَوله:
﴿يَوْم التلاق﴾ قَالَ قَتَادَة: يلتقي فِيهِ أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض، الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَعَن بَعضهم: يلتقي فِيهِ الْخلق والخالق. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: يلتقي فِيهِ الظَّالِم والمظلوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: يلتقي فِيهِ آدم وَآخر ولد من أَوْلَاده.
11
وَقَوله:
﴿يَوْم هم بارزون﴾ أَي: بادون ظاهرون وَلَا يتسترون بِشَيْء من جبل وَغَيره.
قَوْله تَعَالَى:
﴿لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء﴾ أَي: من أَعْمَالهم.
وَقَوله:
﴿لمن الْملك الْيَوْم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول الله تَعَالَى هَذَا حِين تفنى الْخَلَائق، وَلَا يكون أحد يجِيبه، فيجيب نَفسه [بِنَفسِهِ] وَيَقُول: لله الْوَاحِد القهار. وعَلى هَذَا عَامَّة الْمُفَسّرين. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر وَغَيره أَن النَّبِي قَالَ: " يقبض الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَهُزهُنَّ وَيَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض "؟
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْخَلَائق ويحشرهم، ثمَّ يَقُول لَهُم: لمن الْملك الْيَوْم؟ فيجيبون: لله [الْوَاحِد] القهار.
وَقيل: إِنَّهُم لَا يقدرُونَ على الْجَواب هَيْبَة، فيجيب الله تَعَالَى نَفسه. وَالْقَوْل الأول
11
﴿الْيَوْم إِن الله سريع الْحساب (١٧) وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر﴾ هُوَ الْمَشْهُور.
12
قَوْله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت﴾ أَي: المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قَوْله: ﴿لَا ظلم الْيَوْم﴾ أَي: أَنه تَعَالَى يفعل مَا يفعل بِالْعَدْلِ لَا بالظلم.
وَقَوله: ﴿أَن الله سريع الْحساب﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يحاسبهم فِي مِقْدَار نصف يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا. وَعَن الضَّحَّاك: مَا بَين صَلَاتَيْنِ. وَقيل: بِقدر شربة مَاء.
وَقد ثَبت أَن النَّبِي [قَالَ] :" أول مَا يقْضِي الله تَعَالَى بَين الْخلق فِي الدِّمَاء ".
وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: " أَنا الْملك الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة، وَلَا لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار، وَعَلِيهِ مظْلمَة لأحد إِلَّا وأقتصه مِنْهُ ".
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة. وَسميت آزفة لقربها، كَأَنَّهَا قريبَة عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ النَّاس يستبعدونها. وَقيل: هِيَ قريبَة لِأَنَّهَا كائنة لَا محَالة، وكل كَائِن قريب.
وَقَوله:
﴿إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر﴾ وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: تضيق للنَّاس أَرض الْقِيَامَة، حَتَّى لَا يكون لأحد إِلَّا مَوضِع قدمه، ثمَّ يضيق لَهُم أَيْضا حَتَّى يوضع الْقدَم على الْقدَم، ثمَّ يَبْكُونَ حَتَّى تنفد دموعهم، ثمَّ يَبْكُونَ الدَّم حَتَّى ينْفد، ثمَّ تشخص قُلُوبهم إِلَى حَنَاجِرهمْ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى
12
﴿كاظمين مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع (١٨) يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور (١٩) وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يقضون بِشَيْء إِن الله هُوَ﴾ الْحَنَاجِر [كاظمين] ) قَالَ قَتَادَة: ترْتَفع الْقُلُوب من الصُّدُور إِلَى الحلوق، وتلتصق بهَا من الْخَوْف والفزع، فَلَا هِيَ ترجع من أماكنها، وَلَا هِيَ تخرج.
وَقَوله:
﴿كاظمين﴾ الكاظم هُوَ الممسك على قلبه بِمَا فِيهِ. وَقيل: مغمومين مكروبين. وَيُقَال: بَاكِينَ. وَمن هَذَا كظم الغيظ إِذا أمْسكهُ (وصبر) عَلَيْهِ.
وَقَوله:
﴿وَمَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع﴾ الْحَمِيم: الْقَرِيب. وَالشَّفِيع: الَّذِي يَدْعُو فيجاب. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: استكثروا من أصدقاء الْمُؤمنِينَ فَإِن لَهُم شَفَاعَة عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَوله:
﴿يطاع﴾ أَي: يُجَاب.
13
وَقَوله: ﴿يعلم خَائِنَة الْأَعْين. أَي: خِيَانَة الْأَعْين وخيانة الْأَعْين مسارعة النّظر إِلَى مَا لَا يحل.
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الرجل يكون بَين الرِّجَال، فتمر بهم امْرَأَة فَينْظر إِلَيْهَا، فَإِذا نظر إِلَيْهِ أَصْحَابه غض بَصَره. قَالَ السدى: خَائِنَة الْأَعْين هُوَ الرص بِالْعينِ.
وَقَوله: {وَمَا تخفي الصُّدُور﴾ هُوَ شَهْوَة الْقلب. وَقيل: هُوَ أَنه لَو قدر عَلَيْهَا هَل يزنى أَو لَا؟
وَعَن السدى قَالَ: هُوَ وَسْوَسَة الْقلب. وَعَن بَعضهم قَالَ (خِيَانَة الْعين) أَن يَقُول: رَأَيْت وَلم ير، وخيانة الْقلب هُوَ أَن يَقُول: علمت وَلم يعلم.
وَقَوله:
﴿وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ.
وَقَوله:
﴿وَالَّذين يدعونَ من دونه﴾ أَي: الْأَصْنَام وَمَا أشبههَا.
13
﴿السَّمِيع الْبَصِير (٢٠) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق (٢١) ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب (٢٢) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين (٢٣) إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا﴾
وَقَوله:
﴿لَا يقضون بِشَيْء﴾ أَي: لَا يحكمون بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيهِم شَيْء.
