ﰡ
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال: ﴿تنزيل الكتاب﴾ أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله ﴿ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل﴾ ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى ﴿أليس الله بكاف عبده﴾ - إلى قوله: ﴿أليس الله بعزيز ذي انتقام﴾ [الزمر: ٣٧] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال ﴿قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته﴾ [الزمر: ٣٨] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال ﴿قل لله الشفاعة جميعاً﴾ [الزمر: ٤٤] ﴿قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة﴾ {أو لم يعلموا
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله: ﴿غافر الذنب﴾ أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة. قال السمين: نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئاً.
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: ﴿ذي الطول﴾ أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: ﴿لا إله إلا هو﴾ ولما أنتج
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه: ﴿ما يجادل﴾ أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده ﴿في آيات﴾ وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال: ﴿الله﴾ أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى ﴿إلا الذين كفروا﴾ أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم.
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة
ولما كان التذكيب وحده كافياً في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال: ﴿وهمَّت كل أمة﴾ أي من الأحزاب المذكورين ﴿برسولهم﴾ أي الذي أرسلناه إليهم. ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال: ﴿ليأخذوه﴾ ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً: ﴿وجادلوا بالباطل﴾ أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال: ﴿ليدحضوا﴾ أي ليزلقوا فيزيلوا ﴿به الحق﴾ أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته.
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن
ولما كان التقدير: فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها ﴿حقت﴾ بالأخذ والنكال ﴿كلمت﴾ وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارة له بالرفق بقومه فقال: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك.
ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق،
ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله: ﴿وما يجادل في آيات الله﴾ ما بعده، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عادوهم فيه سبحانه، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال، أو يقال: إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل: فكيف النجاة؟ قيل: بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية،
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه: ﴿يسبحون﴾ أي ينزهون أي يوقعون تنزيهه سبحانه عن كل شائبة نقص ملتبسين ﴿بحمد﴾ وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال: ﴿ربهم﴾ أي باحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال.
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم
ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة: ﴿للذين آمنوا﴾ أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ ﴿ويعفو عن كثير﴾ «لن يدخل أحد الجنة بعمله». ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره. ولما كان المراد بيان اتساع رحمته
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: ﴿فاغفر للذين تابوا﴾ أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها ﴿واتبعوا﴾ أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا ﴿سبيلك﴾ المستقيم الذي لا لبس فيه. ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: ﴿وقهم عذاب الجحيم *﴾ أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء.
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال: ﴿ومن صلح من آبائهم﴾ ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا: ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾. ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى: ﴿إنك أنت﴾ أي وحدك ﴿العزيز﴾ فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن ﴿الحكيم *﴾ فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه.
ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم، وفيه من الأخلاق ما ربما
ولما أتم الذين آمنوا، فتشوفت النفس إلى معرفة ما لأضدادهم، قال مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم هذه المناداة بانكار يومها: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر ولو لحظة ﴿ينادون﴾ أي يوم القيامة بنداء يناديهم به من أراد الله من جنوده أو في الدار أرفع نعماً - أنهم آثر عند الله من فقراء المؤمنين، أكد قوله: ﴿لمقت الله﴾ أي الملك الأعظم إياكم بخذلانكم ﴿أكبر من مقتكم﴾ وقوله: ﴿أنفسكم﴾ مثل قوله تعالى: ﴿انظر كيف كذبوا على أنفسهم﴾ جاز على سبيل الإشارة إلى تنزه الحضرة المقدسة عما لزم فعلهم من المقت، فإن من دعا إلى أحد فأعرض عنه إلى غيره كان إعراضه مقتاً للمعرض عنه، وهذا المقت منهم الموجب لمقت الله لهم موصل لهم إلى عذاب يمقتون به أنفسهم، والمقت أشد البغض؛ ثم ذكر ظرف مقتهم العائد وباله عليهم بقوله: ﴿إذا﴾ أي حين، وأشار إلى أن الإيمان لظهور دلائله ينبغي أن يقبل من أي داع كان، فبنى الفعل لما لم يسم فاعله فقال: ﴿تُدعون إلى الإيمان﴾ أي بالله وما جاء من عنده ﴿فتكفرون *﴾ أي فتوقعون الكفر الذي هو تغطية الآيات موضع إظهارها والإذعان بها،
ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقروا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب: ﴿قالوا ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا ﴿أمتَّنا اثنتين﴾ قيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم﴾ [آية: ٢٨] وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، والضب على الشهادتين، والفرس حين قال لها
ولما كان الجواب قطعاً: لا سبيل إلى ذلك، علله بقوله: ﴿ذلكم﴾ أي القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم ﴿بأنه﴾ أي كان بسبب أنه ﴿إذا دُعي الله﴾ أي وجدت ولو مرة واحدة دعوة الملك الأعظم من أي داع كان ﴿وحده﴾ أي محكوماً له بالوحدة أو منفرداً من غير شريك ﴿كفرتم﴾ أي هذا طبعكم دائماً رجعتم إلى الدنيا أولاً ﴿وإن يشرَك به﴾ أي يوقع الإشراك به ويجدد ولو بعدد الأنفاس من أي مشرك كان ﴿تؤمنوا﴾ أي بالشركاء وتجددوا ذلك غير متحاشين ومن تجديد الكفر وهذا مفهم لأن
ولما كانت النفوس لا تنقاد غاية الانقياد للحاكم إلا مع العظمة الزائدة والقدم في المجد، قال معبراً بما يجمع العظمة والقدم: ﴿الكبير *﴾ الذي لا يليق الكبر إلا له، وكبر كل متكبر وكبر كل كبير متضائل تحت دائرة كبره وكبره، وعذابه مناسب لكبريائه فما أسفه من شقي بالكبراء فإنهم يلجئون أنفسهم إلى أن يقولوا ما لا يجديهم ﴿ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا﴾ : ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: ﴿ولو كره﴾ أي الدعاء منكم ﴿الكافرون *﴾ أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في ﴿سأل﴾ بصيغة منتهى الجموع ﴿المعارج﴾ - ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: ﴿ذو العرش﴾ أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: ﴿يلقي الروح﴾ أي الذي تحيى به الأرواح
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال: ﴿لينذر﴾ أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره ﴿يوم التلاق *﴾ أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين: أحدهما بالآخر
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له: ﴿يوم هم﴾ أي بظواهرهم وبواطنهم ﴿بارزون﴾ أي برزوا لا ساتر فيه أصلاً.
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم: ﴿لا يخفى على الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿منهم شيء﴾ أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره.
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته
سكت الدهر طويلاً عنهم | قد أبكاهم دماً حين نطق |
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال: ﴿اليوم تجزى﴾ أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه ﴿كل نفس﴾ لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم.
ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا: ﴿لا ظلم﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿اليوم﴾ ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة | له شاهد من نفسه غير عائل |
ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال:
ولما كان الحديث - وإن كان في الظاهر عن القلوب - إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال: ﴿كاظمين﴾ أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً: ﴿ما للظالمين﴾ أي العريقين في الظلم منهم ﴿من حميم﴾ أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم
ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه، وإما بالاعتذار عنه، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو علموا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال: ﴿يعلم خائنة﴾ ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة، وأنه ما عدل عنه إلى جمع القلة إلا للاشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل، عليه هين، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال: ﴿الأعين﴾ أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين،
وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال: ﴿وما تخفي الصدور *﴾ أي عن المشفوع عنده وغير ذلك.
ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال: ﴿والله﴾ أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال ﴿يقضي بالحق﴾ أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال ﴿والذين يدعون﴾ أي الظالمون - على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون - على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء. ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال: ﴿من دونه﴾ أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره ﴿لا يقضون بشيء﴾ من الأشياء أصلاً، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر، مرغباً في كل خير، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك: ﴿إن الله﴾ عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان ﴿هو﴾ أي وحده. ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال: ﴿السميع﴾ أي لكل ما يمكن أن يسمع ﴿البصير *﴾ أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره: جنته أو ناره، روى الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة
«أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يأتونه: أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش» - وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب «من سأل الناس تكثراً» عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي
- فذكره وهو طويل جداً، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال: «ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع»
إلى أن قال: «ثم يقول الله عز وجل: بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين. فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره» وروى ابن حبان في صحيحه - قال المنذري: ولا أعلم في إسناده مطعناً - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة. يا رباه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبيكاه، فيقول إبراهيم: يا رب حرقت بني - فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان» وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع: «يلقى رجل
«إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم
«إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا
ولما كان السير سبباً للنظر قال: ﴿فينظروا﴾ أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم. ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة، نبه عليها بقوله: ﴿كيف﴾ أي أنها أهل لأن يسأل عنها، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله: ﴿كان عاقبة﴾ أي آخر
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول: ما كان أمرهم؟ :﴿أشد منهم﴾ أي هؤلاء - قرأه ابن عامر ﴿منكم﴾ بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد ﴿قوة﴾ أي ذواتاً ومعاني ﴿و﴾ أشد ﴿آثاراً في الأرض﴾ لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن.
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله، فكان ذلك سبب هلاكهم قال: ﴿فأخذهم الله﴾ أي
ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله: ﴿ذلك﴾ أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين، فكانوا إحدى عمدتي الكلام، أتى بضميرهم فقال: ﴿بأنهم﴾ أي الذين كانوا من قبل ﴿كانت تأتيهم﴾ أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه ﴿رسلهم﴾ أي الذين هم منهم ﴿بالبينات﴾
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب، عبر بالماضي فقال: ﴿فكفروا﴾ أي سببوا عن إتيان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إتيانهم سبباً له من الإيمان.
ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال: ﴿فأخذهم﴾ أي أخذ غضب ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم. ولما كان قوله ﴿فكفروا﴾ معلماً بسبب أخذهم لم يقل: بكفرهم، كما قال سابقاً: بذنوبهم، لإرشاد السباق إليه. ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه: ﴿إنه قوي﴾ لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ﴿شديد العقاب *﴾.
ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة: فلقد أرسلناهم كذلك، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر، وإشارة لمن استبصر قوله: ﴿ولقد﴾ ولفت القول إلى مظهر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا
ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: ﴿فلما جاءهم﴾ أي موسى عليه السلام ﴿بالحق﴾ أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ﴿من عندنا﴾ على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه ﴿قالوا﴾ أي فرعون وأتباعه ﴿اقتلوا﴾ أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ﴿أبناء الذين آمنوا﴾ أي به فكانوا ﴿معه﴾ أي
ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال: ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما كيدهم - هكذا كان الأصل ولكنه قال: ﴿كيد الكافرين﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿إلا في ضلال﴾ أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها.
ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال: ﴿وقال فرعون﴾ أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه، وأنه لولا ذلك قتله: ﴿ذروني﴾ أي اتركوني
ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام، زاد في ذلك بقوله: ﴿وأن يظهر﴾ أي بسببه - على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة ﴿في الأرض﴾ أي كلها ﴿الفساد *﴾ وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذا غلب علينا قوي على من سوانا، فسفك الدماء وسبى الذرية، وانتهب الأموال، ففسدت الدنيا مع فساد الدين، فسمى اللعين الصلاح - لمخالفته لطريقته الفاسدة - فساداً كما هو
ولما انقضى كلام الرأسين، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم، واجتهد في جمع مفترق
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل، فقال منكراً له غاية الإنكار: ﴿أتقتلون رجلاً﴾ أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: ﴿أن﴾ أي لأجل أن ﴿يقول﴾ ولو على سبيل التكرير: ﴿ربي﴾ أي المربي لي والمحسن إليّ ﴿الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿جاءكم بالبينات﴾ أي الآيات الظاهرات من غير لبس ﴿من ربكم﴾ أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه: ﴿وإن﴾ أي والحال أنه إن.
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة: قتلهم خير الناس إذ ذاك، وإتيانهم بالعذاب، واطلاعهم على إيمانه، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن، حذف النون فقال: ﴿يك كاذباً فعليه﴾ أي خاصة ﴿كذبه﴾ يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر، ولم يقل: أو صادقاً، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه، فيكون قد أخل ببعض الأدب، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه: ﴿وإن يك﴾ حذف نونه لمثل ما مضى ﴿صادقاً يصبكم﴾ أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض، قال ملزماً الحجة بالبعض، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه: ﴿بعض الذي﴾ وقال: ﴿يعدكم﴾ دون «يوعدكم» إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر، والآية من الاحتباك: ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية، ودموعه
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ﴿لا يهدي﴾ أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ﴿من هو مسرف﴾ أي بإظهار الفساد متجاوز للحد، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً، ولذا قال ﴿يصبكم بعض الذي يعدكم﴾ فعلق الأمر بالمبالغة فقال: ﴿كذاب *﴾ لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب، ويهدي من هو مقتصد صادق، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه، ولم يهتد لوجه يخلصه، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم، لاتصافكم
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم: ﴿يا قوم﴾ وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال: ﴿لكم الملك﴾ ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: ﴿اليوم﴾ وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: ﴿ظاهرين﴾ أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم: ﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها، قد غلبتم الناس عليها.
