تفسير سورة غافر

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة غافر من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٦) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
التفسير:
قوله تعالى: «حم» هذه أول سورة من سور الحواميم السّبع، وقد عدّها بعضهم ثمانى سور، وجعل الزّمر واحدة منهن، مع أنها لم تبدأ بالحاء والميم كما بدئن، وإنما بدئت بذكر الكتاب، والقرآن، كما بدئن، فكان ذلك قرينة على أنها واحدة منهن.
وأيّا كان، فإن هذا البدء بالحاء والميم لسبغ سور من القرآن، يجعل منهن وحدة واحدة، فى أسلوب النظم، وفى مضمونه.
وتسمى مجموعة هذه السور: «آل حم» أو «الحواميم» ويروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «آل حم ديباج القرآن» وقال ابن عباس: «إن لكل شىء لبابا ولباب القرآن آل حم..» ويروى عن ابن مسعود
1203
أيضا: «إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت فى روضات أتانّق فيهن».
قوله تعالى:
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي منزّل الكتاب، ومصدره، هو من الله العزيز العليم.. وكتاب يكون إلى الله نسبته، هو ما هو فى رفعة الشأن، وعلوّ المقام.. إنه كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته..
وفى وصف الله بالعزة والعلم، إشارة إلى بسطة سلطانه على الوجود، وتمكّنه من كل موجود، مع إحاطة علمه بكل شىء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
وفى الجمع بين العزة والعلم هنا، والجمع بين العزة والحكمة فى سورة الزمر- مراعاة للمقام هنا، وهناك..
ففى سورة «الزمر» ناسبت الحكمة دعوة النبي إلى التمسك بهذا الكتاب الحكيم، والاهتداء بهديه، وعبادة الله على ضوئه..
وهنا، ناسب العلم دعوة الناس إلى التوبة، والإقبال على الله بنية خالصة..
لأن الله يعلم ما تكن السرائر، وما تخفى الصدور..
قوله تعالى:
«غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» هو عرض لبعض صفات الله سبحانه وتعالى، إلى ما عرض فى الآية السابقة.. فمن صفاته سبحانه أنه «غافر الذنب» يغفر للمذنبين، الذين يدرءون بالحسنة، ذبوبهم، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (١١٤: هود)
1204
ومن صفاته سبحانه، أنه «قابل التوب» أي يقبل التائبين، ويتجاوز لهم عما كان منهم..
ومن صفاته سبحانه: أنه «شديد العقاب».. أي أن عذابه للعاصين، والضالين، شديد، يلقى منه المعذبون الوبال والنكال..
فمع سعة رحمة الله، ومع سوابغ فضله وإحسانه، فإن عقابه شديد راصد..
فالرحمة والفضل والإحسان للمحسنين، والعذاب والنكال للضالين المكذبين..
وبهذا يعتدل ميزان العدل بين الناس.. فلا يسوى بين الأخيار والأشرار، بل ينزل كل من هؤلاء وهؤلاء منزله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (٢٨: ص) ومن صفاته سبحانه، أنه «ذو الطول» أي البأس والعزة والغلبة، فلا يفوته- سبحانه- مطلوب، ولا يدفع بأسه دافع.
ومن صفاته سبحانه: تفرده بالألوهة.. «لا إله إلا هو» لا إله غيره، ولا ربّ سواه..
ومن صفاته سبحانه: أن مصير كل شىء إليه.. منه البدء، وإليه المنتهى..
قوله تعالى:
«ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» هذا الكتاب الذي نزل من الله العزيز العليم. هو نور من نور الله، وعلم من علم الله، وسلطان من سلطان الله، بحجته الساطعة، وآياته البينة- هذا الكتاب ما يجادل فيه أحد، إلا الذين كفروا.. فهم لظلام بصائرهم، وضلال عقولهم، ومرض قلوبهم، قد استغلق عليهم هذا الكتاب، فلم يهتدوا إلى ما من فيه
1205
حق، فجعلوا يلقونه بالجدل، سخرية واستهزاء، لا طلبا لعلم، ولا التماسا لمعرفة.
وقوله تعالى: «فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» - هو إحقار لشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، ولما بين أيديهم من مال وسلطان.. والمراد بالذين كفروا هنا، المشركون.. وتقلبهم فى البلاد، هو تنقلهم فى تجاراتهم، إذ كانوا أصحاب تجارات، مع أهل الشام شمالا، ومع اليمن جنوبا.. فى رحلتى الشتاء والصيف..
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» هو تهديد لهؤلاء المشركين بعذاب الله، الذي يقع بالضالين المكذبين.. فهم ليسوا أول من كذب بالله، فقد كذبت من قبلهم أقوام بعد أقوام.. كذبت قبلهم قوم نوح، وكذلك كذب الأحزاب من بعد قوم نوح.. «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» أي أرادت كل أمة من هذه الأمم الضالة، أن تلحق الأذى برسولها، أو أن تفتك به.. «وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» أي وأقبلوا بالباطل الذي معهم ليبطلوا به الحق الذي بين يدى النبي، ويقيموا لهذا الباطل حججا من السفه والضلال.. فماذا كان مصيرهم؟ لقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
(٤٠: العنكبوت) وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى هذا العذاب الشديد..
والأحزاب، هم جماعات الضالين المكذبين بالرسل، على اختلاف أزمانهم
1206
وأوطانهم.. وسمّوا أحزابا، لأنهم تخزبوا على تكذيب رسلهم، واجتمعوا على الوقوف فى وجه دعوتهم، وسوق الأذى إليهم.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ.. أُولئِكَ الْأَحْزابُ» (١٢- ١٣: ص) قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ» حقت: أي وجبت، ولزمت وكلمة ربك: هى حكمه وقضاؤه، الذي قضى به على الكافرين، وهو أنهم أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى كثير من آيات الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (١٤٠: النساء) وقوله سبحانه: «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً.»
(٢١- ٢٢: النبأ) وقوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (١١٩: هود)
الآيات: (٧- ٩) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
1207
التفسير:
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت أهل الكفر والضلال، وربطت بينهم بتلك الجامعة التي تجمعهم على الباطل، لمحاربة الحق، والوقوف فى وجه دعاته، وأخذهم بالبأساء والضراء.. فهم أحزاب متناصرة على الشر، متساندة فى حجب الهدى عن أبصارهم..
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ.. الآية» عرض لجبهة الخير، وأرباب الهدى.. وأنهم أحزاب متناصرة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، يأخذ بعضهم بيد بعضهم بيد بعض إلى ما يرضى الله، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه..
فالملائكة، وهم من عالم غير عالم البشر، تصلهم بالمؤمنين المتقين صلات وثيقة من المودة والألفة، وتجمعهم على طريق واحد، هو الطريق المتجه إلى الله..
وإذا كان الملائكة- وهم من عالم النور- أقرب إلى الله، وأدنى من رحمته ورضوانه- فإنهم يستغفرون ربهم للذين آمنوا، ويدعونه لهم، ويطلبون إليه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم الجنة مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، لينعموا جميعا بما ينعم به الملائكة،
1208
وليكونوا رفقاء لهم فى الملأ الأعلى، يأنسون بهم، ويسعدون بصحبتهم..
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» - إشارة إلى أن الملائكة وهم أقرب المقربين إلى الله من خلقه، لا يقطعهم ذلك عن التسبيح بحمده، وهم فى أمن وعافية وسلام.. بل إنهم لأكثر خلق الله تسبيحا لله، وحمدا له، لأنه أعرف بجلاله وعظمته.
وفى قوله تعالى: «وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» - إشارة إلى تلك الصلة الجامعة التي تصلهم بالمؤمنين، وهى الإيمان بالله.. ومن هنا كان دعاؤهم للمؤمنين، واستغفارهم له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (١٠: الحجرات).. ويقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (٧١: التوبة)..
وقد علّم الله المؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض، إذ يقول سبحانه على لسانهم كما علمهم: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (١٠: الحشر).
وفى قوله تعالى: «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» هو من تسبيح الملائكة لله، ومن استمطارهم من واسع رحمته للمؤمنين.. فمن رحمة الله التي وسعت كل شىء، يطلب الملائكة الرحمة للمؤمنين، الذين تابوا واتبعوا سبيل الله بالإيمان به..
وفى قرن الرحمة بالعلم، إشارة إلى أن رحمة الله إنما تقع حيث علم الله موقعها من عباده..
1209
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» - إشارة إلى أنه لا يلحق بأهل الصلاح إلا الصالحون، وأنه لا نسب بينهم أوثق من هذا النسب، الذي يجمع بينهم فى جنات النعيم..
وقوله تعالى: «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» أي ادفع عنهم السيئات، وباعد بينهم وبينها، بالمغفرة، والمحو، حتى إذا حوسبوا لم يكن فى ميزان حسابهم ما يثقله من سيئات..
وقوله تعالى: «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ».. أي أن مغفرة السيئات والتجاوز عنها، إنما هو رحمة من رحمة الله الذي وسع كل شىء رحمة وعلما..
وقوله تعالى: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» - الإشارة إلى غفران السيئات والوقاية من شرها.. فمن وقى الشر فقد فاز فوزا عظيما، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (١٨٥: آل عمران)..
الآيات: (١٠- ١٢) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
1210
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ».
أي أنه حين يستغفر الملائكة ربّهم، ويطلبون إليه سبحانه، الرحمة للمؤمنين والتجاوز عن سيئاتهم، وإدخالهم الجنة هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم- إذ يفعل الملائكة كل هذا من أجل المؤمنين، فإنهم يلقون الكافرين بما يسوءهم، ويضاعف آلامهم، إذ ينادونهم بمالهم عند الله من مقت وطرد من رحمته، وأن مقت الله لهم أكبر من مقتهم هم لأنفسهم، حين دعوا إلى الإيمان، فلم يقبلوه، ولجّوا فيما هم فيه من كفر وضلال.. فهم بكفرهم، وبإعراضهم عن الإيمان قد مقتوا أنفسهم، وأبعدوها عن مواطن الخير، والله أشد مقتا، وإبعادا لهم من مواطن الخير..
قوله تعالى:
«قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ».
هو حكاية لمقولة من مقولات الكافرين، وهم فى النار، إذ يمنّون أنفسهم بالخروج من النار، وبالعودة إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا بالله، ويصلحوا ما أفسدوا من أمرهم..
وقوله تعالى: «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» - إشارة إلى الأدوار التي مرّ بها الإنسان،
1211
وهى أربعة أدوار.. فقد كان ميّتا، قبل أن يخلق، ثم كان حيّا بعد أن خلق، ثم كان الموت، وكان البعث.. فهما موتان، وحياتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».. (٢٨: البقرة) قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا.. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ».
الإشارة إلى هذا العذاب الذي يلقاه أهل الكفر والضلال فى جهنم، وأنه إنما كان بسبب كفرهم وعنادهم، وأنهم كانوا- فى دنياهم- «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ» أي إذا عرض عليهم الإيمان بإله واحد لا شريك له، كفروا، ولم يقبلوا هذا الإيمان.. «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ» أي إن جعل مع الله شركاء، قبلوا الإيمان على الصورة التي تجعل مع الله إلها مع هذه الآلهة التي يعبدونها.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (٤٥: الزمر).
وقوله تعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» إشارة إلى أن الحكم المسلّط عليهم الآن، هو حكم الله، العلى الكبير، الذي لا يشاركه أحد فى علوّه، ومقامه، وسلطانه.. فإذا كان لآلهتهم التي أضافوها إلى الله، وأشركوها معه- إذا كان لهذه الآلهة شىء مع الله، فليطلبوا إليها هذا الذي يطلبون اليوم من الله.. وإنه لضلال فى منطقهم أن يشركوا آلهتهم مع الله فى الدنيا، ثم لا يشركوهم معه فى الآخرة، لينفذوهم من النار التي يساقون إليها..
1212
الآيات: (١٣- ٢٠) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٣ الى ٢٠]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ»..
هو لقاء مع الناس، بهذا العرض الكاشف لقدرة الله، وتفرّده بالخلق والأمر، بعد أن شهدوا صورا من مشاهد القيامة، وما يلقى المؤمنون من إحسان ورضوان، وما يلقى الكافرون من خزى وعذاب.. فمن كان من المؤمنين ازداد بهذا اللقاء إيمانا، وتمسكا بما هو فيه، من طاعة وهدى، ومن كان من أهل الكفر والضلال، فليطلب لنفسه النجاة والسلامة، وليعد إلى الله من
1213
قريب.. فهذه هى الفرصة التي كان يتمناها أهل النار، ولا يجدون سبيلا إليها.