وَقَوله:
﴿إِن الله هُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
14
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض﴾ الْآثَار فِي الأَرْض: هُوَ الْأَبْنِيَة والمساكن وَسَائِر العمارات.
وَقَوله: ﴿فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق﴾ أَي: لم يكن لَهُم من يمنعهُم من الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات والمعجزات.
وَقَوله: ﴿فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين﴾ أَي: بالمعجزات الْبَيِّنَة وَالْحجّة الظَّاهِرَة.
وَقَوله:
﴿إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب﴾ أَي: كثير الْكَذِب. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: لم يكن هامان من بني إِسْرَائِيل، وَلَا من القبط، وَكَانَ من غير الْفَرِيقَيْنِ. وَقد طعن بَعضهم فَقَالَ: إِن هامان رجل مَعْرُوف (بَين) الْفرس، وَلم يكن صَاحب فِرْعَوْن. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون فِي الْفرس رجل يُسمى هامان، وَكَانَ
14
﴿اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي﴾ صَاحب فِرْعَوْن هُوَ هامان، فَكل مَا فِي الْقُرْآن حق وَصدق.
15
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه﴾ فِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ رفع الْقَتْل عَن أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل؛ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى إِلَيْهِ رَسُولا أعَاد الْقَتْل عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿واستحيوا نِسَاءَهُمْ﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال﴾ أَي: فِي هَلَاك، وَإِنَّمَا جعل كيدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى هلاكهم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الَّذِي كَانَ يمْنَع فِرْعَوْن من قتل مُوسَى حَتَّى يَقُول ذروني أقتل مُوسَى؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: ذروني أقتل مُوسَى أَي: أَشِيرُوا عَليّ بقتل مُوسَى، كَأَنَّهُ طلب المشورة مِنْهُم أَيَقْتُلُهُ أَو لَا يقْتله؟
وَالثَّانِي: كَانَ فِي جملَة قومه من يحذرهُ من قتل مُوسَى خوفًا من هَلَاك فِرْعَوْن، فَقَالَ على هَذَا: ذروني، لَا تَمْنَعُونِي واتركوني أَقتلهُ.
وَقَوله:
﴿وليدع ربه﴾ أَي: وليدع ربه لِيَنْصُرهُ. قَالَ هَذَا على طَرِيق الاستبعاد.
وَقَوله:
﴿إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ﴾ أَي: يُبدل دينكُمْ الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ.
وَقَوله:
﴿أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد﴾ هَذَا بأَرْبعَة وُجُوه " أَن يظهرا "، و " أَن يظْهر " بِغَيْر ألف، " أَو أَن يظهرا " مَعَ الْألف وَنصب الْيَاء، " وَأَن يظْهر " بِغَيْر الْألف وَنصب الْيَاء، وَمعنى يظْهر أَي: يظْهر مُوسَى الْفساد، وَمعنى يظْهر بِفَتْح الْيَاء أَي: يظْهر الْفساد كَأَنَّهُ جعل الْفِعْل للْفَسَاد بِعَيْنِه. وَقَالَ بَعضهم: معنى الْفساد هَاهُنَا: أَن
15
﴿الأَرْض الْفساد (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب (٢٧) وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم﴾ مُوسَى إِذا ظهر يقتل أبناءكم، ويستحي نساءكم كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم بهم، فَهُوَ إِظْهَار مُوسَى الْفساد فِي الأَرْض.
16
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: لما سمع مُوسَى كَلَام فِرْعَوْن استعاذ بِاللَّه والتجأ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي عذت بربي وربكم.
وَقَوله: ﴿من كل متكبر﴾ أَي: من كل متعظم ﴿لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب﴾ وَيَوْم الْحساب: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ كَانَ من ولي الْعَهْد لفرعون، وَكَانَ يكون لَهُ من بعده، وَيُقَال: كَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن. وَعَن بَعضهم: كَانَ من بني إِسْرَائِيل، وعَلى هَذَا القَوْل فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمَعْنَاه: وَقَالَ رجل يكتم إيمَانه من آل فِرْعَوْن. وَأما اسْمه قَالَ بَعضهم: اسْمه حزبيل، وَفِي مَعَاني الزّجاج: أَن اسْمه سمْعَان، وَقيل: حبيب. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يُؤمن من القبط إِلَّا ثَلَاثَة نفر: امْرَأَة فِرْعَوْن، وَمُؤمن آل فِرْعَوْن، وَالَّذِي جَاءَ فَقَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك.
وَقَوله:
﴿أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله﴾ أَي: لِأَن قَالَ رَبِّي الله.
وَقَوله:
﴿وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم﴾ أَي: بالدلالات الواضحات.
وَقَوله:
﴿وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه﴾ أَي: وبال كذبه.
وَقَوله:
﴿وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ هَذِه آيَة مشكلة؛ لِأَنَّهُ قَالَ:
﴿بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ وكل مَا وعده الرُّسُل ومُوسَى حق. وَالْجَوَاب عَن هَذَا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن معنى قَوْله:
﴿يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ أَي: كل الَّذِي يَعدكُم،
16
بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب (٢٨) يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا) فَيكون الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَأنْشد:
(أَو يرتبط بعض النُّفُوس حمامها... )
أَي: كل النُّفُوس
وَأنْشد غَيره:
(قد يدْرك المتأني بعض حَاجته... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل... )
وَقَوله: بعض حَاجته أَي: كل حَاجته.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه قَالَ:
﴿بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ على طَرِيق الِاسْتِظْهَار، كَأَنَّهُ قَالَ: أقل مَا فِي تكذيبكم إِن كَانَ صَادِقا أَن يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم. وَفِي ذَلِك الْبَعْض هلاككم. وَزعم أهل النَّحْو أَن هَذَا أحسن من الأول؛ لِأَن الْبَعْض بِمَعْنى الْكل لَا يعرف فِي اللُّغَة.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله:
﴿يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ أَي: عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَ وعدهم عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن قَوْله:
﴿يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم﴾ أَي: من الْعقَاب، وَقد كَانَ وعد الْعقَاب إِن أَنْكَرُوا، وَالثَّوَاب إِن صدقُوا، وَالْعِقَاب بعض الْوَعيد.