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه، فلذلك قال: ﴿فمن ينصرنا﴾ أي أنا وأنتم، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة: ﴿من بأس الله﴾ أي الذي له الملك كله، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى
ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن، فتشوف السامع لجوابه، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله: ﴿قال فرعون﴾ أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه: ﴿ما أريكم﴾ أي من الآراء ﴿إلا ما أرى﴾ أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه. ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه، ويكون تطابقهما على ضلال، قال: ﴿وما أهديكم﴾ أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره ﴿إلا سبيل الرشاد *﴾ أي الذي أرى أنه صواب، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح
ولما ظهر لهذا المؤمن رضي الله عنه أن فرعون ذل لكلامه، ولم يستطع مصارحته، ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول فأخبرنا تعالى عنه بقوله مكتفياً في وصفه بالفعل الماضي لأنه في مقام الوعظ الذي ينبغي أن يكون من أدنى متصف بالإيمان بعد أن ذكر عراقته في الوصف لأجل أنه كان في مقام المجاهدة والمدافعة عن الرسول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الذي لا يقدم عليه إلا راسخ القدم في الدين: ﴿وقال الذي آمن﴾ أي بعد قول فرعون هذا الكلام الذي هو أبرد من الثلج الذي دل على جهله وعجزه وذله ﴿يا قوم﴾ وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم من اتهامه فقال: ﴿إني أخاف عليكم﴾ أي من المكابرة في أمر موسى عليه الصلاة والسلام. ولما كان أقل ما يخشى يكفي العاقل، وكانت قدرة الله سبحانه عليهم كلهم على حد سواء لا تفاوت فيها فكان هلاكهم كلهم كهلاك نفس واحدة، أفرد فقال: ﴿مثل يوم الأحزاب *﴾ مع أن إفراده أروع وأقوى في التخويف وأفظع للاشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على
ولما كان التقدير: أهلكهم الله وما ظلمهم، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال: ﴿وما الله﴾ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم، ونكر تعميماً فقال: ﴿يريد ظلماً﴾ أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم ﴿للعباد *﴾ لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره، وطوع مشيئته وأمره، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد، وإلا كان كفه ظلماً
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه، ومكسوراً من حاكمه، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض - كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل، ومظاهر الكرم الفضل قال: ﴿ويا قوم﴾ ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال: ﴿إني أخاف﴾ وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال: ﴿عليكم﴾ ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال: ﴿يوم التناد *﴾ أي أهواله وما يقع فيه، فينادي الجبار سبحانه بقوله {ألم أعهد إليكم
﴿يفر المرء من أخيه﴾ [عبس: ٣٤] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا. ولما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً:
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: ﴿ما لكم من الله﴾ أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: ﴿من عاصم﴾ أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: ﴿ومن يضلل اللهُ﴾ أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان - بما أشار إليه الفلك ﴿فما له من هاد *﴾ أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري: فمن مات على شيء فهو مجبول عليه.
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل زمن موسى عليه السلام: ﴿بالبينات﴾ أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد ﴿فما زلتم﴾ بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ﴿في شك﴾ أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ﴿مما جاءكم به﴾ من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله: ﴿حتى إذا هلك﴾ وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة ﴿قلتم﴾ أي
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: ﴿من بعده﴾ أي يوسف عليه السلام ﴿رسولا﴾ وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.
ولما كان كأنه قيل: هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله؟ أجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن ﴿يضل﴾ وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده ﴿الله﴾ أي بما له من صفات القهر ﴿من هو مسرف﴾ أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر.
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال: ﴿مرتاب *﴾
ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً، وهو بما أمر به
ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب، فكان التقدير: أولئك طبع الله على قلوبهم، وصل به استنئافاً قوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع﴾ أي يختم ختماً فيه العطب ﴿الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿على كل قلب﴾ ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله: ﴿متكبر﴾ أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ﴿جبار *﴾ أي ظاهر الكبر قويّه قهار وقراءة الباقين بالإضافة مثلها سراء في أن السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب، وهي أبين من القراءة الشاذة بتقديم القلب على كل لأن
ولما ذكر الطبع المذكور، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تيهاً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه، فصار به ضحكة لكل من سمعه هذا إن كان ظن أنه يصل إلى ما أراد وإن كان قصد بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل، فقال تعال: ﴿وقال فرعون﴾ أي بعد قول المؤمن هذا، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً: ﴿يا هامان﴾ وهو وزيره ﴿ابنِ﴾ وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله: ﴿لي صرحاً﴾ أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد.
قال البغوي: لا يخفى على الناظر وإن بعد. وأصله من التصريح وهو الإظهار، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق،
ولما كان بلوغها أمراً عجيباً، أورده على نمط مشوق عليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنها، ليتشوف السامع إلى بيانها، بقوله: ﴿أسباب السماوات﴾ أي الأمور الموصلة إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه.
ولما ذكر هذا السبب، ذكر المسبب عنه فقال: ﴿فاطًّلع﴾ أي فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ﴿إلى إله موسى﴾ فيكون كما ترى عطفاً على ﴿أبلغ﴾، ونصبه حفص عن عاصم على الجواب تنبيهاً على أن ما أبرزه الخبيث في عداد الممكن إنما هو تمني محال غير ممكن في العادة.
ولما كان من جملة إرادته بذلك مع إيقاف قومه إلى وقت ما عن المتابعة أن يخيلهم بأن يقول: طلعت فبحثت عما قال موسى فلم أقف له على صحة، قدم لهم قوله مبيناً لحاله إذ ذاك لما ظن من ميل قلوبهم إلى تصديق موسى عليه السلام: ﴿وإني لأظنه﴾ أي موسى ﴿كاذباً﴾ فترك الكلام على احتمال أن يريد في الرسالة أو في الإلهية. ولما كان
ولما كان هذا السياق بحيث يظن منه الظان أن لفرعون نوع تصرف، نفى ذلك بقوله: ﴿وما كيد﴾ واعاد الاسم ولم يضمره لئلا يخص بخيثية من الحيثيات فقال: ﴿فرعون﴾ أي في إبطال أمر موسى عليه السلام ﴿إلا في تباب *﴾ أي خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه، وما تعطاه إلا لأنه محمول عليه ومقهور فيه، كما كشف عنه الحال، فدل ذلك قطعاً على أنه لو كان له أدنى تصرف يستقل به لما أنتج فعله الخسار.
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات: الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه: ﴿وقال الذي آمن﴾ أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ: ﴿يا قوم﴾ أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم ﴿اتبعون﴾ أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ﴿أهدكم سبيل﴾
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ﴿يا قوم﴾ كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال: ﴿إنما هذه الحياة﴾ وحقرها بقوله: ﴿الدنيا﴾ إشارة إلى دناءتها وبقوله: ﴿متاع﴾ إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال: ﴿وإن الآخرة﴾ لكونها المقصودة بالذات ﴿هي دار القرار *﴾ التي لا تحول منها أصلاً
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك: ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً.
ولما بين العدل في العقاب، بين الفضل في الثواب، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال: ﴿ومن عمل صالحاً﴾ أي ولو قل. ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال: ﴿من ذكر أو أنثى﴾ ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه: ﴿وهو﴾ أي عمل والحال أنه ﴿مؤمن﴾ ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال: ﴿فأولئك﴾
ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان: هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً، بينه بقوله: ﴿تدعونني﴾ أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم ﴿لأكفر﴾ أي لأجل أن أكفر ﴿بالله﴾ أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر ﴿وأشرك﴾ أي أوقع الشرك ﴿به﴾ أي أجعل له شريكاً. ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال:
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها: ﴿وأنا ادعوكم﴾ أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده ﴿إلى العزيز﴾ أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله: ﴿الغفار *﴾ أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه، من صفات الكمال أحد، فالآية من الاحتباك: ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً.
ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في
ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد، تسبب عنه بقوله: ﴿فستذكرون﴾ أي قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب ﴿ما أقول لكم﴾ حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه. ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على «ستذكرون» غير مراعى فيها معنى السين: ﴿وأفوض﴾ أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ﴿أمري﴾ فيما تمكرونه بي ﴿إلى الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم: إن شاء، قال صاحب المنازل: التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام، والتوكل شعبة منه، وهو على ثلاث درجات: الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية، والثانية معاينة الاضطرار
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره ﴿إن الله﴾ وكرر الاسم الأعظم بياناً لمراده بأنه ﴿بصير﴾ أي بالغ البصر ﴿بالعباد *﴾ ظاهراً وباطناً، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة.