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» - إشارة إلى هذه الآيات التي كشفت عن أحوال الناس، وبينت لهم ما هم فيه من استقامة وعوج، فيعرف كلّ ما يأخذ وما يدع، مما هو خير له، وأصلح لشأنه..
وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى العباد من رزق، وأن خير هذا الرزق وأعظمه هو هذا الكتاب الكريم، الذي بين يدى هذا النبي الكريم..
وقوله تعالى: «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» أي لا ينتفع بهذا الرزق، ولا يحصّل منه ثمرا طيبا إلا من يرجع إلى هذا الكتاب، ويعرض نفسه عليه، فيكون له فيه نظر واعتبار..
قوله تعالى:
«فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».
هو دعوة إلى المؤمنين أن يمضوا فى طريقهم الذي استقاموا فيه على عبادة الله، وعلى إخلاص العبودية له وحده، دون أن يلتفتوا إلى موقف هؤلاء الكافرين وإلى كراهيتهم لهذا الطريق أن يسلكه المؤمنون.
قوله تعالى:
«رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ» - خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هو، الله سبحانه وتعالى.. أي أن الله سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العرش والسلطان، المتفرد بهذا المقام العالي، والسلطان العظيم، لا يشاركه أحد، ولا ينازعه سلطان..
«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الروح، هو القرآن الكريم، وإلقاؤه: نزوله.. أي أن الله سبحانه هو الذي ينزل هذا القرآن
1214
وحيا منه بأمره، على من يشاء من عباده، والمراد هنا، هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (٥٢: الشورى).
وقوله تعالى: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» أي لينذر الرسول الناس، «يَوْمَ التَّلاقِ»، وهو يوم القيامة، الذي يكون فيه لقاء الله، للحساب والجزاء.
قوله تعالى:
«يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ».
هو بيان ليوم التلاق، وهو يوم القيامة يوم هم بارزون» أي ظاهرون، ظاهرا وباطنا، قد انكشفت سرائرهم، وظهر مستورهم: «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ».. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (١٨: الحاقة).
والمراد ببروز الناس، وظهور حفاياهم فى هذا اليوم، هو ما يشهدون بأنفسهم مما انطوت عليه سرائرهم، وما أخفاه بعضهم عن بعض.. ففى هذا اليوم ينكشف كل مستور منهم، لهم، ولغيرهم، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (٩: الطارق).
أما علم الله سبحانه وتعالى، فهو علم كامل شامل، لا يحدّه زمان ولا مكان..
وقوله تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» هو سؤال بلسان الحال، حيث يظهر سلطان الله عيانا لأهل الحشر، مؤمنهم وكافرهم.
وقوله تعالى: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» - هو جواب بلسان الحال أيضا..
حيث لا جواب غيره..
1215
وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالوحدانية والقهر- إشارة إلى هاتين الصفتين اللتين يتجلى بهما الله سبحانه وتعالى فى هذا الموقف، حيث يتصاغر كل سلطان ويخفت كل صوت، ويذلّ كل جبار. ، كما يقول سبحانه: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» (١١١: طه).
قوله تعالى:
«الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ.. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ»..
ومع تفرد الله سبحانه وتعالى فى هذا اليوم بالوحدانية المطلقة، والسلطان القاهر، فإنه سبحانه، لا يسلط سلطانه وقهره وجبروته على أحد من خلقه، بل إن عدله ليقوم إلى جانب قهره وجبروته، فلا يظلم أحدا، «لا ظلم اليوم».. بل إن كل نفس بما كسبت رهينة.. «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ».. لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه حساب أحد عن أحد، حتى يتصور أن يقع ظلم، أو خطأ فى حساب هذا الجمع العظيم من المحاسبين.: وهذا- والله أعلم- هو السر فى ذكر هذا القيد الوارد على نفى الظلم «لا ظلم اليوم».. حيث هذه الحشود الكثيرة التي تحاسب فى هذا اليوم.. فإنه مع هذه الحشود من الأمم فى هذا اليوم، فإنها تحاسب حسابا سريعا، بلا معوّق.. إذ كان الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه كل شىء.. قبل الحساب، وأثناء الحساب، وبعد الحساب.
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ».
هو خطاب للنبى الكريم بإنذار قومه، بما أوحى إليه عن يوم التلاق، وهو يوم الآزفة.. أي يوم الساعة الآزفة، أي القريبة.
وقوله تعالى: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ».
1216
«إذ»، ظرف.. بدل من يوم الآزفة.. والحناجر: جمع حنجرة، وهى الغلصمة فى أعلى الزور، والكاظم: المأخوذ من كظمه، أي من مخنقه.. يقال كظم القربة أي ربط فمها، ومنه كظم الغيظ: أي حبسه فى الصدر.
والمعنى: وأنذر الناس- أيها النبي- وحذرهم يوم القيامة وقد أزف، وهو يوم عظيم، تختنق فيه الأنفاس، وتضيق الصدور، وتجف القلوب وتضطرب، حتى لتبلغ القلوب الحناجر فى خفقها واضطرابها..
وقوله «كاظمين» حال من أصحاب القلوب.
وقوله تعالى: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ».. أي ليس للظالمين فى هذا اليوم العظيم، من صاحب أو صديق يعين، أو من شفيع تقبل شفاعته فيهم..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».
خائنة الأعين: أي نظرة العين تكون عن خلسة، لا يراها الناس، ولا يعلم بها المنظور إليه.
وقوله تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» هو تعليل لما فى الآية السابقة من وعيد للظالمين الذين أنذروا بيوم القيامة، وما فيه من أهوال، وأن الذي سيحاسبهم هناك هو الله سبحانه، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون، لا تخفى عليهم منهم خافية، ولا يردّ عنهم بأسه أحد، ولا تقبل فيهم عنده شفاعة من أحد..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» أي أنه سبحانه- مع بأسه، وسلطانه
1217
لم يظلمهم، بل وفّاهم جزاء أعمالهم، ولم يظلموا مثقال ذرة، لأن الذي قضى بهذا الحكم فيهم، هو الله، والله لا يقضى إلا بالحق..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، لا يقضون بشىء، أي لا يحكمون بحق أو باطل..
لأن الذي يحكم، هو الذي يملك، وهم- أيّا كانوا- لا يملكون من الأمر شيئا «وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» (١٩: الانفطار) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي إن الله سبحانه، إذ يقضى فإنما يقضى عن علم..
وإذ كان السمع والبصر، هما المصدران لكل علم ومعرفة يحصّلها الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى هو «السميع» الذي إليه يرجع كل مسموع.. «البصير» الذي يردّ إليه كل ما يبصر.
الآيات: (٢١- ٢٧) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢١ الى ٢٧]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
1218
التفسير:
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ».
أي ما شأن هؤلاء المشركين، وكيف يقفون هذا الموقف العنادىّ الذي هم فيه مع النبي؟ ألم يعلموا ما أخذ الله به الظالمين قبلهم؟ وأ لم يسيروا فى الأرض، وينظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء الظالمين، وكيف نزل بهم بلاء الله، وقد كانوا أقوى قوة من هؤلاء المشركين، وأكثر أثاثا ورئيا، وأعز سلطانا ونفرا؟
والآثار فى الأرض: التأثير فيها بالعمل فى وجوه العمران.. فيكون ذلك آثارا باقية بعدهم.. والواقي: المدافع، والحامى قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» «ذلك» - إشارة إلى هذا البلاء المهلك، الذي أخذ الله به الظالمين، وأنه بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم «بالبينات» أي بالآيات البينة المعجزة، فكذبوا بهذه الآيات، وكفروا بالله- فكان هذا الهلاك جزاء لهم على كفرهم..
1219
وقوله تعالى: «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» - إشارة إلى أن قوة هؤلاء الأقوياء، هى ضعف وخذلان، أمام قوة الله التي لا تدفع، وأن عذابه شديد لا يعدّ هذا العذاب الذي يسوقه الظالمون إلى ظالميهم، شيئا، بالنسبة إلى عذاب الله الذي يسوقه إليهم..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ» وهذا مثل من أمثلة الظالمين، الذين لو نظر هؤلاء المشركون إلى الوراء قليلا لرأوا صورتهم ممثلة فيهم.. فهم وفرعون على سواء فى الغطرسة، والكبر، والعناد..
والقرآن الكريم يجمع كثيرا فى قصصه، بين المشركين من قريش، وبين فرعون، لما بينهم وبينه من مشابه كثيرة، من كبر، وأنفة، وجاهلية مغرورة حمقاء..
والآيات البينات: هى المعجزات التي كانت مع موسى، من العصا، واليد..
والسلطان المبين: هو الاعجاز القاهر الذي بين يديه من هذه المعجزات..
هذا، «وقارون» وإن كان من قوم موسى، إلا أنه أضيف إلى فرعون، إذ كان على شاكلته، فى الاستعلاء، والطغيان..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ»..
1220
أي أن فرعون وشيعته، حين استقبلوا هذه الآيات التي طلع بها موسى عليهم، لم يتوقفوا عندها، ولم ينظروا فيها، بل أسرعوا بهذا الاتهام الذي رموها به، فقالوا ساحر كذاب..
ثم إنه لما جمع فرعون السحرة، ليبطل بهم سحر موسى- كما زعم- والتقى موسى والسحرة، وأبطل كيدهم، فلم يملكوا إلا الإذعان للحق، والإيمان به- عندئذ لم يجد فرعون إلا أن يفزع إلى قوته وسلطانه، بعد أن سقطت حجته، وبطل اتهامه، فأقبل على من آمن بموسى من السحرة وغيرهم، يصبّ عليهم سياط النقمة والبلاء، فيقتل أبناءهم أمام أعينهم، ويستبيح حرماتهم باستحياء نسائهم، فلا يرعى لحرّة حرمة..
فقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» إشارة إلى ظهور الحق عيانا لهم، بحيث لا تنفع معه المكابرة وقوله تعالى: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» - إشارة إلى أن ما يكيد به الكافرون للمؤمنين، وما يأخذونهم به من ألوان البلاء والعذاب، هو من الأباطيل، التي لا يجد لها المؤمنون أثرا إلى جانب ما ملكوا من إيمان، هم معه فى عزة فى الدنيا، وسعادة وفوز برضوان الله فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان السحرة، بعد أن دخل الإيمان فى قلوبهم: «قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (٧٢- ٧٣ طه) قوله تعالى:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ».
1221
فى الآية السابقة سلّط فرعون وهامان وقارون أعوانهم وجنودهم على المؤمنين، يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ».
أما موسى نفسه، فإن فرعون وحده، هو الذي سيتولى أمره، وذلك ليظهر للناس أنه القادر على ما عجزت عنه السحرة مجتمعين، وأنه إذا كان السحرة- وما معهم من سحر- قد خافوا موسى، وأسلموا له، فإن فرعون سيقتله قتلا، لا يخشى ما معه من سحر.. بل إنه لا يخشى ربه الذي يقول إنه رسول من عنده، وأن ربه هو الذي وضع بين يديه هذا الذي سحر الناس به!.. إنى سأقتله، فليلقنى بما معه من سحر، وليدع ربه ليخلصه من يدى.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى».. أي دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إننى أنا الذي سأتولى قتله..
والسؤال هنا: إن أحدا لم يعرض لفرعون، ولم يحل بينه وبين ما يريد فى موسى.. فما السر فى أن يقول هذا القول: «ذرونى» أي اتركوني؟
وهل أراد فرعون شيئا يفعله بموسى ثم عرض له أحد دونه؟ وهل يجرؤ أحد أن يعترض طريق فرعون إلى ما يريد؟.
ما السرّ إذن فى قوله هذا: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» ؟.
الجواب- والله أعلم- أن هذا القول من فرعون يكشف عن خوف كان مستوليا عليه من موسى، ومن أن خطرا داهما يتهدده من جهته..