وَقَوله:
﴿إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب﴾ أَي: مُشْرك كَذَّاب.
17
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض﴾ أَي: عالين غَالِبين.
وَقَوله:
﴿فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا﴾ أَي: من يمْنَع منا عَذَاب الله إِن جَاءَنَا.
وَقَوله:
﴿قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا أرى﴾ يَعْنِي: مَا أرشدكم إِلَّا إِلَى مَا أَنا عَلَيْهِ،
17
﴿أرى وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب (٣٠) مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد (٣١) وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد﴾ وَمَا رَأَيْت لكم من الْحق.
وَقَوله:
﴿وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد﴾ أَي: طَرِيق الرشد وَالْهَدْي. وَعَن معَاذ بن جبل أَنه قَرَأَ: " إِلَّا سَبِيل الرشاد " بتَشْديد الشين أَي: سَبِيل الله، والرشاد هُوَ الله تَعَالَى.
18
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب﴾ الْأَحْزَاب: الْأُمَم الخالية مثل: قوم نوح، وَعَاد، وَثَمُود، وَمعنى يَوْم الْأَحْزَاب أَي: يَوْم عَذَابهمْ.
وَقَوله: ﴿مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود﴾ الدأب فِي اللُّغَة بِمَعْنى الْعَادة، وَمعنى قَوْله: ﴿مثل دأب قوم نوح﴾ أَي: مثل حَال قوم نوح وَعَاد وَثَمُود. وَيُقَال: كذب هَؤُلَاءِ وتعودوا التَّكْذِيب مثل عَادَة أُولَئِكَ فِي التَّكْذِيب.
وَقَوله: ﴿وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد﴾ مَعْنَاهُ: أَنه لَا يعذب أحدا حَتَّى يُقيم الْحجَّة عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد﴾ يَعْنِي: يَوْم التنادي. وَفِي معنى التنادي وُجُوه: أَحدهَا: أَنه تنادى كل أمة بكتابها وإمامها، قَالَه قَتَادَة.
وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: تنادى أهل الْجنَّة أهل النَّار، وَأهل النَّار أهل الْجنَّة، وَذَلِكَ وذكور فِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
﴿ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا﴾ الْآيَة، وَقَوله:
﴿ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة﴾ الْآيَة.
18
﴿يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (٣٣) وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن﴾
وَالثَّالِث: أَن معنى الْآيَة مناداتهم بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ودعاؤهم على أنفسهم: واهلاكاه، واويلاه، وَغير ذَلِك. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَوْم التناد " بتَشْديد الدَّال، من ند يند إِذا هرب، وَحكى هَذِه الْقِرَاءَة عَن الضَّحَّاك، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿أَيْن المفر﴾ وَعَن بَعضهم: يظْهر عنق من النَّار فيفر النَّاس، فيحيط بهم ذَلِك الْعُنُق، حِينَئِذٍ يعلمُونَ أَن لَا مفر لَهُم.
19
وَقَوله: ﴿يَوْم تولون مُدبرين﴾ فِي الحَدِيث أَن للنَّاس جَوْلَة يَوْم الْقِيَامَة، فيتبعهم الْمَلَائِكَة ويردونهم. وَقيل: إِنَّهُم إِذا سمعُوا زفير النَّار فروا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تولون مُدبرين﴾ وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: ﴿يَوْم تولون مُدبرين﴾ هُوَ انطلاقهم إِلَى النَّار بسوق الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿مَا لكم من الله من عَاصِم﴾ أَي: مَانع، وَقيل: نَاصِر.
وَقَوله: ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ﴾ هُوَ يُوسُف بن يَعْقُوب نَبِي الله. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِم يَعْنِي: إِلَى القبط نَبيا من الْجِنّ يُسمى يُوسُف، وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح هُوَ الأول؛ لِأَنَّهُ أطلق ذكر يُوسُف، فَيَنْصَرِف إِلَى يُوسُف الْمَعْرُوف مثل إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهم. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى بعث يُوسُف بن يَعْقُوب إِلَيْهِم رَسُولا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى، وَمكث فيهم عشْرين سنة بعد وَفَاة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله:
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات الواضحات.
وَقَوله:
﴿فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا﴾ وَقَرَأَ أبي وَابْن مَسْعُود: " ألن يبْعَث الله من بعده رَسُولا " بِزِيَادَة الْألف.
19
﴿يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب (٣٤) الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار (٣٥) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي﴾
وَقَوله:
﴿كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب﴾ أَي: مُسْرِف على نَفسه بالْكفْر وَالظُّلم، والمرتاب هُوَ الشاك.
20
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم﴾ فَمَعْنَى المجادلة هُوَ المجادلة بالتكذيب، وَمعنى السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة.
وَقَوله: ﴿كبر مقتا﴾ أَي: كبر جدالهم مقتا، وَفِي التَّفْسِير: أَنه يمقتهم الله تَعَالَى، ويمقتهم الْمَلَائِكَة والأنبياء، ويمقتهم الْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا﴾.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار﴾ فالقراءة الأولى على الْإِضَافَة، والطبع على الْقلب هُوَ الْخَتْم عَلَيْهِ حَتَّى لَا يدْخلهُ الْحق.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فَهِيَ على وصف الْقلب بالتكبر، يُقَال: قلب متكبر أَي: صَاحبه متكبر، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " على قلب كل متكبر جَبَّار ".