ولما كان هذا من خبر موسى عليه السلام وفرعون أمراً غريباً جداً، قل من يعرفه على ما هو عليه، لأنه من خفي العلم، أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: ﴿وإذ﴾ أي اذكر لهم هذا الذي أنبأناك به مما كان في الزمن الأقدم، ولا وصول له إليك إلا من جهتنا، لأنهم يعلمون قطعاً أنك ما جالست عالماً قط، واذكر لهم ما يكون في الزمن الآتي حين ﴿يتحاجون﴾ أي هؤلاء الذين نعذبهم ﴿في النار﴾ أي يتخاصمون فيما أتباعهم ورؤساؤهم بما لا يغنيهم: ﴿فيقول الضعفاء﴾ أي الأتباع
ولما كانوا لشدة ما هم فيه يتبرأ كل منهم من صاحبه. أكدوا قولهم: ﴿إنا كنا لكم﴾ أي دون غيركم ﴿تبعاً﴾ أي أتباعاً، فتكبرتم على الناس بنا، وهو عند البصريين يكون واحداً كجمل ويكون جمعاً كخدم جمع خادم، ولعله عبر به إشارة إلى أنهم كانوا في عظيم الطواعية لهم على قلب رجل واحد ولما كان الكبير يحمي تابعه، سببوا عن ذلك سؤالهم فقالوا: ﴿فهل أنتم﴾ أي أيها الكبراء ﴿مغنون﴾ أي كافون ومجزون وحاملون ﴿عنا نصيباً من النار *﴾.
ولما أتى بكلام الضعفاء مضارعاً على الأصل، وإشارة مع تصوير الحال لأنه أقطع إلى طول خصامهم لأنه أشد في إيلامهم، فتشوف السامع إلى جوابهم، استأنف الخبر عنه بصيغة الماضي تأكيداً لتحقيق وقوعه رداً قد يتوهمه الضعيف من أن المستكبر له قوة المدافعة وإباء الأنفة فقال: ﴿قال الذين استكبروا﴾ أي من شدة ما هم فيه. ولما كان الأتباع قد ظنوا أن المتبوعين يغنون عنهم، أكدوا إخبارهم لهم بما ينافي ذلك فقالوا: ﴿إنّا كل﴾ أي كلنا كائنون ﴿فيها﴾ أي النار، كل يناله من العذاب بقدر ما يستحقه سواء إن
ولما كان حكم الله تعالى مانعاً مما كان يفعل في الدنيا من فك المجرم وإيثاق غيره به، وكان سؤالهم في الإغناء سؤال من يجوز أن يكون حكمه على ما عليه الأحكام من حكام أهل الدنيا، عللوا جوابهم مؤكدين فقالوا: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بأوصاف الكمال ﴿قد حكم بين العباد *﴾ أي بالعدل، فأدخل أهل الجنة دارهم، وأهل النار نارهم، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً.
ولما دل على أنه لا يغني أحد عن أحد شيئاً، أخبر انهم لما رأوا بعدهم من الله وأنهم ليسوا بأهل لدعائه سبحانه، علقوا آمالهم بتوسط الملائكة، فأخبر عن ذلك منهم بقوله: ﴿وقال الذين في النار﴾ أي جميعاً الأتباع والمتبوعون ﴿لخزنة﴾ ووضع موضع الضمير قوله: ﴿جهنم﴾ للدلالة على أن سؤالهم لأهل الطبقة التي من شأنها وشأن خزنتها تجهم داخليها ليدل على أنهم لسوء ما هم فيه لا يعقلون، فهم لا يضعون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا:
ولما سألوهم، استأنفوا جوابهم إشارة إلى ما حصل من تشوف السامع إليه، معرفين لهم بسياقه بالسبب، الجاعل لهم في محل الاطراح والسفول عن التأهل لأن يسمع لهم كلام، فقال تعالى مخبراً عنهم: ﴿قالوا﴾ أي الخزنة. ولما كان التقدير: ألم تكن لكم عقول تهديكم إلى الاعتقاد الحق، عطف عليه قوله إلزامناً لهم الحجة وتوبيخاً وتنديماً بتفويت أوقات الدعاء المجاب: ﴿أولم﴾ ولما كان المقام خطراً، والمرام وعراً عسراً، فكانوا محتاجين إلى الإيجاز، قالوا مشيرين بذكر فعل الكون مع اقتضاء الحال للإيجاز إلى عراقة الرسل عليهم السلام في النصح المنجي من المخاوف بالمعجزات والرفق والتلّطف وطول الأناة والحلم والصبر مع شرف النسب وطهارة الشيم وحسن الأخلاق وبداعة الهيئات والمناظر ولطافة العشرة وجلالة المناصب: ﴿تك﴾ بإسقاط النون مع التصوير للحال بالمضارع ﴿تأتيكم﴾ على سبيل التجدد شئياً في أثر شيء ﴿رسلكم﴾ أي الذين هم منكم فأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم، لأن الجنس إلى الجنس أمثل، والإنسان من مثله أقبل ﴿بالبينات﴾ أي التي لا شيء أوضح منها ﴿قالوا﴾ أي الكفار: ﴿بلى﴾ أي أتونا كذلك، ثم استأنفوا جوابهم لما حصل من التشوف إليه بما حاصله
ولما كان أمرهم بالدعاء موجباً لأن يظنوا نفعه، أتبعوه بما أيأسهم لأن ذلك أنكأ وأوجع وأشد عليهم وأفظع بقولهم: ﴿وما﴾ دعاؤكم - هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بالوصف تعليقاً للحكم به فقال: ﴿دعاءُ الكافرين﴾ أي الساترين لمرائي عقولهم عن أنوار العقل المؤيد بصحيح النقل ﴿إلا في ضلال *﴾ أي ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة، والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا.
ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم تكون رتبتها دنية فقال: ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون لهم، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم ﴿ويوم يقوم الأشهاد *﴾ أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين، جمع شهيد كشريف وأشراف، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها، لما لهم من الحضور التام، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجمع القلة، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة
ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس، أتبعه ما أوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان، فقال مبدلاً مما قبله: ﴿يوم لا ينفع الظالمين﴾ الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها ﴿معذرتهم﴾ أي اعتذارهم وزمانه ومكانه - بما أشار إليه كون المصدر ميمياً ولو جل - بما أشار إليه قراءة التذكير للفعل فعلم بذلك أنهم لا يجدون دفاعاً بغير الاعتذار وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ [الأنعام: ٢٣] أو بالقدر ﴿ربنا غلبت علينا شقوتنا﴾ [المؤمون: ١٠٦] ﴿ولهم﴾ أي خاصة ﴿اللعنة﴾ أي البعد عن كل خير، مع الإهانة بكل ضير ﴿ولهم﴾ أي خاصة ﴿سوء الدار *﴾ وهي النار الحاوية لكل سوء - هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم، وقد علم من هذا أن لأعدائهم - وهم الرسل وأتباعهم - الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار، فظهرت بذلك أعلام النصرة، وصح ما أخبر به من تمام القدرة.
ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عاماً قال: ﴿وأورثنا﴾ أي بعظمتنا ﴿بني إسرائيل﴾ بعد ما كانوا فيه من الذل ﴿الكتاب *﴾ أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به - وهو التوراة - إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم، حال كونه ﴿هدى﴾ أي بياناً عاماً لكل من تبعه ﴿وذكرى﴾ أي عظة عظيمة ﴿لأولي الألباب *﴾ أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي، ومنهم من ضل، وذلك تحذير للاتباع، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع.
ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل
ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال: ﴿واستغفر لذنبك﴾ أي وهو كل عمل كامل ترتقى منة الى اكمل وحال فاضل فيكون ذلك شكرا،
ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال: ﴿وسبح﴾ أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر. ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال: ﴿بالعشي والإبكار *﴾ فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل على الصلوات الخمس - نقله البغوي. وذلك لأن العشى من زوال الشمس، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى: ﴿فاستعذ﴾ أي اطلب العوذ ﴿بالله﴾ المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنه﴾ أي على ما له من البطون ﴿هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ لكل ما يمكن أن يسمع. ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله: ﴿البصير *﴾ الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم.
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى: ﴿قليلاً ما يتذكرون﴾ أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر - بما دل عليه الإظهار - منكم قليل - على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب.
ولما ثبت بهذا كله تمام القدرة وانتفى ما توهمه من لا بصر له
ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت: ﴿لا يؤمنون *﴾ أي لا يجعلون المخبر لهم بإتيانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس.
ولما كان التقدير: فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة،
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل: ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله: ﴿إن الذين يستكبرون﴾ أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله: ﴿عن عبادتي﴾ أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء ﴿سيدخلون﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿جهنم﴾ فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة ﴿داخرين *﴾ أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك: ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً. ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً: ﴿إن الله﴾ أي ذا الجلال والإكرام ﴿لذو الفضل﴾ أي عظيم جداً باختياره ﴿على الناس﴾ أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع. ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان
ولما أنتجت هذه الأخبار - التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له - الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً: ﴿فأنى﴾ أي فكيف ومن أي وجه ﴿تؤفكون *﴾ أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد
ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل: هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا؟ فأجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء ﴿يؤفك﴾ أي يصرف صرف سيئاً - بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان، ولأنه المتعجب منه ﴿الذين كانوا﴾ مطبوعين على أنهم ﴿بآيات الله﴾ أي ذي الجلال والجمال ﴿يجحدون *﴾ أي ينكرون عناداً ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه.
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال: ﴿الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿الذي جعل﴾ أي وحده ﴿لكم الأرض﴾ أي مع كونها فراشاً ممهداً ﴿قراراً﴾ مع كونها في
ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال: ﴿وصوركم﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع ﴿فأحسن صوركم﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.
ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن
ولما دل هذا قطعاً على التفرد، قال على وجه الإنتاج: ﴿ذلكم﴾ أي الرفيع الدرجات ﴿الله﴾ أي المالك لجميع الملك، ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال: ﴿ربكم﴾ أي لا غيره، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته
ولما أمر بقصر الهمم عليه، علله بقوله: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وأظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن له من الصفات العلي ما لا ينحصر: ﴿لله﴾ أي المسمى بهذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى لذاته. ولما كان هذا الوجود على ما هو عليه من النظام، وبديع الارتسام، دالاً دلالة قطعية على الحمد، قال واصفاً بما هو كالعلة للعلم بمضمون الخبر: ﴿رب العالمين *﴾ أي الذي رباهم هذه التربية فإنه لا يكون إلا كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما
ولما
أمر
سبحانه
بما
دل
على
استحقاقه
إياه
، أنتج
قطعاً
قوله
: ﴿قل
﴾ أي
لهؤلاء
الذين
يجادلونك
في
التوحيد
والبعث
مقابلاً
لإنكارهم
بالتأكيد
: ﴿إني
نهيت
﴾ أي
ممن
لا
ناهي
غيره
، نهياً
عاماً
ببراهين
العقل
، ونهياً
خاصاً
بأدلة
النقل
﴿أن
أعبد
﴾ ولما
أهلوهم
لأعلى
المقامات
، عبر
عنهم
إرخاء
للعنان
بقوله
: ﴿الذين
تدعون
﴾ أي
يؤهلونهم
لأن
تدعوهم
، ودل
على
سفولهم
بقوله
تعالى
: ﴿من
دون
الله
﴾ أي
الذي
له
الكمال
كله
، ودل
على
أنه
ما
كان
متعبداً
قبل
البعث
بشرع
أحد
بقوله
: ﴿لما
جاءني
البينات
﴾ أي
الحجج
الواضحة
جداً
من
أدلة
العقل
والنقل
ظاهرة
، ولفت
القول
إلى
صفة
الإحسان
تنبيهاً
على
أنه
كما
يستحق
الإفراد
بالعبادة
لذاته
يستحقها
شكراً
لإحسانه
فقال
: ﴿من
ربي
﴾ أي
المربي
لي
تربية
خاصة
هي
أعلى
من
تربية
كل
مخلوق
سواي
، فلذلك
أنا
أعبده
عبادة
تفوق
عبادة
كل
عابد.
ولما
أخبر
بما
يتخلى
عنه
، أتبعه
الأمر
بما
يتحلى
به
فقال
: ﴿وأُمرت
أن
أسلم
﴾ أي
بأن
أجدد
إسلام
كليتي
في
كل
وقت
على
سبيل
الدوام
﴿لرب
العالمين
*﴾ لأن
كل
ما
سواه
مربوب
فالإقبال
عليه
خسار
، وإذا
نهى
هو
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
ذلك
وأمر
بهذا
لكون
الآمر
والناهي
ربه
لأنه
رب
كل
شيء
، كان
غيره
مشاركاً
له
في
ذلك
لا
محالة.
ولما
قامت
الأدلة
وسطعت
الحجج
على
أنه
سبحانه
رب
العالمين
الذين
من
جملتهم
المخاطبون
، ولا
حكم
للطبيعة
ولا
غيرها
، أتبع
ذلك
آية
أخرى
في
أنفسهم
هي
أظهر
مما
مضى
، فوصل
به
على
طريق
العلة
لمشاركتهم
له
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الأمر
والنهي
في
التي
قبلها
قوله
تعالى
: ﴿هو
﴾ لا
غيره
﴿الذي
﴾ ولما
كان
الوصف
بالتربية
ماضياً
، عبر
عنه
به
فقال
: ﴿خلقكم
من
تراب
﴾ أي
أصلكم
وأكلكم
التي
تربى
به
أجسادكم
﴿ثم
من
نطفة
﴾ من
مني
يمنى
﴿ثم
من
علقة
﴾ مباعداً
حالها
لحال
النطفة
كما
كان
النطفة
مباعداً
لحال
التراب
، ﴿ثم
﴾ بعد
أن
جرت
شؤون
أخرى
﴿يخرجكم
﴾ أي
يجدد
إخراجكم
شيئاً
بعد
شيء
﴿طفلاً
﴾ لا
تملكون
شيئاً
ولا
تعلمون
شيئاً
، ثم
يدرجكم
في
مدارج
التربية
صاعدين
بالقوة
في
أوج
الكمال
طوراً
بعد
طور
وحالاً
بعد
حال
﴿لتبلغوا
أشدكم
ثم
﴾ يهبطكم
بالضعف
والوهن
في
مهاوي
السفول
﴿لتكونوا
شيوخاً
﴾ ضعفاء
غرباء
، قد
مات
أقرانكم
، ووهت
أركانكم
، فصرتم
تخشون
كل
أحد.