فلقد كان يعلم- بعد أن رأى ما رأى من المعجزات- أن موسى يستند إلى قوة لا قبل لأحد بها، وأنه لو أراد بموسى شرّا لما استطاع، ولأصابه
1222
هو بلاء عظيم.. إنه كان على يقين بأن موسى على حق، ولكن الغطرسة، والكبر، وحب التسلط والسلطان- كل أولئك قد جعله يؤثر ما هو فيه من ضلال على هذا الحق الذي يدعى إليه..
فقول فرعون: «ذرونى أقتل موسى» - يشير إلى أن شيئا ما بداخله، يمسك به، وأن مشاعر خفية تلقاه بالتخويف والتحذير كلما هم أن يبطش بموسى، ويخلص من هذا الخطر الذي يتهدده منه ومن سحره.. وكأن فرعون بقوله:
«ذرونى أقتل موسى» إنما يتحدث إلى هذه المشاعر التي تغلّ يده، وتحول بينه وبين ما يشتهى من الانتقام من هذا العدو المخيف!.
وفى قوله: «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ما يشير إلى هذا الخوف الذي يملأ كيان فرعون، أكثر مما يشير إلى الاستخفاف، وعدم المبالاة.
وفى قوله: «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» - ما يكشف عن وجه من وجوه المخاوف التي تعيش مع فرعون من جهة موسى.. ولهذا فإنه يريد أن يتحمل هذه المخاطرة، ويقدم على قتل موسى..
أيّا كان الثمن الذي يقدمه من أجل هذا.
قوله تعالى:
«وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ».
هذا ما يلقى به موسى تهديد فرعون له بالقتل.. إنه يلوذ بحمى ربه من طغيان هذا الطاغية، فهو- سبحانه- القادر على أن يرد بأس هذا الجبار المتكبر، الذي لا يؤمن بالله، ولا يخشى حسابه وعقابه..
1223
وخطاب موسى فى قوله: «وربكم» - هو خطاب للمؤمنين، الذين يتهددهم فرعون كما يتهدده.. فهو بهذا يدعوهم إلى أن يعوذوا بالله من هذا الجبار- المتكبر، وأن يسلموا أمرهم إليه، وأن يصبروا على ما يلقون من أذى وضر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا» (١٢٨: الأعراف).
الآيات: (٢٨- ٣٥) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
1224
التفسير:
[مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟] ذكرنا فى سورة «يس» عند تفسير قوله تعالى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» - أن هذا الثالث يرجح- فى رأينا- أن يكون هو مؤمن آل فرعون، وأن موسى وهارون هما الاثنان المشار إليهما فى قوله تعالى: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما»..
ونريد هنا أن نستشهد لذلك بما تحدث به هذه الآيات من أمر هذا العبد المؤمن من آل فرعون.. ففى الآيات دلالات كثيرة، تشير إلى أن هذا المؤمن، كان إلى جانب إيمانه، داعية يدعو إلى الله، معزّزا ومؤيدا الدعوة التي يدعو بها موسى وهرون..
ففى قوله تعالى:
«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.. وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».
فى هذا ما يكشف عن وجه هذا المؤمن:
فهو- أولا- «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ».. أي من آل بيته، ومن الرؤوس
1225
البارزة فى دولة فرعون.. فقد يكون أميرا، أو وزيرا، أو قائد جند..
ونحو هذا..
وهو- ثانيا- «يَكْتُمُ إِيمانَهُ».. وكتمان الإيمان هنا، ليس عن ضعف أو خوف، حتى يحمل إيمانه على أنه كان مجرد إعجاب بموسى، وميل إلى الطريق الذي هو عليه، إذ لو كان غير منظور فيه إلى شىء آخر، لآمن كإيمان السحرة، ولما منعه بطش فرعون وجبروته أن يعلن هذا الإيمان، متحديا فرعون، مستخفّا بكل ما يلقى فى سبيل الحق، والجهر به.. وكلا.. فإن إيمان هذا المؤمن كان إيمانا راسخا وثيقا، قائما على اقتناع بلغ مبلغ اليقين القاطع.. وإنما كان كتمان هذا الإيمان عن سياسة حكيمة، وتدبير محكم..
كما سنرى..
فالرجل لم يكن يريد الإيمان لنفسه وحسب، بل إنه كان يريد أن يكون داعية لفرعون وقومه جميعا إلى الإيمان بالله.. ولو أنه أعلن إيمانه، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى أن يؤمن كما آمن هو، لما استمع فرعون إلى كلمة منه، ولأخذته العزّة بالإثم، وأبى عليه كبره وعناده، أن ينقاد لداعية يدعوه إلى أي أمر، ولو فتح له أبواب السماء.. وهل أتى المكذبون برسل الله إلا من دعوة الرسل إلى متابعتهم، والإيمان بالإله الذي سبقوهم إلى الإيمان به؟ وهل كانت مقولة المكذبين برسل الله إلا ترجمة لهذه المشاعر، التي تملأ صدور المكذبين أنفة وكبرا أن يكونوا متابعين لغيرهم، مسبوقين غير سابقين؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هؤلاء المكذبين: «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (٢٤: المؤمنون) وقوله سبحانه: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (١١١: الشعراء). وقوله جل شأنه على لسان فرعون: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» (٤٧: المؤمنون).
1226
ثم ماذا لو أعلن الرجل المؤمن إيمانه، ثم جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان؟ أكان شأنه معه إلا كشأن موسى وهرون؟ بل إن موسى وهرون معهما من آيات الله المعجزة القاهرة ما يؤيد دعوتهما.. أما الرجل فلم يكن معه إلا منطق العقل، وحجة الكلمة.. وهل لفرعون عقل يقبل منطقا، أو أذن تصغى إلى حجة؟
لقد كان من تدبير الرجل المؤمن، وهو رجل سياسة وملك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه.. مجلس إبداء الرأى، وعرض النصيحة، فى معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها.. لا أكثر ولا أقلّ.. ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون أذنا تسمع، وعقلا يعقل.. وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأى الذي يخلص به من بين تلك الآراء.. إنه حينئذ يكون هو الذي يعطى الرأى ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!! ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- قد استطاع أن يعرض قضية الإيمان بالله، فى وضوح وجلاء، وأن يقدمها إلى فرعون فى جو هادىء، لا تعكر صفوء الأعاصير المحملة برجوم الردع والتحدّى..
وفى هذا يقول تعالى على لسان الرجل المؤمن:
«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ».
إن فرعون وملأه يأتمرون بموسى ليقتلوه. وهم يعدّون التهمة التي يأخذونه بها. والتهمة عند فرعون، أن موسى يريد أن يبدّل دين القوم، وأن يفسد المجتمع، بما يثير فيه من فتنة وانقسام وفرقة، إزاء هذا الدين الجديد..
وهنا يبدى هذا الرجل المؤمن- وقد كتم إيمانه- يبدى رأيه، فيقول
1227
وأية جناية جناها موسى؟ إنه يقول: ربّى الله.. هذا دينه الذي يدين به، ويدعو إليه، بلا قهر ولا قسر.. فهل هذه الدعوة تستوجب قتله وسفك دمه؟
لا أرى ذلك..!
ثم إن هذه القولة التي ينادى بها موسى، تستند إلى آيات بينات، قد رأيناها رأى العين، وقد بطل بها سحر الساحرين.. وهذا يعنى أنها من عند إله قوىّ فوق آلهتنا كلها.. فإذا آمن موسى بهذا الإله، وتلك حجته القاهرة بين يديه على قوة معبوده الذي يعبده- فهل نستحلّ لذلك دمه؟ «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» الذي آمن به.. فهو يؤمن بإله له دليله عليه، ويدعو إلى عبادة إله وضع بين يديه الحجة التي تؤيد دعواه.. فكيف ندينه، وهو برىء؟
ثم ماذا لو تركناه وشأنه؟ إنه: «إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ».. إنه يسير فى طريق اختاره لنفسه، فإن يهلك فلن يهلك إلا هو، وجنايته على نفسه وحده، لا تصيب أحدا غيره!..
ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقا فيما يقول، وشواهد الصدق بادية فيما نرى.. فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا فى دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث.. فقد نجد فيها خيرا، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور.
وهل ثمة من بأس علينا إذا وجدنا خيرا فأخذنا بحظنا منه؟ أو رأينا هدى ونورا فاتجهنا نحو هذا الهدى والنور؟ «وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ».
إنه لا بأس إذن من أن ندع موسى، ولا نعرض لقتله وسفك دمه، سواء أخذنا بما يدعو به أو لم نأخذ.. فلندعه يمضى فى طريقه، فإن كان كاذبا مدّعيا فإنه لن يفلح أبدا.. فما كان الكذب مركبا إلا إلى البلاء وسوء المصير..
فكيف إذا كان يكذب على الله الذي يقول إنه رسول من عنده؟ «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ»..
1228
ويمضى الرجل المؤمن فى عرض رأيه ومشورته، فيحذّر القوم من أن يقدموا على ما هم عازمون عليه، فى شأن موسى.. فقد يكون الرجل صادقا، ودلائل الصدق بادية فيما جاءهم به، وفيما حذرهم به من عذاب الله فى الآخرة.. فإن هم أنفذوا أمرهم فيه وقتلوه، أيتخلّى عنه ربه هذا الذي رأينا بعض قوته فيما جاءهم به موسى من عنده؟ فكيف تكون الحال إذا قتلناه.. وهذا ربه، وتلك قوته؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هذا المؤمن: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ.. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟» ونعم.. نحن أولو قوة قادرة، وملك عظيم، وسلطان ظاهر غالب.. هذا ما نحن فيه الآن..
ولكن أيكون لنا من كل هذا ما يدفع عنّا بأس هذا الإله القوى، ويحول بيننا وبين نقمته؟
هذا رأيى، وتلك نصيحتى للملك، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص، للملك، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته فى كتم إيمانه، أن يلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، فى غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ويطرق الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.. ثم تتحرك بعد ذلك شفاه، وتنطلق كلمات، تعلّق على هذا الحديث، بين آخذ به، ورادّ له.. ويدع فرعون القوم يجادل بعضهم بعضا، ويفنّد بعضهم مقولات بعض.. حتى إذا فرغوا مما عندهم: جاء
1229
إليهم من عل، فى سلطانه، وما يحفّ به من جلال وهيبة، فيلقى إليهم بهذا الأمر الملكي:
«قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ».
إنه ليس لكم عندى فى هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».. تلك هى كلمتى الأولى والأخيرة.. وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهبّ عليكم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» ! فهل تشكّون فى حمايتى، وحرصى على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
وتؤذن هذه الكلمة بانفضاض مجلس المشورة، وما يكاد القوم يهمّون بالانصراف، حتى تمسك بهم نظرة من الرجل المؤمن، تريد أن تقول شيئا..
فيتلكأ بعضهم، ويهمّ آخرون، حتى إذا تكلم الرجل المؤمن، عاد المجلس إلى ما كان عليه..
وهنا يتابع الرجل المؤمن حديثه، ويصل ما انقطع منه، وكأنّ فرعون لم يقل شيئا، وكأن هذه الكلمة، ليست الكلمة الأخيرة فى هذا الأمر. وتخرج الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق..
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ.. يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا»
1230
بهذا الإيمان الذي يملأ قلب المؤمن، يجد الرجل منطقا يتسع له مجال القول، وتتداعى إليه الأدلة والبراهين، وتنحلّ به عقد الخوف واللجلجة فى هذا المقام الرهيب!.
«يا قوم» بهذه الكلمة يمسك الرجل المؤمن جماعة المجلس حيث هم..
إنه يريد أن يقول شيئا، وإن قال فرعون كلمته، وأصدر حكمه! وما اعتاد القوم أن يسمعوا بعد حكم فرعون تعليقا ولا تعقيبا.. فماذا فى الأمر؟
ألا فليسمعوا.
«إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ».. إن هذا الحكم الذي أصدره فرعون، وقال لهم فيهم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» هو حكم إن أخذوا به، لم يسلموا من عواقبه.. إن وراءه شرّا مستطيرا.. إنهم يدبرون ليقتلوا رسولا من رسل الله، وإن عندهم لخبرا عما حلّ بالأقوام الذين آذوا رسل الله من قبلهم.. فإن هم مضوا على ما هم فيه من إلحاق الأذى بموسى، فلن يسلموا من أن يحلّ بهم يوم كيوم هؤلاء الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود والدين من بعدهم. وإنه ليوم عسير، لقى فيهم المكذبون برسل الله الدمار والهلاك. ويلاحظ هنا أنّه سمّى يوم الأحزاب يوما، مع أنه أيام، إذ كان لكل قوم يومهم الذي لاقوا فيه هلاكهم، وذلك لأن جريمة القوم واحدة، والحكم الذي أخذوا به حكم واحد.. فكأنهم أدينوا فى يوم واحد، وإن تراحى الزمن بينهم، فى إيقاع الحكم الواقع على كل من هؤلاء الأقوام والدأب: الشأن، والحال..
هذا، ما أخذ به المكذبون برسل الله من عقاب فى الدنيا.. إنه الهلاك
1231
الجماعى، والدّمار الشامل لكل ما عمّروا وجمعوا..
وهناك عذاب آخر أشدّ وأنكى، ينتظر هؤلاء المكذبين.. هو عذاب الآخرة..
«وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ..»
ويوم التّناد هو يوم القيامة، وهو اليوم الذي ينادى فيه الموتى من قبورهم، فإذا هم قيام ينظرون.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» (٤١- ٤٢: ق).
و «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» أي تلقون جهنم، فترتدون على أعقابكم، هلعا وفزعا.. ولكن لا عاصم لكم من أمر الله..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ». هو تعقيب على كلام الرجل المؤمن، وتصديق لما يقول.. نطق بذلك الحق، لسان الوجود كلّه..
ويمضى الرجل المؤمن يذكّر القوم، بنبىّ كريم، كان فيهم، هو يوسف عليه السلام.
«وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا»..
إن ليوسف عليه السلام شأنا، وذكرا، فى الحياة المصرية، وقد رأى القوم من آياته ما سمّوه من أجلها صدّيقا، فيقول له صاحب السجن:
«يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» (٤٦: يوسف).. ثم يرى منه فرعون والقوم معه
1232
هذه المعجزة التي كشف بها عن حلم فرعون، والتي قرأ عليهم فيها من صحف الغيب ما سيطلع عليهم من أحداث.. ثم رأوا منه هذه الآيات المعجزة فى هذه التدبير المحكم الذي ساس به البلاد، وقاد به سفينتها إلى شاطىء الأمن والسلام، وهى فى متلاطم الأمواج العاتية، وقد كانت وشيكة أن يبتلعها اليمّ..
ذلك هو يوسف، وتلك هى آياته البينات التي رآها آباؤهم منه..
ومع هذا فقد كانوا فى شك منه.. بين مصدّق بدينه الذي يدعو إليه من عبادة الله الواحد القهار، وبين مكذّب متّهم له فيما عنده من علم، لا يتجاوز به فى تقديرهم أن يكون ساحرا عليما.. وهكذا يمضى القوم مع يوسف، حتى يهلك، دون أن يجتمعوا على رأى فيه.. فلما هلك يوسف، وأفلت من أيديهم هذا الخير الذي كان ينبغى أن ينالوه على يديه، تطلعوا إلى هذه الشمس الغاربة من أفقهم فى أسى وحسرة.. وانتظرا أن تطلع عليهم شمس أخرى فى صورة يوسف جديد.. فلما طال انتظارهم جيلا بعد جيل، استيأسوا وصرفوا أبصارهم عن ترقبه، وقالوا فى يأس وحسرة: «لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» ! وها هو ذا قد جاء الرسول، الذي كانوا يتطلعون إليه.. أفلا يرون فى موسى وجها كوجه يوسف، فيما يدعو إليه من عبادة إله واحد، وفيما بين يديه من آيات بينات؟ وأ يقفون من موسى موقف الشك والارتياب الذي وقفه آباؤهم من يوسف؟ ثم هل ينتظرون رسولا آخر بعد أن يمضى موسى؟.
ذلك هو الواقع الذي هم فيه الآن.. فماذا هم فاعلون؟ وإلى أىّ متجه يتجهون؟ أإلى الشك والارتياب؟ أم إلى التصديق والإيمان؟ ذلك لهم..
ولهم ما يشتهون!
1233
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ.. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا.. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ».. هو تعقيب على هذا الموقف الذي بين الرجل وبين القوم.. وهو حكم على فرعون وملائه أنهم لن يهتدوا، ولن يخرجوا عما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم فى ارتياب شديد مسرف، فأسلمهم الله سبحانه إلى ارتيابهم، وتركهم فى ظلمات يعمهون.. وإنهم ليجادلون فى آيات الله، وليس بين أيديهم سلطان من حقّ يجادلون به، وكل ما معهم هو باطل وضلال، يلقون به آيات الله..!
وقوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا».. أي كبر مقتا وبغضا هذا الجدل بالباطل، عند الله سبحانه الذي يكره الباطل ويمقت المبطلين، وكذلك المؤمنون، يمقتون الباطل وأهله..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ».
أي بمثل هذا الطبع والختم على قلب المتكبرين والجبارين، من فرعون وقومه- يطبع الله على قلب كل متكبر جبار من أهل الشرك، الذين يلقون محمدا بالشك والارتياب والتكذيب! وهكذا ينفضّ المجلس، دون أن ينتهى القوم إلى رأى فى موسى، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، من هذا النذير الذي طلع عليهم به الرجل المؤمن.. الذي يكتم إيمانه!!
الآيات: (٣٦- ٤٦) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
1234
التفسير:
وإذ ينفضّ المجلس الذي ضمّ فرعون وآله، ومنهم الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه- إذ ينفض المجلس على تلك الحال التي اضطرب فيها الرأى، ودارت برءوس القوم فيها عواصف البلبلة والحيرة- لم يجد فرعون طريقا يحفظ به ناموس سلطانه، ويستر به الحال التي استولت عليه من الرهبة والفزع إلا أن يلقى بهذا الأمر الطائش، يتخبط به كما يتخبط الغريق بين الأمواج..
«وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ
1235
السَّماواتِ.. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى.. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً!».
والأمر- كما ترى- هزل، ليس فيه شىء من الجدّ.. وإنما هو تكأة يتكىء بها فرعون على كرسىّ سلطانه الذي يكاد يسقط من فوقه! إذ كيف يبنى «هامان» صرحا يرتفع به إلى السماء؟ وفى كم من الزمن يتمّ بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعا، وكان محمولا على محمل الجدّ؟ وهل ينتظر فرعون بموسى هذا الزمن المتطاول حتى يتم بناء الصرح، ويصل به إلى أبواب السماء، ثم يطرقها، ويبحث عن إله موسى هناك؟ إنها مما حكات وتعلّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه فى قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون فى حينه بالامتثال والطاعة! وفى قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول.. فلقد أصدر حكمه على هذا الأمر الذي يريد التحقق منه، وهو أن موسى كاذب فيما يدعيه من أن له إلها فى عالم غير هذا العالم الأرضى الذي تفرد فيه فرعون بالألوهية! فما الداعي إلى التحقق من أمر واضح الكذب؟
وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» بيان للحال التي انتهى إليها أمر فرعون، وأنه مضى فى طريق الضلال إلى غايته.. فقد زين له بضلاله، واستكباره، سوء عمله هذا، فرآه حسنا، فمضى فيه، وصد عن سبيل الله، بما يحمل فى كيانه من أباطيل وضلالات. «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ» الذي يكيد به للمؤمنين «إلا فى تباب» أي فى فساد، وضياع..
1236
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» لقد كشف الرجل المؤمن عن حاله، وأعلن ما كان يخفيه من إيمانه، وخرج عن سلطان فرعون، وانطلق يلقى الناس مواجهة بالدين الذي دان به، ويحاجّهم بمنطق الحق الذي استقام عليه..
وهذه المقولات التي يقولها الرجل المؤمن، هى خارج هذا المجلس الذي ضمه وفرعون والملأ من قبل.. إنه امتداد إلى خارج إلى هذا المجلس، حيث يلقاه الناس فى كل مجتمع وناد..
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» هو مقولة من مقولات الرجل المؤمن، يعرض بها موازين الناس عند الإله.
الذي يدعوهم إليه.. إنه إله عادل، حكيم، عالم بكل شىء.. «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها».. إن عمله هذا مردود عليه، ومجزىّ به، مثقالا بمثقال «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» فالمحسن- من ذكر أو أنثى- لا يلقى جزاء الحسنة بمثلها وحسب، بل إنه يضاعف له الجزاء الحسن أضعافا مضاعفة، بلا حساب..
فالجنة التي يجزى بها أهل الإحسان، لا يقدّر لها ثمن، ولا يبلغها إحسان محسن، ولكنها فضل من فضل الله، وإحسان من إحسانه، إلى من أحسنوا واتقوا، «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وليس بين المحب والمحبوب حساب! وفى قوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» - إشارة إلى أن العمل الصالح لا يقبل، ولا يدخل فى الأعمال الصالحة- إلا مع الإيمان بالله.
1237
قوله تعالى:
«وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» مناظرة بين موقف وموقف، ودعوة دعوة.. موقف الرجل المؤمن من قومه، وموقفهم منه..
إنه يدعوهم إلى الخلاص والنجاة من نقمة الله فى الدنيا، وعذابه فى الآخرة..
وهم يدعونه إلى نقمة الله فى الدنيا، وإلى عذاب النار فى الآخرة.. إنهم يدعونه ليكفر بالله الواحد الأحد، وأن يعبد مع الله آلهة أخرى لا يعلم لها حقيقة يطمئن إليها عقله، ويستسيغها منطقة.. وهو يدعوهم إلى إله يقوم على هذا الوجود، ويمسك كل ذرة منه، حفظا وعلما.. فهو سبحانه- «العزيز» الذي تذل لعزته الجبابرة.. «الغفار» الذي يغفر ذنوب المسيئين، ويقبل توبتهم، إذا هم رجعوا إليه، ووجهوا وجههم له..
فهل تستوى دعوة ودعوة؟ وهل يستوى الضلال والهدى؟
وقد جاء النظم القرآنى على غير النسق الذي يقتضيه النظم الكلامى، فى تقديرنا.. إذ بدأ الرجل المؤمن بما يدعوهم إليه: «أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ» وكان مقتضى النظم الكلامى أن يقول بعد هذا: وأدعوكم إلى العزيز الغفار، وتدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم.. ولكن جاء النظم القرآنى على تلك الصورة المعجزة، التي جمعت بين دعوتيهم فى نسق واحد هكذا: «تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ.. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» ثم كان من هذه الصورة المعجزة من النظم- أن بدئت وختمت بالدعوة التي يدعو بها المؤمن إلى الإيمان.. هكذا:
«أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. وأنا أدعوكم إلى العزيز «الغفار».. ثم كان
1238
منها- كذلك- أن سوّت بينه وبينهم، فقدّم نفسه أولا، ثم قدّمهم هم ثانيا..
هكذا:
«أدعوكم إلى النجاة.. وتدعوننى إلى النار..»
«تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» هذا ما ينكشف من هذا النظم للنظرة الأولى.. ووراء هذه النظرة نظرات ومعطيات.. لا حدود لها..
قوله تعالى:
«لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ» هو تعقيب من الرجل المؤمن، على هذا الموقف الذي بينه وبين قومه..
إن ما يدعونه إلى عبادته من آلهتهم: «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ»..
إنه لا يسمع دعاء داع ولا يستجيب له، سواء أكان ذلك فى هذه الدنيا، أو فى الآخرة.. وأصل لا جرم من الجرم.. وهو بهذا التركيب، للنهى: أي لا تجرموا، مثل قوله تعالى: «لا مِساسَ» ومثل الحديث الشريف: «لا ضرر ولاضرار».
وقوله تعالى: «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» - أي مرجع جميع المخلوقات إلى الله، فهو المالك لها وحده، يبسطها ويقبضها، وينشرها ويطويها.. وأن الناس جميعا سيرجعون إلى الله، للحساب والجزاء فى الآخرة.. «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ».. حيث يلقون جزاء كفرهم، وضلالهم، وإسرافهم على أنفسهم..
هذا، ولم يذكر هنا جزاء المحسنين، وهو الفوز بالجنة ونعيمها.. وذلك
1239
لأن الموقف موقف إنقاذ، وتخليص، لهؤلاء الهلكى من هذا الضلال الذي هم فيه.. فإذا خلصوا من النار، فذلك كسب عظيم لهم.. ثم يكون لهم بعد هذا أن يتطلعوا إلى المنزل الذي ينزلونه، بعد أن خلصوا بجلدهم من هذا البلاء المحيط بهم.. إن الذي تعلق به النار، لا يعنيه شىء أكثر من أن يتخلص من هذا الثوب الذي أمسكت به النار، وليس يعنيه فى شىء أن يفكر فى الثوب الذي يلبسه بعد أن ينزع هذا الثوب عنه، ويتركه وقودا للنار تأكله.. إن دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (١٨٥ آل عمران) قوله تعالى:
«فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»..
أي ستعلمون علم اليقين ما أحدثكم به، وما أدعوكم إليه من الإيمان بالله الواحد الغفار، وما أحذركم به من عذابه يوم القيامة، إذا أنتم لم ترجعوا إلى الله، وتدعوا عبادة ما تعبدون من آلهة، ليس لها حول ولا طول، فى الدنيا ولا فى الآخرة.. إنكم ستذكرون هذا، وترونه عيانا، يوم القيامة، يوم لا ينفع تذكّر، ولا يغنى علم.
وقوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» هو خاتمة المطاف. فيما بينه وبين قومه، لقد دعاهم إلى الهدى، وأراهم طريق النجاة، فإن استجابوا له، واتبعوا سبيله نجوا معه، وإن هم أبوا أن ينزعوا عما هم فيه، تركهم وشأنهم، وأخذ هو طريقه الذي استقام عليه، مفوضا أمره إنى الله، مسلما له وجهه، مستعينا به وحده، فهو الذي يكفيه، ويحميه «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» يعلم من هم أولياؤه، ومنهم هم أعداؤه: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٤٠: الحج)
1240
قوله تعالى:
«فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» الفاء للتعقيب، أي أنه عقب قوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» استجاب الله له، فوقاه وحفظه مما كانوا يدبرون له من كيد عظيم، بعد أن أعلن إيمانه، وتحدّى فرعون، وخرج عن سلطانه، منحازا إلى جبهة موسى..
وقوله تعالى: «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» أي نزل بفرعون وآله سوء العذاب، فقد وجب عليهم وهم فى الدنيا، هذا العذاب الذي سينزل بهم فى الآخرة.. فهو حكم معلّق فى أعناقهم، وهم فى هذه الدنيا قوله تعالى:
«النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» هو بيان لسوء العذاب الذي حاق بآل فرعون، وهو النار..
وقوله تعالى: «يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» - أي يعرضون على هذه النار فى الغدو، أي أول النهار، وفى العشى، أي آخر النهار.. وهذا العرض على النار هو فى حياتهم البرزخية، الواقعة بين الموت والبعث.. فهم فى هذه الفترة يفزّعون بالنار التي سيصيرون إليها يوم القيامة، فيردونها صبحا وعشيا، ليروا بأعينهم المنزل الذي سينزلونه يوم القيامة..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» أي فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى تلك النار التي كانوا يغدون عليها ويروحون..
وليست النار فحسب، بل الدرك الأسفل منها، حيث يلقون أشد وأنكى ما يلقى أهل النار من عذاب..
1241
بقي هنا سؤال، وهو: هل كان مؤمن آل فرعون نبيا مرسلا من عند الله إلى فرعون؟
وليس بالمستبعد أن يكون نبيا لم يذكره القرآن فى عداد الأنبياء الذين ذكرهم الله، فكثير من الأنبياء لم يذكرهم الله سبحانه فى القرآن كما يقول سبحانه «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (١٦٤: النساء) ولكن يرجّح عندنا أنه غير رسول، إذ لو كان نبيا ذا رسالة، لكان بين يديه حجة من الله على رسالته إلى من أرسل إليهم، ولم يذكر القرآن أن بين يديه تلك الحجة التي يحاجّ بها فرعون.. ومن جهة أخرى، فإنه كان يكتم إيمانه فى مرحلة من مراحل دعوته.. والنبي إنما يرى الناس نبوته ممثلة فى إيمانه بالدين الذي يدعو إليه، قبل أن يدعو أحدا إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» (١١- ١٢ الزمر) ومؤمن آل فرعون، إن لم يكن نبيا رسولا، فهو داعية من دعاة الله إلى الحق، وهو صوت العقل، وحجته، التي تقوم إلى جانب المعجزة المادية وحجتها..
فلقد جاء موسى إلى فرعون بآيات مادية قاهرة، كان من شأنه أن يؤمن بها إيمان قهر وإذعان، إن لم يؤمن بها إيمان عقل ومنطق.. فلما لم يؤمن بها هذا الإيمان أو ذاك، جاءه من يدعوه بالعقل والمنطق، فلم يرض لعقله ومنطقه أن يلتقى بعقل أو منطق! ومن هنا قامت عليه الحجة من كل وجه، فكان كفره أغلظ الكفر، وكان عذابه أشد العذاب..
1242
وننظر فى رسالة موسى إلى فرعون، فنجد أن موسى هو صاحب الدعوة والقائم عليها، وأن هارون، كان وزيرا له، أي سندا ومعينا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً» (٣٥: الفرقان) ويقول سبحانه: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» (١٥- ١٦ المزمل)..
فموسى عليه السلام، رسول، وهارون- عليه السلام- نبى، يقوم ردءا لهذا الرسول وسندا.. ثم يقوم من وراء الرسول والنبي، الممثلين لدعوة السماء- ثالث، يمثّل دعوة الإنسان وما أودع الخالق فيه من فطرة، وعقل.. وبهذا تلتقى السماء بالأرض، ويرتفع من الأرض هذا الإنسان، الذي يمثّل كرامة الإنسان، ويحتفظ للإنسانية بمكانها فوق عالم الحيوان..! وهذا يعنى أن الإنسانية قادرة على أن تلد الهداة والمصلحين الذين يمكن أن ترى عقولهم نور الحق، وتستضىء به، وتسير على ضوئه، وتتعرف إلى الله الواحد الأحد، بمنقطع من دعوات السماء، ورسالات الرسل!.
وهنا نشير إلى ما ذكرناه من قبل فى سورة يس عند تفسير قوله تعالى:
«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»..
الآيات: (٤٧- ٥٣) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٢]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
1243
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ»..
هو عرض لأهل النار جميعا، وما يقع بين التابعين والمتبوعين، من ملاحاة، ومخاصمة..
وفى هذا الموقف من مواقف الملاحاة، يسأل التابعون سادتهم ورؤساءهم الذين كانوا أصحاب الكلمة عليهم فى الدنيا- يسألونهم أن يخففوا عنهم شيئا من هذا العذاب الذي هم فيه.. فقد كان هؤلاء السادة مفزعهم فى الدنيا، يفزعون إليهم، ويحمون ضعفهم بقوتهم.. إنهم أقوى منهم قوة، وأقدر على احتمال الثقال من الأمور.. وهذه جهنم وأهوالها،.
فهل يجد الضعفاء فى قوة الأقوياء، معينا يحمل عنهم بعض ما حملوا؟.
«قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها.. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ»..
وهل لأحد بهذا البلاء يدان؟ إن قوة الأقوياء لا تقوم بحمل بعض ما ألقى عليها من عذاب، فهل هم فى حاجة إلى مزيد منه؟.
1244
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» - إشارة إلى أن كلّا من التابعين والمتبوعين قد لقى الجزاء الذي يستحق.. فالذى حكم بينهم هو الله سبحانه وتعالى، وقضاؤه الفصل، وحكمه العدل.. وأنه إذا كان المتبوعون قد غرروا بأتباعهم، وساقوهم سوقا إلى الكفر، فإنهم قد نالوا ما يستحقون من عذاب فوق ما نال أتباعهم، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (١٣: العنكبوت).
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ».
وإذ ييأس أهل النار من أن يغنى بعضهم عن بعض شيئا، فإنهم يمدون أيديهم إلى خزنة جهنم، وإلى حراس هذا السجن الجهنمى المطبق عليهم، يسألونهم أن يدعوا ربهم، ويسألوه تخفيف العذاب عنهم، ولو يوما واحدا، ليجدوا نسمة من نسمة الحياة، تدخل إلى صدورهم المكظومة بلهيب السعير!..
«قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا بَلى! قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ».
ويلقى خزنة جهنم أصحاب النار بهذا السؤال، ردّا على طلبهم: «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» ؟ أو لم يبعث الله فيكم رسلا؟ وألم يحمل إليكم الرسل بين أيديهم آيات بينات من عند الله، تكشف لكم الطريق إلى الحق والهدى؟ «قالوا بلى!» قد جاءنا رسل ربنا بالحق!.
وإذ يتلقى خزنة جهنم هذا الاعتراف من أفواههم، والإقرار على
1245
أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- يقولون لهم فى استهزاء وسخرية: لم لا تدعون أنتم؟ فادعوا إن كان ينفعكم الدعاء، ويستجاب لكم بما تدعون..
«فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ»..
قوله تعالى:
«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ».
وإذ يلقى الكافرون الخذلان فى جهنم، فلم يقبل منهم قول، ولم يستجب لهم دعاء- فإن شأن رسل الله، والمؤمنين بالله، غير هذا.. إنهم أهل كرامة على الله فى الدنيا وفى الآخرة.. إنه سبحانه وليّهم فى الدنيا وفى الآخرة.. ففى الدنيا، يؤيدهم بنصره، وفى الآخرة، يؤمّنهم من فزع هذا اليوم، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه فى جنات لهم فيها نعيم مقيم..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» أي يوم القيامة، حيث يقوم على الناس من يؤدى شهادته عليهم، من رسل الله، ومن جوارحهم التي تقوم شاهدة عليهم..
الآيات: (٥٣- ٥٩) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
1246
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ».
هو استكمال لقصة موسى، ولرسالته كرسول من عند الله.. فقد ذكرت الآيات السابقة رسالة موسى إلى فرعون وهامان وقارون، وهى جزء من رسالته إلى بنى إسرائيل، فلما انتهت قصة موسى مع فرعون، اقتضى المقام الإشارة إلى رسالة موسى، وهى أنها لبنى إسرائيل فى عمومها..
والهدى الذي آتاه الله موسى، هو التوراة، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (٤٤: المائدة).
وفى قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» - إشارة إلى أن بنى إسرائيل لم يرثوا هذا الهدى الذي تحمله التوراة، والذي حمله إليهم موسى فيها.
وإنما ورثوا الكتاب، أي هذه الكلمات المكتوبة فى كتاب..!
1247
قوله تعالى:
«هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ».. أي أن هذا الكتاب، هو هدى وذكرى لمن يطلب الهدى، وينتفع به.. وفى هذا تعريض ببني إسرائيل، وأنهم لم يستقيموا على ما فى هذا الكتاب من هدى، ولم يذكروا ما فيه من وصايا وعظات..
وقوله تعالى:
«فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ».
الخطاب هو من الله سبحانه، لنبيه الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- ومناسبة هذا الخطاب هنا، هو ما جاء فى الآيات السابقة من موقف فرعون، ومكابرته، وعناده، وتحديه لآيات الله.. وهو نفس الموقف الذي يقفه المشركون من دعوة النبي، ومن آيات الله يتلوها عليهم، وإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليلقى من عنادهم واستكبارهم ما ينوء به كاهله، وتضيق به نفسه.. فكان هذا الخطاب الكريم له من ربه، مددا من أمداد السماء، يجد فى ظله أرواح الطمأنينة والرضا.
ويحمل إليه هذا الخطاب الكريم أكثر من دعوة..
فأولا: دعوته- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يصبر لحكم ربه، وينتظر ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبين قومه.. وفى هذا إشارة إلى ما يلقى النبىّ من قومه من عنت وضيق، وأنه لا بد أن يقيم أمره على الصبر، حتى يستطيع أنه يمضى بدعوته إلى غايتها..
ثم إن مع هذه الدعوة إلى الصبر، وما يحمل النبىّ الكريم من أعبائه
1248
الثقال- فقد حملت معها من ألطاف الله سبحانه، ما يشدّ عزم النبىّ، ويثبت خطوه على طريق الصبر الطويل، فهو على موعد مع نصر الله: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ووعد الله هو ما جاء فى قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ».
وثانيا: دعوة النبىّ إلى أن يستغفر ربه لذنبه.. «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ»..
وهنا سؤال: وهل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب؟ أو بمعنى آخر هل يتفق أن يكون نبيّا ويذنب؟
والجواب، أن النبي- أي نبى- تقع منه ذنوب، ومع هذا فإن تلك الذنوب لا تنزل من قدره عند ربه، ولا تدخل على نبوّته ضيما..
وإذا قلنا إن النبي تقع منه ذنوب، فذلك مما يقرره القرآن فى قوله:
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ».. فهذا صريح فى أن للنبىّ ذنوبا، يستغفر ربه لها، ويطلب منه مغفرتها له..
على أن الذي ينبغى أن يكون مفهوما فى هذا المقام، هو أن ذنوب الأنبياء من الصغائر، واللّمم، المعفوّ عنه بالنسبة لغير الأنبياء، ولكنها تعتبر ذنوبا فى مقام الأنبياء.. فالصغيرة من النبي كبيرة، وما لا يعد ذنبا عند بعض الناس هو ذنب عند آخرين.. فالذنب إنما يقاس بالنسبة لقدر من يقع منه.. فيكبر أو يصغر بحسب قدر مرتكبه..
والرسول الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة خلق الله، وأقربهم إليه، تحسب عليه ذنوب قد لا تعدّ ذنوبا على بعض الأنبياء.. فهم- صلوات الله وسلامه عليهم- درجات، وهم فى درجاتهم العالية فوق الناس جميعا.
وسؤال آخر.. ما الذنوب التي يستغفر لها النبي ربه، وقد غفر الله له سبحانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
1249
والجواب أن غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، هو وعد من الله سبحانه وتعالى، كما جاء فى قوله سبحانه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ». وهذا الوعد وإن يكن واقعا محققا من غير شك، فإن الأمر بالاستغفار للذنب، أمر مطلوب من النبي، وهو واقع محقق كذلك..
وإذن فغفران الذنوب للنبى- ما تقدم منها وما تأخر- مرتبط باستغفاره لذنوبه، واستغفاره لذنوبه واقع محقق منه، فيكون غفران ذنوبه واقعا محققا كذلك..! وإذن لا تعارض بين الوعد المحقق بغفران ذنوب النبي- ما تقدم منها وما تأخر- وبين أمره باستغفاره لذنوبه..
هذا، والإشارة إلى أن للنبى ذنوبا، مطلوبا منه الاستغفار لها- يشعر بأن الإنسان مهما بلغ من الكمال، فلن يتخلص من الجلد البشرى الذي يلبسه.. فهو إنسان قبل كل شىء، وكماله البشرى هو محصور فى هذا الحد لا يتجاوزه، فلا يكون من عالم الملائكة بحال أبدا، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
«كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».. لم يستثن الرسول الكريم فى هذا أحدا من أبناء آدم.. والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- صفوة هؤلاء الصفوة!! ولنذكر هنا فى هذا المقام، أن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد الله، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
ثالثا: دعوته- صلى الله عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار، أي أول الليل، وبواكير النهار.. أي قبل أن تطلع الشمس.
وليس ذكر هذين الوقتين حصرا لتسبيح الرسول ربّه فيهما، فهو صلوات
1250
الله وسلامه عليه- على ذكر دائم لربه، مسبحا، وحامدا، ومستغفرا.. وإنما خصّ هذان الوقتان بالذكر، لأنهما أثقل وقتين، يشق على النفس فيهما العمل، وتعرض فيهما الغفلة، حيث يستقبل الإنسان أول الليل بالخلود إلى الراحة، وإعطاء الجسد حاجته من الليل، وحيث يكون الإنسان فى أواخر الليل وأوائل النهار مستغرقا فى سكونه وراحته، فيثقل عليه أن ينخلع عن تلك الحال..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» (٦: المزمل).
ومن جهة أخرى، فإن حمد الله فى هذين الوقتين- وقد خلت النفس من شواغل الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي- يجد فيهما القلب طمأنينته وسكينته فيتجه بوجوده كله إلى الله.
وهذا ما يعطى للذكر فى هذه الأوقات طعما لا يجده الذاكر فى غيرها، حيث تكثر الشواغل والمعوقات.. ومن هنا كان الليل خلوة العابدين، ومسبح المسبحين، وملتقى العاشقين..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» هو خطاب للمشركين، بعد خطاب النبي.. وهو تهديد وعيد لهم، وأنهم لن يبلغوا شيئا مما يريدون به النبي ودعوته من سوء.. إذ أن الله سبحانه وتعالى سيقضى بينهم وبين النبي، وسيكون هذا القضاء إدانة لهم، وخذلانا لجمعهم، على حين يكون نصرا للنبى، وللمؤمنين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية السابقة: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ»..
وقوله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ»
1251
«إن» هنا نافية، بمعنى «ما» والكبر الذي فى صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» (٤٨: الأنفال).. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال..
فالضمير فى «بالغيه» يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانىّ وآمال..!
وقوله تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» - دعوة إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، أن يلقى كبر هؤلاء المتكبرين، وتطاول هؤلاء المتطاولين المدلّين بجمعهم، المغرورين بقوتهم- أن يلقى ذلك منهم باللّجأ إلى الله، واللّياذ بقوته، فهو سبحانه «السميع» الذي يسمع للنبى ما يدعو به ويستجيب له، وهو «البصير» الذي يرى أين تنزل مواقع رحمته وإحسانه، وأين تقع صواعق نقمه وبلائه..
قوله تعالى:
«لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى، أن الآية السابقة، أشارت إلى ما يملأ صدور المشركين من كبر وغرور واستعلاء، وأنهم يحسبون بما ملكوا من كثرة فى المال والرجال- أنهم لن يغلبوا.. فجاء قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» - ليريهم أنهم، وإن كانوا- كما يرون فى
1252
أنفسهم- أصحاب قوة وبأس، فإن قوتهم وبأسهم لا يغنيان عنهم من الله شيئا، ولا يردّان عنهم بأسه إذا جاءهم.. فأين هم من الناس؟ وأين الناس من السموات والأرض؟ إن كل ذلك من خلق الله، وفى قبضة الله.. فهل من خلق هذا الوجود، وقام بسلطانه عليه، يعجزه قهر هؤلاء المتكبرين، وإذلالهم والتنكيل بهم؟
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى جهل هؤلاء المشركين، وغيرهم من الضالين، بقدرة الله وسلطانه القائم على كل شىء.. وإنهم ما استعظموا ما هم فيه من قوة إلا عن جهل بقدرة الله، بل وعن جهل بقدرة مخلوقات الله، التي إذا وضعوا أنفسهم إزاءها كانوا أشبه بالذرّ أو النمل تحت سفح جبل شامخ..!
قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» هو تعقيب على قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».. وذلك أنه إذا كان أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق التي تكشف لهم عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وقوة سلطانه القائم على هذا الوجود- فإن بعضا من الناس- وهم أقلهم- يعلم من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ما يملأ القلب هدى وإيمانا.. ومن هنا يختلف الناس، إيمانا وكفرا، وهدى وضلالا، وإحسانا وإساءة. وإنه كما لا يستوى الأعمى والبصير، كذلك لا يستوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا وعملوا السيئات.. إن الاختلاف بينهما واضح لا يحتاج إلى بيان..
1253
وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجىء عليه النظم الكلامى..
فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجىء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير..
وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هى من بعض الدلائل على إعجازه..
فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ».. فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر فى التعبير بالبصير دون المبصر..
أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة..
ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا
1254
جاء النفي بعدم التسوية واقعا على المسيء: «وَلَا الْمُسِيءُ» وكأن القضية من وجهة نظر أخرى هى هكذا: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ»..
وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» أي قليل منكم أيها الناس من يتذكر ويعقل هذه الأمثال.. وقليل تذكّر من يتذكر منكم، إذ النسيان غالب عليكم.
قوله تعالى:
«إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» وإذا كانت القضية قضية تفرقة بين المؤمنين ذوى البصائر، والكافرين الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، وإذ كان هناك مؤمنون وكافرون- فقد حسن أن تعرض هذه الحقيقة التي هى المحكّ الذي يعرف به إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وتلك القضية، هى قضية البعث والحساب والجزاء.. فمن آمن باليوم الآخر. فهو المؤمن حقا، لأنه لا يؤمن من يؤمن باليوم الآخر إلا إذا كان مؤمنا بالله إيمانا خالصا، مبرّأ من كل شرك.. ومن كفر بالآخرة، فهو كافر بالله، أو مشرك به..
ومن هنا، جاء هذا الإعلان فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ليكون فى ذلك اختبار لإيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. فمن تقبّل هذه الحقيقة، وصدّقها، واستيقن بها، فهو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن كذب بها، أو شكّ فيها، فهو من الضالين المسيئين..
وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» هو بيان لما ينكشف عنه امتحان الناس بهذا الإعلان، وبتصديقهم به، أو تكذيبهم.. وقد كشف هذا الامتحان عن أن أكثر الناس لا يؤمنون، لأن أكثر الناس كذلك لا يعلمون ولا يتذكرون.. كما يقول تعالى فى الآية السابقة: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ»
1255
الآيات: (٦٠- ٦٥) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» هو التفات بعين الرضا والرحمة والإحسان من الله سبحانه وتعالى، إلى عباده المؤمنين، الذين آمنوا به، واستيقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها..
فهؤلاء المؤمنون يدعوهم الله سبحانه إلى ساحة فضله وإحسانه، قائلا لهم:
«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».. اسألوا تعطوا.. «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» وفى الدعاء رغب إلى الله، ووقوف بين يدى رحمته وإحسانه.. وفى
1256
الاستجابة إظهار لما للعبد عند ربّه من احتفاء وتكريم، وأنه بموضع الرضا والقبول..
والدعاء، هو عباده المؤمنين، وهو ولاء، وتسبيح، وصلاة لله رب العالمين..
ومن هنا عرّف الدعاء بأنه مخّ العبادة.. لأنه مفزع العبد إلى ربه، وفيه يتجلى ضعف العبد وانكساره، وذلّه، أمام قدرة الله وعظمته وجلاله.. فهو- فى صميمه- عبادة خالصة، وابتهال خاشع، وولاء واستسلام..
ولكل إنسان دعاؤه الذي يدعو به ربه.. فمنهم من يطلب الدنيا، ويجعلها همّه فيما يدعو به ربه، ومنهم من يطلب الآخرة ويرجو بدعائه رحمة ربه، ومنهم من يقول: ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فيجمع بين الدنيا والآخرة..
وكثير من الناس، لا يذكرون الله بالدعاء إلا عند الشدة والضيق..
فهم فى غفلة عن ذكر ربهم، حتى إذا نزل بهم مكروه، أو أحاط بهم بلاء ضرعوا إلى الله، وأسلموا إليه أمرهم،. فإذا زايلتهم تلك الحال، مضوا إلى ما كانوا فيه من شغل عن الله، واشتغال بدنياهم، وتقلبهم فى لعبهم ولهوهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (١٢: يونس) هذا، وقد عرضنا موضوع الدعاء فى بحث خاص، ذكرنا فيه ماهيّة الدعاء، ومواقع الإجابة، ومواطنها، وهل يردّ الدعاء القضاء؟ وهل يجاب كل دعاء؟ ثم عرضنا بعضا من أدعية الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأدعية الصحابة، وغيرهم من صالحى المؤمنين.. وذلك فى كتابنا: «الدعاء المستجاب»..
قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» الداخر: الذليل المهين..
1257
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء عبادة، وولاء، وخضوع لله، واعتراف بجلاله وقدرته.. وأن الذين لا يدعون الله، ولا يوجهون وجوههم إليه، هم أهل كفر بالله، وضلال عنه.. إذ يمنعهم كبرهم واستعلاؤهم عن أن يذلّوا لله، ويمدوا أيديهم سائلين من فضله، طالبين من رحمته.. إنهم سيدخلون جهنم أذلاء، محقرين، بعد أن صرفوا وجوههم عن الله مستعلين مستكبرين.. إنه الهوان والإذلال، هو جزاء كل متكبر جبار.
وفى قوله تعالى: «عَنْ عِبادَتِي» بدلا من «دعائى» - إشارة إلى أن الدعاء من العبادة، بل إنه- كما قلنا- مخّ العبادة..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد حملت دعوة إلى الناس أن يدعوا الله ربهم، وأن يوجّهوا وجوههم إليه.. كما توعدت الآية الذين يستكبرون عن عبادة الله ودعائه، بالإلقاء فى النار، فى ذلة وصغار..
فجاءت هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض مظاهر قدرة الله ورحمته وإحسانه إلى عباده، ليرى هؤلاء المستكبرون أين يقع استكبارهم من جلال الله وعظمته..
فقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» أي أن الله الذي يدعوكم إليه، ويستضيفكم إلى ساحة فضله وإحسانه، ثم تأبون أن تستجيبوا له أيها المستكبرون- الله الذي
1258
لا تقدرونه حقّ قدره، هو: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً».. إنه سبحانه جعل لكم ذلك من غير طلب أو دعاء، فالله سبحانه يعطى من غير طلب، ويجود من غير سؤال.. وما الدعاء الذي تدعونه به، إلا عبادة وولاء لله رب العالمين..
وفى قوله تعالى: «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن النهار وضوءه هو الذي يعطى العيون وظيفة الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لما كان للعين أن ترى شيئا، فالتقاء الضوء بالعين هو الذي يعطيها القدرة على الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لكان البصير والأعمى على سواء.. وإلى هذا يشير المعرى بقوله:
وبصير الأقوام فى مثل أعمى فهلمّوا فى حندس نتصادم
والحندس: الظلام الشديد..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» إشارة إلى موقف كثير من الناس من فضل الله ونعمه عليهم، حيث يلقونها بالجحود والكفران، فلا يشكرون لله، بل ولا يؤمنون به..
قوله تعالى:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».
فى الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى، إلفات لهؤلاء الغافلين عنه، المشركين به، العاكفين على عبادة ما يعبدون من أوثان وغير أوثان، مما صنعت أيديهم، أو تصورت أوهامهم.. فالله سبحانه هو خالق كل شىء، وما يعبده هؤلاء المشركون من معبودات، هى مخلوقات لله، والمنطق
1259
يقضى بداهة بألّا تكون عبادة إلا للخالق وحده سبحانه وتعالى، وأن عبادة غيره سبحانه، ضلال مبين.
وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» - استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين أن يولوا وجوههم إلى غير الله الواحد، الخالق لكل شىء.. والإفك: العدول عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى:
«كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».
أي بمثل هذا الإفك، والافتراء على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، يأفك ويفترى كل من يجحد بآيات الله، ولا يعرف ما فيها من دلائل الكمال والجلال لذات الله سبحانه وتعالى.. إن آفة الضالين والمشركين، هى جهلهم بآيات الله، وعدم وقوفهم عليها، الأمر الذي ينتهى بهم إلى إنكارها، ثم إلى إنكار الله..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ»..
وهذه آية من آيات الله.. فهل لأهل الضلال والإفك أن ينظروا فيها، وأن يخرجوا من هذا الظلام الذي هم فيه، وأن يصافحوا بأبصارهم هذا النور المشّع من آيات الله، ليروا على ضوئه الحق الذي ضلوا عن طريقه..
1260
وكأنّ سائلا سأل: وما الله الذي بآياته يجحدون؟ فكان الجواب:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي أقامكم على هذه الأرض، وجعلها لكم مستقرا ومقاما، وجعل فوقكم السماء سقفا محفوظا، تمسكه قدرته.. فإذا نظرتم فى أنفسكم رأيتم كيف أخرجكم الله فى تلك الصورة الكريمة من الخلق، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ثم ساق لكم من الرزق ما يقيم حياتكم، ويحفظ وجودكم.. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» إن كنتم تريدون التعرف إليه، والإيمان به.. «فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ»..
أي علا، وعظم. ربكم هذا، إنه رب العالمين..
قوله تعالى:
«هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
أي ذلكم الله ربكم «هو الحي» حياة أبدية سرمدية.. وكل شىء هالك إلا وجهه.. «لا إله إلا هو» وإذ تفرد سبحانه بالحياة الدائمة السرمدية، فهو المتفرد كذلك بالألوهية.. وإذ تفرد سبحانه بالألوهية، فمن حقه أن يتفرد وحده بالعبودية له من جميع خلقه «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا تشركوا معه معبودا آخر، واجعلوا الحمد له، مفتتح عبادتكم ومختتمها.. فهو- سبحانه- المستحق للحمد، أولا وآخرا..
الآيات: (٦٦- ٦٨) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
1261
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ».
هذا هو موقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من آيات ربه، تلك الآيات التي تلقاها وحيا من ربه، ثم بلغها- كما أمره ربه- إلى الناس، فاهتدى بها من اهتدى، وكفر بها من كفر!.
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- يمثل النموذج الأمثل والأكمل فى الأخذ بآيات ربه، والامتثال لما تأمر به، واجتناب ما تنهى عنه..
فهو صلوات الله وسلامه عليه، قد نهى من ربه أن يعبد ما يعبد المشركون من دون الله.. وقد اجتنب ما نهى عنه..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قد أمر أن يعبد الله وحده، ويسلم وجوده لله رب العالمين، فامتثل ما أمر به..
هذه هى سبيل النبي.. فمن أراد أن يكون مع النبي، فهذه سبيله: أن يجتنب عبادة ما يعبد المشركون، وأن يخلص العبادة لله وحده..
1262
وهنا سؤال:
كيف ينهى النبىّ عن عبادة ما يعبد المشركون، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسجد لصنم، ولم يوجّه وجهه إلى غير الله، قبل أن تأتيه الرسالة، إذ كان له من فطرته السليمة ما عصمه به الله من أن يشتهى هذا الطعام الخبيث، الذي كان يقتات منه قومه.. ؟
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: ليس النهى عن الشيء بالذي يلزم منه أن يكون الموجّه إليه النهى مواقعا له، أو متلبسا به.. بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (٦٥: الزمر) وثانيا: أن هذا النهى- وإن كان موجها إلى النبىّ- هو فى حقيقته موجه إلى كلّ مدعوّ إلى الإيمان بالله.. فمن أراد أن يدخل فى الإيمان، فلينزع ثوب الشرك أولا، ولينفض يديه، وبخل نفسه من كل ما يصله بتلك المعبودات التي تعبد من دون الله.. ثم ليدخل بعد هذا إلى ساحة الإيمان نفيّا، طاهرا من الشرك ورجسه..
وفى قوله تعالى: «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي».. إشارة إلى أن هذا الذي تلقاه النبىّ من نهى عن الشرك، وأمر بالإسلام لربه، إنما كان بعد بعثته، واصطفائه لرسالة ربه، وتلقيه ما ينزل عليه من آياته وكلماته.. فهذا النهى وذلك الأمر، إنما هو من محامل الرسالة التي أرسل بها من ربه، وأمر
1263
بتبليغها، وإلّا فإنه قبل أن يتلقى هذه الرسالة، لم يكن منهيّا عن شىء أو مأمورا بشىء.. وإنما كان يأخذ الأمور بما تهديه إليه فطرته، ويدعوه إليه عقله..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
هو بيان لما لربّ العالمين الذي دعى النبي والمؤمنون معه إلى الإسلام له- من قدرة، وعلم، وحكمة، يراها ذوو الأبصار فى هذا الإنسان، وفى مادة خلقه، وكيف تنقّل من طور إلى طور، حتى كان هذا الكائن العجيب، الذي يحارب الله، ويكفر به!! فالمادة الأولى للإنسان- أي إنسان- هى هذا التراب.. إذ كان غذاء أبويه من نبات الأرض المتخلّق من التراب، وكانت النطفة متخلقة من هذا الغذاء.. وهذه هى جرثومة الحياة للإنسان.. ثم تنتقل هذه النطفة فى الرّحم، فتكون علقة، فمضغة، فعظاما، فلحما يكسو هذه العظام.. حتى إذا اكتمل الجنين فى بطن أمه، ولد طفلا، هو الصورة المصغرة لهذا الإنسان الذي سيكونه يوم يكبر، ويبلغ أشدّه..
هذه هى مراحل الحياة الإنسانية.. من التراب: إلى الإنسان.. ثم إلى التراب..!
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» عطف وجود ذى خصائص مميزة للإنسان على وجود آخر، له خصائصه ومميزاته.. فالإنسان فى بطن أمه،
1264
يعيش فى عالم، ثم ولد فكان فى عالم آخر، يختلف عن عالمه الذي كان فيه..
فكأن هذا الميلاد إخراج جديد له من وجود إلى وجود، ولهذا جاء التعبير القرآنى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» بالعطف بثم التي تفيد التراخي، ثم بفعل الإخراج الذي يدل على المغايرة، بين ما كان قبل هذا الإخراج، وبعده..
وقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» - ثم هنا زائدة، والغرض منها الدلالة على أن هنا زمنا ممتدا بين خروج الإنسان من بطن أمه طفلا، ثم بلوغه أشده..
فقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» هو تعليل لخروج الإنسان من بطن أمه إذ لولا هذا الخروج، لما بلغ الإنسان هذه الغاية.. وكأنّ النظم هو:
ثم يخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم ولتكونوا شيوخا».. وبين بلوغ الإنسان أشده، وبين شيخوخته مسافة زمنية، يملأ فراغها حرف العطف «ثم»..
وقوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» احتراس، يراد به تقييد هذا الإطلاق فى قوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» أي ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ أشده، أو من قبل أن يكون شيخا..
وقوله تعالى: «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» بتقدير محذوف يدل عليه ما قبله: أي ومنكم من يمدّ فى أجله، لتبلغوا الأجل المكتوب لكم..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أن من قدرة الله سبحانه ومن تدبيره فى خلقه، أنه «يحيى» أي
1265
يخلق الأحياء، ويمسك عليهم الحياة «ويميت» أي يميت الأحياء، التي ألبسها ثوب الحياة..
وعمليات الإحياء والإماتة، ليست بالأمر الذي يتكلف له الله- سبحانه- جهدا، أو يبذل فيه عملا.. إذ أن كل شىء فى هذا الوجود خاضع لسلطانه، مستجيب لقدرته. منفذ لمشيئته، من غير تأبّ أو انحراف.. «فَإِذا قَضى أَمْراً.. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أنه سبحانه إذا شاء أمرا، كان هذا الأمر، وجاء كما شاءت مشيئته..
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم)
الآيات: (٦٩- ٧٧) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)
1266
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ»..
بعد هذا الاستعراض الرائع لقدرة الله، وآثاره فى خلقه، لا يزال هناك كثير من أهل الضلال، يقفون من هذه الآيات موقف العناد والتكذيب..
فإلى أين يصرفون عن هذا الحق الذي بين أيديهم؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟..
وفى تعدية الفعل «يجادلون» بحرف الجر «فى» إشارة إلى أنهم يجادلون بغير علم، لجاجة وسفها وتطاولا.. ولهذا ضمن الفعل معنى الخوض.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».
هو بيان يكشف عن الذين يجادلون فى آيات الله.. إنهم هم هؤلاء الذين كذبوا بهذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهم هؤلاء الذين كذبوا من قبلهم بما أرسل الله به الرسل من آيات ومعجزات.. فهؤلاء الذين يجادلون فى القرآن الكريم، هم وأولئك الذين سبقوهم من المكذبين، الذين جادلوا فى آيات الله التي جاءهم بها رسل الله- هؤلاء وأولئك جميعا سوف يعلمون ما ينتظرهم من بأس الله وعذابه، وسوف يرون ما أنذرهم به رسلهم من عذاب، فلم تغنهم النذر!.
1267
قوله تعالى:
«إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ».
«إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي فسوف يعلمون الحق الذي أنكروه، حين يساقون إلى جهنم يسحبون على وجوههم، والأغلال فى أعناقهم، والسلاسل فى أيديهم وأرجلهم..
وقوله تعالى: «فِي الْحَمِيمِ» متعلق بقوله تعالى: «يُسْحَبُونَ» أي يسحبون بالأغلال التي فى أعناقهم، فى الحميم.. والحميم هو ما يغلى من السوائل..
وقوله تعالى: «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» أي يربطون على النار، لتشوى عليها أجسامهم، بعد أن غرقت فى هذا الحميم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً.. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ».
فى قوله تعالى: «قِيلَ لَهُمْ» بدلا من: يقال لهم، حيث نسق النظم الذي جاء معلّقا الأمر بالمستقبل، فى الأفعال «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».. «ويُسْحَبُونَ» «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» - فى هذا حكاية لما يقال لأصحاب النار يومئذ، وكأنه قيل بالفعل، وذلك لتقرير وقوعه وتوكيده، ثم ليسمع هؤلاء المشركون ما قيل لمن سبقوهم من أهل الضلال، فهذا خبر من أخبارهم، وأنهم إنما يسألون عن معبوداتهم الذين عبدوهم من دون الله، فيلتفتون فلا يجدون لهم ظلّا.. فيقولون: لقد ضلوا عنا، أي تاهوا فى هذا المزدحم.. ثم إذ يتبين
1268
لهم أن ما كانوا يدعونه من دون الله، باطل، وضلال، يقولون: «لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً» أي شيئا يعتدّ به، ويستند عليه.. تلك هى حال المشركين الذين سبقوا هؤلاء المكذبين من قريش، وهذا ما سئلوا عنه، وذلك هو جوابهم.. فماذا يكون جواب هؤلاء المكذبين المشركين من قريش حين يسألون هذا السؤال؟ أيجدون ما يقولون غير هذا القول؟
وهل يرون لمعبوداتهم وجها يوم الحساب؟ وإذا رأوا لهم وجها فهل يغنون عنهم من عذاب الله من شىء؟.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ» أي كما أضل الله المكذبين برسل الله، كذلك يضل الله هؤلاء المشركين الذين يكذبون رسول الله..
لأنهم جميعا ظالمون كافرون، إذ خرجوا عن سنن العدل والإنصاف بإنكارهم الصبح المبين، وتكذيبهم الحق الواضح..
قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ»..
أي ذلكم الذي أنتم فيه من بلاء وعذاب فى الآخرة، هو بسبب ما كنتم عليه فى الدنيا، من غرور، بما ملكتم فيها، وزهو وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها، فصرفكم ذلك عن أن تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه، فقطعتم حياتكم فى فرح ومرح، ولهو وعبث..
وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ الْحَقِّ» إشارة إلى أن الفرح المذموم، هو الفرح الذي ينبع من استرضاء عواطف خسيسة، وإشباع شهوات بهيمية، كما يقول الله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا
1269
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ»
(٨١: التوبة)..
أما الفرح الذي يقع فى نفس الإنسان، ويهزّ مشاعره، من انتصار حق، أو استعلاء على شهوة، فهو فرح محمود، بل ومطلوب، كما يقول الله تعالى:
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (٤- ٥: الروم).
والمرح: الفرح الشديد، الذي يصحبه عبث ولهو..
قوله تعالى:
«ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» - هو دعوة إلى أهل الكفر والضلال، أن ينزلوا منازلهم التي أعدت لهم فى الآخرة.. فلكل جماعة بابها الذي تدخل منه إلى منزلها المعدّ لها فى جهنم، كما يقول الله سبحانه: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (٤٤: الحجر) ودخول الأبواب- كما قلنا من قبل- هو دخول فى جهنم ذاتها، إذ كانت تلك الأبواب قطعة من جهنم، مطبقة على أهلها..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ»..
هو دعوة إلى النبي الكريم بالصبر على ما يلقى من عنت قومه، وتكذيبهم له، والتربص لدعوته، وللمؤمنين بها.. وفى الدعوة إلى الصبر، مع كل موقف، وفى أعقاب كل مواجهة بين النبي وقومه- فى هذا ما يشير إلى ما كان يلقى النبىّ من أذى وما يحتمل من ضرّ، وأنه ليس له إلا أن يصبر
1270
ويحتمل، حتى يحكم الله بينه وبين قومه.. «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وهو أن الله سينصره، ويعزّ المؤمنين الذين آمنوا به، ويمكّن لهم فى الأرض، وأنه- سبحانه- سيخزى الضالين المكذبين، ويوقع بهم البلاء فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة..
وقوله تعالى: «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» أي أن هؤلاء الضالين المكذبين، لن يفلتوا من قضاء الله فيهم، ومما يتوعدهم الله به من عذاب. سواء أرأيت هذا أيها النبي، فى الدنيا، أو متّ قبل أن ترى قضاء الله فيهم، فإنهم راجعون إلينا فى الآخرة، وما فاتك أن تراه من قضاء الله فيهم فى الدنيا، سترى أضعافه فيهم الآخرة..
الآيات: (٧٨- ٨٤) [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٨ الى ٨٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
1271
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ».
كانت الآية السابقة دعوة للنبى الكريم، من ربه سبحانه وتعالى، أن يصبر على أذى المشركين له، وأن ينتظر وعد الله وحكمه.. فإن وعد الله لآت لا شك فيه، ولكنّ لهذا الوعد أجلا موقوتا عند الله، لا يجىء إلا فى وقته الموقوت له..
وفى هذه الآية ردّ على تحديات المشركين بإنزال العذاب الذين أوعدوا به.. فقد كانوا يقولون، فيما حكاه القرآن الكريم عنهم: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال).
كما أن فى هذه الآية دفعا لما يساور بعض نفوس المؤمنين من قلق، حتى إنهم ليقولون تحت وطأة البلاء الواقع عليهم من المشركين: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ففى هذه الآية، يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، بأنه سبحانه، قد أرسل رسلا كثيرين من قبله، منهم من قص عليه أخبارهم، ومنهم من لم
1272
يقصصهم عليه.. وأن هؤلاء الرسل جميعا لم يأت أحد منهم بآية من تلك الآيات المعجزة أو المهلكة التي أخذت أقوامهم إلا بإذن الله، فهو سبحانه الذي أمدهم بهذه الآيات.. وأن هذه الآيات لم تأت من عند الله بطلب من الرسل، أو استجابة لتحدّى أقوامهم، وإنما هى بتقدير العزيز الحكيم..
وقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ».
أمر الله: هو وعده.. ومجيئه: هو وقوعه فى وقته الموقوت له.. أي إذا جاء الوقت الموقوت لقضاء الله، «قضى بالحق» أي حكم بالحق، بين الرسول وقومه المكذبين به.. وفى هذا القضاء بالحق تقع الواقعة بالمبطلين، وينزل بهم بلاء الله، على حين ينجّى الله الرسول والذين آمنوا معه..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة تهددت المشركين بوقوع ما توعدهم الله به، إن عاجلا، أو آجلا، إذا هم ظلوا على ما هم عليه من ضلال وعناد.. فجاءت هذه الآية، تفتح طريقا لهؤلاء المشركين إلى الهدى، إن كان بهم متجه إليه، بعد أن سمعوا هذا التهديد..
ففى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ» تذكير لهم بنعم الله فيهم، وإحسانه إليهم، وأنه سبحانه- لا أصنامهم- هو الذي سخر لهم هذه الأنعام، ليركبوا منها، ما يركبون، ويأكلوا منها ما يأكلون..
«ومن» هنا تبعيض، أي لتركبوا بعض هذه الأنعام، وتأكلوا بعضها..
1273
ويجوز أن تكون «من» للتعدية، أي ليكون من هذه الأنعام ركوبكم، ويكون منها أكلكم.. بمعنى أن هذه الأنعام مادة صالحة للركوب، كما هى مادة صالحة للأكل.. كالإبل مثلا..
وقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» إشارة إلى فوائد أخرى لهذه الأنعام غير الركوب، وغير الأكل، فيما ينتفع به من أصوافها وأوبارها، وجلودها، وفيما يحقق به الإنسان من اقتنائها، وتربيتها وتثميرها من آمال وغايات ورغائب فى صدره، فيقتنى من ثمنها ما يشاء من أثاث ومتاع.. وفى تعدية الفعل «تبلغوا» بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنها المطية إلى تحقيق هذه المطالب..
وقوله تعالى: «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» إشارة أخرى إلى ما ينتفع به من هذه الأنعام، وهى حمل الأثقال، كما يقول سبحانه: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.» وقد قرنت بها الفلك، التي هى نعمة أخرى فى حمل الأثقال والناس إلى أماكن بعيدة فوق ظهر الماء، الذي لا سبيل إلى اجتيازه بالإبل، أو الخيل، ونحوها من دواب الركوب.. فهذه للبر، وتلك للبحر.. وهكذا تتم النعمة! قوله تعالى:
َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ»
أي ويريكم الله من هذه النعم آياته الدالة على قدرته، وفضله وإحسانه..
فأىّ آية من هذه الآيات ترون أنها ليست من عند الله، وأنها ليست ذات فضل عظيم عليكم. ؟
1274
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بعد هذا العرض الذي رأوا فيه آيات الله، وما أمدهم الله به من نعم.. فكما أن لله سبحانه وتعالى نعمه وفضله وإحسانه، كذلك له- سبحانه- نقمه، وسطوانه، بالمكذبين الجاحدين.. ولو أنه كان لهؤلاء المشركين عيون تبصر، وعقول تعقل، لرأوا ما أنزل الله سبحانه وتعالى من بلاء ونقم بالمكذبين الضالين قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم مالا وولدا، وأشد منهم قوة وبأسا، وأعظم منهم آثارا وعمرانا فى الأرض.. فلما أخذهم الله ببأسه لم يغن عنهم شىء مما كان فى أيديهم، من مال، ورجال، وما أقاموا من دور وقصور وحصون..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» الفاء فى «فلما» للسببية، ولمّا، بمعنى حين.. أي فإنه حين جاءتهم رسلهم بالبينات، استخفوا بهم وبما معهم، واغتروا بما فى أيديهم من أباطيل، وفرحوا بها، واطمأنوا إليها.. فأحاطت بهم خطيئتهم، ووقع بهم البلاء، جزاء لاستهزائهم بهذه الآيات البينات..
وفى قوله تعالى: «فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» إشارة إلى قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ»..
فهم قد فرحوا بهذا الباطل الذي بأيديهم، وعدوه كل حظهم من الحياة..
1275
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ» البأس: العذاب، والبلاء الواقع بالمكذبين.
أي وحين رأى هؤلاء المكذبون برسل الله نذر العذاب تطلع عليهم آمنوا بالله، وقالوا: آمنا بالله وحده، لا شريك، وكفرنا بتلك المعبودات التي كنا بسبب عبادتها مشركين بالله.. فالباء فى «به» للسببية.
قوله تعالى:
«فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ»..
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفى هذا الختام عرض لموقف الضالين جميعا، حين يرون بأس الله يحيط بهم.. إنهم إذ ذاك يقولون: آمنا بالله ولكن لا يقبل منهم هذا الإيمان، وقد حل بهم البلاء. فتلك هى سنة الله.. إنه لا ينفع إيمان فى غير وقته، وإنما لذى ينفع هو حين يكون الإنسان فى سعة من أمره، وفى قدرة على امتلاك الأمر فيما يختار من إيمان أو كفر..
أما هذا الإيمان الذي يقع تحت حكم الاضطرار والقهر، فهو إيمان باطل، لا إرادة للإنسان فيه.. ومن ثمّ فلا يحسب له، ولا يعدّ من كسبه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً».. (١٥٨: الأنعام)
1276
٤١- سورة فصلت
وتسمى: «السجدة» نزولها: مكية.. بلا خلاف.
عدد آياتها: أربع وخمسون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة وست وتسعون.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون.
مناسبتها لما قبلها
كان مما ختمت به سورة غافر، قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».. ثم جاءت الآيات بعد هذا لتذكّر بآيات الله الممثلة فى نعمه التي أنعم الله بها على عباده من الأنعام.. وتلتها آيات أخرى، تذكر بآيات الله فيما أخذ به الظالمين المكذبين من نقم، وقد كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من هؤلاء المشركين، فما أغنى عنهم ذلك من بأس الله من شىء، وأنهم حين رأوا بأس الله فزعوا إلى الإيمان، ولكن بعد فوات الأوان، فلم يكن ينفعهم إيمانهم هذا..
ثم جاءت سورة فصلت، لتصل هذا الحديث، الذي يذكّر بآيات الله، وينذر المكذبين الضالين بعذاب شديد، فتبدأ السورة بذكر القرآن الكريم وما يحمل من آيات بينات، فصّلت بلسان عربى مبين.. فإذا كان المشركون قد عموا عن أن ينظروا فى هذه النعم التي بين أيديهم، والتي تتمثل فى الأنعام، التي منها ركوبهم، ومنها يأكلون، ثم عموا كذلك عن أن يروا ديار القوم
1277
Icon