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كَانَ هامان صَاحب شَرط فِرْعَوْن، فَكَانَ من هَمدَان، أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس فِي تَفْسِيره.
وَقَوله:
﴿ابْن لي صرحا﴾ أَي: قصرا عَالِيا، وَيُقَال: إِن أول من طبخ اللَّبن حَتَّى صَار آجرا هُوَ هامان، فعله لفرعون. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن هامان اسْتعْمل خمسين ألف إِنْسَان فِي الْبناء سوى من يطْبخ الْآجر، وَمن يعْمل فِي الْخشب وَغَيره.
وَيُقَال: إِنَّه عمل فِي بِنَاء الصرح سبع سِنِين، وَكَانَ فِرْعَوْن يصعد عَلَيْهِ رَاكِبًا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث ريحًا عاصفا فَجعله ثَلَاث قطع، فَألْقى قِطْعَة فِي الْبَحْر، وَقطعَة بِالْهِنْدِ، وَقطعَة بِبِلَاد الْمغرب.
20
﴿أبلغ الْأَسْبَاب (٣٦) أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب (٣٧) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعون أهدكم سَبِيل الرشاد (٣٨) يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار (٣٩) من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا﴾
وَقَوله:
﴿لعلى أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَوَات﴾ والأسباب هِيَ الْأَبْوَاب هَاهُنَا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: الْأَسْبَاب الَّتِي تؤديني إِلَى السَّمَاء، وتبلغني إِلَيْهَا. فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا فِي عقل عَاقل أَن يقْصد صعُود السَّمَاء، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل بِهَذِهِ الْحِيلَة؟
وَالْجَوَاب: أَن الْجَهْل فِي الْعَالم كثير، وَلَيْسَ هَذَا بأبدع من ادعائه الربوبية، وَهُوَ يعرف حَال نَفسه ويشاهدها.
وَقَوله:
﴿فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى﴾ أَي: أنظر إِلَى إِلَه مُوسَى.
وَقَوله:
﴿وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا﴾ فِي دَعْوَاهُ أَن لَهُ إِلَهًا.
وَقَوله:
﴿وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله﴾ أَي: قَبِيح عمله.
وَقَوله:
﴿وَصد عَن السَّبِيل﴾ وَقُرِئَ: " وَصد " بِنصب الصَّاد، فَقَوله بِالرَّفْع أَي: صد فِرْعَوْن عَن السَّبِيل. وَبِالنَّصبِ أَي: وَصد فِرْعَوْن النَّاس عنة سَبِيل الله.
وَقَوله:
﴿وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب﴾ أَي: وَمَا حِيلَة فِرْعَوْن ومكره إِلَّا فِي هَلَاك وخسران، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أدّى إِلَيْهِ.
21
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:قوله تعالى :( وقال فرعون يا هامان ) قال الحسن البصري : كان هامان صاحب شرط فرعون، فكان من همدان، أورده أبو الحسن بن فارس في تفسيره.
وقوله :( ابن لي صرحا ) أي : قصرا عاليا، ويقال : إن أول من طبخ اللبن حتى صار آجرا هو هامان، فعله لفرعون. وفي تفسير النقاش : أن هامان استعمل خمسين ألف إنسان في البناء سوى من يطبخ الآجر، ومن يعمل في الخشب وغيره.
ويقال : إنه عمل في بناء الصرح سبع سنين، وكان فرعون يصعد عليه راكبا، ثم إن الله تعالى بعث ريحا عاصفا فجعله ثلاث قطع، فألقى قطعة في البحر، وقطعة بالهند، وقطعة ببلاد المغرب.
وقوله :( لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات ) والأسباب هي الأبواب هاهنا. ويقال معناه : الأسباب التي تؤديني إلى السماء، وتبلغني إليها. فإن قيل : كيف يتصور هذا في عقل عاقل أن يقصد صعود السماء، وذلك مستحيل بهذه الحيلة ؟
والجواب : أن الجهل في العالم كثير، وليس هذا بأبدع من ادعائه الربوبية، وهو يعرف حال نفسه ويشاهدها.
وقوله :( فأطلع إلى إله موسى ) أي : أنظر إلى إله موسى.
وقوله :( وإني لأظنه كاذبا ) في دعواه أن له إلها.
وقوله :( وكذلك زين لفرعون سوء عمله ) أي : قبيح عمله. وقوله :( وصد عن السبيل ) وقرئ :" وصد " بنصب الصاد، فقوله بالرفع أي : صد فرعون عن السبيل. وبالنصب أي : وصد فرعون الناس عنة سبيل الله.
وقوله :( وما كيد فرعون إلا في تباب ) أي : وما حيلة فرعون ومكره إلا في هلاك وخسران، وقال ذلك لأنه أدى إليه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعوني أهدكم سَبِيل الرشاد﴾ أَي: سَبِيل الرشد.
وَقَوله: ﴿يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع﴾ أَي: سريع فناؤه، والتمتع بِهِ قَلِيل.
وَقَوله: ﴿وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار﴾ أَي: المستقر.
قَوْله تَعَالَى:
﴿من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب﴾ أَي: بِغَيْر انْقِطَاع،
21
﴿من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب (٤٠) وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار (٤١) تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار (٤٢) لَا جرم أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَأَن مردنا إِلَى الله وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار (٤٣) فستذكرون مَا أَقُول لكم وأفوض أَمْرِي إِلَى الله إِن الله بَصِير بالعباد (٤٤) ﴾ وَيُقَال: بِغَيْر حِسَاب أَي: لَا يحْسب عَلَيْهِم قدر مكثهم فِي الْجنَّة واستمتاعهم، فَيَقُول: مكثهم كَذَا، وأكلهم كَذَا، وفعلهم كَذَا. وَقيل: بِغَيْر حِسَاب أَي: يزِيد فِي مُدَّة بقائهم فِي الْجنَّة على مُدَّة أَعْمَالهم إِلَى مَا لَا يتناهى من الْمدَّة.
22
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار﴾ الْعَزِيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والغفار هُوَ السَّاتِر لذنوب عباده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله تعالى :( ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ) العزيز هو المنتقم من أعدائه، والغفار هو الساتر لذنوب عباده.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا جرم﴾ قد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق، وَعَن الْمفضل الضَّبِّيّ الْكُوفِي أَنه قَالَ: لَا جرم أَي: لابد.
وَقَوله: ﴿أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة﴾ أَي: استجابة دَعْوَة فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال: إِيصَال نفع فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة. وَيُقَال: جَوَاب قَوْله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة﴾.
وَقَوله: ﴿وَأَن مردنا إِلَى الله﴾ أَي: مرجعنا إِلَى الله.
وَقَوله: ﴿وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار﴾ أَي: الْمُشْركين.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فستذكرون مَا أَقُول لكم﴾ يَعْنِي: حِين تعاينون الْعَذَاب.
وَقَوله:
﴿وأفوض أَمْرِي إِلَى الله﴾ أَي: أسلم أَمْرِي إِلَى الله، وَقَالَ يحيى بن سَلام: أَي: أتوكل على الله.
وَقَوله:
﴿أَن الله بَصِير بالعباد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
22
﴿فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب (٤٥) النَّار يعرضون عَلَيْهَا﴾
23
قَوْله تَعَالَى: ﴿فوقاه الله سيئات مَا مكروا﴾ اخْتلف القَوْل فِي نجاته، مِنْهُم من قَالَ: نجا حِين نجا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل، وَذَلِكَ عِنْد مُجَاوزَة الْبَحْر. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قُدَّام مُوسَى حِين توجهوا إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ: إِلَى أَيْن يَا نَبِي الله؟
قَالَ: أمامك.
فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَامِي الْبَحْر.
فَقَالَ: وَالله مَا كذبت وَمَا كذبت.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مُؤمن آل فِرْعَوْن لما قَالَ هَذِه الْأَقْوَال، ونصح هَذِه النَّصِيحَة طلبه فِرْعَوْن ليَقْتُلهُ فهرب، فَبعث فِي طلب جمَاعَة، فوجدوه فِي حَبل يُصَلِّي وحواليه السبَاع يحرسونه ففزعوا وَرَجَعُوا.
وَقَوله: ﴿وحاق بآل فِرْعَوْن﴾ أَي: نزل بآل فِرْعَوْن، ﴿سوء الْعَذَاب﴾ أَي: الْعَذَاب السيء.
قَوْله تَعَالَى:
﴿النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْقَبْر. وَمن الْمَعْرُوف عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أَرْوَاح آل فِرْعَوْن فِي حواصل طير سود يردون النَّار غدوا وعشيا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " إِن أحدكُم إِذا مَاتَ يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي، إِن كَانَ من أهل فالجنة، وَإِن كَانَ من أهل النَّار النَّار، وَيُقَال: هَذَا مَقْعَدك يَوْم الْقِيَامَة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن مَالك... الحَدِيث.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه الْعرض على النَّار يَوْم الْقِيَامَة.
23
﴿غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب (٤٦) وَإِذ يتحاجون فِي النَّار فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار﴾
قَالَ الْفراء: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا، وَهَذَا قَول فَاسد، وَالصَّحِيح هُوَ الأول.
وَقَوله:
﴿وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب﴾ قرئَ: " ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب " على الْأَمر لآل فِرْعَوْن بِالدُّخُولِ.
وَقُرِئَ:
﴿أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب﴾ على الْأَمر لخزنة النَّار.
وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول أَنه قَالَ:
﴿يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا﴾ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة، فَهُوَ الإدخال حَقِيقَة لَا الْعرض، وَإِنَّمَا الْعرض فِي الْقَبْر على مَا ورد فِي الحَدِيث. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْكَافِر يحيا فِي الْقَبْر كل غدْوَة وَعَشِيَّة حَتَّى ينظر إِلَى مَقْعَده من النَّار، ثمَّ يميته الله تَعَالَى ثَانِيًا، فَيكون نظره إِلَى مَقْعَده من النَّار أَشد عَلَيْهِ من مَوته، وَهُوَ قَول شَاذ.
وَأما آل فِرْعَوْن فَهُوَ فِرْعَوْن وَقَومه، وَقيل: فِرْعَوْن نَفسه.
قَالَ الشَّاعِر:(فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أحبة | عَليّ وعباس وَآل أبي بكر) |
مَعْنَاهُ: وَأبي بكر نَفسه. وروى عَن عبد الله بن أوفى أَنه قَالَ: أتيت رَسُول الله بِصَدقَة بعثها أبي إِلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى ". أَي: أبي أوفى نَفسه.
24
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِذ يتحاجون فِي النَّار﴾ أَي: يتخاصمون فِي النَّار.
وَقَوله:
﴿فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا﴾ أَي: الأتباع قَالُوا للقادة.
24
﴿قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا إِن الله قد حكم بَين الْعباد (٤٨) وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب (٤٩) قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى قَالُوا فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (٥٠) ﴾
وَقَوله:
﴿إِنَّا كُنَّا لكم تبعا﴾ أَي: أتباعا.
وَقَوله:
﴿فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار﴾ أَي: هَل تتحملون عَنَّا بعض عَذَاب النَّار؟
25
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا﴾ أَي: القادة والأتباع جَمِيعًا.
وَقَوله: ﴿إِن الله قد حكم بَين الْعباد﴾ أَي: فصل بَين الْعباد فَأدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم﴾ فِي الْقِصَّة: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك بعد أَن دعوا الله تَعَالَى ألف عَام، وَلم يرَوا إِجَابَة.
وَقَوله: ﴿ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب﴾ أَي: يَوْمًا وَاحِدًا من أَيَّام الدُّنْيَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال﴾ أَي: فِي هَلَاك وَبطلَان، وَمَعْنَاهُ: أَن دعاءهم غير مستجاب.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِنَّا لننصر رسلنَا﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: بإيضاح الْحجَّة. وَقَالَ غَيره: بالانتقام من أعدائهم. وَعَن السدى قَالَ: الْأَنْبِيَاء قد تولى الله نصرتهم، وَإِن قتلوا فِي الدُّنْيَا، فَإِن الله يبْعَث من بعدهمْ من ينْتَقم لَهُم من أعدائهم.
وَقَوله:
﴿وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: وينصر الَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَقَوله:
﴿وَيَوْم يقوم الأشهاد﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
والأشهاد جمع شَاهد، كالأصحاب جمع صَاحب. وَيُقَال: شَهِيد وأشهاد مثل:
25
﴿إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد (٥١) يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم وَلَهُم اللَّعْنَة وَلَهُم سوء الدَّار (٥٢) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب (٥٣) هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب (٥٤) فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي والأبكار (٥٥) إِن الَّذين يجادلون فِي﴾ شرِيف وأشراف.
26
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم﴾ أَي: اعتذارهم؛ لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُم ﴿وَلَهُم اللَّعْنَة﴾ أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة ﴿وَلَهُم سوء الدَّار﴾ أَي: الدَّار السَّيئَة، وَهِي النَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى﴾ أَي: النُّبُوَّة.
وَقَوله: ﴿وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب﴾ أَي: التَّوْرَاة.
وَقَوله: ﴿هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: تَعَالَى: ﴿فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك﴾ تمسك من جوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء بِهَذِهِ الْآيَة، فَأَمرهمْ بالاستغفار عَن الصَّغَائِر. وَمن لم يجوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء [قَالَ] : إِنَّه أَمر بالاستغفار تعبدا؛ لينال بذلك رضَا الله تَعَالَى، ويقتدي بِهِ من يَأْتِي بعده.
وَقَوله: ﴿وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار﴾ أَي: صل شاكرا لِرَبِّك بالْعَشي وَالْإِبْكَار، والعشي من وَقت زَوَال الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب، وَالْإِبْكَار مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الَّذين يجادلون فِي آيَات الله﴾ أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب.
وَقَوله:
﴿بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم﴾ أَي: أَتَاهُم بِغَيْر حجَّة.
26
﴿آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه فاستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير (٥٦) لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس﴾
وَقَوله:
﴿إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر﴾ أَي: مَا فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر. وَالْكبر الَّذِي فِي صُدُورهمْ هُوَ الاستكبار عَن الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ. وَيُقَال: طلب الْغَلَبَة والعلو علو مُحَمَّد.
وَقَوله:
﴿مَا هم ببالغيه﴾ أَي: مَا هم ببالغي إرادتهم، وَكَانَ مُرَادهم أَن يهْلك مُحَمَّد وَيهْلك أَصْحَابه، ويندرس أَثَره ويصيروا حِكَايَة. وَيُقَال: كَانَ مُرَادهم أَن يغلبوا مُحَمَّدًا ويعلو أَمرهم أمره. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث، قَالَه ابْن جريج وَغَيره.
(وَهَذَا أَن) الْآيَة نزلت فِي الْيَهُود فَكَانُوا يَقُولُونَ: يخرج منا فِي آخر الزَّمَان من يغلب على جَمِيع الأَرْض، وَيكون الْبَحْر إِلَى رُكْبَتَيْهِ، والسحاب على رَأسه، وَيقتل ويحيي، وَمَعَهُ جبل من جنَّة، وجبل من نَار. قَالُوا: يَعْنِي أهل الْعلم وَهُوَ الدَّجَّال الَّذِي ذكره الرَّسُول، فَلَمَّا قَالُوا هَذَا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمعنى قَوْله:
﴿مَا هم ببالغيه﴾ على هَذَا القَوْل أَن الْغَلَبَة لَا تكون للدجال على الْمُسلمين، بل تكون للْمُسلمين على الدَّجَّال، فَإِن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ينزل وَيقتل الدَّجَّال نصْرَة للْمُسلمين.
وَقَوله:
﴿فاستعذ بِاللَّه﴾ أَي: من شرك الدَّجَّال على هَذَا القَوْل.
وَقَوله:
﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
27
قَوْله تَعَالَى:
﴿لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس﴾ أَي: رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد، وإجراء الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي مجاريها، وَبسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال أهول فِي قُلُوب النَّاس من خلق الْآدَمِيّين. وَيُقَال: لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من قتل الدَّجَّال وَاحِدًا وإحيائه، فَالنَّاس هَاهُنَا: هُوَ الدَّجَّال على هَذَا القَوْل.
وَقَوله:
﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأُمُور.
27
﴿لَا يعلمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَلَا الْمُسِيء قَلِيلا مَا تتذكرون (٥٨) إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (٥٩) وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي﴾
28
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ إِلَى قَوْله: ﴿قَلِيلا مَا تتذكرون﴾ بِالتَّاءِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ، وَالْمعْنَى قريب بعضه من بعض.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا﴾ أَي: لَا شكّ فِيهَا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ﴾ أَي: لَا يصدقون.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم﴾ قد ثَبت بِرِوَايَة نعْمَان بن بشير أَن النَّبِي قَالَ: " الدُّعَاء هُوَ الْعِبَادَة. وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة ".
وَعَن ثَابت قَالَ: قلت لأنس: الدُّعَاء نصف الْعِبَادَة، قَالَ: هُوَ كل الْعِبَادَة.
وَقَوله:
﴿إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي﴾ أَي: عَن دعائي، وَيُقَال: عَن توحيدي.
وَقَوله:
﴿سيدخلون جَهَنَّم داخرين﴾ أَي: صاغرين.
وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: أَعْطَيْت هَذِه الْأمة (ثَلَاثًا) لم يُعْط أحد من الْأُمَم: قَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي من الْأَنْبِيَاء السالفة: أَنْت شَاهد على أمتك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة: أَنْتُم شُهَدَاء على الْأُمَم، وَقَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي: مَا عَلَيْك فِي الدّين من حرج، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة:
﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾ وَقَالَ لكل نَبِي: ادْع أَسْتَجِب لَك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم﴾.
28
﴿سيدخلون جَهَنَّم داخرين (٦٠) الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (٦١) ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (٦٢) كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون (٦٣) الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا وَالسَّمَاء بِنَاء وصوركم فَأحْسن صوركُمْ ورزقكم من الطَّيِّبَات ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين (٦٤) هُوَ الْحَيّ﴾
29
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ﴾ أَي: لتسترخوا فِيهِ من الْأَعْمَال، وَقيل: لتناموا.
وَقَوله: ﴿وَالنَّهَار مبصرا﴾ أَي: مبصرا فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاس يبصرون فِيهِ الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون﴾ أَي: يصرف عَن الْحق من كَانَ مُشْركًا بِاللَّه جاحدا لآياته.
قَوْله تَعَالَى:
﴿الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا﴾ أَي: تستقرون فِيهَا،
﴿وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ أَي: بناءة فَوْقكُم.
وَقَوله:
﴿وصوركم فَأحْسن صوركُمْ﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه لَا يَأْكُل بِيَدِهِ [شَيْء] سوى الْآدَمِيّين، وَلَا صُورَة على هَذِه الصُّورَة أحسن من الْآدَمِيّين.
وَقَوله:
﴿ورزقكم من الطَّيِّبَات﴾ أَي: مِمَّا تستلذوها مِمَّا هُوَ حَلَال لكم.
وَقَوله:
﴿ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين﴾ وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وتعظم رب الْعَالمين عَمَّا يَقُول الْكفَّار.
29
﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين الْحَمد لله رب الْعَالمين (٦٥) قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى ولعلكم تعقلون (٦٧) هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾
30
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الْحَيّ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين﴾ وَالدُّعَاء على الْإِخْلَاص أَلا يدعوا مَعَه سواهُ.
وَقَوله: ﴿الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾ روى عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: من السّنة أَن يَقُول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ يَقُول عقيبة: الْحَمد لله رب الْعَالمين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي﴾ أَي: الْحجَج الْوَاضِحَة.
وَقَوله: ﴿وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين﴾ أَي: أستسلم وأنقاد لحكمه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا﴾ أَي: أطفالا، وَاحِدًا بِمَعْنى الْجمع، وَيُقَال: طفْلا طفْلا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم﴾ قد بَينا معنى الأشد.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل﴾ أَي: من قبل أَن صَار شَيخا.
وَقَوله: ﴿ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى﴾ أَي: مَا قدر لكم من الْحَيَاة.
وَقَوله: ﴿ولعلكم تعقلون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ أَي: تكوينه الْأَشْيَاء يكون بِمرَّة وَاحِدَة، لَا بِمرَّة بعد مرّة.
30
((٦٨} ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله أَنى يصرفون (٦٩) الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ (٧٠) إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل يسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيم ثمَّ فِي النَّار يسجرون (٧٢) ثمَّ قيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تشركون (٧٣) من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا كَذَلِك يضل الله الْكَافرين (٧٤) ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون)
31
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله﴾ أَي: يجادلون فِي دفع آيَاتنَا بالتكذيب.
وَقَوله: ﴿أَنى يصرفون﴾ أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ﴾ وَعِيد وتهديد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل﴾ وَقُرِئَ: " والسلاسل " بِنصب اللَّام، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع، فَمَعْنَاه: الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل، وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فَمَعْنَاه: ويسحبون السلَاسِل.
وَقَوله: ﴿يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيم﴾ أَي: يجرونَ فِي الْحَمِيم.
وَقَوله: ﴿ثمَّ فِي النَّار يسجرون﴾ أَي: يوقدون فِي النَّار كَمَا توقد التنانير بالخشب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:قوله تعالى :( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ) وقرئ :" والسلاسل " بنصب اللام، فمن قرأ بالرفع، فمعناه : الأغلال في أعناقهم والسلاسل، ومن قرأ بالنصب، فمعناه : ويسحبون السلاسل.
وقوله :( يسحبون في الحميم ) أي : يجرون في الحميم.
وقوله :( ثم في النار يسجرون ) أي : يوقدون في النار كما توقد التنانير بالخشب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ قيل لَهُم أَيْنَمَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا﴾ يَعْنِي: أَيْن هم لينصروكم؟ فَيَقُولُونَ: قد فاتوا وذهبوا عَنَّا.
وَقَوله: ﴿بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا﴾ أَي: لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا يدْفع عَنَّا ضرا، أَو يجلب إِلَيْنَا نفعا.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يضل الله الْكَافرين﴾ أَي: عَن الْحق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:قوله تعالى :( ثم قيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله قالوا ضلوا عنا ) يعني : أين هم لينصروكم ؟ فيقولون : قد فاتوا وذهبوا عنا.
وقوله :( بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ) أي : لم نكن ندعو من قبل شيئا يدفع عنا ضرا، أو يجلب إلينا نفعا.
وقوله :( كذلك يضل الله الكافرين ) أي : عن الحق.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق﴾ هَذَا دَلِيل على أَنه
31
((٧٥} ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين (٧٦) فاصبر إِن وعد الله حق فإمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا يرجعُونَ (٧٧) وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك وَمَا كَانَ لرَسُول أَن) قد يكون فَرح بِحَق.
وَقَوله:
﴿وَبِمَا كُنْتُم تمرحون﴾ الْفَرح: السرُور. والمرح والبطر والأشر. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يبغض البذخين الفرحين المرحين، وَيُحب كل قلب حَزِين، وَيبغض الحبر السمين، وَيبغض أهل بَيت اللحمين أَي: الَّذين يكثرون أكل اللَّحْم، وَيُقَال: الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس بالغيبة. وَالْخَبَر غَرِيب.
32
وَقَوله: ﴿فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاصبر إِن وعد الله حق﴾ إِلَى آخر الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك﴾ قَالَ السدى: بعث الله تَعَالَى ثَمَانِيَة آلَاف نَبيا: أَرْبَعَة آلَاف من بني إِسْرَائِيل، وَأَرْبَعَة آلَاف من غير بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَن جَمِيع من ذكرهم الله تَعَالَى [فِي] الْقُرْآن من الْأَنْبِيَاء خَمْسَة وَعِشْرُونَ نَبيا، أَوَّلهمْ آدم، وَآخرهمْ مُحَمَّد، ذكر ثَمَانِيَة عشر مِنْهُم فِي سُورَة الْأَنْعَام، والباقين فِي غَيرهَا. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن الله تَعَالَى بعث نَبيا حَبَشِيًّا لم يذكر اسْمه فِي الْقُرْآن. وَأما الَّذِي فِي أَفْوَاه النَّاس أَن الله تَعَالَى بعث مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألف نَبِي.
32
﴿يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضي بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون (٧٨) الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلكم فِيهَا مَنَافِع ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون (٨٠) ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون (٨١) أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم﴾ وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة ضَعِيفَة.
وَقَوله:
﴿وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي إِلَّا بِإِذن الله﴾ هَذَا جَوَاب للْكفَّار، سَأَلُوا النَّبِي معْجزَة بِعَيْنِه، وَقَالُوا: افْعَل كَذَا وَكَذَا، فَرد الله عَلَيْهِم ذَلِك بقوله:
﴿وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله﴾.
وَقَوله:
﴿فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضى بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون﴾ أَي: هلك عِنْد ذَلِك المبطلون.
وَقَوله:
﴿أَمر الله﴾ أَرَادَ بِهِ الْقِيَامَة.
33
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: الْأَنْعَام هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم فِي اللُّغَة، إِلَّا أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَلكم فِيهَا مَنَافِع﴾ يَعْنِي: سوى الرّكُوب وَالْأكل من الرُّسُل والنسل والوبر وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم﴾ قَالَ قَتَادَة: الِانْتِقَال من بلد إِلَى بلد. قَالَ مُجَاهِد: أَي حَاجَة كَانَت.
وَقَوله: ﴿وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون﴾ ظَاهر الْمَعْنى، والفلك: السَّفِينَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون﴾ يَعْنِي: مَعَ ظُهُورهَا ووضوحها.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض﴾ قَالَ مُجَاهِد: قَوْله: {وآثارا فِي
33
﴿كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين﴾ الأَرْض) مَعْنَاهُ: الْمَشْي فِيهَا بأرجلهم. وَيُقَال: الْآثَار فِي الأَرْض هِيَ العروش والزروع والأبنية.
وَقَوله:
﴿فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أَي: لم يدْفع عَنْهُم كسبهم شَيْئا حِين ينزل الْعَذَاب بهم.
34
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَلم يكن عِنْدهم [علم] أصلا؟
قُلْنَا: قد كَانَ فِي ظنهم أَنهم عُلَمَاء، فَسمى مَا عِنْدهم علما على ظنهم، وَكَانَ الَّذِي ظنوه أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا حَيَاة بعد الْمَوْت.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: ﴿فرحوا﴾ يرجع إِلَى الرُّسُل، وَمعنى الْآيَة: فَرح الرُّسُل بِمَا عِنْدهم من الْعلم بِهَلَاك أعدائهم.
وَيُقَال: فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم أَي: رَضوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم، وَلم يطلبوا الْعلم الَّذِي أنزلهُ الله على الْأَنْبِيَاء وقنعوا بِمَا عِنْدهم، وَهُوَ كَانَ جهلا على الْحَقِيقَة.
وَقَوله: ﴿وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ أَي: نزل بهم وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده﴾ قد ذكرنَا معنى الْبَأْس.
وَقَوله:
﴿وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين﴾ وَهَكَذَا جَمِيع الْكَافرين، يُؤمنُونَ عِنْد الْبَأْس، وَلَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك.
34
((٨٤} فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنت الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ (٨٥))
35
وَقَوله:
﴿فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا﴾ وَقد اسْتثْنى مِنْهُم قوم يُونُس فِي سُورَة يُونُس، وَقد ذكرنَا.
وَقَوله:
﴿سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده﴾ أَي: مَضَت فِي عباده، وَمعنى السّنة: هُوَ إِيمَانهم وَعدم النَّفْع فِي إِيمَانهم.
وَقَوله:
﴿وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ﴾ أَي: هلك هُنَالك الْكَافِرُونَ.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ
﴿هُنَالك﴾ وَهَذَا يَقْتَضِي أَلا يَكُونُوا فِي الْحَال خاسرين؟
وَالْجَوَاب: أَن الزّجاج قَالَ: كل كَافِر خاسر، إِلَّا أَنه إِذا رأى الْعَذَاب تبين لَهُ الخسران. فَبِهَذَا الْمَعْنى قَالَ:
﴿هُنَالك﴾ وَالله أعلم.
35
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿حم (١) تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم (٢) كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ (٣) بشيرا وَنَذِيرا فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر﴾
تَفْسِير سُورَة حم السَّجْدَة
وَهِي مَكِّيَّة
36