ولما
كان
هذا
مفهماً
لأنه
حال
الكل
، بين
أنه
ما
أريد
به
إلا
البعض
لأن
المخاطب
الجنس
، وهو
يتناول
البعض
كما
يتناول
الكل
فقال
: ﴿ومنكم
من
يتوفى
﴾ بقبض
روحه
وجميع
معانيه
. ولما
كان
الموت
ليس
مستغرقاً
للزمن
الذي
بين
السنين
وإنما
هو
في
لحظة
يسيرة
مما
بينهما
، أدخل
الجار
على
الظرف
فقال
: ﴿من
قبل
﴾ أي
قبل
حال
الشيخوخة
أو
قبل
حال
الأشدية.
ولما
أمر
سبحانه
بما
دل
على
استحقاقه
إياه
، أنتج
قطعاً
قوله
: ﴿قل
﴾ أي
لهؤلاء
الذين
يجادلونك
في
التوحيد
والبعث
مقابلاً
لإنكارهم
بالتأكيد
: ﴿إني
نهيت
﴾ أي
ممن
لا
ناهي
غيره
، نهياً
عاماً
ببراهين
العقل
، ونهياً
خاصاً
بأدلة
النقل
﴿أن
أعبد
﴾ ولما
أهلوهم
لأعلى
المقامات
، عبر
عنهم
إرخاء
للعنان
بقوله
: ﴿الذين
تدعون
﴾ أي
يؤهلونهم
لأن
تدعوهم
، ودل
على
سفولهم
بقوله
تعالى
: ﴿من
دون
الله
﴾ أي
الذي
له
الكمال
كله
، ودل
على
أنه
ما
كان
متعبداً
قبل
البعث
بشرع
أحد
بقوله
: ﴿لما
جاءني
البينات
﴾ أي
الحجج
الواضحة
جداً
من
أدلة
العقل
والنقل
ظاهرة
، ولفت
القول
إلى
صفة
الإحسان
تنبيهاً
على
أنه
كما
يستحق
الإفراد
بالعبادة
لذاته
يستحقها
شكراً
لإحسانه
فقال
: ﴿من
ربي
﴾ أي
المربي
لي
تربية
خاصة
هي
أعلى
من
تربية
كل
مخلوق
سواي
، فلذلك
أنا
أعبده
عبادة
تفوق
عبادة
كل
عابد.
ولما
أخبر
بما
يتخلى
عنه
، أتبعه
الأمر
بما
يتحلى
به
فقال
: ﴿وأُمرت
أن
أسلم
﴾ أي
بأن
أجدد
إسلام
كليتي
في
كل
وقت
على
سبيل
الدوام
﴿لرب
العالمين
*﴾ لأن
كل
ما
سواه
مربوب
فالإقبال
عليه
خسار
، وإذا
نهى
هو
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
ذلك
وأمر
بهذا
لكون
الآمر
والناهي
ربه
لأنه
رب
كل
شيء
، كان
غيره
مشاركاً
له
في
ذلك
لا
محالة.
ولما
قامت
الأدلة
وسطعت
الحجج
على
أنه
سبحانه
رب
العالمين
الذين
من
جملتهم
المخاطبون
، ولا
حكم
للطبيعة
ولا
غيرها
، أتبع
ذلك
آية
أخرى
في
أنفسهم
هي
أظهر
مما
مضى
، فوصل
به
على
طريق
العلة
لمشاركتهم
له
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الأمر
والنهي
في
التي
قبلها
قوله
تعالى
: ﴿هو
﴾ لا
غيره
﴿الذي
﴾ ولما
كان
الوصف
بالتربية
ماضياً
، عبر
عنه
به
فقال
: ﴿خلقكم
من
تراب
﴾ أي
أصلكم
وأكلكم
التي
تربى
به
أجسادكم
﴿ثم
من
نطفة
﴾ من
مني
يمنى
﴿ثم
من
علقة
﴾ مباعداً
حالها
لحال
النطفة
كما
كان
النطفة
مباعداً
لحال
التراب
، ﴿ثم
﴾ بعد
أن
جرت
شؤون
أخرى
﴿يخرجكم
﴾ أي
يجدد
إخراجكم
شيئاً
بعد
شيء
﴿طفلاً
﴾ لا
تملكون
شيئاً
ولا
تعلمون
شيئاً
، ثم
يدرجكم
في
مدارج
التربية
صاعدين
بالقوة
في
أوج
الكمال
طوراً
بعد
طور
وحالاً
بعد
حال
﴿لتبلغوا
أشدكم
ثم
﴾ يهبطكم
بالضعف
والوهن
في
مهاوي
السفول
﴿لتكونوا
شيوخاً
﴾ ضعفاء
غرباء
، قد
مات
أقرانكم
، ووهت
أركانكم
، فصرتم
تخشون
كل
أحد.
ولما
كان
هذا
مفهماً
لأنه
حال
الكل
، بين
أنه
ما
أريد
به
إلا
البعض
لأن
المخاطب
الجنس
، وهو
يتناول
البعض
كما
يتناول
الكل
فقال
: ﴿ومنكم
من
يتوفى
﴾ بقبض
روحه
وجميع
معانيه
. ولما
كان
الموت
ليس
مستغرقاً
للزمن
الذي
بين
السنين
وإنما
هو
في
لحظة
يسيرة
مما
بينهما
، أدخل
الجار
على
الظرف
فقال
: ﴿من
قبل
﴾ أي
قبل
حال
الشيخوخة
أو
قبل
حال
الأشدية.
ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها، وغير مترجاة عند من يجهلها، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها، فعبر فيها اللام، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال: ﴿ولعلكم تعقلون *﴾ أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة
ولما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب، وختمه بأن دلالته على البعث - بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك - لا يحتاج إلى غير العقل، أنتج عنه قوله: ﴿هو﴾ لا غيره ﴿الذي يحيي ويميت﴾ كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان، فليست النهاية بأبعد من البداية.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء: ﴿فإذا قضى أمراً﴾ أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها ﴿فإنما يقول له كن﴾ ولما كانت ﴿إذا﴾ شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله: ﴿فيكون *﴾ وعطفها في قراءة غيره على ﴿كن﴾ بالنظر إلى معناه، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون، وعبر بالمضارع تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء، وقد مضى في سورة البقرة إشباع الكلام في توجيه قراءة ابن عامر بما تبين به أنها
ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق، أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة: ﴿ألم تر﴾ أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال: ﴿إلى الذين يجادلون﴾ أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال: ﴿في آيات الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿أنَّى﴾ أي وكيف ومن أي وجه ﴿يُصرفون *﴾ عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم - كما قال ابن برجان - بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة - فصل ما جادلوا فيه واصفاً لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال: ﴿الذين كذبوا﴾ وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب: ﴿بالكتاب﴾ أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي
ولما كان التذكيب به تكذيباً بجميع الرسالات الإلهية، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة، تحذيراً للمكذبين من سطواته، وتذكيراً لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال: ﴿وبما أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿به رسلنا﴾ من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى: ﴿فسوف يعلمون *﴾ أي بوعيد صادق لا خلف فيه، ما يحل بهم من سطوتنا.
ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس، ويضعف القوى، ويخفف القلوب، أخبر بما هو فوق ذلك فقال: ﴿ثم في النار﴾ أي عذابها خاصة ﴿يسجرون *﴾ أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب - أي يملأ - وتهيج ناره، وكما يسجر - أي يصب - الماء في الحلق، فيملؤونها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها، ويثبت عمودها، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي، التي هي في الظاهر نيران، وفي الحقيقة جنان.
ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكىء هذا القول
ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا: ﴿بل لم نكن ندعو﴾ أي لم يكن ذلك في طباعنا. ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها، لا النفي المقيد بالاستغراق، فإنه لا ينفي ما دونه، أثبتوا الجار فقالوا: ﴿من قبل﴾ أي قبل هذه
ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم، كان كأنه قيل: هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء، فأجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب ﴿يضل الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، عن القصد النافع من حجة وغيرها ﴿الكافرين *﴾ أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً.
ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم: ﴿ذلكم﴾ أي الجزاء العظيم المراتب، الصعب المراكب الضخم المواكب ﴿بما كنتم﴾ أي دائماً ﴿تفرحون﴾ أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب. ولما كانت الأرض سجناً، فهي في الحقيقة
ولما كان السياق لذم الجدال، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر، وكان الفرح غير ملازم للكبر، لم يسبب دخول النار عنه، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال: ﴿ادخلوا﴾ أي أيها المكذبون.
ولما كان في النار أنواع من العذاب، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال: ﴿أبواب جهنم﴾ أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبوسة وتجهم ﴿خالدين فيها﴾ أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً.
ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال: فهي مثواكم، تسبب عنه قوله: ﴿فبئس مثوى﴾ دون أن يقال: مدخل ﴿المتكبرين *﴾ أي موضع
ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به، عطف عليه قوله:
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسالناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ: (ولقد أرسلنا) أي على ما لنا من العظمة) رسلاً) أي بكثرة.
ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: (من قبلك) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به:
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكراً لهم نعمته مستعطفاً إلى طاعته دالاً على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهراً الاسم الجامع إشارة إلى أن هذه الآية من الدلالات لا يحصى: (الله) أي الملك الأعظم) الذي جعل لكم (لا غيره) الأنعام) أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير) لتركبوا منها (وهي الإبل مع قوتها ونفرتها، والتعبير باللام في الركوب مطلقاً ثم فيه مقيداً ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة.
ولما كان الاقتيات منها - في عظيم نفعه وكثرته وشهوته - بحيث لا يناسبه غيره، عد الغير عدماً فقال تعالى: (منها) أي من الأنعام كلها) تأكلون (بتقديم الجار.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط، أجمله بقوله: (ولكم فيها) أي كلها) منافع) أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها.
ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جداً، نبه على عظمته بقطعه
ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال: (في صدوركم (إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حنى فاضت منها فملأت مساكنها.
ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولاً بخلاف الركوب، قال معبراً بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهاكانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها: (وعيلها) أي في البر) وعلى الفلك) أي في البحر) تحملون) أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب.
وأشار بالنباء للمفعول أنه سخر ذلك تسخيراً عظيماً لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهاً على ما تقديره: فأراكم هذه الآيات البينات منها، قوله: (ويريكم) أي في لحظة) آياته) أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفكسم ومن الآفاق، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهيب فقال: (أفلم
سيروا) أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام) في الأرض (أيّ أرض كانت، سير اعتبار) فينظروا (نظر ادكار فيما سلكوه من سلبها ونواحيها، ونبه زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهاً على خروجه عن أمثاله، ومباينته لأشكاله، بقوله: (كيف كان عاقبة) أي آخر أمر) الذين (ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى: (من قبلهم) أي مع قرب الزمان والمكان، لوما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق، وعظيم النكيرعليهم بعدم النظر عن المسير في
﴿من أشد منا قوة﴾ [فصلت: ١٥] ) وآثاراً في الأرض (بنحت البيوت في الجبال،
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم، سبب عنه شرح حالهم، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم، فقال مبيناً لما أغنى: (فلما جاءتهم رسلهم) أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم) بالبينات) أي الدالة على صدقهم لا محالة) فرحوا) أي القوم الموصوفون) بما عندهم من العلم (الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال التي قبلها ﴿ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم﴾ [الزمر: ٤٩] وكما قال قارون لما قيل له) وأحسن كما أحسن الله إليك (: (قال) :(إنما أوتيته على علم عندي (وفرحهم به
ولما كان استهزائهم بالحق عظيماً جداً، عد استهزائهم بغيرة عدماً، وأشار إلى ذلك بتقديم الجال فقال: (به يستهزؤون (من الوعيد الذي
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة،
وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا (ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال) هو الذي يريكم آياته (وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به على اقتراح غيره، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم) فائت بآية إن كنت من الصادقين (ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف، حتى قال) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا (ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى ان قال) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم لشدة الإلف وضوحها جدال المجادل، وضلال المماحك المماحل، لولا أنه قد
فلما ثبت بذلك عنادهم وغلظتهم وقوتهم في لددهم واشتدادهم، بين جهلهم بذلهم عند ما أحكموا عقده من شرهم، فقال مبيناً لما أجمل من الحيق مسبباً عنه لافتاً القول إلى مظهر العظمة ترهيباً: (فلما رأوا) أي عاينوا) بأسنا) أي عذابنا الشديد على ما له مجامع العظمة، ومعاقد العز ونفوذ الكلمة، كما ظهر لنا في هذا البأس من غير إشكال ولا إلباس، وأكدوا ذلك نافين لما كانوا فيه من الشرك: بقولهم) وحده (ودل على إنحلال عراهم ووهي قواهم بزيادة التصريح في قولهم: (وكفرنا بما كنا) أي جبلة وطبعاً) به مشركين (لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء.
والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان) بسم الله (الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل) الرحمن (الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ففصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان) الرحيم (الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة) حم) أي حكمة محمد التي
ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم، بل الجهل خير منه، وكان ذلك شاقاً على النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خوفاً من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس، وأن يكون أغلب أحواله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النذارة، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلاً وبين تبييناً لا يضره جدال مجال، وكيد مماحك مماحل، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبراً عن مبتدأ: (تنزيل) أي بحسب التدريج عظيم) من الرحمن) أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل) الرحيم) أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم.
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: (فصلت) أي تفصيل الجوهر) آياته) أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه) قرآناً) أي جامعاً مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة (قرا) من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: (عربياً (لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، قال الحرالي: وهو قرأن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عم كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص
فيقبل العدول عن سنن.
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى
﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا﴾ [غافر: ٤] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله
﴿فلا يغررك تقبلهم في البلاد﴾ [غافر: ٤] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه (فعصمتهم واقية
﴿أنا لننصر رسلنا﴾ [غافر: ٥١] وقال تعالى:
﴿وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب﴾ [غافر: ٥] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فلا اعتبر هؤلاء بهم
﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وإثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق﴾ [غافر: ٢١] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله (ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون، وبسط القصة تنبيهاً على سوء عاقبة من عتند وجادل بالباطل وكذب الآيات، ثم قال تعالى بعد آيات) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في
﴿فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٣٠٠] من شرهم، فخلق غيرهم لة استبصروا أعظم من خلقهم
﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلقالناس﴾ [غافر: ٥٧ [وهو غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين
﴿إنما نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء﴾ [سبأ: ٩] ثم قال تعالى بعد هذا) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون (إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم
﴿ضلوا عنا بل لمن نكن ندعو من قبل شيئاً﴾ [غافر: ٧٤] ثم صبر تعالى نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقوله:
﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾ [الروم: ٦٠] ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض (إلى ختم السورة، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات، فلما بينت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكان قيله لهم: احذروا ما قدم لكم، فقد جاءكم محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأوضح آية وأعظم برهان) تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً (وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة
ولما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال، بالتوسط الموصل إلى الكمال، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه، قال واصفاً ل (قرآناً)) بشيراً) أي لمن اتبع) ونذيراً) أي لمن امتنع فانقطع.
روى أبو نعيم في الحلية في تلاجمة إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال في خطبة له: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها إن سنح له الرجاء ادلهمه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف،
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال: (فأعرض أكثرهم) أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره) فهم (لذلك) لا يسمعون) أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه.
ولما أخبر عن إعراضهم، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال: (وقالوا) أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم: (قلوبنا في أكنَّة) أي أغشية محيطة بها، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال) إنا جعلنا على قلوبهم أكنة (وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا) مما) أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي) تدعونا (أيها المخبر بأنه نبي) إليه (فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً.
ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا: (وفي آذاننا (التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب) وقر) أي ثقل قد أصمها عن سماعه) ومن بيننا وبينك) أي
ولما كان تكرار الوعظ موضعاً للرجاء في رجوع الموعوظ قطعوا ذلك الرجاء بالتأكيد بأداته، وزادوه بالنون الثالثة والتعبير بالاسمية فقالوا: (إننا عاملون) أي بما ندين به فلا مواصلة بيينا بوجه ليستحي أحد منا من الآخر في عمله أو يرجع إليه، ولو قال) وبيينا (من غير) من (لأفهم أن البينين بأسرهما حجاب، فكان كل من الفريقين ملاصقاً لبينه، وهو نصف الفراغ الحاصل بينه
وبين خصمه، فيكون حينئذ كل فريق محبوساً بحجابة لا يقدر على عمل فينا في ما بعده أو يكون بينهما اتصال أقله بالإعلام بطرق من أراد من المتباينين الحجاب، فأفادت (من) التبعيض مع إفادة الابتداء، فإنهم لا يثبتون الحجاب في غير أمور الدين.
ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال: (قل) أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي
ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين: أحدهما فيه، والآخر فيما يدعو إليه، ونقض الأول، قال في الثاني: (يوحى إليّ) أي بطريق يخفى عليكم) إنما إلهكم) أي الذي يستحق العبادة) إله واحد (لا غير واحد، وهذا مما دلت عليه الطرق النقلية، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى، أو يشكل فهمها، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله.
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله:
ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال: (واستغفروه) أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً.
واما أمر بالخير، رغب فيه ووهب من ضده، فكان التقدير للترغيب: فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال: (وويل) أي وسواة وهلاك) للمشركين ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان اخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجه الله في الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي
قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق: (الذين لا يؤتون) أي أمثالهم من أولاد آدم) الزكاة (من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق: (وهم بالآخرة) أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها) هم) أي بخاصة من بين أهل الملل) كافرون (فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه
ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره:
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: (قل) أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك: (أئنكم (وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر) لتكفرون) أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة) بالذي خلق الأرض)
﴿خلق الله التربة يوم السبت﴾ يخالف هذا، فإن البداءة فيهبيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي: مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا.
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على) تكفرون (قوله: (وتجعلون) أي مع هذا الكفر) له أنداداً (مما خلقه، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلاً، هذا هو الضلال المبين.
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال: (ذلك) أي
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفاً على ما تقديره: أبدع الأرض على ما ذكر: (وجعل (ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي) فيها رواسي (هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال: (من فوقها (فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل.
ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال: (وبارك فيها) أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى) وقدر فيها أقواتها) أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان
الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال: وقوله (السائلين) تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى.
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال: (ثم استوى) أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده) إلى السماء وهي) أي والحال أنها) دخان (بعد ما فتقها من
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل: (طائعين) أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً) فقضاهن) أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات) سبع سماوات (صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه) في يومين) أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير: وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض.
يعني فرغ من ذلك وأتمه) وأوحى) أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي)
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم: (وزينّا) أي بما لنا من العظمة) السماء الدنيا) أي القربى إليكم لأجلكم) بمصابيح (من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد: زينة) و (حفظناها بها) حفظاً (من الشياطين، فالآية من الاحتباك: حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها: (ذلك) أي الأمر الرفيع والشأن البديع) تقدير العزيز (الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء) العليم (المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت
ولما كان التقدير : فنظروا فأهلكهم الله، سبب عن كثرتهم وشدتهم في قوتهم قوله نافياً صريحاً، أو يكون استفهاماً إنكارياً ﴿ فما ﴾ أي أيّ شيء ﴿ أغنى عنهم ﴾ أو لم يغن عنهم شيئاً من الغنى ﴿ ما كانوا ﴾ أي دائماً كما في جبلاتهم من دواعيه ﴿ يكسبون * ﴾ بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما رتبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب.
﴿ ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ﴾[ الزمر : ٤٩ ] وكما قال قارون لما قيل له ﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾ :" قال " :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ وفرحهم به لأنه أداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما فيها واستهزؤوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا، وإسراع المصائب إليهم، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد، ويكابدونه من الأنداد والأضداد، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى ﴿ فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون ﴾ ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد، وأحاطوا بهم المكر والغوايل، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم، وأطال غمهم وترحهم ﴿ وحاق ﴾ أي أحاط على وجه الشدة ﴿ بهم ما كانوا ﴾ أي عادة مستمرة.
ولما كان استهزاؤهم بالحق عظيماً جداً، عد استهزاءهم بغيره عدماً، وأشار إلى ذلك بتقديم الجار فقال :﴿ به يستهزؤون * ﴾ من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا أنفسهم منصب العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يقدرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور، ولهذا كان أقبل شيء للعلم الصغار، والآية من الاحتباك : إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف ضده ثانياً، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً.
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة، وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها ﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴾ ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال ﴿ هو الذي يريكم آياته ﴾ وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به عن اقتراح غيره، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم ﴿ فائت بآية إن كنت من الصادقين ﴾ ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف، حتى قال ﴿ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ﴾ ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى أن قال ﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ﴾ ثم شرع يعدد الآيات العظيمة التي تأبى لشدة وضوحها جدال المجادل، وضلال المماحك المماحل، لولا أنه قد أخرجتها شدة الإلف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن، فكشف ستورها، وبين دلالتها وظهورها، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم ﴿ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ﴾ على عادة البلغاء في أنه إذا أخرس أحدهم خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام.