عدد آياتها : ١٦٥
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية. وهي تتضمن فيضا من المعاني والمواعظ والمشاهد والحقائق بما يرسخ في الواقع البشري عقيدة التوحيد وحقيقة الألوهية المطلقة الكبرى لله وحده. وذلك في الواقع كله مبدوء بالثناء الأكبر من الله على ذاته العظيمة، إذ خلق العالمين جميعا وخلق كل شيء في هذا الكون الواسع. سواء في ذلك الأحياء والجوامد والكائنات جميعا. وتتضمن السورة تنديدا بالمشركين الذين أعرضوا عن آيات الله وما فيها من حجج ودلائل. والذين لجوا في كفرهم لجوجا فسقطوا في الضلالة وفرط الجحدود حتى إنهم لو رأوا كتاب الله يتنزل عليهم من السماء في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقالوا مكابرين معاندين :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ وقالوا أشد من ذلك، إذ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل معه من السماء ملك يشهد له بصدق نبوته. وتتضمن السورة أيضا تحنانا من الله لرسوله الكريم بما يخفف عن نفسه وطأة الحزن والاغتمام كيلا يأسى عليهم كثيرا. فيعلمه ربه أنه قد استهزئ برسل آخرين من قبله فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يتخذونه من قبل هزوا. وفي السورة يأمر الله نبيه الكريم أن يسأل قومه المشركين الضالين عن أعظم الشاهدين له بصدق ما أنيط به من النبوة والرسالة، ليقرر بعد ذلك أن الله هو الشاهد له على أنه الحق وأنه مرسل من ربه، يأتيه الوحي من السماء وكفى بالله شهيدا. وفي السورة بيان عن حال المشركين يوم القيامة حين يجمعهم الله مقهورين أذلة في أرض المحشر ليلاقوا الويل وضروب العذاب. وهنالك يسألهم الله وملائكته عن الشركاء الذين اصطنعوهم في الدنيا ليعبدوهم مع الله فينكرون أنهم فعلوا ذلك، ينكرون أنهم كانوا مشركين ﴿ قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾.
وفي السورة إخبار عن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يدفع الأذى عن رسول الله ويرد عنه كيد المشركين المعتدين إذا ما أرادوا أن ينالوا منه نيلا. لكنه مع ذلك كان ينأى بنفسه عن الدخول في الإسلام. وهو مقتضى قوله تعالى :﴿ وهم ينهون عنه وينئون عنه ﴾.
وفي السورة تزهيد للإنسان في الحياة الدنيا، فما هي إلا لهو ولعب، إذ تنشغل بها القلوب والأذهان عن طاعة الله وعن التوجه إلى جنابه. ولا جرم أن الدنيا دار زوال وفناء وإنما البقاء والديمومة في دار القرار، وهي الآخرة. وتتضمن السورة كذلك تسلية لرسول الله، إذ أعرض عنه المشركون وكذبوا دعوته وأنكروا نبوته، فبين الله له أن هؤلاء لا يكذبونك أنت ولكنهم يكذبون الله الذي أوحى إليك. وذلك هو شأن النبيين من قبلك، إذ كذبتهم أممهم فصبروا على أذاهم وتكذيبهم. ويندد الله بسؤال المشركين للنبي أن يطرد من حوله من المؤمنين الضعفاء كصهيب وعمار وبلال وسلمان كيما يجلسوا هم إليه ويحادثوه. وأنى لرسول الله أن يطرد هؤلاء المؤمنين الكرام الذين بادروا بالتصديق والطاعة.
وتتضمن السورة كذلك ذكرا مستفيضا لحقيقة هائلة من الحقائق الكبريات في هذا الكون. وهي مفتاح الغيب كلها عند الله سبحانه. فهو العليم بالأشياء كافة لدى حدوثها ومن قبل أن تحدث. فما من غيب خفي مستور ولا حدث ولا خبر، هين أو جلل إلا هو في علم الله وإحاطته.
وفي السورة تحذير من القعود في مقاعد الذين يتناولون الإسلام بالسوء والطعن من الأشقياء والسفهاء والفاسقين. فإن علم المؤمن أنه لا يملك القدرة على التصدي لمثل هؤلاء الضالين الفجرة الذين يتطاولون على الإسلام بالشتائم والسخرية أو الاستخفاف والغمز فلا مساغ له بعد ذلك أن يقعد هذا المقعد. ولا مساغ له كذلك أن يجالسهم أو يحادثهم وهم يخوضون في آيات الله بالسخرية وبالبذيء من القول وهو ساكت واجم لا يريم ولا ينبس.
وفي السورة قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أبيه وقومه بعد أن ظن أن الكوكب ربه. وكذا الشمس. حتى إذا استبان له وجه الحق أبلج أيقن أن الله وحده بيده ملكوت كل شيء وهو الذي فطر السموات والأرض. فهو القاهر القادر الذي عنت له الوجوه، وخشعت له القلوب ولانت له الجوانح والجوارح.
إلى غير ذلك من المعاني الكبيرة والجليلة التي حوتها هذه السورة العظيمة.
بيان تفصلي للسورة
هذه السورة العظيمة مكية في جملتها. وهي أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين. وفيها من أصول العقيدة الثابتة ما تجلى من خلاله بنيان هذا الدين الكبير وما قام عليه من أصول وقيم وتصورات وقد أنزلت هذه السورة ليلا جملة واحدة ومن حولها الملائكة يجأرون بالتسبيح مشيعين. وفي هذا أخرج الحاكم في مستدركه عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ".
ﰡ
الحمد معناه الثناء. ومنه معنى التعجب والتعظيم للممدوح والخضوع من المادح. فهو أعم من الشكر الذي لا يكون إلا في مقابلة الصنيع١.
فقد بدأ الله هذه السورة بالحمد على نفسه الكريمة تقديسا لذاته وتعظيما لجلاله وترسيخا للحقيقة الكبرى وهي الألوهية ليرسو في الأذهان والقلوب أن التعظيم الأكبر إنما يكون لله وحده دون أحد من خلقه.
قوله :﴿ الذي خلق السموت والأرض ﴾ الله تعالى حقيق بالمدح الكامل ودوام الثناء لما امتن به على الكون من أنعم وخوارق وعجائب تدير الرأس وتثير الدهش وتبعث على البهر الغامر. ومن جملة ذلك كله خلق السموات والأرض، على هذه الكيفية الدقيقة الرتيبة المنتظمة. السموات العظام الطباق العلى وما فيهن من أجرام وأنجم وكواكب تمور في أفلاكها الدائرة مورا. وذلك في حركة دائبة مقدورة لا تهدأ إلا أن تحين ساعة الفناء. لا جرم أن ما بثه الله في السموات من خلائق وأشياء كاثرة مبثوثة في أرجاء هذا الكون المعمور ينطق بعظمة الخالق المبدع المقتدر.
الخالق البارئ المتفرد بالألوهية، المتعالي على الكائنات. وكذلك الأرض وما فيها من عجائب التركيب المنسجم، ما بين سهول منبسطة رداح، وجبال رواسي شامخات، وأبحر هادرة مائجة تثير الهول والوجوم، وأنهر جارية منسابة عذاب تشق بطون السهول والوهاد من الأرض. إلى غير ذلك من عجائب المناخ واختلاف المواسم بطقوسها وفصولها المتفاوتة المتكاملة التي تسير وفق نظام فلكي مقدر لا يند ولا يتخلف ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾.
قوله :﴿ وجعل الظلمت والنور ﴾ معطوف على ﴿ خلق السموت ﴾ وهو من جملة الإشعار بعلة الحمد. والظلمات مفعولة لقوله :﴿ وجعل ﴾ وهو يتعدى إلى مفعول واحد، بمعنى خلق٢. والجعل هنا بمعنى الخلق. وقد اختلفوا في معنى الظلمات والنور. فقد قيل : المراد بالظلمات سواد الليل. وبالنور ضياء النهار. وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : معناه : الكفر والإيمان. وقيل : الضلال والهدى. والصحيح أن اللفظ يعم ذلك كله. وقد أفرد النور لشرفه. فهو واحد لا يتعدد، لأنه الحق. وجمع الظلمات وهي كثيرة وذلك كقوله :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾.
قوله :﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ يعدلون، أي يشركون به غيره. من العدل وهو التسوية. عدل الشيء بالشيء إذا ساواه به. أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فقد جعلوا لله عدلا وشريكا وهو سبحانه الذي خلق الأشياء كلها وقيل : يعدلون، من العدل وهو العدول. أي الانصراف عن الإيمان بالله وحده. وقوله ﴿ ثم ﴾ في أول الآية، تفيد الاستبعاد. أي استبعاد عدولهم عن الإيمان بالله وعن طاعته وحده بعد وضوح الدلائل على كمال قدرته. أو استبعاد أن يعدلوا بالله غيره من المخاليق الذين اتخذوهم شركاء مع الله.
وقيل :﴿ ثم ﴾، هنا تفيد التوبيخ والتقبيح لهؤلاء الكافرين الضالين الذين يجعلون لله شريكا وهو الذي خلق كل شيء. فإنه بعد أن تبين لكل ذي لب وبصيرة أن الله خالق الأشياء جميعا، وأن نعمه على الكون لا تحصى عددا. فإنه مع ذلك كله يتخذ الظالمون المشركون عدلا يعبدونه من دون الله.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣١٣..
قوله :﴿ ثم قضى أجلا ﴾ أي ما بين أن يخلق إلى أن يموت. وقيل : معناه الموت.
وقوله :﴿ وأجل مسمى عنده ﴾ أجل، مبتدأ مرفوع. مسمى، صفته. وعنده، خبر المبتدأ. وهو ما بين موته إلى أن يبعث وهو البرزخ. وقيل المراد بذلك الآخرة. وقيل في تأويل الأجلين غير ذلك.
قوله :﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ من المرية والامتراء وهو الشك. أي أنكم تشكون وتجادلون في الله بالرغم مما ظهر لكم من الدلائل الساطعة البلجة على قدرة الله وكماله وأنه الموجد المبدع لكل الخلائق.
قوله :﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾ أي أن الله عليم بما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال والأفعال. فكل شيء عنده، ما من خبر أو حقيقة أو علم إلا هو مكشوف وظاهر بين يدي الله بل يستوي عند الله ما كان خافيا وما كان ظاهرا.
قوله :﴿ ويعلم ما تكسبون ﴾ الكسب، الفعل الذي يفضي إلى النفع أو الضرر. فالله عز وعلا عليم بما يصدر عن الإنسان من خير أو شر فيجازيه على ذلك٢.
٢ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٢٣ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٨٩..
قوله :﴿ وما تأتيهم من ءاية من ءايت ربهم إلا كانوا عنها معرضين ﴾ من، الأولى مزيدة للاستغراق. ومن الثانية، للتبعيض. والمعنى، أنه ما يظهر لهؤلاء المشركين المعاندين من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن الحكيم بروعته وإعجازه وعجيب رصفه وتركيبه إلا كانوا عن كل ذلك ﴿ معرضين ﴾ أي تاركين النظر فيه بل غير ملتفتين إليه.
قوله :﴿ فسوف يأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون ﴾ المراد بالأنباء العذاب الذي أعده الله لهؤلاء الضالين. وهذا تهديد من الله لهم ووعيد شديد في مقابلة تكذيبهم وإعراضهم عن الحق فلسوف يذوقون وبال هذا الإعراض وهذا النكول. وسيظهر لهم وبال استهزائهم بهذا الدين وهذا القرآن العظيم عندما يحيق بهم الخزي في الدنيا عقيب ظهور الإسلام وعلو شأنه، أو في الآخرة حيث العذاب الحارق الواصب.
قوله :﴿ مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ﴾ أي جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والقدرات ما لم نجعل مثله لكم. أو أعطيناهم وجعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعل لكم يا أهل مكة.
قوله :﴿ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ﴾ المراد بالسماء هنا المطر. وقيل : السحاب. والمدرار على وزن مفعال، للمبالغة ومعناه المغزار، كثير الصب.
قوله :﴿ وجعلنا الأنهر تجري من تحتهم ﴾ أي من تحت مساكنهم وأشجارهم. والمعنى أن هؤلاء الأقوام السابقين عاشوا في خصب وسعة ورخاء ؛ إذ كانوا في بيوتهم الآمنة المكينة وهم تحف بهم الأنهار والأشجار والثمار فعاشوا آمنين منعمين.
لكنهم لفسقهم وعتوهم وتكذيبهم لرسل الله أخذهم الله بالعذاب البئيس. فحقيق بكم أنتم يا أهل مكة، وأنتم الأقل منهم حظا والأضعف منهم في الكثرة والسعة في الأموال والأجساد، أن تتعضوا وترعووا لتثوبوا إلى الحق والامتثال لأمر الله.
قوله :﴿ فأهلكناهم بذنوبهم ﴾ الفاء للتعقيب. أي فكفروا فأهلكناهم. والباء للسببية. أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب عتوهم واستكبارهم وما قارفوه من الذنوب والخطايا في حق النبيين والمرسلين، إذ آذوهم وكذبوهم. فالذنوب سبب لزوال النعم وغير ذلك من وجوه الانتقام.
قوله :﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين ﴾ بعد أن أهلك الله أولئك الظالمين المكذبين أوجد بدلا منهم قوما آخرين. فالله تعالى لا يعجزه أن يهلك مثل هؤلاء المكذبين الجاحدين. وإنما يهلكهم إهلاكا ليأتي بآخرين بدلا منهم، فاحذروا أنتم يا مشركي مكة أن يحل عليكم من الهلاك ما حاق بالسابقين من قبلكم بسبب جحودهم وتكذيبهم٣.
٢ - المصباح المنير ج ٢ ص ١٥٨..
٣ - روح المعاني ج ٧ ص ٩٢-٩٥ وتفسير البيضاوي ص ١٦٩ والكشاف ج ٢ ص ٥..
جاء في سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة قالوا : يا محمد والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله١.
الكتاب مصدر بمعنى الكتابة. والقرطاس معناه الورق. وقيل : الكراسة. وقيل : الصحيفة. وهي معان متقاربة. والمراد أننا لو أنزلنا على هؤلاء المشركين كتابا من السماء في صحيفة ﴿ فلمسوه بأيديهم ﴾ أي عاينوه معاينة ومسوه مسا أو قلبوه وجسوه بأيديهم جسا لما آمنوا، بل جحدوا وأبوا إلا أن يكفروا وقالوا :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ إن نافية. يعني ما هذا الذي نشاهده إلا ظاهر السحر. وذلك لفرط عنادهم وجحودهم وقسوة قلوبهم وتبلد عقولهم.
وقيل في تأويل الآية : لو أنزلنا عليهم ملكا كما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا لجاءهم العذاب بالاستئصال عاجلا غير آجلا ولم ينظروا بتأخير العذاب عنهم.
قوله :﴿ وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾ لبسنا من اللبس وهو الخلط. التبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه واللبسة بضم اللام بمعنى الشبهة. ليست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا١ فيكون تأويل الآية : لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا، ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، إذ يقولون له : إنما أنت بشر ولست ملكا. قال الرازي في ذلك : والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشرا فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص. وقال الزمخشري في الكشاف : ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك فإن قال لهم : دليل أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز وهو ناطق بأني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال الشوكاني في تأويل الآية : أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا : هذا إنسان وليس بملك. فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه.
قوله :﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾ أي أوجبها على ذاته المقدسة بطريق التفضل والإحسان من غير وسائط. وقيل : وعد بها ( الرحمة ) فضلا منه وكرما : وقيل : قضى أنه بعباده رحيم لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وهذا من الله استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة. وقيل : تأويله فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي ".
قوله :﴿ ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ﴾ اللام لام القسم، والنون نون التوكيد. وجملة ﴿ ليجمعنكم ﴾ مستأنفة على جهة التبيين فيكون تمام الكلام عند قوله :﴿ الرحمة ﴾ فيكون المعنى : ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم ﴿ إلى يوم القيمة ﴾ وقيل : ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل :﴿ إلى ﴾ بمعنى ( في ) أي ليجعلنكم في يوم القيامة. وهذا اليوم الموعود والذي توعد الله فيه الظالمين والمعرضين والمستكبرين، واقع لا محالة وهو يوم لا شك فيه. قوله :﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ﴾ اسم الموصول ﴿ الذين ﴾ إعرابه ثلاثة وجوه : الأول : الرفع على أنه مبتدأ، وخبره ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ ودخلت الفاء في خبر الموصول. وهي تتضمن معنى الشرط والجزاء.
والثاني : النصب على البدل من الكاف والميم في قوله :﴿ ليجمعنكم ﴾.
والثالث : النصب على الذم١.
قل الزمخشري في الكشاف في المقصود بالآية : الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى، لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون. أي أن الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر لا يؤمنون. والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان، لأنه مقارن للعلم باختيارهم للكفر٢.
٢ - الكشاف ج ٢ ص ٨ وروح المعاني ج ٧ ص ١٠٦ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٩٥- ٣٩٦..
ذكر عن ابن عباس في سبب نزول ﴿ وله ما سكن في اليل والنهار ﴾ أن كفار مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعو إليه الحاجة، فنحن نجعل لك نصيبا من أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه. فنزلت الآية١ وقوله :﴿ سكن ﴾ أي ثبت. والسكون هنا بمعنى الحلول. فالتقدير أن الله له كل ما حصل في الليل والنهار. أي كل ما اشتمل عليه الزمان سواء كان متحركا أو ساكنا مستقرا. أي أخبرهم يا محمد أن كل شيء دخل في إطار الزمان من ليل أو نهار إنما هو مملوك لله. فالله سبحانه يملك الخير والمال والفضل وكل أسباب الغنى، بل إن الله يملك ما حواه الليل والنهار من أشياء.
قوله :﴿ وهو السميع العليم ﴾ السميع والعليم بصيغة المبالغة. فالله ذو إحاطة كاملة بكل شيء من حيث القدرة ومن حيث السمع والعلم. فهو يسمع كل ما يجري في الكون من دعاء لضارع هاجس أو لمستخلف كظيم نابس. فما من حركة ولا همسة ولا صوت خفي باطن أو صادح ظاهر إلا كان الله يسمعه. وما من قول أو فعل أو خبر أو مكان أو زمان إلا ويحيط به علم الله. فالله يحيط سمعه وعلمه بكل شيء.
وقوله :﴿ فاطر السموت والأرض ﴾ فاطر مجرور على أنه نعت لاسم الله. وفاطرهما، أي خالقهما ومبدعهما.
قوله :﴿ وهو يطعم ولا يطعم ﴾ الجملة في محل نصب على الحال. والمراد بالطعم هنا الرزق. أي أن الله يرزق ولا يرزق. والرزق يتناول كل ما ينتفع به. وقد خص الإطعام دون غيره من أصناف النعم من باب التعبير بالخاص عن العام، لأنه أعظمه ولأن حاجة الإنسان إليه أشد.
قوله :﴿ قل إني مرت أن أكون أول من أسلم ﴾ أي أمرني ربي أن أكون أول من استسلم لأمر الله وأسلم وجهه لجنابه الكريم. ولا غرو فإنه عليه الصلاة والسلام إمام العالمين بل هو معلم البشرية كافة وهاديها إلى الصراط السوي الحكيم. فهو المثال المحتذى، وهو النبراس المقتدى، حقيق أن يكون أول الممتثلين المذعنين لشرع الله ودينه القويم.
قوله :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ أي أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.
قوله :﴿ وذلك الفوز المبين ﴾ اسم الإشارة ذلك عائد على صرف الله العذاب عنه يوم القيامة ورحمته إياه. والفوز المبين. يعني النجاة الحقيقية الظاهرة١.
الله جل شأنه الغالب على أمره، القادر على كل شيء، إنه في عليائه وملكوته قد دانت له الرقاب واستسلمت له الجباه والنواصي وتضاءلت أمام جبروته همم الأعاظم من الرؤساء والملوك والجبابرة، وهبطت من خشيته العوالم والمخاليق إحساسا بالذل والهوان والصغار أمام عظمته البالغة المطلقة. فقال سبحانه :﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ القاهر، من القهر وهو الغلبة. والقاهر الغالب١. وفوق عباده، من الفوقية المعنوية لا المادية أي فوقية الاستعلاء وليس المكان. فالله تعالى هو الغالب المستعلي على العباد، المستذل لهم بكبريائه وعظمته. وما الخلائق بين يديه إلا مقهورة ذليلة تستشعر أقصى غايات البساطة والصغار.
قوله :﴿ وهو الحكيم الخبير ﴾ الله تعالى حكيم في تدبيره وفي تصرفه في الكون. فيفعل ما يشاء عن علم بالغ وقدرة قاهرة ظاهرة. فما يصدر عنه من فعل ولا حكم ولا تقدير إلا عن حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه والراسخون في العلم. وهو كذلك خبير بأقوال العباد وأفعالهم وأحوالهم. بل إنه خبير بكل ما يجري في الكون من الحوادث والأمور.
قوله :﴿ وأوحي إلي هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ ﴾ أوحي مبني للمجهول. القرآن نائب فاعل مرفوع. من اسم موصول في محل نصب معطوف على المنصوب في ﴿ لأنذركم ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين أن الله أوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به عقابه وكذلك أنذر به من بلغه من سائر الناس غيركم، فإن لم تهتدوا أنتم وهم بهديه وتتخذوه شرعة لكم ومنهاجا فلسوف يحل عليكم سخط الله ومقته ونقمته.
قوله :﴿ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى ﴾ الهمزة الأولى في قوله ﴿ أئنكم ﴾ للاستفهام. وهو استفهام تقريع وتوبيخ. أي قل لهؤلاء المشركين الذين يعدلون بالله ربا سواه من الآلهة المصطنعة والأنداد المختلقين : أئنكم أيها المشركون الجاحدون تشهدون أن مع الله معبودا غيره من الأوثان والأصنام. وقال :﴿ أخرى ﴾ ولم يقل أخر. لأن الألهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث.
قوله :﴿ قل لا أشهد ﴾ أي قل لهم : لا أشهد بما تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بل إني أجحد ذلك وأنكره.
قوله :﴿ قل إنما هو إله واحد ﴾ اتصلت ما بإن فكفتها عن العمل. هو في محل رفع مبتدأ. إله خبره. واحد، صفة للخبر. أي إنما هو معبود واحد لا شريك له. وليس من شيء في الكائنات إلا هو مستسلم لجلاله ووجل من سلطانه وجبروته. ومخبت لعزه وعظمته.
قوله :﴿ وإني برئ مما تشركون ﴾ أي أبرأ من كل شريك تعبدونه مع الله وتصطنعون له الإلهية المختلقة فإني أربأ بنفسي من مثل ما تختلقون من الأنداد فإني لا أعبد شيئا من ذلك. إنما أعبد الله الذي خلق كل شيء٢.
٢ - تفسير القرطبي ج ٣٩٨- ٤٠٠ وتفسير الطبري ج ٧ ص ١٠٣-١٠٥ والدر المصون ج ٤ ص ٥٦٩..
الاسم الموصول ﴿ الذين ءاتينهم ﴾ في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ يعرفونه ﴾ وكذلك الاسم الموصول ﴿ الذين خسروا ﴾ مبتدأ. وخبره ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ ١.
والمراد بالموصول هنا اليهود والنصارى. والمراد بالكتاب، التوراة والإنجيل. فكلا الفريقين من أهل الكتاب يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه. ويعرفونه تمام المعرفة مثلما يعرفون أبنائهم. فقد وجدوه مكتوبا عندهم في كتابهم وذلك من حيث اسمه ومولده وصفته ومهاجره. لكنهم بجحودهم وإنكارهم وتكذيبهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باءوا بالهلاك والخسران، إذ أوردوا أنفسهم موارد الخزي وسوء المصير حيث النار يصلونها وبئس القرار.
افترى، من الافتراء وهو الاختلاق. والفرية تعني الكذب١ وقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾ الآية. يعني من أشد خطيئة ممن اختلق من نفسه على الله باطلا، فزعم أن له شريكا مما خلق، أو اتخذ معه إلها يعبد من دونه أو ادعى أن له ولدا أو صاحبة ﴿ أو كذب بئاياته ﴾ أي أنكر حججه ودلائله التي عزز بها أنبياءه المرسلين فكذب بها اليهود والنصارى. لا جرم أن هؤلاء لا يفلحون ولا ينجون من سخط الله وغضبه، بل إنهم في العذاب هاوون مكبكبون.
وفي المحشر حيث الكرب والهوان والذل وحيث الضيق والقهر والذعر، تحت الشمس الحارقة اللاهبة الدانية في مثل هذا الموقف الرعيب المذهل يسأل الله الكافرين المكذبين برسالة الإسلام سؤال إفضاح وتوبيخ ﴿ أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ﴾ يعني أين الأنداد الذين كنتم تزعمون أنهم لكم آلهة من دون الله افتراء وكذبا والذين كنتم تهرفون أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى.
قوله :﴿ وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها ﴾ يبين الله أن هؤلاء الذين يعدلون الأوثان والأنداد بهم والذين ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لا تؤثر فيهم حجة ولا يحملهم برهان على توحيد الله والاستجابة لدعوة الإسلام. بل إنهم يهرعون مدبرين مستنكفين عن الحق فلا يؤمنون مهما يروا من الدلائل والبراهين.
قوله :﴿ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أسطير الأولين ﴾ يعني إذا جاءك هؤلاء المشركون الظالمون السفهاء ليحاجوك وناظروك فيما جئتهم به من الحق قالوا :﴿ إن هذا إلا أسطير الأولين ﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا مأخوذ من أساطير الأولين أي كتبهم وأحاديثهم. والأساطير جمع إسطارة وأسطورة مثل أضحوكة. وقيل : الأساطير بمعنى الخرافات والترهات.
وذلك هو ديدن المشركين المعاندين في كل زمان. فإنهم لا تؤزهم حجة ولا يستنفرهم برهان فينزعوا بذلك صوب الحق واليقين. ولكنهم يتثاقلون إلى الباطل والضلال فيأبوا إلا التمرد والعتو والاستكبار. ثم لا يألون بعد ذلك جهدا في محاربة الإسلام لصده وإيقافه كيلا يشيع أو ينتشر وذلك بمختلف الأساليب والوسائل من القهر والإذلال والتنكيل والتشريد والتشويه والتشكيك وافتراء الأباطيل.
وقيل فيما رواه أهل السير في سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عله وسلم كان قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي. فلما دخل في الصلاة استنهض اللعين أبو جهل من يقوم فيفسد عليه صلاته. فنهض ابن الزبعري فأخذ فرثا١ ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم. فانفتل النبي من صلاته ثم أتى أبا طالب عمه. فقال أبو طالب : من فعل هذا بك ؟ فقال النبي صلى الله عله وسلم : " عبد الله بن الزبعري " فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه وقال للقوم : والله لئن قام رجل لجللته بسيفي. فقعدوا حتى دنا منهم فقال : يا بني، من الفاعل بك هذا ؟ فقال : " عبد الله بن الزبعري " فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول. فنزلت هذه الآية. فقال النبي صلى الله عله وسلم : " يا عم نزلت فيك آية " قال : وما هي ؟ قال : " تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي " فأنشد أبو طالب قائلا :
والله لن يصلو إليك بجمعهم | حتى أُوسَّد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وأبشر وقر منك عيونا |
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي | فلقد صدقت وكنت قبل أمينا |
لولا الملامة أو حذار مسبة | لوجدتني سمحا بذاك يقينا |
أما عبد الله بن الزبعري فقد أسلم عام الفتح وحسن إسلامه واعتذر إلى رسول الله صلى الله عله وسلم فقبل عذره. وكان شاعرا بليغا فقال يمدح في شعره النبي صلى الله عله وسلم :
يا خير من حملت على أوصالها٢ | عيرانة٣ سرح اليدين غشوم |
إني لمعتذر إليك من الذي | أسديت إذ أنا في الضلال أهيم |
فاليوم آمن بالنبي محمد | قلبي ومخطئ هذه محروم |
مضت العداوة فانقضت أسبابها | وأتت أواصر بيننا وحلوم٤ |
فاغفر فدى لك والدي كلاهما | زللي فإنك راحم مرحوم |
ولقد شهدت بأن دينك صادق | حقا وأنك في العباد جسيم |
والله يشهد أن أحمد مصطفى | مستقبل في الصالحين كريم |
قرم علا بنيانه من هاشم | فرع تمكن في الذرى وأروم |
٢ - الأوصال: المفاصل، أو مجتمع العظام. والمفرد وصل، بالكسر والضم. انظر القاموس المحيط ص ١٣٨٠..
٣ - العيرانة السرح اليدين: الناقعة السريعة. انظر القاموس المحيط ص ٢٨٦..
٤ - الحلوم: العقول. ومفرده الحلم بالكسر وهو العقل والأناة. انظر القاموس المحيط ص ١٤١٦..
٥ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١١٠- ١١١ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٠٥- ٤٠٨ والدر المصون ج ٤ ص ٥٨١..
لو أداة امتناع لامتناع. وقيل : بمعنى ( إن ) الشرطية. وإذ بمعنى إذا فإن العرب قد تضع إذ مكان إذا. وتضع إذا مكان إذ. أما جواب لو فهو محذوف. والتقدير : لرأيت شيئا عظيما وهولا مفظعا. وحذف الجواب أبلغ في التخويف، لأن السامع بذلك تذهب نفسه كل مذهب. فلو صرح له بالجواب لكان قد وطن نفسه عليه فلم يخش كثيرا منه١.
وقوله :﴿ وقفوا ﴾ مبني للمجهول، يعني حبسوا. وقوله :﴿ على النار ﴾ أي فوقها. قيل : على تعني الباء. أي وقفوا بقرب النار وهم يعاينونها. وشبيه بذلك أنهم جمعوا على أبوابها. وهو ما نختاره. فإن الكافرين يوقفون يوم القيامة قريبا من النار تجمعهم الملائكة جمعا كاثرا متراكما مجردين من كل كرامة أو اعتبار وهم واجمون شاخصون وجلون أمام جهنم يعاينون شواظها واستعارها معاينة، وقد غشيهم الرعب المريع وأحاطت بهم كل ظواهر اليأس والشقوة وانقطاع الرجاء. لا جرم أن ذلك مشهد مرعب لا يطيقه كائن من الكائنات بل لا تطيقه الجبال الشم الشواهق. أعاذنا الله منه عوذا.
قوله :﴿ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بئايات ربنا ﴾ نكذب منصوب بأن بعد واو المعية. كقوله : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل : منصوب بإضمار أن على جواب التمني. وقيل غير ذلك كلام طويل. لكن الأول أصوب٢.
والمراد أن هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بشركهم وكفرهم يتمنون يوم القيامة أن لو يردهم الله إلى الدنيا ثانية حتى يتوبوا أو يبادروا الطاعة لله، وأن لا نكذب بما أنزل الله من الدلائل والآيات قوله :﴿ ونكون من المؤمنين ﴾ أي نكون من المصدقين بالله وآياته ورسالاته والمتبعين لدينه وشرعه.
٢ - الدر المصون ج ٤ ص ٥٨٨..
والمعنى أن الكافرين الظالمين لم يقصدوا بتمنيهم الرجوع إلى دنيا الندامة على تفريطهم في حق الله لكنهمم قالوا ذلك لهول ما هو نازل بهم من العذاب المطبق جزاء معاصيهم وخطيئاتهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم فأظهرها الله على الملأ كافة يوم القيامة فافتضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد. نسأل الله السلامة والنجاة والستر.
وقيل : بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنسفهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة.
واختلفوا في تعيين المراد بذلك. فقد قيل : المراد المنافقون. وقيل : المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف في أنفسهم لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر الله ذلك يوم القيامة.
قوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون ﴾ أي لو ردوا إلى الدنيا فأمهلوا لصاروا ورجعوا إلى ما كانوا يعملونه من إشراك بالله وجحود لآياته وفعل السيئات والمنكرات. لسوف يعودون لمثل ذلك كله حتى وإن عاينوا العذاب معاينة. فقد عاين إبليس ما عاين من آيات ورأى من الدلائل الظاهرة ما رأى لكنه طغى واستكبر وفسق عن أمر ربه. والله تعالى يعلم أنهم كاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المصدقين.
هذا إخبار من الله تعالى عن مقالة هؤلاء المشركين الضالين إذ قالوا :﴿ إن هي إلا حياتنا وما نحن بمبعوثين ﴾ نحن اسم ما. بمبعوثين خبرها. لقد أنكر هؤلاء الظالمون البعث بعد الموت وكذبوا أن الله يحيى الخلائق بعد مماتها وأعلنوا في اجتراء فاجر كنود أنه لا حياة بعد الموت ولا نشور بعد الفناء. بمثل هذه المقالة الظالمة الفاجرة يهذي المشركون والملحدون والكفرة في كل زمان. أولئك الذين تعطلت فيهم العقول وفسدت فيهم الفطرة فسادا أركسهم إلى الحضيض من العماية والانفتال والتمسيخ.
قوله :﴿ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾ الواو للحال. أي قالوا : يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم. والحمل هنا مجاز عما يقاسونه من العذاب. وقيل : هو حقيقة. والأوزار جمع وزر. وهو الأصل بمعنى الثقل. ومنه وزرته أي حملته شيئا ثقيلا. وكذا الوزير، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تصريف شؤون الناس. والمعنى أنهم لزمتهم الآثام والمعاصي بأحمالها الثقال فيبعثون بها محملة على ظهورهم ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ أي ما أسوأ وأقبح الشيء الذي يحملونه٣.
٢ - الدر المصون ج ٤ ص ٥٩٦..
٣ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤١١- ٤١٣ والدر المصون ج ٤ ص ٥٩٨..
الحياة مبتدأ. ولعب خبره واللعب : ما يشغل النفس عما تنتفع به. وقيل : ما يشغل الإنسان عما يغنيه ويهمه. واللهو : صرف النفس من الجد إلى الهزل١.
وذلك رد وتقبيح لما يتصور الكافرون في قولهم :﴿ إن هي إلا حيتنا الدنيا ﴾ فالله يبين لهم أن هذه الحياة الزائلة السريعة بكل ما حوته من لذائذ ونعم ومباهج وزخارف ليست إلا لعبا تنشغل به النفوس فتذهل عن وجائبها الكبرى. أو هي لهو يهيم خلاله الساهون اللاهون فترة من زمان لتؤول بعد ذلك إلى زوال محتوم يأتي عقيبه فجائع جسام وأهوال مريعة عظام تنتظر الآثمين الذين استعاضوا عن الآخرة بلعاعة الدنيا الفانية.
قوله :﴿ وللدار الأخرة خير للذين يتقون ﴾ اللام الأولى لام الابتداء واللام الثانية للتعريف. والدار مبتدأ وخبره ﴿ خير ﴾ ٢ يبين الله سبحانه أن الدار الآخرة بنعيمها المستديم الباقي وبكل ما حوته من ضروب الخير والنعمة والجمال مما يظل على الدوام سرمدا فلا يفنى ولا يزول. ولا يأتي عليه مرور الأدهار والسنين. لا جرم أن ذلك خير من الدنيا القاصرة العاجلة التي تمر مر السحاب وتغرر ببريقها المخادع تغرير السراب. إذ ذلك خير للذين يتقون الله، إذ يخشونه حق الخشية ويخافون جلاله وسلطانه خوفا يحفزهم لعمل الطاعات ويحول بينهم وبين السيئات والخطيئات.
وقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ يعني أفلا يعقل هؤلاء المكذبون بيوم القيامة، السادرون في الغي واللهو، المدبرون عن طاعة الله – حقيقة ما نبينه لهم من أن الحياة الدنيا قصيرة وفانية وأنها مجرد لهو تنشغل به الأذهان والقلوب عن طاعة الله وعن فعل الخيرات والطاعات. وها هم يرون بأعينهم ويدركون بإحساسهم أن الناس جميعا ميتون فرادى وجماعات. وأنه ما من موجود حي إلا ويأتي عليه داهم الموت المحقق أفلا يدّكرون أو يتدبرون مثل هذه الحقيقة ؟ !
٢ - الدر المصون ج ٤ ص ٦٠٠..
﴿ قد ﴾ هنا حرف تحقيق. وهو لتأكيد الشيء وتصديقه. ونعلم، بمعنى علمنا.
وكسرت إن لدخول اللام. وفي هذا الآية تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وذلك في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه وصدهم عن دينه فأصابه بذلك من الحزن ما أصابه.
كقوله سبحانه :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرت ﴾.
وجاء في سبب نزول الآية عن أبي زيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ فقال : والله إني أعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد المناف تبعا ؟ فنزلت الآية ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظلمين بئايت الله يجحدون ﴾.
وذكر أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا. فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجارة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فنزلت الآية١.
والمراد هنا أن المشركين ما كانوا يكذبونك أنت يا محمد. بل إنك عندهم لصادق. ولكنهم يكذبون ما جئتهم به من تنزيل ويجحدون الوحي النازل إليك من السماء. فما ينبغي لك أن تحزن عليهم أو تأس وتغتم لأجلهم فقد كذب كثير من المرسلين من قبلك فاحتملوا الأذى والضر وصبروا على البلاء والإساءة. وهو مقتضى قوله تعالى :﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتهم نصرنا ﴾.
قوله :﴿ ولا مبدل لكلمت الله ﴾ المراد بكلمات الله وعده لنبيه بالنصر على المشركين الظالمين. فالله يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مؤيدا له ومثبتا أنه لن يقدر أحد أن يدفع ما كتبه الله لك من النصر الموعود. فالله جلت قدرته لا يخلف وعده وليس من أحد ينقض قضاءه. وكفى بالله أن يقول في مثل هذا الموقف ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ وكذلك قوله :﴿ وإن جندنا لهم الغلبون ﴾.
قوله :﴿ ولقد جاءك من نبإى المرسلين ﴾ أي جاءك من أنباء من سبقك من المرسلين وأنباء أممهم وما صنع الله بهم حين جحدوا وتمادوا في الغي والضلال فحاق بهم البلاء والتدمير، ونجى الله رسله الكرام وأيدهم بنصره المبين، فاقتد أنت بهم في صبرهم على الأذى من قومهم يكن الله معك ويجعل العاقبة لك، وللمتقين الصابرين.
قوله :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ أي لو شاء الله أن يجمعهم على ما أنتم عليه من محجة الإسلام فتكونوا جميعا على ملة واحدة لفعل ذلك. وذلك بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم. لكن الله لم يشأ ذلك لسوء ما اختاره هؤلاء لأنفسهم حسبما علمه الله منهم في أزل الآزال. أو لسابق علمه بأن هؤلاء كائنون من الكافرين اختيارا وليس إجبارا ويرومون ما هو خلافها.
وقيل : لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيب هؤلاء المشركين الظالمين. وما ينبغي لك أن تجزع من إعراضهم عن دين الله، فإن شدة الأسى والجزع وفرط الإحساس بالضيق، من صفات الجاهلين. ولا جرم أن يكون مثل هذا الأسلوب من التحذير والتنذير ما يحمل للذهن. بالقطع الجازم أن هذا القرآن من عند الله. وهذه واحدة من ظواهر شتى فريدة تزجي للعاملين بالدليل الكامل على أن القرآن معجز. فإنه ما من عاقل أو كائن أوتي مسكة من عقل يصدق أن عظيما فذا مميزا كمحمد ينذر نفسه بنفسه أو يكله نفسه ثقل التحذير والتنذير.
قوله :﴿ والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ﴾ المراد بالموتى الذين لا يسمعون نداء ولا يعقلون دعاء ولا يفقهون قولا إلا كما تفقه الأنعام من أصوات الرعاة. إن هؤلاء المشركين الظالمين الذين ختم الله على قلوبهم وطبع على أبصارهم ليسوا على استعداد ولا تهيئة لاستقبال الإسلام بمعانيه الرائعة وقيمه الكريمة الفضلى وتشريعه الشامل المتكامل. هذا الصنف من البشر قد تعطلت فيه أجهزة الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فما عاد ليستمرئ بعد ذلك غير الهوى وكل صور الباطل والانحراف عن سبيل الله المستقيم. وعلى هذا فالموتى هم الكفرة، لأنهم بمنزلتهم في أنهم لا يقبلون حجة ولا يستمعون إلى صواب ولا يستسيغون غير الباطل والاعوجاج.
فهؤلاء لا يسمعون ولا يصدقون إلا بعد أن يبعثهم الله من قبورهم إلى الجزاء والحساب، وحينئذ يسمعون ويعون ويصدقون. أما قبل ذلك فلا سبيل لإسماعهم وإقناعهم لما يغشى قلوبهم من الأكنة وما يثقل آذانهم من الوقر١.
قوله :﴿ وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه ﴾ يحكي الله جل جلاله مقالة المشركين السفهاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا : لولا، أي هلا نزل، أي أنزل على محمد آية من ربه أي علامة تكون له حجة كأن ينزل عليه ملك يشهد له بالنبوة، أو يلقى إليه كنز يغنيه من الفقر أو تكون له جنة يأكل منها. وذلك بالرغم من كثرة ما رأوه من الدلائل الساطعة على صدق نبوة هذا الرسول الكريم. وعلى رأس ذلك كله هذا القرآن الحكيم المعجز الذي ما زال قائما للناس أبد الدهر عاجزين أن يأتوا بسورة من مثله. ثم أمر الله نبيه أن يقول لأصحاب هذه المقالة من المشركين المعاندين :﴿ إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي أن الله قادر على إنزال آية أو حجة كما يريدون فهو سبحانه لا يعجزه شيء من ذلك ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي أن أكثر هؤلاء الضالين الفاسقين الذين يسألون مثل هذه الآية أو العلامة لا يعلمون ما سوف يحيق بهم من البلاء والاستئصال لو أنهم أنزل عليهم ما سألوه ثم لم يؤمنوا.
قوله :﴿ ما فرطنا في الكتب من شيء ﴾ التفريط : التقصير والتضييع والإغفال٢ والمراد بالكتاب فيه وجهان : أحدهما : أنه اللوح المحفوظ. فقد أثبت الله فيه علم الأولين والآخرين وكتب فيه كل ما يقع من حوادث منذ الأزل البعيد حتى الأبد الأبيد.
ثانيهما : أنه القرآن. وهو الراجح والأولى. لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق. والمعهود من الكتاب عند المسلمين هو القرآن. فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن٣ فقد بين الله في هذا الكتاب الحكيم كل ما يحتاج إليه العباد من أمر الدين والدنيا مما ينفعهم ويكفل لهم الحياة الكريمة والعيش الآمن.
على أن ما حواه القرآن من بيان لمشكلات العباد ومصالحهم جاء إما مفصلا، وإما مجملا فما كان مفصلا جاء مبينا مستفيضا ومشروحا. وما كان مجملا فهو المثابة لأمهات القضايا في العقيدة والتشريع والكون وحياة الإنسان مما يتضح عن طريق السنة والإجماع أو القياس أو النظر. وقوله :﴿ من شيء ﴾ من، زائدة. كقوله : ما جاء من أحد. أي ما جاء أحد. وقيل : من للتبعيض. فالمعنى : ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف. قوله :﴿ ثم إلى ربهم يحشرون ﴾ في المراد بالحشر هنا قولان : أحدهما : أن الحشر هنا مراد به الموت. فالله تعالى يحشر الدواب والطير بموتها.
وثانيهما : أن المراد بالحشر الجمع لبعث الساعة. وقيام القيامة. إذ يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة سواء فيهم البهائم والدواب والطير وكل شيء ثم يقضي الله بينهم جميعا بالعدل حتى يبلغ عدل الله في ذلك يومئذ مبلغه. فيأخذ للجماء، وهي عديمة القرن، من القرناء، وهي ذات القرن. ثم يقول لها جميعا : كوني ترابا. ومن أجل ذلك يقول الكافر، إذ يرى ذلك :﴿ يا ليتني كنت ترابا ﴾ وفي ذلك أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء٤ من الشاة القرناء " ويدل ذلك على أن البهائم تحشر يوم القيامة. وهذا القول أصح، لقوله تعالى :﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾.
٢ - مختار الصحاح ص ١٩٨..
٣ - تفسير الرازي ج ١٢ ص ٢٢٦..
٤ - الجلحاء: التي لا قرن لها. والجمع جلح، بوزن سكر. انظر القاموس المحيط ج ١ ص ٢٢٦..
قوله :﴿ من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ أي من يرد الله سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه فيضل. فيسوقه للضلال حينئذ اختياره الناشئ عن استعداده. ومن يرد الله أن يخلق فيه الهدى إلى الحق يخلقه فيه فيساق إليه تبعا لاختياره الناشئ عن استعداده.
وقالت المعتزلة : في تأويل قوله :﴿ من يشإ الله يضلله ﴾ الآية : أي يخذله ولم يلطف به. وضلاله عدم اللطف به، لأنه ليس من أهل اللطف. أما من يرد الله أن يجعله على صراط مستقيم، فالمراد به أن يلطف به، لأنه من أهل اللطف ولأن اللطف يجدي به. والصواب الأول وهو قول أهل السنة. فهو الظاهر المستبين من الآية. ويعززه غير ذلك من الآيات كقوله عز وعلا :﴿ ويضل الله الظلمين ﴾ وقوله ﴿ وما يضل به إلا الفسقين ﴾ وقوله :﴿ يهدي به الله من اتبع رضونه ﴾ وقوله :﴿ يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت ﴾ ١.
والمعنى : قل لهؤلاء الكافرين يا محمد : أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا أو عند قيام الساعة، هل ترجعون إلى غير الله في رفع ذلك البلاء، وذلك على سبيل التوبيخ والتقريع.
قال القرطبي في هذا الصدد : أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا، فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية ! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.
قوله :﴿ فيكشف ما تدعون إليه ﴾ أي يشكف الله عنكم ما نزل بكم من الكروب والمحن إذا استغثتم به وتضرعتم إليه إن شاء، لأنه هو القادر على فعل كل شيء وليس ما تدعون من دونه من الأنداد والأصنام.
قوله :﴿ وتنسون ما تشركون ﴾ أي تنسون حين يأتيكم العذاب أو تأتيكم الساعة بأهوالها وفظائعها ما كنتم تعدلون بالله من الآلهة المصطنعة والأنداد الموهومة التي لا تضر ولا تنفع بل إنكم حينئذ تعرضون عنها إعراض الناسي. أو إعراض المستخف المستخسر١.
في الآية الأولى تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. والمعنى أن الله أرسل رسله إلى أمم من قبلك يا محمد فكذبوا وأعرضوا فأخذهم الله ﴿ بالبأساء ﴾ أي شدة الفقر والقحط والجوع ﴿ والضراء ﴾ أي الأقسام والأمراض. وقيل : البأساء، البؤس والمصائب تأتي على الأموال. والضراء، المصائب والمحن تصيب الأبدان. وذلك على سبيل التعذيب والانتقام في هذه الدنيا. فإن الله ينتقم من المجرمين الظالمين الناكبين عن منهج الله بضروب من المحن في هذه الدنيا قبل الممات وذلك في مقابلة عتوهم وإعراضهم عن دين الله.
قوله :﴿ لعلهم يتضرعون ﴾ من الضراعة والتضرع وهو الابتهال والتذلل أي فعلنا بهم ذلك لكي ينزجروا عن التوجه للأنداد فيخلصوا العبادة لله ويتذللوا إليه بالطاعة والاستكانة والابتهال.
قوله :﴿ وزين لهم الشيطن ما كانوا يعملون ﴾ التزيين من الشيطان معناه إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر. أو جعله محبوبا مشتهى لنفس الإنسان وطبعه. وقيل : أغواهم الشيطان بالمعاصي وحملهم على فعلها وسبيل ذلك الوسوسة والإيحاء.
قوله :﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذنهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ أي فرحوا بطرا، وظنوا أن ما أتوه من الخير والعطاء الجزيل لا يغني ولا يبيد وأنه كان باستحقاقهم. عندئذ على غرة ومن غير أمارة أو قرينة مقدمة. ولا يخفى أن الإهلاك وإنزال النقمة على حين غفلة أو غرة من الظالمين لهو أشد نكاية وإيلاما. فضلا عن كون ذلك جائيا بعد رخاء وسعة من العيش الراغد.
قوله :﴿ فإذا هم مبلسون ﴾ من البلس، بالتحريك : من لا خير فيه. والإبلاس وهو الإنكار والحزن واليأس. وأبلس بمعنى يئس وتحير ومنه إبليس. والملبس، الذي انقطع رجاؤه. والمبلسون، الآيسون من كل خير١.
قوله :﴿ والحمد لله رب العلمين ﴾ ذلك ثناء من الله على نفسه الكريمة لإفناء هؤلاء الأشرار المفسدين الأشرار المفسدين الذين آذوا النبيين والمرسلين والمصلحين ودوخوا العباد بمكرهم وكيدهم وعاثوا في البلاد فسادا وتخريبا. فكان في القضاء عليهم واستئصالهم نعمة من الله على الناس، إذ تخلصوا من شؤم عقائد الظالمين وفساد طبائعهم الحافلة بالخبث. فالله بذلك حقيق بالحمد والثناء، بل حقيق أن يحمده الناس ويبالغوا في الثناء عليه باستئصاله للشر والأشرار١.
قوله :﴿ قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم ﴾ أفرد السمع، لأنه مصدر يدل على الجمع. والأبصار جمع ومفرده بصر. والمعنى، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الضالين : أرأيتم أيها المشركون إن أصمكم الله فذهب سمعكم، وكذلك ذهب بأبصاركم فأصبحتم عميانا، وختم على قلوبكم أي طبع عليها حتى لا تعوا قولا ولا تفهموا حجة، فمن غير الله بعد ذلك يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام. والمراد أن الذين تعبدونهم من دون الله من الأنداد والشركاء لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا، وإنما الله وحده يستحق العبادة عليكم، فهو القابض الباسط القادر على كل شيء.
قوله :﴿ انظر كيف نصرف الأيت ثم هم يصدفون ﴾ يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينظر كيف يصرف لهؤلاء المشركين الآيات، أي كيف يضرب لهم الأمثال والعبر المتتابعة، وهي ما بين تنبيه وتذكير وتنذير وترغيب وترهيب. وغير ذلك من الأدلة والحجج ليؤمنوا ويتعظوا فيثوبوا إلى ربهم. لكنهم مع ذلك كله ﴿ يصدفون ﴾ أي يعرضون. صدف عنه يصدف، أي أعرض عنه. وصدف صدوفا وصدفا، انصرف ومال١.
قوله :﴿ فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والفاء الثانية مقترنة بجواب الشرط. والمعنى أن من آمن بما يجب الإيمان به وعمل صالحا في هذه الدنيا وأتى من المعروف والصالحات ما يوافق الشريعة ﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي لا يخافون مما يستقبله الناس من العذاب الذي أعده الله للظالمين والفاسقين والعصاة. وهم أيضا لا يحزنون لما فاتهم وما تركوه وخلفوه وراء ظهرهم في الدنيا.
الخزائن جمع خزينة أو خزانة. وهي في الأصل ما يحفظ فيه من الأشياء النفائس. والمراد بالخزائن هنا رزق الله ومقدوراته. وذلك جواب لاقتراحات المشركين أن يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه إنزال الآيات أو أن يقلب الجبال ذهبا أو أن يوسع عليهم منافع الدنيا وخيراتها ويفتح عليهم أبواب سعادتها. فخاطب الله نبيه أن يجيبهم ﴿ قل لا أقول لكم عندي خزئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ﴾ أي لا أدعي أن خزائن الله مفوضة إلي فأتصرف فيها كيفما أشاء حتى تقترحوا علي فعل الخوارق من الأعمال فمثل ذلك ليس من شأني بل هو بيد الله القادر القاهر. وكذلك قال لهم :﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ وذلك أن القوم كانوا يظنون أن الذي يكون رسولا سيكون مطلعا على الغيب ومكتشفا لخوافي الأمور مما هو خفي مستور. فكانوا يقولون له : إن كنت رسولا من عند الله فأخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ودفع تلك المضار. فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم الغيب بل إن الغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تسألوني ما ليس من شأني وما لا أملك.
وكذلك أمره ربه أن يقول لهم :﴿ ولا أقول لكم إني ملك ﴾، لأنه لا ينبغي للملك أن يظهر بصورته لأنظار البشر في هذه الدنيا. وقد كانوا يتوهمون أن النبي ما ينبغي له أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ويفعل ما يفعله البشر، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بملك ولكنه بشر بطبعه وصورته وأصله.
قوله :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ يعني ما أتبع فيما أقوله لكم وأدعوكم إليه إلا ما أوحى إلي من ربي. فأنا لما جاءني من الله وحيا فأمضي لوحيه وأئتمر بأمره وأنزجر عن نواهيه. وتعرض في هذا الصدد مسألة وهي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم. فقد اختلف العلماء في جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام وثمة مذاهب ثلاثة في هذه المسألة.
المذهب الأول : جواز الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو قول الجمهور. إذ ذهبوا إلى جواز الاجتهاد منه عليه السلام فيما فيه نص، واحتجوا لذلك بعدة أدلة منها :
أولا : عموم قوله تعالى :﴿ فاعتبروا يأولي الأبصار ﴾ والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى الناس بصيرة وأعلمهم بالقياس. فهو بذلك حقيق أن يكون في جملة المأمورين هنا بالاعتبار.
ثانيا : الاجتهاد أكثر ثوابا لما فيه المشقة وبذل الجهد. وفي الحديث " أفضل العبادات أحمزها " ١ أي أشقها. وقال. وقال عليه السلام : " ثوابك على قدر نصبك " ٢ أي تعبك. والأكثر ثوابا أولى وأفضل. وعلو درجته صلى الله عليه وسلم توجب أن لا يسقط عنه ذلك، تحصيلا لمزيد الثواب. وكيلا يختص غيره بفضيلة ليست له.
ثالثا : العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة وكمال البصيرة من العمل بالنص. وذلك لتوقف الاجتهاد على النظر الدقيق والقريحة المستجاشة. فلا يتركه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه فضيلة.
المذهب الثاني : عدم جواز الاجتهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول الأشاعرة، وهم التابعون لأبي الحسن الأشعري، إذ منعوه شرعا وكذلك منعه أكثر المعتزلة عقلا. واحتجوا لذلك بعدة أدلة منها قوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى ﴾ وكذلك هذه الآية التي نحن بصددها وهي ﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ وهذا ظاهر في العموم وأن كل ما ينطق به فهو وحي وهو ينفي الاجتهاد، لأنه قوله بالرأي. وأجيب عن ذلك بأن الظاهر من قوله :﴿ وما ينطق ﴾ أنه رد لما كانوا يقولونه في القرآن من أنه مفترى، فيختص بما بلغه وينتفي العموم.
ومنها : أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما أخر جوابا عما سئل عنه. وقد أخر كثيرا كما في الظهار واللعان. وفي هذا الاستدلال نظر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الجواب في الظهار واللعان. بل أجاب في اللعان بقوله : " البينة أو الحد في ظهرك " وهو من رواية ابن ماجه عن ابن عباس. وكذلك قوله في الظهار " ما أرى إلا أنها قد بانت منك " ثم نسخ الحكمان بنزول آيتيهما.
المذهب الثالث : الوقف عن القطع بشيء من ذلك. هو أبي بكر الباقلاني والغزالي. وقال الشوكاني في رد ذلك : لا وجه للوقف في هذه المسألة لما قدمناه من الأدلة الدالة على الوقوع.
ويدل على علة وقوع الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ فقد عاتبه ربه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه. وكذلك معاتبه صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله :﴿ ما كان لبني أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ إلى غير ذلك مما يدل على جواز الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم٣.
قوله :﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ﴾ الأعمى يراد به المشرك الظالم لنفسه، والذي فسق عن دين الله وكذب رسله وجحد وشريعته.
وعمي عما الله من الأدلة والبراهين التي تكتشف عن وجه الحق. ويراد بالبصير، المؤمن الذي وعى البينات والحجج وصدق رسل الله الكرام جميعا وأيقن أن القرآن حق. فهل يستوي هذان الاثنان ؟ لا جرم أنهما لا يستويان. كعدم استواء الحق والباطل، أو كل متضادين متناقضين.
قوله :﴿ أفلا تتفكرون ﴾ الاستفهام هنا للتقرير والتوبيخ. والمعنى : أفلا تمنعون التفكير والنظر فيما بيناه لكم من الدلائل والمعجزات التي تكشف عن حقيقة هذا الدين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءكم به من ربه ؟ أفلا تفرقون بين الحق القائم على التوحيد والذي جاء به الإسلام هداية للناس. والباطل القائم على الشرك والضلال والهوى ؟
٢ - رواه مسلم عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إنما أجرك على قدر نصبك"..
٣ - الإبهاج في شرح المنهاج ج ٣ ص ٢٤٧ وفواتح الرحموت ج ٢ ص ٣٦٦ والمبسوط للسرخسي ج ٢ ص ٦٣ وحاشية التفتازاني ج ٢ ص ٢٩١ ونهاية السول ج ٤ ص ٥٣١ وإرشاد الفحول ص ٢٥٦..
قوله :﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي يتقون الله في أنفسهم فيبادروا بطاعة ربهم والعمل لمعادهم فيجتنبوا معاصيه ويحذروا نواهيه.
وروى ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب بن الأرث وصهيب وبلال وعمار، قالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء ؟ أتريد أن نكون تبعا لهؤلاء ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ ٢ وجملة القول أن هذه الآية في سبب جماعة من ضعفة المسلمين، قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك.
قوله :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدة والعشي يريدون وجهه ﴾ المراد بالدعاء هنا، الذكر أي أنهم يذكرون الله طرفي النهار.
وقيل : المراد صلاة الصبح وصلاة العصر، إذ يؤدونهما بالغداة والعشي.
وقيل : المراد به، الصلوات المكتوبة الخمس. لأن ذكره للغداة والعشي ينبه على أنهم مواظبون على الصلوات الخمس.
أما الغداة، فهي أول النهار. أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس٣ والعشي، ما بين زوال الشمس وغروبها، وصلاتا العشي هما الظهر والعصر٤.
قوله :﴿ يريدون وجهه ﴾ في موضع نصب على الحال من ضمير ﴿ يدعون ﴾ والمراد بوجه الله، ذاته الكريمة. ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها. أي أن هؤلاء المؤمنين المتقين يدعون ربهم مخلصين له سبحانه. فهم يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله ويتوجهون بذلك كله إليه وحده دون أحد غيره.
قوله :﴿ ما عليك من حسبهم من شيء وما حسبك عليهم من شيء ﴾ من، الأولى للتبعيض. ومن، الثانية زائدة للتوكيد. وشيء في موضع رفع، لأنه اسم ﴿ ما ﴾ ٥ وهذا الكلام معترض بين النهي عن الطرد وجوابه. والمعنى، أنه ليس عليك من حسابهم، أي جزائهم ورزقهم من شيء إنما جزاؤهم ورزقهم على الله. وكذلك ليس عليهم من حسابك، أي من جزائك ورزقك من شيء. إنما جزاؤك ورزقك على الله وليس على أحد غيره. وإذا كان الأمر كذلك فجالس هؤلاء المتقين الفقراء وحادثهم ولا تطردهم مراعاة للظالمين المعتسفين.
قوله :﴿ فتطردهم فتكون من الظلمين ﴾ فتطردهم منصوب بالفاء في جواب النفي. فتكون. منصوب بالفاء في جواب النهي. والتقدير : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فتكون من الظالمين وما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم٦.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٤٦..
٣ - القاموس المحيط ج ٤ ص ٣٧١..
٤ - مختار الصحاح ص ٤٣٥..
٥ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٢١،.
٦ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٢٢..
قوله :﴿ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ اللام لام التعليل. والاستفهام للإنكار. والمقصود بهؤلاء : الضعفاء والفقراء. أي أن المشركين المستكبرين وهم الأغنياء والساسة يقولون في جحود وإنكار وسخرية : أهؤلاء الذين أكرمهم الله بالهداية وإصابة الحق وهم فقراء ضعفاء أذلة من بيننا ونحن أغنياء أقوياء. وقد قالوا هذه المقالة على سبيل الاستهزاء بالمؤمنين الضعفاء ومعاداة الإسلام.
قوله :﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ الاستفهام للتقرير بعلمه. وهذا جواب من الله ورد منه لمقالة المشركين المستنكرين الساخرين من المؤمنين لفقرهم وضعفهم. فبين سبحانه أنه عليم بالصالحين من العباد، إذ يمن عليهم بالإيمان والهداية دون الرؤساء والعظماء الذين لا يستحقون فضلا ولا تكريما.
ذلك هو القسطاس المستقيم الذي لا يميل ولا يحابي، والذي يزن به الإسلام مقادير الناس واعتباراتهم. وإنما الاعتبار الحقيقي الأكبر للعقيدة السليمة المستقيمة والتزام شرع الله قولا وعملا، بغض النظر عن بقية الاعتبارات الأخرى وهي كثيرة ومختلفة. كاعتبار المال والحسب واللون والأصل. لا جرم أن هذه اعتبارات في مقابل العقيدة، تمضي من غير وزن ولا حساب في تصور الإسلام. إنما التقدير والتكريم لأولي الإيمان الصالح، والعمل الصالح، من عباد الله الأتقياء الأبرار.
وهذه حقيقة لا يزيغ عنها إلا معاند مستكبر يؤثر الدنيا بغرورها وزخرفها الفارغ المنفوش على الآخرة بخيرها وفضلها ونعيمها الباقي.
قوله :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ أي أوجبها على ذاته الكريمة تفضلا وإحسانا وامتنانا.
قوله :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾ الجملة بدل من الرحمة. بجهالة في موضع نصب حال. وتقديره : من عمل ذنبا وهو جاهل٢ والجهالة تعني الخطيئة من غير قصد. وقيل : كل من عمل خطيئة فهو جاهل.
قوله :﴿ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ﴾ أي تاب بعد ما عمل خطيئة بجهالة وأصلح في توبته بإتيان شروطها من العزم على عدم العود أبدا، والمبادرة بفعل الطاعات والحسنات ﴿ فأنه غفور رحيم ﴾ خبر مبتدأ محذوف. والتقدير : فأمره أنه غفور رحيم. وقيل : مبتدأ، وخبره مضمر. وتقديره : فله أنه غفور رحيم٣.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٢٢..
٣ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٢٢..
قوله :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ تستبين : تتبين وتظهر. وسبيل، يذكر ويؤنث. فهو عند تميم مذكر. وعند أهل الحجاز مؤنث. والراجح في قراءة ﴿ سبيل ﴾ الرفع على أنها فاعل. أي وكذلك نفصل الآيات لتتضح لك يا محمد وللمؤمنين طريق المجرمين. أي أن الله فصل آياته في كتابه الحكيم ليتبين بها الحق من الباطل١.
هذا أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المشركين أهل الظلم والباطل الذين يدعونه إلى موافقتهم على دينهم فيعبد معهم أوثانهم – أن يقول لهم قطعا لأطماعهم الفاسدة وأهوائهم الضالة : إن الله نهاني أن أعبد الذين تعبدونهم من دونه. فلن أتبعكم على ما دعوتموني إليه، لأن ما دعوتموني إليه لهو محض باطل، وهوى سقيم. ولئن فعلت شيئا من ذلك فقد تنكبت عن الحق وسلكت سبيل الضالين الناكبين عن دين الله القويم، أمثالكم.
وقوله :﴿ وكذبتم به ﴾ الضمير في ﴿ به ﴾ يعود على ربي. والمراد أنني آمنت بربي وامتثلت لأمره وتوجهت إليه وحده دون أحد سواه، وأنتم كذبتم به وأشركتم به من الأنداد والأرباب المصطنعة ما لم ينزل به من الله سلطان.
قوله :﴿ ما عندي ما تستعجلون ﴾ نزلت في النضر بن الحارث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. فنزلت هذه الآية١ والذي يستعجلون به هو العذاب. فإنهم لشدة جحودهم وتكذيبهم كانوا – على سبيل التهكم والاستهزاء – يستعجلون نزول العذاب والنقم بهم. وذلك كقولهم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ فأمر الله نبيه الكريم أن يقول لهؤلاء العتاة أهل الباطل : ما تستعجلونه من العذاب والنقم ليس بيدي ولا أنا بقادر على ذلك وإنما أنا رسول الله، وما علي إلا البلاغ لما أرسلت به. والله جلت قدرته يقضي بالحق ويفصل به بيني وبينكم فيتبين المحق من المبطل. وهو سبحانه لا يقع في حكمه جور ولا حيف فهو أعدل العادلين ؟
لذلك قال :﴿ إن الحكم إلا لله يقص الحق ﴾ أي ما الحكم في تأخير العذاب أو تعجيله إلا لله وحده وليس لأحد من خلقه فهو سبحانه ﴿ يقص الحق ﴾ أي يقضي القضاء الحق. وهو سبحانه ﴿ خير الفاصلين ﴾ أي خير من ميز بين الحق وأهله، والباطل وأهله٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١٣٥- ١٣٦ وروح المعاني ج ٧ ص ١٦٩- ١٧٠..
المفاتح جمع مفتح بكسر الميم. وهو المفتاح. والمراد بالمفاتح : المفاتيح. والمفتاح عبارة عن كل ما يحل غلقا سواء كان محسوسا كالقفل، أو معقولا كالنظر. والمفاتح في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب، أي أنه جعل للغيب مفاتح على سبيل الاستعارة، لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن الموثوقة الإغلاق. والعالم بتلك المفاتيح يمكنه التوصل بها إلى ما في الخزائن. وكذلك الله سبحانه هنا لما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات عبر عن ذلك بقوله :﴿ مفاتح ﴾ ١ والمراد بالغيب ما غاب علمه عن الناس مما هو خفي ومستور ولا يعلمه إلا الله. وهو سبحانه العالم بالمغيبات من مجاهيل الأمور والحقائق والمخلوقات. وهو المكتشف المطلع على الأسرار والخفايا مما يستكن في بواطن الغيب والأشياء. الله تعالى عليم بذلك كله، لا يند عن علمه وإحاطته وقدرته شيء صغيرا أو كبيرا، ظاهرا أو مستورا. سواء كان في السماء أو الأرض. أو في أي مكان من بقاع هذا الكون الهائل. إن الله علام الغيوب لا يفوته ولا يعجزه خبر أو معلوم في أرجاء العالمين وفي ضمائر الأزمان جميعا.
إن هذه الحقائق الضخمة عن علم الله المطلق لهو مما يقتضيه قوله سبحانه :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾.
قوله :﴿ ويعلم ما في البر والبحر ﴾ أي يعلم ما فيهما من الموجودات على كثرتها واختلاف أجناسها وأنواعها. فهو يعلم ما في البر الواسع من النبات والحب والنوى. وما يستكن في جوف الأرض من أصناف وألوان ومركبات ومذخورات. وكذلك يعلم ما في البر الهادر الزاخر من الدواب والأحياء والأرزاق.
قوله :﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين ﴾ ذلك مما يرد في تفصيل الحقيقة الكبرى، وهي علم الله بكل ماهو مخبوء في بطن الغيب. ومن جملة ذلك أنه ما من ورقة تسقط في الصحارى أو البراري، ولا في الأمصار أو القرى أو الجبال أو السهول والبوادي إلا يعلمها الله. إذ يعلم أين سقطت ومتى كان سقوطها وكيف كان ذلك. وأوراق الأشجار والنبات كاثرة وزاخرة لا يعلم عدها غير باريها. ولا يدري أحد كيف تسقط الأوراق فرادى ومجتمعة. فإما أن يأتي عليها والموات في الخريف الواجم فتبرح أغصان النبات ساقطة على الأرض لتصبح بعد ذلك في جملة الهشيم الذي تذروه الرياح. أو أنها تصفق باشتداد وحماسة إذا ضربتها الرياح السافية بتيارها العاصف المنداح لتخر على الأرض ساقطة مفارقة. ومثل هاتيك الأخبار عن أشياء العالمين لا يدري بها إلا الله.
وكذلك ما يكون من حبة مطمورة مغمورة في باطن من بطون الأرض بكل أغوارها وطباقها ومجاهيلها الموغلة في الغيب – سواء في ذلك كله الرطب واليابس، إلا هو مسطور في ﴿ كتب مبين ﴾ وهو علم الله. أو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه علم الأولين والآخرين، سواء فيه الأعمار والأرزاق والأشياء وكل ما حواه الوجود من أخبار فإنه مسطور في الكتاب المبين٢.
ومما هو حقيق بالتنبيه أن الإنسان يهيم في عالم حافل بالمغيبات، لا يدري منها شيئا. ومن جملة ذلك ما ينتظره من حوادث ووقائع وأشياء مما لا يعلم به قبل وقوعه. حتى إنه لا يعلم ما هو حائق به في مستقبله القريب الداني. وكذلك لا يعلم الإنسان عن مصيره المحتوم وهو داهية الموت. فمتى يحين هذا يحين هذا الأجل القاهر فتنتهي السالفة ليفضي المرء بعد ذلك إلى التراب. لا يعلم الإنسان عن الأوان الذي تحين فيه ساعة الفراق ولا الكيفية التي ينتهي فيها الأجل المنتظر وكذلك لا يدري الإنسان شيئا عن خبر الساعة. وهذه هي الداهية الكبرى. بل إنها الطامة التي تهون دونها كل الفوارق والدواهي. وهي مما استأثر به في علم الغيب عنده مما لا يعلمه الإنسان. إلى غير ذلك من صور الغيب المجهول الذي لا يعمله إلا من عنده مفاتح الغيب.
٢ - روح المعاني ج ٧ ص ١٧١- ١٧٢..
يتوفاكم بالليل، أي ينيمكم فيه. فقد استعار التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال التمييز والإحساس من الحواس. وأصل التوفي قبض الشيء أو استيفاؤه. توفيت الشيء واستوفيته بمعنى واحد، أي قبضته أو استوفيته. وتوفي الميت أي استوفي أيام عمره في هذه الدنيا.
قوله :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ جرحتم، أي كسبتم، من الاجتراح وهو عمل الإنسان بيده أو رجله أو فمه وهذه جوارح الإنسان أي أعضاؤه التي يكتسب بها. ويقال لمن يكتسب عملا بواحد من جوارحه إنه جارح أو مجترح أي مكتسب١ والمعنى أن الله يعلم ما كسبتم من الأعمال في النهار سواء فيها الذنوب وغيرها من الأعمال. وفي ذلك من التهديد ما لا يخفى.
قوله :﴿ ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل المسمى ﴾ أي يوقظكم في النهار ليتم لكل فرد أجله المسمى وهو بقاؤه في هذه الدنيا. والمقصود أن إمهال الله للكافرين ليس لغفلة منه عن كفرهم ولكنه قضى أن يكون لكل إنسان أجله المسمى من الرزق والحياة حتى إذا تم ذلك رجع إلى الله ليلقى عنده الجزاء. ولذلك قال :﴿ ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ ٢.
٢ - تفسير القرطبي ج ٧ ص ٥ وروح المعني ج ٧ ص ١٧٣..
قوله :﴿ ويرسل عليكم حفظة ﴾ جمع حافظ. والحفظة كاتبون كرام من الملائكة يرسلهم الله ليكتبوا ما يصدر عن الخلق من الطاعات والمعاصي والمباحات جميعها. وقيل : لا يكتبون المباحات.
قوله :﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ﴾ يعني إذا انتهت مدة أحدكم وجاءته أسباب الموت أرسل الله ملائكة آخرين ليباشروا قبض الروح. وقيل : المباشر هو ملك الموت وله أعوان وأشياع من الملائكة مفوضون بقبض الأرواح.
قوله :﴿ وهم لا يفرطون ﴾ أي لا يضيعون ولا يقصرون بل يطيعون الله فيما أمرهم به.
قوله :﴿ ألا له الحكم ﴾ أي له القضاء والفصل وحده يوم القيامة.
قوله :﴿ وهو أسرع الحاسبين ﴾ أي يحاسب الخلائق جميعا في أسرع زمان١.
قوله :﴿ تدعونه تضرعا وخفية ﴾ في محل نصب حال. أي من الذي ينجيكم حال كونكم داعين له جهرا وسرا، أو إعلانا وإسرارا.
قوله :﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشكرين ﴾ في محل نصب على المفعولية لقول مقدر، أي قائلين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه ﴾ أي الشدائد والبلايا التي نزلت بنا، يقولون ذلك عند الخوف واشتداد الكرب الذي حل بهم حتى إذا حاطت بهم أسباب الهلاك والموت وأحاط بهم اليأس من كل مكان دعوا الله أن ينجيهم من هذه الأهوال المحدقة آخذين على أنفسهم العهد لئن نجاهم الله مما حاق بهم ليكونن من الشاكرين. أي الراسخين على الشكر المستديمين عليه لما من الله علينا من كشف ما وقع بنا من بلاء.
قوله :﴿ ثم أنتم تشركون ﴾ ذلك تقريع لهم وتوبيخ. وذلك لفساد نفوسهم وطبائعهم القائمة على الجحود وكفران النعمة. فبعد أن نجاهم الله من الغم وأزال عنهم ما حل بهم من البلاء والخوف فعاهدوا على الشكران بعد إنجائهم – بعد ذلك كله عادوا منكسين لسجيتهم الفاسدة. السجية التي أشربت حب الخضوع لغير الله والخنوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع. وذلك كله مقتضى قوله :﴿ ثم أنتم تشركون ﴾ ١.
قوله :﴿ أو يلبسكم شيعا ﴾ جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شيع. مثل سدرة وسدر١ ويلبسكم، من اللبس وهو الخلط. لبست عليه الأمر إذا خلطته فأنا ألبسه. ويلبسكم أي يخلط أمركم فيجعلكم أهواء مختلفة وأحزابا مفترقة.
قوله :﴿ ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ البأس معناه العذاب، والشدة في الحرب٢ ويذيق، من الذوق. وأصل ذلك من ذوق الطعام، ثم استعمل في كل ما وصل إلى الإنسان من لذة وحلاوة ومرارة ومكروه وألم. والمراد أن تعمكم الفتنة فيقتل بعضكم بعضا.
ولقد حل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أنواع الفتن ما يثير الحزن والمضاضة. وهذه حقيقة أليمة نذكرها في غاية الإحساس بالمرارة والأسى.
لقد دهمت المسلمين من القلاقل والفتن التي كثيرا ما عصفت بكلمتهم ووحدة صفهم بعد أن انقلبوا شيعا مختلفي الأهواء وبعد أن استحوذ عليهم الشيطان وطغى عليهم حظ النفس من الدنيا في كثير من الأحيان فدارت بينهم معارك وحروب طاحنة أزهقت فيها أنفس كثيرة. وذلك عقيب لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من فداحة الاختلاف في الأهواء أو الحرص المتكالب على حظ النفس من الدنيا، بما يفضي في النهاية إلى اختلاف القلوب وتنافرها ثم الاقتتال والاحتكام إلى السيف فقال عليه السلام : " لا تنقلبوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف " فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ قال : " نعم ".
وذلك الذي حل بالمسلمين وا أسفاه ! إذ انصاعوا لنداء الشيطان يحرض شيعهم وفرقهم على الحرب والاقتتال. مع أن جدير بالمسلمين أن يكونوا أكثر أمم العالمين طرا تماسكا وائتلافا وانسجاما ما دامت عقيدتهم الراسخة العظيمة قائمة على التوحيد. وهي تدعو بالضرورة إلى الوحدة والتئام الصفوف. لقد كان جديرا بالمسلمين أن يظلوا طوال الدهر أحرص الناس على الإخاء والوحدة وتمام التلاقي في إطار العقيدة والدين وأن لا يفتلهم عن ذلك أي سبب من أسباب الغواية أو الهوى أو حب الدنيا والحرص على الشهوات.
قوله :﴿ انظر كيف نصرف الأيات لعلهم يفقهون ﴾ أي نبين لهم الدلائل والحجج، أو من أنواع الكلام ما بين وعد ووعظ ووعيد لكي يعتبروا فيذكروا أو يزدجروا عما هم عليه من الشرك و التكذيب٣.
٢ - مختار الصحاح ص ٣٨..
٣ - روح المعاني ج ٧ ص ١٨٠- ١٨١ وتفسير الطبري ج ٧ ص ١٤٤- ١٤٦..
قوله :﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ أي لست عليكم بحفيظ ولا رقيب حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن تصديق الحق وقبوله.
قوله :﴿ وسوف تعلمون ﴾ وهذا وعيد من الله يخوف به المشركين المعاندين الذين يعدلون بربهم الأصنام والأنداد. أي سوف تعلمون أيها المشركون المكذبون صحة ما أخبركم به من الوعيد وحلول العذاب بكم، إذ تعاينون ذلك بأنفسكم وقد وقع لما قتلوا بأيدي المؤمنين١.
والمعنى أن الله يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وكل أحد من المسلمين، إذا رأى المشركين الضالين يخوضون في آيات القرآن أو في تعاليم الإسلام بالتضليل والافتراء والباطل والطعن فعليه أن يعرض عنهم. وذلك بالقيام من مجلسهم والتخلي عن القعود معهم البتة حتى يأخذوا في حديث آخر غير الاستهزاء بكتاب الله الحكيم أو دينه القويم. وأيما عود مع هؤلاء الضالين المستهزئين بالإسلام لا جرم أن يكون مخالفا لأمر الله وفيه من الذنب ما يجعل القاعدين شركاء في الخطيئة.
وهذه حال المشركين الظالمين في كل زمان، فإنهم لفرط كراهيتهم وتغيظهم يلجأون في وقاحة فاجرة لئيمة للطعن في شيء من تعاليم الإسلام لما يجدونه في ذلك من إشفاء لغليلهم الأسود المقبوح. فلا يجترئ على الطعن في شيء من تعاليم الإسلام أو معنى من معانيه أو آية من آيات الكتاب الحكيم إلا كافر لئيم أو مرتد أثيم. فلا مساغ بذلك لمسلم أن يجالس أمثال هؤلاء العصاة الفاسقين بل يعرض عنهم إعراضا يجدون فيه التحقير لهم والازدراء.
قوله :﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ إما، إن شرطية، وما مزيدة. والمخاطب في الآية الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته. والمعنى إذا أنساك الشيطان أيها المسلم فقعدت مع المشركين المستهزئين فقم إذا ذكرت٢.
٢ - روح المعاني ج ٧ ص ١٨٤ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ٢٦- ٢٧..
وقوله :﴿ وما على الذين يتقون من حسبهم من شيء ﴾ أي ليس على هؤلاء الذين ﴿ يتقون ﴾ أي يجتنبون الشرك والكبائر والفواحش ﴿ من حسبهم من شيء ﴾ أي ليس عليهم إثم من آثام أولئك الخائضين الظالمين. من، زائدة للاستغراق.
وقوله :﴿ ولكن ذكرى ﴾ لكن استدراك من النفي السابق. أي ولكن عليهم أن يذكروهم ﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي يتقون الله فينتهون عما هم فيه من الخوض والطعن في آيات الله. وقيل : نسخ هذا الحكم بقوله تعالى :﴿ إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية١ والأظهر أن الآية غير منسوخة والمعنى أنه ليس عليكم إثم من إثمهم بل عليكم تذكيرهم وزجرهم فإن أبوا فما حسابهم إلا على الله. وقوله :﴿ ذكرى ﴾ في محل نصب على المصدر. وقيل : في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف. أي ولكن عليهم ذكرى٢.
٢ - تفسير الرازي ج ١٣ ص ٢٨ وتفسير الطبري ج ٧ ص ١٤٩ وتفسير القرطبي ج ٧ ص ١٤- ١٥..
قوله :﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ الضمير في ﴿ به ﴾ يعود للقرآن. أي ذكر بهذا القرآن هؤلاء المعرضين عن دين الله ﴿ أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ تبسل بمعنى تسلم للهلكة. أبسله : أسلمه للهلكة فهو مبسل ﴿ أن تبسل ﴾ يعني لئلا تبسل. أو كراهة أن تبسل. فيكون المعنى. وذكر بالقرآن هؤلاء الخائضين في آيات الله بالطعن والتهكم، وكذلك غيرهم من الأشرار الذين سلكوا سبيلهم في الخوض والطعن كيلا تسلم أو تحبس نفس كل واحد من هؤلاء المشركين للعذاب بما كسبت من الكفر ومعاداة الإسلام.
قوله :﴿ ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾ عندما تفضي هذه النفس المجرمة إلى مصيرها في النار، ليس لها حينئذ من أحد فينجيها سوى الله، ولا شفيع يشفع لها فيفقذها مما حل بها من العذاب.
قوله :﴿ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ﴾ العدل، الفداء. أي لو جيء بملء الأرض فداء لهذه النفس الهالكة تنجية لها من عذاب الله لا ينفعها ذلك ولا يقبل منها.
قوله :﴿ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ﴾ اسم الإشارة عائد إلى الخائضين الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا. وهم الذين أبسلوا، أي هلكوا وأفضوا إلى ما قدموه في الدنيا من خوض واستسخار فكان مصيرهم النار.
قوله :﴿ لهم شراب من حميم وعذاب أليم ﴾ الحميم : الماء الحار. استحم أي اغتسل بالحميم. هذا هو الأصل ثم صار كل اغتسال استحماما بأي ماء كان١ وذلك استئناف يفسر كيفية الإبسال. وهو أن هؤلاء المجرمين الخائضين سوف يبوءون بالعذاب الشديد. ومن جملته أن يسقوا ماء حارا تتقطع به أمعاؤهم ولا يطفئ لهم غلة. ويضاف إلى ذلك أصناف أخرى من العذاب غير المذكورة. وعدم ذكرها يزيد من شدة الخوف والترغيب. وذلك في قوله :﴿ وعذاب أليم ﴾.
قوله :﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ أي بسبب كفرهم وعنادهم في الدنيا، إذ كانوا معادين لدين الله وصادين الناس عنه وخائضين فيه خوض المجرمين المعاندين الحاقدين٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١٥٠- ١٥٢ وروح المعاني ج ٧ ص ١٨٤- ١٨٧..
قيل : نزلت في المشركين، إذ قالوا للمسلمين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله هذه الآية ﴿ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ﴾ يعني أنعبد من دون الله آلهة مصطنعة اختلقتموها أنتم من أوثان وأنداد موهومة لا تضر ولا تنفع ؟ أتدعوننا أن نترك عبادة الله الأحد الصمد خالقكم وخالق كل شيء لننتكس مرتدين سفهاء عن دين الله الحق إلى شرككم وباطلكم وهوان أحلامكم ؟ !
قوله :﴿ ونرد على أعقبنا بعد إذ هدانا الله ﴾ الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر القدم١ والمراد بذلك الرجوع إلى الضلال والشرك والجاهلية. والتعبير بالأعقاب فيه تقبيح وإنكار للارتداد عن ملة الإسلام إلى ملل الكفر. وذلك بعد أن من الله على المؤمنين فهداهم إلى توحيد الإسلام وما يؤول إلى النجاة والفوز برضى الله ونعيمه في الآخرة.
قوله :﴿ كالذي استهوته الشيطين في الأرض حيران ﴾ الكاف في الاسم الموصول في محل نصب نعت لمصدر محذوف. أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته الشياطين. وقيل : في موضع الحال، واستهوته بمعنى هوت به إلى أسفل. وهو من الفعل هوى أي سقط ونزل من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة السحيقة من قعر الأرض. وهذا تشبيه لحال هذا المنتكس الضال بحال الساقط من العلا إلى حيث الهبوط والتردي مع السافلين.
وقيل : استهوته من الهوى والجنوح. أي أغوته وسولت له الكفر والباطل. وحيران، منصوب على الحال. وهو من الحيرة بمعنى التردد في الأمر٢ وهذه حال المنتكس الساقط الذي استزلته الشياطين فهوى من العلو حيث الهدى والإيمان، إلى السفل حيث الضياع واليأس والاضطراب. فمن كان حاله هكذا لا جرم أنه يهيم في التردد والحيرة والجزع.
قوله :﴿ له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ﴾ قيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر، وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره أن يعرض عن الجهالة إلى الهداية وعن ظلام الباطل إلى ضياء الحق.
والمقصود أن ذلك فيمن أطاع الشيطان وعمل في حياته بالمعصية وضل عن طريق الله وله أصحاب يدعونه إلى الحق وإلى المحجة المستقيمة البيضاء، محجة الإسلام. لكنه أبى وأعرض مستكبرا.
قوله :﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ هذا إعلان من الله للبشرية على أن هدى الله الذي هو دين الإسلام لهو الهدى وحده دون غيره من السبل والطرائق. فما من ملة ولا شرعة ولا منهاج غير دين الإسلام لا جرم أنه مخالف للمحجة السليمة المستقيمة ومغاير للحق الذي بينه الله للناس تفصيلا. ومن أجل ذلك أمرنا الله باتباعه دون غيره من الملل المحرفة القائمة على الإفراط والشطط. فقال سبحانه :﴿ وأمرنا لنسلم لرب العالمين ﴾ أي أمرنا الله أن ننقاد له مخبتين مطيعين وأن نستسلم لأمره بالامتثال والعمل.
٢ - القاموس المحيط ج ٢ ص ١٦..
وكذلك أمر الله عباده أن يتقوه وهو أن يخافوه أشد الخوف. فالله جل وعلا حقيق بكمال الخوف من جلاله وجبروته وذلك بتمام طاعته وامتثال أمره ومجانبة عصيانه ومناهيه. وهو سبحانه الذي تصير إليه البشرية في اليوم الموعود لتجد هنالك الحساب والجزاء. ولذلك قال :﴿ وهو الذي إليه تحشرون ﴾ ١.
قوله :﴿ ويوم يقول كن فيكون ﴾ أي واذكر يوم يقول كن فيكون. والمراد بذلك كل ما يحييه الله من الخلائق يوم القيامة بعد موته في الدنيا أو يعيده بعد فنائه.
قوله :﴿ قوله الحق ﴾ قوله : مبتدأ. والحق صفته. وخبر المبتدأ مقدم وهو ﴿ ويوم يقول كن فيكون ﴾ والتقدير : ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق. وقيل : قوله خبر، والحق صفته، والمبتدأ تأويله خلق السموات والأرض بالحق وقوله للخلائق كن، كل ذلك مبتدأ.
والمعنى أن خلق السموات والأرض وإحياء الخلائق بعد موتها بقوله :﴿ كن ﴾ كل ذلك حق أي صدق وعدل ويصدر عن حكمة إلهية.
قوله :﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ أي أن الملك كله لله في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور. وفي معنى الصور اختلاف بين المفسرين والصحيح في ذلك أن المراد به القرن الذي ينفخ فيه الملك الموكل بذلك. وثمة نفختان ينفخهما الملك العظيم وهما نفخة الموت والفناء، ثم نفخة البعث والإحياء. والمراد هنا الثانية. وقد روى مسلم في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ".
قوله :﴿ عالم الغيب والشهدة ﴾ عالم مرفوع على أنه نعت ( للذي ) في قوله ﴿ وهو الذي خلق السموت والأرض ﴾ أي أن الله يعلم الغيب وهو المستور الذي تعجز عن إدراكه الحواس والأبصار. وذلك هو الشطر الأعظم مما في هذا الوجود الحافل بالأشياء والحقائق وجلها خفي مستور لا يعلمه إلا الله.
وكذلك ﴿ والشهدة ﴾ وهي كل مشهود معاين تدركه الأبصار والحواس.
قوله :﴿ وهو الحكيم الخبير ﴾ الحكيم، المصيب في أفعاله وتصريفه أمور خلقه وفي تدبيره الحياة والأحياء والكائنات جميعا. وهو كذلك الخبير. أي العالم بكل ما يقع وبكل ما تكسبه الأحياء والبرية من غير اشتباه ولا التباس١.
ذلك من خبر الأولين يقصه الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تدعيما له وتأييدا لما في ذلك من تثبيت له على الحق مهما اشتد عناد المشركين وخصامهم من عبدة الأوثان والحجارة.
قوله :﴿ وإذ قال إبرهيم لأبيه ءازر ﴾ اختلف المفسرون في تأويل كلمة آزر فقيل : إنه اسم صنم كان يعبده أبو إبراهيم. وقيل : آزر اسم أبيه. وقيل : اسم أبيه تارخ وليس آزر. والراجح أن اسم أبي ابراهيم آزر. فقد يكون له اسمان وهما آزر وتارخ. أو يكون أحدهما لقبا. وقرئ آزر بالفتح على أنه علم أعجمي لا ينصرف وهو بدل من أبيه، أو عطف بيان له١.
قوله :﴿ أتتخذ أصناما ءالهة ﴾ أصناما مفعول به أول. وآلهة مفعول به ثان لتتخذ. والاستفهام هنا على سبيل الإنكار. أي أتجعل هذه الأصنام التي لا تعي ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع آلهة ؟ ! والأصنام جمع صنم والصنم معناه التمثال من الحجر أو الخشب أو من غير ذلك في صورة إنسان وهو الوثن.
قوله :﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ أي أراك يا آزر وقومك المشركين الذين يعبدون الأصنام معك ويتخذونها آلهة من دون الله ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي في بعد سحيق عن سبيل الصواب وعن المحجة السليمة المستقيمة. وإن هذا البعد السحيق التائه عن سبيل الله الحق واضح ومكشوف لكل ذي بصر.
قوله :﴿ وليكون من الموقنين ﴾ ذلك كله ليستيقن إبراهيم وليكون من الراسخين في اليقين بحقيقة التوحيد الكامل لله وقدرته المطلقة المثلى.
والمعنى أن إبراهيم لما غشيه الليل بظلامه رأى كوكبا. وإنما يتحقق ذلك بزوال نور الشمس عن الحس.
قوله :﴿ هذا ربي ﴾ قال ذلك إذ لم يكن عارفا بربه لطفوليته. والجهل بسبب الطفولة قبل قيام الحجة لا يضر ولا يكون كفرا. لكن هذا التأويل قد رد على أنه غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد ولا عارف بالله. وهو كذلك بريء من كل معبود سواه.
وقيل : لما خرج إبراهيم من السرب ( النفق ) رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه فظن أنه ضوؤه قال :﴿ هذا ربي ﴾ أي بأنه تراءى لي نوره.
وقيل : إنه قال :﴿ هذا ربي ﴾ على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر. وهو نظير قوله تعالى :﴿ أين شركاءى ﴾ وهو سبحانه واحد ليس له شريك. والمقصود : أين شركائي على قولكم.
قوله :﴿ فلما أفل قال لا أحب الأفلين ﴾ أي لما غاب الكوكب الذي ظنه ربا أعلن عن نفوره من مثل هذه الأرباب التي تنتقل من مكان إلى آخر، وتتغير من حال إلى أخرى.
قوله :﴿ حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ حنيفا مائلا إلى الدين القيم. أو صحيح الميل إلى الإسلام، من الحنف، بالفتح بمعنى الاستقامة. والحنفية : التوحيد. وهذا إعلان من إبراهيم، إذ صدع بالحق جهرة على مسامع الملأ والأشهاد أنه على الحنيفية المبرأة من دنس الشرك على تعدد صوره وأشكاله، وأعلن كذلك مجانبته للشرك ونفيه المطلق أن يكون من المشركين١.
حاجه، أي خاصمه وجادله. والتحاج، التخاصم. والحجة بالضم : البرهان. والمحجاج بمعنى الجدل١.
قوله :﴿ وحاجة قومه ﴾ أي جادلوه وخاصموه في دينه وهو التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له. وقد هددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن لم يعبدها.
قوله :﴿ أتحاجوني في الله وقد هدان ﴾ استفهام توبيخ. والمعنى : اتجادلونني في أمر الله وأنه سبحانه واحد لا شريك له وقد من علي بالهداية إلى الحق والصواب ؟ ! أيليق بذي عقل أن يخاصم في الحق الأبلج المستبين وفي الاستمساك بهذا الحق دون غيره من صور السفاهة والباطل ؟ !
قوله :﴿ ولا أخاف ما تشركون به أن يشاء ربي شيئا ﴾ هذا برهان على كذب المشركين وفساد قولهم، إذ هددوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمس الأصنام له إن لم يعبدها، وهي في الحقيقة ليست إلا أحجارا صماء أو نحوها من الجوامد المصطنعة المركومة فلا تعقل أو تسمع ولا تضر أو تنفع. والتهديد بها ليس إلا ضربا من الهذيان والتخريف. فبين إبراهيم عليه السلام للمشركين أنه لا يخشى أصنامهم فهي حجارة خرساء بلهاء لا ينبغي الالتفات إليها أو الاهتمام بها أو التخوف منها.
قوله :﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ استثناء منقطع. وشيئا منصوب على المصدر. أي مشيئة. أي لا يصيبني شيء من هذه الأصنام فإنها جوامد لا تريم بل الذي يضر وينفع هو الله. فإن شاء أن يصيبني بمكروه كان ذلك.
قوله :﴿ وسع ربي كل شيء علما ﴾ أي وسع علم الله كل شيء. أو أحاط علمه بجميع الأشياء فلا تخفى عليه خافية. وبذلك ما من مكروه يصيب الإنسان ولا مصيبة تحل به إلا هي جارية على سنن الله وضمن علمه الواسع الذي يحيط بالأشياء كافة. وقوله :﴿ علما ﴾ منصوب على التمييز٢.
قوله :﴿ أفلا تتذكرون ﴾ استفهام تقريع وتوبيخ، أي أفلا تعتبرون مما بينته لكم فتبادروا بالإيمان والطاعة. فقد بينت لكم أن ما تعبدونه باطل وإنما المعبود الحق الله وحده خالق ما تأفكون وما تصطعنون من آلهة.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ص ٣٢٩..
قوله :﴿ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا ﴾ أي كيف أخاف أنا من أصنامكم ولا تخافون أنتم من كونكم مشركين ؟ فقد أشركتم بالله. أي اتخذتم مع الله آلهة كاذبة أخرى ﴿ ما لم ينزل به عليكم سلطنا ﴾ أي ما أنزل بها من حجة ولا برهان. فهي آلهة موهومة مفتراة اختلقها المشركون الظالمون لما سول لهم الشيطان فعل ذلك.
قوله :﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ﴾ المعنى : أي الطائفتين منا حقيق بالأمن من عذاب الله وغضبه ؟ أنحن الذين آمنا بالله الخالق الموجد المبدع، خالق كل شيء، وخالق العالمين والأصنام، أم أنتم المشركون التائهون السادرون في طريق الضلال والباطل، الناكبون عن عقيدة الحق ونهج الله ؟ أنتم الذين سول لكم الشيطان عبادة أوثان مهينة بلهاء لا تضر ولا تنفع. وتقدير الجواب : أن لا جرم أننا نحن خليقون بالأمن وعدم الخوف. لكنكم أنتم أحق بالخوف وعدم الأمن لشرككم وكفركم ونكولكم عن نداء الرسل فينبغي أن لا يبرحكم شبح العذاب الذي ينتظركم. وذلك إن كنتم تدركون هذه الحقيقة التي لا مراء فيها. وهو بذلك يستنهض فيهم العقل والفطرة كيما ينسلخوا من إسار الوثنية والضلال.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت ﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه :﴿ يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ فالمراد بالظلم الشرك. وفيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنما هو الشرك ".
قوله :﴿ نرفع درجت من نشاء ﴾ درجات، منصوب على التمييز. وقيل مفعول به للفعل نرفع. والمراد بالدرجات يحتمل عدة وجوه منها أنها الأعمال في الآخرة. وقيل : المراد بها الرتب العالية في العلم والحكمة. وقيل الدرجات الرفيعة في الجنة. أي نرفع من نشاء رفعه إلى الدرجات العلا في العلم أو الحكمة أو الثواب حسبما تقتضيه الحكمة الربانية البالغة. والله تعالى منزه عن العبث والباطل. ولذلك قال :﴿ إن ربك حكيم عليم ﴾ أي حكيم في تدبيره لأمور خلقه، عليم بأحوال البشر وما يصلح عليه شأنهم وما يؤول إليه أمرهم وما يصيرون إليه يوم الحساب١.
لقد كان فضل الله على إبراهيم عليه السلام عظيما إذ جزاه من خير الجزاء ما هو أهله، ذلك لطاعته لربه وإخلاصه له ومفارقته دين قومه المشركين الضالين. وذلك كله في صراحة وجراءة لا نظير لهما في العالمين. وقد لقي إبراهيم من المحن على أيدي الظالمين من أعداء الله ما لا يطيقه بشر. وكان أوج ذلك كله إلقاؤه في النار المستعرة المتأججة وهو صابر ثابت محتسب. فجزاه الله في ذلك جزاء عظيما إذ اتخذه خليلا ورفعه إلى الدرجات العلا في الجنة يوم القيامة، ووهب له في هذه الدنيا الذرية الصالحة الذين خصهم الله بالنبوة والكرامة. فقال سبحانه :﴿ ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ﴾ أي وهب الله لإبراهيم إسحق ولده من سارة. وكذلك وهب الله له يعقوب هو ابن إسحق.
قوله :﴿ كلا ﴾ مفعول به مقدم للفعل بعده ﴿ هدينا ﴾ أي لسبيل الرشاد إذ وفقهم الله للحق والصواب. وكذلك قوله :﴿ ونوحا ﴾ مفعول للفعل بعده ﴿ هدينا ﴾ ١ وقد هدى الله نوحا من قبل إبراهيم. ولما أغرق الله أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه واتبعوه في السفينة جعل الله ذريته هم الباقين. وبذلك فإن الناس كلهم من ذرية نوح. وأما إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته. وفي هذا يقول سبحانه :﴿ وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾.
قوله :﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ﴾ الضمير في ﴿ ذريته ﴾ يعود إلى نوح، لأنه أقرب مذكور. وقيل : يعود إلى إبراهيم، لكن يشكل على هذا القول لوط عليه السلام فإنه ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه إلا أن يقال : دخل في ذريته إبراهيم تغليبا. وتأويل الكلام أن الله قد هدى من ذرية نوح داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون. فقد وفقهم الله للحق والصواب وكتب لهم الهداية والسداد.
قوله :﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي نجزي كل محسن جزاءه المستحق كجزائنا لكل المخلصين الصالحين الأبرار كإبراهيم عليه السلام بالنبوة في ذريته، ونوح بصبره على أذى المشركين.
وهذا يدل على أن النبيين أفضل من الملائكة. لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله. فيدخل في لفظ العالم الملائكة. فقوله :﴿ وكلا فضلنا على العلمين ﴾ والملائكة من جملة العالمين. فهذا يقتضي كون الأنبياء أفضل من الملائكة.
قوله :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ هؤلاء المذكورون من النبيين لو أشركوا، أي عبدوا مع الله أحدا غيره ﴿ لحبط عنهم ﴾ ما عملوه. أي لذهب وسقط أجر أعمالهم. وهذا تشديد وتغليظ لأمر الشرك فإنه بالغ الفظاعة والنكر. إذ لا تجدي معه الأعمال الصالحة بل مآلها الحبوط والبطلان وعدم القبول.
قوله :﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ أي إن يكفر بآيات الله، أو بالنبوة ﴿ هؤلاء ﴾ وهم كفار قريش وسائر الكافرين في الأرض ﴿ فقد وكلنا بها ﴾ المؤمنين من المهاجرين والأنصار وقيل : كل مؤمن في الأرض. أي استحفظناهم واسترعيناهم إياها والقيام بها فإنهم لا يجحدون منها شيئا بل يؤمنون بها من غير تفريط ولا تردد.
قوله :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ الاقتداء معناه اتباع الأثر والقدوة : الإسوة بالكسر والضم. نقول قدوة وقدوة وقدة. اقتدى به، أخذ بهديه : نقول : فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره١. وتأويل الآية هو : بالعمل الذي عمل به أولئك النبيون والمنهاج الذي سلكوه والعقيدة التي اتبعوها اقتد يا محمد. أي اعمل وخذ به واسلكه فإنه من عمل به اهتدى.
قوله :﴿ قل لا أسئلكم عليه أجرا ﴾ أي قل لهم يا محمد : إني لا أسألكم على تبليغي لكم وتذكيري إياكم، والهدي الذي أدعوكم إليه وما جئتم به من الآيات من رب العالمين – لا أسألكم على ذلك عوضا ولا أطلب منكم عليه جعلا ولا عرضا من عروض الدنيا.
قوله :﴿ إن هو إلا ذكرى للعلمين ﴾ أي ما القرآن إلا " ذكر " أي تذكير للناس كافة. ولست أنا إلا نذيرا لمن بين يدي عذاب شديد وما أريد لكم إلا الإصلاح والخير والسداد٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١٧٣- ١٧٦ وفتح القدير ج ٢ ص ١٣٦- ١٣٨ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ٧٠- ٧٦..
قوله :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ أي ما عظموه حق تعظيمه. أو ما عرفوه حق معرفته.
قوله :﴿ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ هذا إنكار من هؤلاء الكافرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب السماوية. وذلكم الكفر الصارخ والجحود الظالم الفاجر. والجمهور من أهل العلم على أن المقصود هنا اليهود. وهم يبتغون بذلك الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتشكيك في رسالة الإسلام.
قوله :﴿ قل من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾ نورا منصوب على الحال. وهدى معطوف عليه، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين الذين ينكرون إرسال الرسالات البتة : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴿ نورا ﴾ أي ضياء يبدد ظلمه الباطل ويبين للناس وجه الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم. ذلك أن الله أنزل التوراة على موسى ولا سبيل لجاحد معاند أن ينكر ذلك. فلم لا يصدقون إنزال القرآن على رسول الله محمد مثلما أقروا موقنين بنزول التوراة على موسى. لكنه الحسد والحماقة ومرض القلب والعقل، كل أولئك يحول بين هؤلاء السفهاء الأشرار وبين التصديق بالقرآن الحكيم ونبيه المصطفى العظيم.
قوله :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ قراطيس منصوب بالفعل تجعلونه٢ والجملة استئنافية لا محل لها من الإعراب وقد سيقت لنعي ما فعلته يهود من تحريف التوراة وتغييرها. وقيل : في موضع نصب على الحال. أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة مبعثرة. وذلك توبيخ لهم على سوء صنيعهم، إذ أخرجوا التوراة من جنس الكتاب لينزلوه منزلة القراطيس المفرقة.
على أن التوبيخ هنا ليس لمجرد وضعهم التوراة في قراطيس، فكل كتاب موجود في القراطيس بل التوبيخ من أجل جعلهم التوراة في القراطيس موصوفة بقوله تعالى :﴿ تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ أي تظهرون كثيرا مما تكتبونه في القراطيس للناس وتخفون كثيرا مما تثبتونه فيها فتسرونه وتكتمونه عن الناس. ومن جملة ما كتموه عن الناس خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته. والمراد بهم هنا اليهود لا محالة فقد أظهروا من التوراة ما أظهروه، وأخفوا كثيرا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم. وبذلك فإن موضع الذم هنا أنهم لما جعلوا التوراة قراطيس فرقوه تفريقا وبعضوه تبعيضا فقدروا بذلك على إظهار بعضه وإخفاء بعضه الآخر الذي فيه صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم ﴾ الخطاب لليهود، إذ من الله عليهم. أي أنكم علمتم ما لم تكونوا تعلمونه من قبل لا أنتم ولا آباؤكم. والذي علموه هو الذي أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى الله إليه به. فقد اشتمل ذلك على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه آباؤهم من قبل.
وقيل : المراد التوراة. كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقد كان اليهود قبل مقدم الرسول يقرأون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك هو تعلمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.
قوله :﴿ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ هذا جواب السؤال للمشركين لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴾ والجواب هو قوله :﴿ قل الله ﴾ أي الله تعالى أنزله. ولفظ الجلالة مبتدأ، وخبره محذوف تقديره الله تعالى أنزله. أو لفظ الجلاله فاعل وفعله مقدر.
قوله :﴿ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ أي دعهم في باطلهم وكفرهم بآيات الله يستهزئون ويسخرون ويلعبون. ولا جرم أن ذلك من الله وعيد مخوف يتهدد به هؤلاء الفاسقين الغلاظ. فهو سبحانه لهم بالمرصاد وهو آخذهم أخذ عزيز مقتدر.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٣١..
إن هذا الكتاب الإلهي الميمون لا يستمسك به أو يعمل بأحكامه أو يسعى جادا لنشره وتبيينه للناس إلا كتب الله له بفضله السعادة والنجاة والخير والأمن والرضى في الدارين. نضرع إلى الله منزل الكتاب أن يجنبنا الفواحش ظاهرها وباطنها وأن يمن علينا بالسلامة والنجاة والعافية والستر والسعادة في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
قوله :﴿ مصدق الذي بين يديه ﴾ أي أن هذا الكتاب وهو القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء من قبل هذا النبي، عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
قوله :﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ اللام، لام كي تتعلق بفعل مقدر. وتقديره : ولتنذر أم القرى أنزلناه٢. أم القرى أي مكة سميت بذلك، لأنها أعظم القرى شأنا، فغيرها من القرى تبع لها كما يتبع الفرع الأصل. أو لأنها قبلة أهل القرى، إذ يحجون إليها ويجتمعون من حولها كما يجتمع الصغار حول أمهم الرؤوم.
ومن حولها، أي من القرى إلى المشرق والمغرب. وقيل : من حولها يعني الأرض كلها.
والمراد أن الله أنزل القرآن لتحل في الدنيا البركة وليكون للناس نذيرا إذ ينذر به النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة والعالمين جميعا ليحذروا بأس الله وسخطه أن يحل بهم.
قوله :﴿ والذين يؤمنون بالأخرة يؤمنون به ﴾ الذين يؤمنون بالآخرة، في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ يؤمنون به ﴾ والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة إيمانا صحيحا وحقيقيا لا جرم أنهم يؤمنون بالقرآن الحكيم أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والمراد هنا، الإيمان الذي جاء به الوحي الأمين من السماء وتحدث به الكتب السماوية السليمة الخالية من التلاعب والتحريف. الإيمان الحقيقي السليم من العبث والافتراء والتخليط. إيمان العقيدة الصادقة، البعيدة عن بعث العابثين وافتراء المفسدين المكذبين للإيمان بصدق القرآن وصدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ﴾ في محل نصب على الحال. وهذه حال المؤمنين الصادقين المخلصين. فهم يحافظون على صلاتهم فلا يغفلون عنها ولا يفرطون فيها. وقد خص المحافظة على الصلاة، لأنها عماد الدين وأعظم ما فيه من عبادات وأعمال وشعائر٣.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٣١..
٣ - تفسير الرازي ج ١٣ ص ٨٣- ٨٦ وفتح القدير ج ٢ ص ١٣٩ وروح المعاني ج ٧ ص ٢٢٠- ٢٢٢..
نزلت في مسيلمة الكذاب، إذ ادعى النبوة وافترى من الكلام المتهافت المصطنع الذي زعم أنه من عند الله ما يثير السخرية والاشمئزاز. وفي الآيات هنا تهديد رعيب لكل مفتر كذاب ولكل وضاع دجال يدعي على الله الكذب ويهذي للناس أنه أوحي إليه وهو كاذب خادع مأفون. لا جرم أن هذا الصنف من الناس غائر في الكفر والعتو، وسادر في الضلالة والباطل، أولئك فريق أثيم توعدهم الله بأشد العذاب والتنكيل سواء في الدنيا لدى الموت في سكراته المريرة، العسيرة ثم في الآخرة وما فيها من القواصم والبلايا.
قوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ من، في محل رفع مبتدأ. وخبره أظلم. أي ليس من أحد أسوأ ولا أظلم من أحد اختلق كذبا على الله فادعى أنه مبعوث من عنده نبيا ورسولا للناس أو زعم أن الوحي يأتيه من السماء وهو في الحقيقة كاذب، إذ لم يوح إليه بشيء. وهذا شأن الكذابين الدجاجلة من أشرار البرية كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح.
قوله :﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ والمراد بهذا ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ وقوله في القرآن : إنه من أساطير الأولين، وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله. وهذا من دعوى الكذابين الأفاكين الذين يهذون بأن القرآن يمكن معارضته.
قوله :﴿ ولو ترى إذ الظلمون في غمرات الموت ﴾ إذ، ظرف زمان لترى. والمراد بالظالمين الذين يعدلون بربهم الآلهة والأنداد والذين قالوا ﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ والذين افتروا على الله الكذب بزعمهم أن الله أوحى إليهم ولم يوح إليهم. وغمرات الموت جمع غمرة وهي في الأصل : المرة من غمر الماء. ومنه غمره الماء، ثم استعير للشدة والمكروه. وغمرات الموت، أي سكراته وشدائده التي يكابد منها الظالمون لدى انتزاع أرواحهم فيذوقون من فظاعة النزاع ما لا يتصوره غير المعاينين لهذا العذاب المزلزل.
قوله :﴿ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ﴾ ﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ في محل نصب على الحال، بسط اليد يعني مدها. والمراد به هنا الضرب. فهم يضربون وجوه هؤلاء الظالمين وأدبارهم قائلين لهم :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ أي خلصوها من العذاب إن استطعتم وهو توبيخ لهم وتعجيز. وقيل : المراد أخرجوها كرها، لأن روح الكافر تنزع انتزاعا عنيفا شديدا. بخلاف المؤمن، إذ تنشط روحه للخروج لملاقاة ربها. قال الرازي في تأويل قوله :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ : أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال.
قوله :﴿ اليوم تجزون عذاب الهون ﴾ اليوم، أي حين الموت، وما بعده. والهون، أي الهوان الشديد. وهو عذاب جهنم حيث الإهانة والإذلال والتنكيل.
قوله :﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ﴾ أي ما يصيب الظالمين المفترين من ويل ونكال وهوان إنما سببه قولهم على الله غير الحق. وهو افتراؤهم الكذب على الله. وكذلك سببه استكبارهم عن آيات الله. أي عن التصديق بها والعمل بمقتضاها فجوزوا بذلك عذاب الهون جزاء وفاقا.
قوله :﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾ خولناكم : أعطيناكم وملكناكم. خوله الله الشيء تخويلا، ملكه إياه ٢ أي تركتم ما ملكناكم وما أعطيناكموه في الدنيا من المال والخدم وأصناف الخير والنعم التي شغلتم بها أنفسكم عن الآخرة. لقد تركتم ذلك كله خلفكم وجئتمونا اليوم آحادا بغير شيء تملكونه أو ينفعكم.
قوله :﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركؤا ﴾ نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث لقيله إن اللات والعزى يشفعان له عند الله يوم القيامة وقيل : كان ذلك قول سائر عبدة الأوثان. فرد الله بهذه الآية مقالتهم الباطلة وظنهم الواهم الكاذب بما يقرعهم تقريعا ويوبخهم توبيخا زيادة في التنكيل والتغليظ بهم. والمعنى أنكم أيها المشركون الظالمون الذين كنتم تتشبثون بشفاعة الأصنام لكم، ها أنتم جئتمونا فرادى حيارى وجلين وليس معكم من نصير ولا شفيع يدرأ عنكم العذاب. ولم نر معكم أصنامكم التي اتخذتموها في الدنيا شركاء لله فعبدتموها وظننتم كاذبين أنها لكم شفعاء إذا ما قامت القيامة.
قوله :﴿ لقد تقطع ببينكم ﴾ أي تقطع بينكم وصلكم. فوقع التهاجر والتقاطع بينكم وبين شركائكم الأصنام، إذ تبرأوا منكم. وذهب ما كان بينكم من تواصل وتواد.
قوله :﴿ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ أي ضاع وذهب عنكم شركاؤكم من الأصنام الذين كنتم تزعمون أنهم منجوكم وأنهم لكم شفعاء. فيومئذ لا ينفعوكم ولا يشفعون لكم. وليس إذ ذاك إلا النار وبئس القرار، ولات حين مندم ولا شفاعة ولا مناص٣.
٢ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١٨٤- ١٨٦ وروح المعان ج ٧ ص ٢٢٤- ٢٢٦، وتفسر الرازي ج ١٣ ص ١٩١- ١٩٣..
٣ - تفسير الطبري ج ٧ ص ١٨٤- ١٨٦ وروح المعاني ج ٧ ص ٢٢٤- ٢٢٦ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ١٩١- ١٩٣..
يبين الله في هذه الآيات بعضا من عجائب صنعه في الحياة والخلق. بما يكشف للأذهان والعيان عن العظمة المطلقة للخالق، والقدرة البالغة لجلاله سبحانه وأنه الإله المربوب الذي ذرأ كل شيء وقدره تقديرا. فما يكون من صغير ولا كبير، ولا دقيق ولا جليل، ولا يسير ولا عسير إلا هو من صنع الله وإتقانه. وهذه شواهد نزرة من شواهد عظام على صدق الكتاب الحكيم وعلى أن الله وحده له الإلهية العظمى بعيدا عن الشرك والشركاء. وما الأنداد والأصنام والأرباب المصطنعة بعد ذلك إلا الأباطيل المفتراة التي تراود أوهام التائهين التعساء فتمس حلومهم وفهومهم الواهية المريضة مسا.
قوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ فالق، من الفلق بسكون اللام وهو الشق. والحب معروف ومنه حبة الحنطة والشعيرة والذرة، وسائر أنواع الحبوب. وأما النوى فهو جمع نواة وهي العجمة. وهو يجري في كل ما له عجم كالمشمش والخوخ والتمر١.
والمقصود أن الحبة الميتة اليابسة بعد أن توارى الثرى وتمس الرطوبة تتشقق. ومن شقها يخرج النبات والزرع وهو محمول على سوقه وتعلوه السنابل المحفلة بالحبوب على أصناف شتى. وكذلك النواة اليابسة الميتة تتشقق فيبرغ منها الشجر بوقه الأخضر الوارف، وظله الرخي الظليل، وثمره اليانع المستطاب. لا جرم أن ذلك يدل على قدرة الإله الصانع المربوب. وهو يشير كذلك إلى قدرة الله المطلقة في الإحياء. فقال سبحانه :﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ في تأويل إخراج الحي من الميت والميت من الحي، نختار حمل اللفظين ( الحي والميت ) على الوجه المجازي. فنقول إخراج الحي من الميت معناه إخراج النبات الغض الطري الأخضر من الحب اليابس. وإخراج اليابس من النبات الحي النامي، أو هو إخراج السنبل الحي من الميت، وإخراج الحب الميت من السنبل الحي والشجر الحي من النوى الميت، والنوى من الشجر الحي. والشجر ما دام قائما على أصوله لم يجف والنبات على ساقه لم ييبس فإن العرب تسميه حيا فإذا يبس وجف أو قطع من أصله سموه ميتا.
وقال ابن عباس في تأويل ذلك : إن الله يخرج المؤمن من الكافر، كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن، كما في حق ولد نوح، والعاصي من المطيع، وبالعكس٢.
وقيل : يخرج العالم من الجاهل وبالعكس. وذلك أن العلم حياة ونور. وهو ضياء يستنير به الإنسان في حياته فيمضي مهتديا غير متعثر. أما الجهل فإنه الضلال والاضطراب والأرجحة بما يفضي بالضرورة إلى التعثر والزلل والهلاك، وما الجاهلون إلا اشباها لأناسي يمرون بلا حساب أو أشباحا تائهة تروح وتجيء من غير وعي ولا تدبر ولا بصيرة. وكأنما هم صور بلهاء لموتى لا ينبسن ولا يريمون٣.
أما قوله :﴿ يخرج الحي ﴾ ثم قوله بعدها :﴿ ومخرج الميت ﴾ فقد عطف الاسم على الفعل، فسببه أن قوله :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ معطوف على قوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ فقد عطف الاسم على الاسم. أما قوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ فهو كالبيان والتفسير لقوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ وهو قول الزمخشري والرازي.
قوله :﴿ ذلكم الله ﴾ مبتدأ وخبره. أي صانع كل هذه الأعاجيب وبارئ كل هذه الخلائق على اختلاف أنواعها وكثرة عجائبها هو الله وحده الواجب الوجود المستحق للعبادة.
قوله :﴿ فأنى تؤفكون ﴾ تؤفكون من الأفك بفتح الهمز مصدر أفك بالفتح. أي قلب وصرف عن الشيء والمؤتفكات المدن التي قلبها الله تعالى على قوم لوط.
وقوله :﴿ أجئتنا لتأفكنا ﴾ أي لتصرفنا٤ والمعنى : فكيف تصرفون عن عبادة الله وحده وقد علمتم وعاينتم الشواهد على قدرته البالغة وأنه الصانع لكل شيء ؟ !
٢ - تفسير الرازي ج ١٣ ص ٩٥- ٩٧ وتفسير الطبري ج ٧ ص ١٨٦- ١٨٨..
٣ - يريمون، من الفعل رام يريم. أي برح يبرح. يقال: لا رمت، أي لا برحت. وهو دعاء بالإقامة. أي لا زلت مقيما. انظر مختار الصحاح ص ٢٦٦..
٤ - مختار الصحاح ص ١٩..
قوله :﴿ وجعل اليل سكنا ﴾ الليل، مفعول أول لجعل. وسكنا، مفعول ثان. وسكنا من السكينة. وهي الطمأنينة والرزانة والوقار أو من السكون وهو الهدوء والاستقرار. والله جعل الليل سكنا، لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار فيهدأ فيه ويستقر في مسكنه ومأواه٢ فتأويل الآية أن جعل الليل ليسكن فيه الناس. إذ يطمئون أو يهجعون. أو يستأنسون ويستروحون لتسترخي أبدانهم وأعصابهم في هجعة الكرى طلبا للداعة والراحة والنوم.
قوله :﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾ الشمس والقمر منصوبان بتقدير الفعل ﴿ جعل ﴾ وحسبانا مفعول ثان٣ أي جعلهما يجريان في أفلاكهما بحساب دقيق ومضبوط لا يزيد ولا ينقص.
قوله :﴿ ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ العزيز معناه القاهر الغالب. والعليم الذي يحيط علمه بكل شيء فلا يغيب عن علمه شيء ولا خبر. والإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ يعود إلى ما سبق ذكره من خلق الله وصنعه. إن ذلك كله من جملة الشواهد المعاينة الدالة على قدرة الله البالغة وأنه سبحانه الصانع لكل شيء ليس له في ذلك شريك ولا نديد.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٣٢..
٣ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٣٢..
قوله :﴿ قد فصلنا الأيات لقوم يعلمون ﴾ أي بينا الأدلة والحجج والعلامات الدالة على عظيم قدرته وصنعه بيانا مفصلا ليتفكر فيها ويتدبرها أولو العلم والحجا منكم عسى أن ينيبوا إلى ربهم وينزجروا عن عصيانه ومخالفة أمره١.
قوله :﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ﴾ يعني بدأ خلقكم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام.
قوله :﴿ فمستقر ومستودع ﴾ مرفوعان بالابتداء. وخبرهما محذوف، وتقديره : فمنكم مستقر ومنكم مستودع١. وفي تأويل ذلك خلاف بين العلماء. فقد قيل : منكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع في القبور حتى البعث يوم القيامة. وقيل : مستقر في بطون النساء وبطون الأرض أو على ظهورها. ومستودع في أصلاب الآباء. وقيل : المستقر في الدنيا، والمستودع في الآخرة. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ قد فصلنا الأيات لقوم يفقهون ﴾ أي بينا الآيات في تفصيل خلق البشر كهذه الآية، لقوم يتدبرون مواضع العبر. فإنهم بمعاينتهم حقيقة الخلق وتدبرهم صنع الله سيوقنون أن ذلك من فعل الله القادر الذي ليس له في ملكوته وسلطانه شريك.
قوله ﴿ فأخرجنا منه خضرا ﴾ ذلك تفصيل لما أجمل في الكلام السابق. والخضر معناه الأخضر. أي أننا أخرجنا من النبات الذي ليس له ساق شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. والمراد رطب البقول. وقال ابن عباس : يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب.
قوله :﴿ نخرج منه حبا متراكبا ﴾ أي بعضه فوق بعض كما في سنبل الحنطة والشعير وغير ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضا.
قوله :﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ شرع في تفصيل حال الشجر عقيب بيان حال النجم وطلع النخلة هو أول ما يرى من عذقها. والواحدة طلعة. والعذق بكسر العين معناه عنقود النخلة١.
والقنوان جمع قنو كالصنو جمعه صنوان. والقنو بمعنى العذق يقال للواحد قنو وقنا. ويثنى قنوان، ويجمع قنوان٢.
والمراد بالقنوان الدانية، أي العراجين التي تدلت من الطلع لتكون قريبة ممن يجتنيها.
قوله :﴿ وجنات من أعناب ﴾ قرأ عامة القراء جنات على النصب على أنه معطوف على ﴿ نبات كل شيء ﴾ أي وأخرجنا به جنات. أي أخرجنا بساتين من أعناب.
قوله :﴿ والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ﴾ معطوف على جنات أي أخرجنا الزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه. أي مشتبها ورقه مختلفا ثمره. وقيل : هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة. وقيل : قد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها متشابهة في الطعم واللذة.
قوله :﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ﴾ أي انظر نظر تدبر واعتبار لا نظر إبصار مجرد عن التدبر والتفكر. والينع معناه النضج. ينع الثمر وأينع أي نضج. والينيع واليانع أي النضيج والناضج٣.
والمقصود النظر بتدبر وادكار في الشجر إذا أثمر حتى ينع. فإنه يمر بمراحل شتى من كيفية النماء والإثمار. فهو يخرج أولا ضئيلا لا ينتفع به ثم يأخذ في النماء شيئا فشيئا ليكون مخضرا يابسا ثم يكون زاهيا في حلاوة من باكورة النضج ثم يكون يانعا مستطابا محفلا باللذة وعذوبة المذاق. وذلك هو صنع الله الذي أنشأ ذلك من حبة ميتة أو عود يابس.
قوله :﴿ إن في ذلكم لأيات لقوم يؤمنون ﴾ إن في كل ما سبق ذكره من بديع خلق الله وعظيم صنعه في الطبيعة والكائنات والثمرات أجلى الدلالات وأكملها على وجود القادر الحكيم وعلى وحدانيته سبحانه كيما يدرك ذلك المؤمنون ويستيقنوه. وذلك بما أوتوه من فطرة سليمة من التلويث والتدنيس٤.
٢ - المصباح المنير ج ٢ ص ٢٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٧٤٥..
٤ - روح المعاني ج ٧ ص ٢٣٧- ٢٤٠ وتفسير الطبري ج ٧ ص ١٩٤-١٩٧..
قوله :﴿ وخلقهم ﴾ أي خلق المشركين الذين جعلوا الجن شركاء لله. وقيل : خلق الجن الشركاء أنفسهم. ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أذعنوا لهم بالطاعة كإذعانهم لله. والمراد بهم هنا الشياطين الذين أطاعهم المشركون كما يطاع الله سبحانه أو عبدوا الأوثان لما حرضهم الشياطين على ذلك وسولوه لهم. وقيل : المراد بالجن هنا : الملائكة. إذ قالت العرب : إنهم بنات الله فعبدوهم. وقد سموا جنا على سبيل المجاز. وذلك لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن.
قوله :﴿ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ﴾ خرقوا أي كذبوا. وهو من التخريق ومعناه كثرة الكذب. والتخرق : خلق الكذب أو التخلق من الكذب. اخترق الكذب أي اختلقه٢.
وتأويل الآية أن المشركين السفهاء كذبوا على الله بجعلهم له بنين وبنات وبيان ذلك أن العرب جعلوا له بنات، إذ قالوا : الملائكة بنات الله وقالت اليهود : عزيز ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله. وكل ذلك تخريق وتخريص وافتراء فاضح ونكر مشين. والله تعالى منزه عما وصفه به هؤلاء الخراصون من خلقه له شركاء من الجن وتخريقهم له البنين والبنات. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإن ما وصفوه إن هو إلا من شأن البشر حيث التناكح والشهوات والنسب والصهرية. والله جل في علاه منزه عن مثل هاتيك الصفات المختصة بالبشر حيث الضعف والإحساس باللذة والهجوم على المنافع الدنيوية والركون للشهوات.
٢ - القاموس المحيط ج ٣ ص ٢٣٤..
ومن كان هذا شأنه فكيف يكون له ولد وهو ليس له صاحبة ( زوجة ) وإنما يكون الولد من الذكر والأنثى وهو شبيه بهما. والله تعالى لا يشبهه شيء بل إنه خالق كل شيء ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فقال سبحانه :﴿ أنى يكون له ولد ولم تكون له صاحبة ﴾.
قوله :﴿ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ﴾ الله جل وعلا خالق كل شيء. وهو عالم بما يجري في الحياة والكون. فما من خبر ولا حدث ولا دبيب يسري في ظلمات الأرض وأطواء السماء إلا هو يعلمه.
قوله :﴿ لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾ ذلك حصر الألوهية في ذاته الكريمة وجلاله العظيم. وإخبار منه سبحانه أنه الخالق الذي أوجد الأشياء كلها من أصناف الخلق وذلك بكمال قدرته وعظيم سلطانه.
قوله :﴿ فاعبدوه ﴾ الله تعالى حقيق بعبادة الخلق له. فهو خالقهم ورازقهم والمنعم عليهم بنعمه الجليلة التي لا تحصى. إنه جل وعلا خليق أن يدين له الناس بالطاعة والخضوع والامتثال.
قوله :﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ أي حافظ. والوكيل على الشيء هو الحافظ الذي يحوطه ويدفع عنه الضرر.
أما أهل السنة فقد جوزوا حصول الرؤية يوم القيامة لقوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ( ٢٢ ) إلى ربها ناظرة ﴾.
وقيل : الإدراك معناه الإحاطة بالحقيقة. أو هو الوقوف على كنه الأشياء. فالله تعالى لا تحيط بحقيقته الأبصار وهو يحيط بحقيقتها. وقيل : الإدراك معناه الإحاطة. وإدراك الشيء معناه الإحاطة به. والأبصار جمع بصر ويعني الحاسة. وقيل غير ذلك. وجملة القول أن الله في ذاته وحقيقة كماله لا تحيط به أبصار الخلق على الخلاف في معنى الأبصار سواء في ذلك الرؤية أو غيرها من حواس الإنسان.
لكن الله جل وعلا محيط بالأبصار، ومطلع على سائر الأخبار والأسرار، عالم بظواهر الكائنات وأكناهها.
قوله :﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ اللطيف من اللطف وهو الرحمة والرفق. أي أن الله رفيق بعباده رحيم بهم. والخبير : العالم الذي يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار١.
والله جل وعلا يبين لعباده أنه جداءهم منه آيات ودلائل تبصرهم بما ينفعهم ويدرأ عنهم السوء والخسران ويصير بهم إلى الفوز والنجاة.
قوله :﴿ فمن أبصر فلنسفه ومن عمى فعليها ﴾ أي من تبين حجج الله وعرفها وأقر بها وأيقن دلالتها من توحيد الله وتصديق رسوله ﴿ فلنسفه ﴾ أي لنفسه أبصر وعرف الصواب واهتدى. أما من عمي عن هذه البينات والحجج ولم يستدل بها ولم يصدق بما دلت عليه من الإيمان بالله ورسوله فإلى نفسه أساء، وعليها جنى جناية الجحود والعصيان.
قوله :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أي لست حافظا لكم من عذاب الله. وقيل : لست رقيبا عليكم فأحصي عليكم أعمالكم. وإنما أنا نذير لكم أبلغكم ما أرسلت به، والله سبحانه وتعالى مجازيكم على أعمالكم.
قوله :﴿ وليقولوا درست ﴾ وليقولوا، عطوف على فعل مقدر. والتقدير : نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. أي ليصير عاقبة أمرهم إلى الجحود وإلى أن يقولوا :﴿ درست ﴾ أي قرأت وتعلمت من أهل الكتاب. وهذا إخبار من الله ينبئ فيه عن المشركين أنهم كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره. وقيل : درست وتعلمت من غلامين نصرانيين بمكة١. إذ قال أهل مكة : إنما يتعلم محمد منهما. وهذه مقالة سوء وفرية فاضحة يهذي بها المشركون السفهاء هذيان الأحمق الكذاب الذي تضيق به سبل الاحتجاج ليتشبث في النهاية بأكذب ما تصطنعه حناجر السخفاء والأشقياء والمعاندين وهم يتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يتعلم ما يقرأه على الناس من قرآن، من أهل الكتاب. إن هذا لإفك التعساء والخراصين والمناكيد !
قوله :﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ اللام للتعليل. والضمير لمصدر ﴿ نصرف ﴾ فيكون المعنى : لنبين تصريفنا للآيات لقوم يتبعون الهدى إذا سمعوه ويقبلون الحق إذا تبين لهم. وقيل : الضمير للقرآن٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٧ ص ٢٠٤- ٢٠٦ وروح المعاني ج ٧ ص ٢٤٨- ٢٥٠..
قال النسفي في تأويل هذه الآية : لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته.
قوله :﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ أي ما جعلناك رقيبا تحفظ عليهم أعمالهم وأقوالهم أو ليس في مستطاعك أن تحفظهم من العذاب.
قوله :﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي ما أنت عليهم بقيم ولا موكل على أرزاقهم وأمورهم. ما أنت إلا مبلغ وعلى الله الحساب١.
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وفي رواية عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله١.
والمعنى أن المسلمين قد نهوا عن سبب آلهة المشركين، كيلا تستفزهم غيرتهم الفاسدة على أصنامهم فيسبوا الله ﴿ عدوا ﴾ أي جهلا أي جهلا واعتداء وتجاوزا إلى الباطل.
ويستدل من ذلك المصلحة إذا كانت تفضي إلى مفسدة أعظم منها. وفي مثل ذلك جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " قالوا يا رسول الله ! وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ".
وفي هذه الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع في كل حال. والذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة. ومعنى سد الذرائع هو حسم مادة وسائل الفساد دفعا له. فإذا كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة تفضي إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل. وذلك مذهب المالكة والحنبلية. وجملته أن سد الذرائع ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم. وهذا أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام، على الخلاف في ذلك٢.
واستدلوا على جواز الاحتجاج بسد الذرائع ببعض النصوص منها : ما رواه الترمذي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دع ما يريبك إلى ما لا يربيك ".
ومنها ما رواه البخاري عن النعمان بن بشير، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحلال بين والحرام بين. وبينهما أمور مشتبهة. فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله. ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ".
ومنها : الإجماع من الصحابة. وذلك أن عمر رضي الله عنه قال : أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسر لنا الربا فاتركوا الربا والريبة، بمحضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه أحد.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد والقبور ولعن من فعل ذلك ونهي عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد. وكذلك نهى عن الصلاة إليها أو عندها، وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها. ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها.
ومنها : أن الله تعالى نهى عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاعل بالتجارة عن حضور الصلاة.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطبع.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من أخذ الهدية أو قبولها حتى يحسبها من دينه، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا... إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها على تحريم الحلال المفضي إلى الحرام٣.
قوله :﴿ عدوا بغير علم ﴾ عدوا مصدره وفعله عدا يعدو عدوانا. ومنه قول القائل : عدا فلان على فلان إذا ظلمه واعتدى عليه. والمقصود أن المشركين يسبون الله ظلما وعدوانا وجهالة بالله وبقدره العظيم وبما يستوجبه من يقين الإيمان وكامل الإخبات والطاعة.
قوله :﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة للمصدر.
والتقدير : زينا تزيينا مثل ذلك. أي زينا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفر. وهو قول ابن عباس. ولعل التأويل الراجح للآية هو أن مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر. وذلك بإحداث القدرة والاستعداد فيهم لفعل ما يمكنهم فعله.
قوله :﴿ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ﴾ بعد هذا التزيين للناس فإن مردهم ومصيرهم إلى الله، وذلك يوم البعث حيث الحساب والجزاء. وإذ ذاك يوفقهم الله على ما أسلفوه من أعمال في الدنيا وعلى حقيقة مصيرهم في هذا اليوم الذي يجدون فيه ما يستحقونه من جزاء٤.
٢ - شرح تنقيح الفصول للقرافي ص ٤٤٨ وإرشاد الفحول ص ٢٤٦ والمنخول للغزالي ص ٥٦٧- ٥٦٨ والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل للشيخ عبد القادر بن بدران ص ٢٩٦..
٣ - أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج ٣ ص ١٥٩..
٤ - تفسير الطبري ج ٧ ص ٢٠٧- ٢٠٨..
قوله :﴿ لئن جاءتهم ءاية ليؤمن بها ﴾ أي لئن حصل لهم ما اقترحوه من الآيات والخوارق فلسوف يؤمنون. وهم في الحقيقة غير صادقين في قولهم وما اقترحوه. وما قالوا ذلك إلا مكابرين معاندين فهم العتاة الغلاظ الذين مردت قلوبهم وعقولهم على التمرد والطغيان. ولو أنهم رأوا كل آية أو خارق من الخوارق المعجزة ما آمنوا لفرط جحودهم وشدة تشبثهم بالأصنام. وهم المشركون أنفسهم الذين كانوا واقفين تماما على حقيقة الإنسان الفذ والرجل الكريم المبارك، ذي السيرة العاطرة المميزة والخلق الباهر المثير، الذي ليس له في العالمين نظير. ذلكم هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهم موقنون في أعماق ضمائرهم أنه النبي الصادق الأمين فضلا عما لمسوه بأعينهم وإدراكهم من معجزات حسية كانشقاق القمر وغيره. لكنهم مع ذلك كله أبوا وجحدوا وانقلبوا جاحدين منتكسين.
قوله : " قل إنما الأيات عند الله " أي أن الله هو القادر على أن يأتيكم بالآيات إذا شاء. وهو سبحانه يتصرف فيها حسب مشيئته المطلقة وحكمته البالغة.
قوله :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ الخطاب في قوله :﴿ يشعركم ﴾ للمؤمنين. أي وما يدريكم ويعلمكم أيها المؤمنون أنه إذا جاءت الآيات المشركين يؤمنون. وزيدت ﴿ لا ﴾ كقوله :﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾ والمعنى ما ممنعك أن تسجد. وزيدت لا لتأكيد المنع.
وقيل : المعنى، أنه إذا جاءتهم الآيات يؤمنون أو لا يؤمنون.
وقيل : الخطاب للمشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم. وقد انتهى الخبر عند قوله :﴿ يشعركم ﴾ ثم استأنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون إذ جاءتهم الآيات فقال :﴿ أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ وذلك بكسر همزة إن على أنها استئناف الخبر عن المشركين بنفي الإيمان عند مجيء الآيات.
قوله :﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ أي ندع هؤلاء المشركين الأشقياء في عصيانهم وفسقهم يترددون. فهم حيارى يتيهون في ضلالهم وقد غلبت عليهم الشقوة واستحوذ عليهم الشيطان٢.
٢ تفسير البيضاوي ص ١٨٧ والكشاف ج ٢ ص ٤٤ وتفسير الطبري ج ٧ ص ٢١٤ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ١٥٠-١٥٤..
ذلك تيئيس من إيمان هؤلاء المشركين الضالين الذين ختم الله على قلوبهم والذين فسدت فيهم الفطرة فتبدد من طبائعهم وأكناههم كل معلم من معالم الاستعداد الذاتي. فما عاد هؤلاء بعد ذلك ليستقلبوا الإيمان أو التوحيد الخالص لله أو الامتثال لأوامره. لا جرم أن هذا الصنف من البشر ممسوخ الفطرة والقلب، لو جيء إليه بكل آية أو معجزة أو خارق من خوارق الطبيعة ما آمن ولا استجاب لنداء الحق ولكنه سيظل سادرا في غيه وفسقه وشروده الجامح الأثيم إلى أن يصير في النهاية إلى جهنم ليكبكب فيها كبكبة القذارة أو الحجارة.
قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ يبين الله عدم الاقتصار على ما طلبه المشركون واقترحوه من معاينة الآيات بل يقول : لو نزلنا عليهم الملائكة فشاهدوهم معاينة، وأحيينا لهم الموتى ليشهدوا لهم بحقية الإيمان وصدق رسالة الإسلام وهم يسمعونهم سماعا ويرونهم عيانا، وكذلك لو جمعنا عليهم كل شيء قبيلة قبيلة وصنفا صنفا وجماعة جماعة فقابلولهم وواجهوهم وبينوا لهم حقية التوحيد والنبوة ﴿ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ جواب لو.
أي أنهم لا يؤمنون، على كثرة الآيات والمعجزات المذكورة. فهم مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم من شرك وعصيان. وذلك باختيارهم ولسوء استعدادهم الثابت في علم الله الأزلي. وليس بالإكراه والجبر. قوله :﴿ ولكن أكثرهم يجهلون ﴾ أي يجهلون أنهم لو أتوا بكل آية لا يؤمنون وقيل : يجهلون الحق. وقيل : يجهلون أن كل ذلك من الله وبقضائه وقدره١.
الكاف في اسم الإشارة، في محل نصب نعت لمصدر مؤكد لما بعده. أي مثل ذلك الجعل جعلنا لك أعداء. شياطين، منصوب على البدل من قوله :﴿ عدوا ﴾ وقيل : منصوب على أنه مفعول ثان للفعل جعلنا. وغرورا منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : منصوب على البدل من قوله :﴿ زخرف ﴾ وقيل : منصوب، لأنه مفعول لأجله. أي لغروره١. هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش وما افتروه من الأقاويل والأباطيل وما كادوه للإسلام ونبيه.
قوله :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن ﴾ وشياطين الإنس والجن، هم العتاة المردة من النوعين. وهم الذين يحفزون الناس ليجنحوا عن صراط الله، ويسولون لهم الجحود والعصيان والتمرد على الله بكل صور العصيان والتمرد. لا جرم أن شياطين الإنسان والجن خلف كل الخطايا التي يقرفها بنو البشر في هذه الأرض. وهم وراء كل ظواهر الكفر أو الفسق أو الإلحاد الذي سقط فيه الأشقياء والتعساء من بني آدم. أما شياطين الجن فهم صنف من الخليقة غير منظورة ولا محسة، ترى من حولها من حيث لا يراها الناس. وليس لها من وظيفة ولا شاغل إلا إفساد الإنسان بكل ظواهر الإيحاء من إغراء وإغواء، أو ترغيب وترهيب. وغير ذلك من الأساليب النفسية والباطنية التي يتدسس من خلالها الشيطان العاتي إلى العميق من دخائل الإنسان لينفره من فعل الخيرات، ويسول له فعل المعاصي والمنكرات، فضلا عن تحريضه على السقوط في جحيم الباطل بكل ضروبه من كفر وإلحاد وإيذاء للمسلمين وكيد للإسلام.
أما شياطين البشر فهم صنف آخر من الجنس المنظور من ذرية آدم. وهؤلاء مغايرون لشياطين الجن، في أمر أساسي واحد. وهو أن الأولين مخلوقون أشقياء في الأصل. فهم قد فطروا على الكفر والتمرد والرغبة اللحاحة في الإفساد منذ جيئتهم إلى هذه الدنيا. لكن الآخرين – وهم شياطين البشر- لم يخلقوا كافرين ولا عتاة فاسقين، لكنهم قد خالطهم الفساد بعد حين من البراءة التي جبلوا عليها وهم صغار. فما لبثوا بعد ذلك أن أشربت أذهانهم وقلوبهم وطبائعهم الكفر والفساد. وذلك لما لامست عقولهم ونفوسهم أساليب الشياطين الشريرة بمختلف الوسائل التربوية والفكرية والثقافية فانقلبوا مردة شياطين كإخوانهم من شياطين الجن أو أعتى وأشد. وفي هذا روى عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس. فقال : " يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن " قلت : يا رسول الله ! وهل للإنس من شياطين ؟ قال : " نعم شر من شياطين الجن ".
قوله :﴿ يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ الجملة في محل نصب حال من شياطين. أو صفة لعدو ؟ وقيل : الكلام مستأنف سيق لبيان عداوة الكافرين من شياطين الإنس والجن. ويوحي، من الوحي وهو الإشارة السريعة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي٢ وسمي وحيا لحصوله خفية. والمراد بقوله ﴿ يوحى ﴾ يلقي أو يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وقيل كذلك يوسوس بعض كل فريق من الفريقين للآخر. وقيل أيضا : إن مع كل جني شيطانا، ومع كل إنسي شيطانا فيوحي الشيطان لصاحبه بزخرف القول. ويدل على ذلك من السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ".
أما زخرف القول، فهو الكلام المزين المحسن خداعا. والزخرف معناه الزينة والتمويه. والغرور، ما غر الإنسان وخدعه فصده عن الحق إلى الباطل. والمقصود أن شياطين الجن يغرون ويوسوسون لشياطين الإنسان بالمزين من الكلام اللامع المخادع ليغروهم فيجانبوا الحق مجانبة وليسدروا في الأرض عتاة مفسدين، يحرضون الناس على المعاصي وفعل المنكرات ويخوفوهم من الإذعان لأوامر الله والامتثال لدينه وشرعه. ومثلما يوحي شياطين الجن إلى البشر فإنه لا يفوتنا أن نؤكد على أن شياطين البشر أشد إيحاء وإغراء وتمويها، وأقدر على إفساد الإنسان وإغوائه وإغراقه في الموبقات والآثام، بل أجدر أن يحاذرهم المؤمنون ويحرصوا على اجتنابهم والتعوذ بالله منهم ومن كيدهم ومكرهم وتمالئهم على الإسلام والمسلمين في كل الأحوال، بل في كل زمان ومكان.
ولَعمرُ الحق ما فسد المسلمون ولا انثنوا عن دينهم الإسلام ولا غاروا في الهوان والضياع والذلة، ولا ارتكسوا في المفاسد والفواحش وأوضار المحرمات والمحظورات، إلا بالجهود الهائلة الكثاف التي بذلها شياطين الإنسان وما فتئوا يبذلونها لتحطيم العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين ولتشويه الصورة عن حقيقة الإسلام فكرا وفقها وأخلاقا ومنهاجا ونظاما للحياة.
أجل ! ما ضل المسلمون ولا وهنوا ولا مالوا عن دينهم وارتاب كثير منهم في صلاح الإسلام للحياة البشرية إلا بفعل الأفاعيل المذهلة التي خطط لها الشياطين الإنسيون العتاة من دهاقنة الإفساد والتدمير والتشويه والتشكيك، من استعماريين وصليبيين وشيوعيين وصهيونيين وغيرهم من الناعقين الأتباع المتواطئين من أبناء المسلمين.
قوله :﴿ ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾ الضمير في ﴿ فعلوه ﴾ عائد إلى عداوة الشياطين وإيحاءاتهم الخبيثة بزخرف القول. وتأويل الآية أن الله قادر على هداية الناس ليكونوا جميعا مؤمنين. ولو شاء أن يجعلهم مؤمنين لفعل، لكنه ابتلى بعض الناس لينال كل فريق منهم جزاءه الذي يستحقه مما هو مسطور في الكتاب الرباني أن يفنى هذا الزمان.
قوله :﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ أي دع هؤلاء الشياطين من البشر الذين يجادلونك بالباطل ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن. دعهم ﴿ وما يفترون ﴾ أي وما يختلقون من الزور والأباطيل. وذلك هو شأن المسلمين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام ويبلغون الناس دعوة الحق. فإنه خليق بهم أن يبينوا للناس كلمة الإسلام بالتي هي أحسن وفي أسلوب علمي كريم ومحبوب كيما يطلع الناس على روعة الإسلام، وأن هذا الدين لهو الأمثل الذي يصلح عليه حال البشرية في هذه الدنيا. ولا مناص بعد ذلك من الاصطراع مع فريق الباطل وهم شياطين البشر الذين يكذبون على الله وأنبيائه ورسله ويزيفون الحق والتاريخ ويثيرون الشبهات والافتراءات من حول الإسلام !
وما على الداعين إلى دين الإسلام في مثل هذه الحال إلا أن يصطبروا ويحتملوا الأذى وقول الزور والإرجاف، وأن يتركوا الشياطين وما يكيدون ويأتفكون إلى أن يحكم الله بالحق وهو خير الحاكمين.
٢ - القاموس المحيط ج ٤ ص ٤٠١..
قوله :﴿ وليرضوه ﴾ أي ليحبوه لأنفسهم بعد ما مالت إليه قلوبهم.
قوله :﴿ وليقترفوا ما هم مقترفون ﴾ أي ليكتسبوا ماهم مكتسبون من الخطايا والآثام وقبائح الأعمال٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٨ ص ٥- ٧ وروح المعاني ج ٨ ص ٤- ٧ وفتح القدير ج ٢ ص ١٥٣..
قيل في سبب نزول الآية أن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك.
قوله :﴿ أفغير الله أبتغي حكما ﴾ الاستفهام للإنكار. والفاء للعطف. غير مفعول به للفعل أبتغي. حكما منصوب على الحال. وقيل : منصوب على التمييز١ والمعنى : قل لهم يا محمد لما طلبوه من أن يجعل بينه وبينهم حكما فيما اختلفوا فيه. فالله جل جلاله هو الحكم العدل وهو الصدوق ذو الفضل.
قوله :﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتب مفصلا ﴾ الجملة في محل نصب على الحال مؤكدة للإنكار. والمعنى : أأبتغي حكما غير الله، والحال أنه هو الذي أنزل إليكم القرآن العظيم المعجز على كونكم أميين لا تعلمون. أنزله إليكم مبينا كل ما تختصمون فيه. ومميزا فيه الحق من الباطل والحلال من الحرام، وغير ذلك من الأحكام. ذلك أن القرآن جاء تفصيلا وبيانا لكل شيء. فإنه مبين لأصول الأشياء والأحكام ومتضمن للقواعد والأسس من قضايا الإنسان والكون.
قوله :﴿ والذين ءاتينهم الكتب يعلمون أنه منزل من ربك الحق ﴾ كلام مستأنف سيق لتأكيد حقية القرآن. والمراد بالكتاب هنا التوراة والإنجيل. والمقصود باسم الموصول علماء اليهود والنصارى. فإنهم موقنون في أعماقهم أن القرآن منزل من عند الله بالحق. أي أن كل ما حواه هذا الكتاب الحكيم من أخبار وأحكام ووعد ووعيد لحق. وقوله :﴿ بالحق ﴾ في محل نصب على الحال.
قوله :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ الفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب أن القرآن منزل من ربك بالحق. والمراد بالممترين : المترددون الشاكون. والمعنى، أن الله نهى رسوله الكريم أن يكون من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بالحق. وقيل : نهاه عن مطلق الامتراء وذلك من باب التعريض لأمته كيلا يمتروا. أي لا يكن أحد من الناس ممتريا. والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المراد بمقتضاه أمته٢.
٢ - فتح القدير ج ٢ ص ١٥٥ وروح المعاني ج ٨ ص ٩- ١٠..
قوله :﴿ لا مبدل لكلمته ﴾ أي لا مغير لما أخبر في كتابه. فوعده الحق، إذ لا خلف في وعده ولا رادا لقضائه.
قوله :﴿ وهو السميع العليم ﴾ الله سميع لما يجري في العالمين من كلام وأحاديث فما من قول ينطق به الناطقون في العالمين، من حق أو باطل أو افتراء أو لغو أو غير ذلك من وجوه الكلام، إلا والله يسمعه. وكذلك فإن الله عليم بكل ما يقع في العالمين بل في الكون كله من أحداث أو أسرار، يستوي في ذلك ما كان منطوقا مسموعا أو كان مهموسا خفيا٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٨ ص ٧-٩..
ذلك إخبار من الله عن أهل الأرض، أن أكثرهم ضالون. ويؤيد هذه الحقيقة قوله تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ فذلك تحذير من طاعة هؤلاء الضالين المضلين من أكثر البشرية. فإن طاعتهم تفضي إلى معصية الله ومجانبة أمره والركون إلى الهوى والشهوات. لا جرم أن اتباع المفسدين والأشرار من البرية سيؤول إلى الصدوف عن منهج الله والسقوط في وهدة الكفر والعصيان. وما ينبغي على المسلمين في كل زمان إلا الحذر من مطاوعة المفسدين من أهل الأهواء والضلال صونا وتنجية لأنفسهم من الوقوع في غضب الله وسخطه حيث النار وبئس القرار.
وقوله :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ أي ما يتبع هؤلاء المشركون في عبادتهم ومقاصدهم وتصوراتهم إلا الظن الذي ليس له أصل من الحق أو اليقين. وإنما هو الشك القائم على الخطأ والحسبان وذلك لا يغني من الحق شيئا.
قوله :﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾ يخرصون أي يكذبون. وذلك من الخرص بسكون الراء ومعناه الكذب وكل قول بالظن. والخراص الكذاب. تخرّص، أي كذب١ والمعنى أن هؤلاء المشركين المضلين ما هم إلا يكذبون في مقالاتهم وأحاديثهم وعباداتهم. وهم كذلك كاذبون واهمون في تصوراتهم وفيما يحسبونه صوابا.
والمقصود أن الله أعلم بالمضلين، فاحذروهم وضلالاتهم وغواياتهم. احذروهم وما يكيدون لكم أو يتربصون بكم وما يخططونه لكم من أساليب التخريب والإفساد والتضليل. وهو كذلك أعلم بمن هم المهتدون الذين سلكوا سبيل النجاة ومضوا على المحجة السوية البيضاء. أولئك أجدر أن نكون في زمرتهم لنسير في هذه الدنيا مسيرة الخير والبركة والطاعة لله دون غيره من الأنداد المضلين.
وروي أن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام. فوقع في أنفس أناس من المسلمين من ذلك شيء. فأنزل الله الآية.
وأخرج أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى. فأنزل الله الآية١.
قوله :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بئايته مؤمنين ﴾ الفاء متعلقة بما قبلها. وبيان ذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فرد الله مقالتهم الباطلة مبينا لهم أنهم إن كانوا مؤمنين حقا فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه. وهو ما ذكي عند ذبحه بالقول : " باسم الله " ولا يحل غيره مما ذكر عليه اسم الله أو ما مات حتف أنفه. وذلك هو الحكم الصواب الذي يعيه المؤمنون ويوقنون أنه الحق لأنه من شرع الله فقال :﴿ إن كنتم بئايته مؤمنين ﴾.
قوله :﴿ وإن كثيرا ليضلوا بأهوائهم بغير علم ﴾ يبين الله أن كثيرا من المضلين الفاسقين يضلون أتباعهم المشركين بأن يحرموا عليهم الحلال ويحلوا لهم الحرام كالذين ابتدعوا من عند أنفسهم للناس فرية البحائر والسوائب والأوصال والحوامي ونحو ذلك مما لم ينزل الله به من سلطان. ومثل ذلك إنما يصدر عن هؤلاء المضلين تبعا لأهوائهم الفاسدة. إنه لا يصدر عن علم مقتبس من شريعة الله.
قوله :﴿ إن ربك هو أعلم بالمعتدين ﴾ الله يعلم المعتدين المضلين الذين يتجاوزون الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام. أولئك يجازيهم الله بما أساءوا وبما افتروا من الضلال والباطل١.
يأمر الله عباده أن يكفوا عن الإثم، ما كان منه في السر وما كان في العلن، أي سره وعلانيته. وقيل : المراد بالعلن الزنا الظاهر. أما السر فيراد به المخادنة. والمقصود بها إتيان الزنا مع الصوابح في السر، فقد ذكر أن أهل الجاهلية كانوا يستسرون بالزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرا. وإذا ظهر كان إثما. ومثل هذا التصور باطل وسخيف. فإن الفواحش كلها حرام يستوي فيها الظاهر والباطن. وشأن المسلم على الدوام أن يخشى الله في كل آن. يخشاه في علانيته وخفيته ويتجنب عصيانه وهو ظاهر للملأ. أو وهو مستور في جنح الظلام أو في معزل عن أبصار الناظرين.
ولئن قارف المسلم شيئا من إثم في علانيته أو سره وجب في حقه أن يبادر التوبة والندامة والاستغفار عسى الله أن يتجاوز عن مساءاته وذنوبه.
قوله :﴿ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ﴾ يتوعد الله الآثمين من الناس الذين يقترفون المعاصي ما ظهر منها وما بطن بأنهم سيلقون جزاءهم من العقاب الذي يستحقونه يوم القيامة.
واحتجوا بما رواه البخاري والبيهقي عن عائشة أن ناسا قالوا : يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتون بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : " سموا عليه أنتم وكلوا ".
واحتجوا كذلك بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله ".
وذهب آخرون إلى أن ترك التسمية على الذبيحة سهوا لا يضر. وإن تركها عمدا لم تحل. وهذا هو المشهود من مذهب المالكية والحنفية والحنبلية وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى وآخرين. ودليلهم في ذلك حديث ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ١.
قوله :﴿ وإنه لفسق ﴾ الفسق معناه الخروج. والمقصود به هنا الخروج عن أمر الله. على أن ترك التسمية لا يكون فسقا، والظاهر أن المراد به هنا الذبح لغير الله.
قوله :﴿ وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم ﴾ الشياطين من جنود إبليس يوسوسون إلى أعوانهم وأتباعهم من كفرة البشر ليجادلوا المؤمنين. أي يخاصمونهم. جادله : خاصمه. والمجادلة والجدال بمعنى الخصام. والاسم الجدل بالتحريك وهو شدة الخصومة٢.
هكذا يلقي الشياطين في قلوب أولياؤهم وأتباعهم المشركين الجدال بالباطل، ويوحون إليهم بالزخرف من القول المموه الخادع ليخاصموا به المؤمنين فيشقوا عليهم بالخصام الفاجر أو يحرجوهم إحراجا أو يطوقوهم بالإعنات والتضييق هذا ما يفعله شياطين الجن، إذ يوحون إلى أوليائهم من شياطين البشر الخبيث من القول، وكاذب الأخبار ليخلطوا على المؤمنين دينهم وليشاقوهم بالجدل العقيم الجاحد مشاقة، وذلك بمختلف الأساليب من الخصام الذي يراد منه إحراج المسلمين وإثارة الريبة في نفوسهم تثبيطا لهممهم وتفتيرا لعزائمهم وإذاواء لوهج العقيدة الدافعة في قلوبهم.
قوله :﴿ وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ﴾ إن أطعمتم المشركين في أكل الميتة وغيرها من المطعومات المحرمة استحلالا منكم لها فأنتم مثلهم في الشرك. وحقيقة الأمر في هذه المسألة أن الذي يستحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله معتقدا ذلك لا جرم أنه مشرك خارج عن الملة. وذلك بخلاف المعتقد لأحقية ما أحل الله وما حرم ثم يقترف شيئا من المحظورات فذلكم عصيان لا شرك. ولا غرو فإن المسلم ربما يقع في المعاصي والسيئات لا يسوقه إلى ذلك سوى الضعف وهو موقن في قرارة نفسه تمام اليقين أحقية ما أمر الله، وأن أحكام الشريعة كلها حق، فمثله يظل في زمرة المسلمين وإن خالف وعصى٣.
٢ - مختار الصحاح ص ٩٦..
٣ - تفسير القرطبي ج ٧ ص ٧٤- ٧٧ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٨- ١٧٠..
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حمزة وأبي جهل، إذ رمى الرسول بفرث١ فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس، وكان ذلك قبل أن يسلم، فغضب وعلا بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول : سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا. فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله وأسلم٢ وقيل : نزلت في كل مؤمن وكافر.
الهمزة للاستفهام الإنكاري : وقرأ الجمهور الواو بالفتح. وقرأها بعضهم بالسكون من، اسم موصول في محل رفع مبتدأ. والكاف في قوله :﴿ كمن ﴾ خبره٣. والمراد بالميت هنا الكافر، فقد أحياه الله بالإسلام. وقيل : كان نطفة فأحياه الله بنفخ الروح فيه. والتأويل الأول أولى لإشعار السياق بذلك. فالمقصود التنفير من اتباع المشركين لأنهم على الكفر وهو عين الباطل. وما يتبع الباطل إلا كل عات جحود، أو عتل مستكبر كنود. فإن الذي يعرض عن دعوة الله ويستنكف عما يهتف به النبيون والمصلحون والدعاة إلى الله الذين يبلغون الناس رسالة الله، لا جرم أنه صنو الميت. فكللاهما يخرجان من وهدة سحيقة غائرة واحدة. تلك هي وهدة الظلام والجهالة. وهدة التبلد والموات وركود الذهن. وذلكم الموت الذي لا يسفر عن علم ولا نور ولا هداية، والمراد به هنا الكفر حيث التخبط والظلم والمرض. والمراد بالنور : الهداية. وقيل : القرآن. والمقصود هو نور الحق من الإسلام الذي جعله الله هداية للناس.
قوله :﴿ كمن مثله في الظلمت ﴾ مثله، مبتدأ مرفوع. وخبره في الظلمات. والجملة صلة لمن. والظلمات جمع ظلمة. وقيل : مجاز عن الكفر. والمعنى : أنه لا يستوي من كان كافرا ثم أحياه الله بالإيمان وجعل الله له نورا وهو الإسلام يمشي به في الناس مستنيرا ومهتديا وداعيا إليه الناس – لا يستوي هو والذي في الظلمات سادرا تائها يتخبط لا يهتدي إلى الصواب ولا يعرف أين السبيل. وشأن هذا كالذي يخبط في الظلمة الحالكة ليهيم على وجهه ضائعا متعثرا. شأنه شأن الكافرين الضالين يهيمون في غياهب الكفر على اختلاف أنواعه، لا جرم أنهما لا يستويان. لا يستوي المؤمن المهتدي والكافر المتعثر الضال. فالمؤمن مطمئن ومستيقن ومستنير. والكافر تائه وحائر وجهول. وعلى هذا فإن المؤمنين الذين أشربت نفوسهم وأذهانهم معاني الإسلام بكل قيمه وتصوراته وموازينه، لا شك أنهم راضون وماضون في طريقهم المستنير اللاحب. لكن الكافرين على اختلاف نحلهم ومللهم وتصوراتهم أشبه بالمضللين الحيارى السادرين في الظلام الذين لا يجاوزون ضلالهم المنقطع إلا إلى المهالك والشقوة وسوء المصير.
قوله :﴿ ليس بخارج منها ﴾ في محل نصب الحال. أي حال الكافر الضال الذي هوى الظلمات فهام على وجهه تائها سادرا لا يعرف كيف الخروج أو الخلاص.
قوله :﴿ كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون ﴾ الكاف في اسم الإشارة في محل نصب صفة للمصدر. والتقدير : زين للكافرين مثل ذلك التزيين أي الشيطان لهؤلاء الكافرين أعمالهم من الشرك وعبادة الأصنام وهو قول ابن عباس. وقيل : زين الشيطان للكافرين الكفر فعملوا به كما زين الله الإيمان للمؤمنين فعملوه٤.
٢ - تفسير المحيط لأبي حيان الأندلسي ج ٤ ص ٢١٤..
٣ - البيان لابن الأنباري ج١ ص ٣٣٧..
٤ - البيان للطوسي ج ٤ ص ٢٦٠ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٨..
والأكابر، جمع أكبر مثل أفضل أفاضل. وأسود أساود. والمراد بمجرميها : فساقها من رؤوس الكفر والضلال والعصيان. وهذه هي سنة الله الظاهرة في الحياة والمجتمعات، أن يكون المجرمون في كل قرية أو بلد أكابر فساقه ومجرميه. لكن المؤمنين المصدقين – في أغلب الأحوال – يكونون من الضعفاء والفقراء والبسطاء، لكنهم هم الذين كتب الله لهم النصر وجعل لهم حسن الثواب والعاقبة في هذه الدنيا حيث النصر. وفي الآخرة حيث الجنة والرضوان. ومثل هذه الحقيقة نقف عليها بالملاحظة والتدبر والاستقراء لتعلم أن أكابر الأمصار والأقطار هم من المجرمين العتاة أو الجبابرة العصاة سواء كانوا من الساسة والقادة والحكام أو كانوا من المفكرين أولي النظريات والفلسفات الزائفة الجانحة عن صراط الله، المناهضة لمنهجه العظيم. وقد خص الله الأكابر، لأنهم أقدر على الإفساد والتحيل والمكر والكيد. وذلك لسطوتهم ورئاستهم وقوة مكانتهم في الناس. فهم بذلك يستتبعون الضعفاء والمحاويج لجانبهم فيستخفونهم لطاعتهم استخفافا. وفي زمن النبوة كان هؤلاء الفساق المجرمين يجلسون على طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس. عن الإيمان برسول الله ولينفروهم من الإسلام. وهذا ما يحدث للإسلام في كل زمان. إذ يتصدى أكابر المجرمين من ساسة وقادة وحكام متسلطين وأولي فكر مضلل مقبوح، ونظريات شائهة كاذبة، وأقلام مأجورة للظالمين والشياطين – يتصدون للإسلام بالتضليل والافتراء أو يتصدون للمسلمين فيذيقونهم النكال والويل والتعذيب.
قوله :﴿ ليمكروا فيها ﴾ المكر معناه الاحتيال والخديعة والمكر والختل والغدر نظائر٢ اللام لام كي، وهو ما بيناه سابقا. وقيل اللام لام العاقبة. ويسمى لام الصيرورة. والتقدير : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليطيعوني ويمتثلوا أمري وكان عاقبتهم أن يمكروا بالمؤمنين وخدعوهم وكادوا بهم لينكلوا بهم ويقضوا عليهم أو يجعلوهم عالة صاغرين مستضعفين.
قوله :﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم ﴾ هؤلاء الماكرين الذين يخادعون الإسلام والمسلمين، والذين يأتمرون بالمسلمين لينكلوا بهم أو يقتلوهم أو يبددوا كلمتهم وشملهم لسوف يحيق بهم هذا المكر الغادر. إذ يجعل الله الدائرة عليهم أو يصيبهم من قوارع الدنيا وكوارثها ما يزلزلهم ويدمر عليهم حتى يصيروا إلى أتعس مآل من الشقاوة والمرض والعيش الآسن المنكود.
قوله :﴿ وما يشعرون ﴾ هؤلاء المجرمون المفسدون في الأرض سادرون في غيهم وضلالهم، لاهون عن مصيرهم الرهيب المحتوم، وساهون عن مآلهم المظلم الذي ينتظرهم. حتى إذا انتقم الله منهم أو أخذهم أخذ عزيز مقتدر تذكروا وعضهم الاستيئاس والندم ولات حين مندم.
٢ - مختار الصحاح ص ٦٢٩ والبيان للطوسي ج ٤ ص ٢٦١..
ولذلك قال :﴿ لن نؤمن حتى نؤتى مثا ما أوتي رسل الله ﴾ يعني مثل ما أوتوا من الرسالة أو النبوة. ويعزز هذا التأويل قوله تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ ذلك إنكار من الله عليهم من أجل هذه المقالة الظالمة التي اجترؤوا فيها على حكمة الله وتقديره. فالله تعالى أعلم بمن هو أحق بالرسالة، ومن هو جدير بحمل هذه الأمانة العظمى التي لا يطيق حملها غير النوادر القلة من أخبار البشرية. أولئك الأعاظم الأفذاذ من هداة العالمين الذين يعلم الله وحده حقيقة أكناههم وروعة فطرتهم وكمال خصالهم الحميدة المميزة. وقوله :﴿ مثل ﴾ منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف. وما مصدرية. والتقدير : لن نؤمن حتى نؤتها إيتاء مثل إيتاء رسل الله. وحيث، مفعول لفعل مقدر. أي يعلم. والجملة بعدها صفة لها. وقيل : حيث مضاف. والجملة بعدها مضاف إليه.
قوله :﴿ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ﴾ ذلك وعيد من الله لؤلئك المضلين المجرمين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين والذين يتربصون بالمسلمين السوء والضعف والهوان. لقد توعد الله هؤلاء الشياطين من البشر الغادر، بالصغار. وهو الذل والمهانة والخزي من عند الله سواء في الدنيا أو الآخرة. أما في الدنيا فلا مناص للمجرم الغادر الذي تمالأ على الإسلام والمسلمين، من سقوطه في عذاب الدنيا ليذوق وبال أمره. وألوان العذاب الدنيوي كثيرة. منها الأمراض الأليمة، وأمراض النفس الممضة. أو غير ذلك من صور البلاء كالخزي والإذلال والافتضاح. وإذا تصور الناس أن هؤلاء المجرمين الأكابر ما أصابهم من الدنيا عذاب بحسب الظاهر، فإنهم سيفيضون إلى عذابهم المحقق المنتظر في أشد الساعات ضيقا وثبورا وحراجة وهم يكابدون أشد المكابدة في سكرات الموت. لا جرم أن ذلك ذرة العذاب في هذه الدنيا، بل إنه أنكى ما يحيق بالمجرمين في دنياهم من العذاب. ولعمر الحق إن عذاب الآخرة أشد نكاوة بما كادوه للإسلام وما صنعوه في المسلمين من ويلات وأفاعيل١.
من يرد الله هدايته للحق والإيمان ﴿ يشرح صدره للإسلام ﴾ أي يفتح قلبه لنور الإسلام حتى يستقبله بانشراح وراحة ورضى فيقبله قبول المتيقن المطمئن ويعيه وعي الجذلان المحبور.
قوله :﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ﴾ أي من يرد الله إضلاله وخذلانه ﴿ يجعل صدره ضيقا حرجا ﴾ منصوبان على الحال، إذا كان ﴿ يجعل ﴾ يعني يخلق. وقيل :﴿ حرجا ﴾ وصف للمصدر. مثل : رجل عدل.
والضيق يراد به هنا القسوة والنبو عن قبول الحق. أي يضيق صدره وينسد انسداد الكز١ المغاليق. وذلك هو تقدير الله في خلقه، يصنع ما يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وهو سبحانه أحكم الحاكمين. والحرج معناه الضيق الشديد. وقيل : أضيق الضيق. قال ابن عباس في تأويل قوله :﴿ ضيقا حرجا ﴾ : إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه. وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.
وذلك هو شأن العتاة الجاحدين من خصوم الإسلام في كل زمان. منهم بارعون ناشطون دهاة في التصدي للإسلام بالكيد والعداء والتخطيط الخبيث في الظلام. أولئك يكرهون الإسلام كراهية بالغة مسرفة. كراهية مركومة ومركوزة في العميق من نفوسهم الحافلة بالغيظ والحقد على الإسلام وأهله. إن هذا الصنف من الناس ما يكاد يسمع عن عزة الإسلام وروائعه وأمجاده شيئا تحيط به الحسرة والنفور ويأخذه التسخط والامتعاض ويطوق قلبه وروحه التبرم والحسد لفرط ما ينحبس في صدره من كراهية للإسلام وأهله. مع أن الإسلام جاء رحمة للبشرية كافة. وكذلك المسلمون فإنهم أحرص الناس على الرحمة بالإنسانية ودفع الأذى والشر والضر عنها. الله يعلم أن المسلمين أعطف الخليقة بالخلائق عامة لما قذفه الإسلام بعقيدته وتعاليمه من غامر الرأفة والتحنان في قلوبهم.
قوله :﴿ كأنما يصعد في السماء ﴾ يصعد، بالتشديد، أي يتكلف ما لا يطيق من المشقة والعناء مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء. وقيل : كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوّا عن الإسلام. والمراد أن الذي يضيق صدره حرجا لدى سماع القرآن أو الإسلام فإنه يشق عليه الإيمان مثلما يشق عليه صعود السماء، وهو ما لا يستطيعه أو يطيقه كائن بقدراته العادية. وفي الصعود إيحاء ببالغ المشقة والإرهاق والتعسير. ومنه قوله سبحانه :﴿ سأرهقه صعودا ﴾ وذلك تصوير رباني بالغ ومبين يكشف عن حال المعاندين الغلاظ الذين تتجافى قلوبهم عن قبول العقيدة الإسلامية أو تتعامى أنظارهم وعقولهم عن إدراك الإسلام بحقائقه الكريمة المستفيضة. هؤلاء الجفاة المتربصون إذا سمعوا الإسلام أو دعوا إليه ضاقوا ذرعا بل ضاقت بهم السبل والدنيا بما رحبت، وأخذهم من فرط الاغتمام والحنق والمكابدة مثل ما يجده الذي يصعد في السماء حسيرا وجلا مذعورا.
قوله :﴿ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة للمصدر. والتقدير : مثل ذلك الجعل يجعل الله الرجس والأصل في الرجس أنه النتن، والنجس. وقيل : العذاب وقيل : الإثم. والمعنى : أنه مثلما جعل الله الصدر ضيقا حرجا فإنه يجعل الرجس : العذاب أو الإثم على الجاحدين للتوحيد المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم٢.
٢ - البيان للطوسي ج ٤ ص ٢٦٨ وتفسير البغوي ج ٢ ص ١٢٩ وتفسير البحر المحيط ج ٤ ص ٢١٧..
قوله :﴿ قد فصلنا الأيت لقوم يذكرون ﴾ أي بيانها ووضحناها وجعلناها مستبينة ميسرة لمن أراد أن يتدبر أو يتذكر. أو لمن كان يملك زمام عقله وفكره وشخصه فيتحرر بذلك من إسار التعصب أو الجهالة أو الحقد أو الهوى الجامح ليجد أن القرآن كلام الله السامق الفذ وأنه بروعته وعذوبته وجمال آيه وكلمه غاية الإعجاز الذي ليس له في الكلام نظير. وليجد كذلك أن الإسلام طريق الإنسانية إلى التفاهم والتعاون والسلام. وهو منهاجها الشامل المتكامل الذي يتناول قضايا العالمين ومشكلاتهم جميعا.
وقيل : السلام، بمعنى السلامة. أي دار السلام من الآفات والنوائب والأهوال والمكاره جميعها مما يجده الأشقياء التعساء في النار.
قوله :﴿ وهو وليهم بما كانوا يعملون ﴾ الله تعالى ناصر هؤلاء المؤمنين المخلصين العاملين وهو حافظهم ومؤيدهم جزاء ما قدموه من الأعمال الصالحة في الدنيا١.
قوله :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ﴾ يوم، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : اذكر يوم نحشرهم. وقيل : منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر. أي اذكر، أيضا جميعا، منصوب على الحال من الهاء والميم في ﴿ يحشرهم ﴾ ١.
في الآية يذكر الله بذلك اليوم المشهود الذي يجمع فيه عبدة الأوثان والأصنام. أولئك الذين اتخذوا الأنداد شركاء لله في الخضوع والعبادة – يجمعهم مع أعوانهم وأنصارهم من الشياطين الذين أغووهم والذين أوحوا لهم بالزخرف من الكلام المموه الخادع. هؤلاء جميعا يحشرهم الله يوم القيامة حشرا. والتعبير بالحشر يوحي بحال هؤلاء المحشورين المقبوحين من الشقاوة والتعس وانتفاء الكرامة والاعتبار. لا جرم أن الضالين المشركين من الشياطين وأتباعهم من البشر الفاسق مجموعون بين يدي الله في الآخرة ليجدوا هوان الحشر وما فيه من ضيق وإعانات وتحقير ومهانة.
قوله :﴿ يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾ معشر الجن أي جماعتهم. والمراد بهم هنا الشياطين. والمعنى أن الله يقول لهذا الفريق المضل من الجن على سبيل التقريع والتوبيخ : لقد أضللتم كثيرا من الإنس بإغوائكم إياهم وإفسادكم لهم. وقيل : أكثرهم من إغوائهم وإضلالهم.
قوله :﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾ استمتع من الاستمتاع وهو التلذذ والانتفاع٢ والأولياء من الإنس يراد بهم الأتباع من الناس الذين أطاعوا الشياطين وساروا في سبيل الضلال الذي سيقوا إليه بإغواء الشياطين من الجن لهم. وكل فريق من الطرفين قد استمتع بالآخر. فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس لهم، إذ أطاعوهم فيما دعوهم إليه من الفسق والعصيان والغواية ومخالفة أوامر الله فضلا عن تعظيم الإنس لهم في استعاذتهم بهم. واتخاذهم لهم قادة ورؤساء. وأما انتفاع الإنس من الجن فهو أن الجن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إلى مختلف الأهواء والمنكرات. إلى غير ذلك من وجوه الشهوات الرخيصة التي تهبط لها وتتهاوى أمامهم عزائم الأنذال من الفاسقين والعصاة، أتباع الشيطان في كل زمان.
قوله :﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ﴾ أي بلغنا الموت بعد كل الذي حصل من الاستمتاع والتلذذ بالشهوات والمحظورات وكل وجوه الحرام. وذلك بفعل التزيين والإغراء من الشيطان الذي أضلنا وأغوانا. وقيل : يقولون ذلك يوم القيامة إقرارا بذنوبهم ومعاصيهم بعد أن أطاعوا الشياطين واتبعوا الهوى والشهوات وكذبوا بالرسل والبعث. قالوا ذلك وهم تحيط بهم الأهوال والفظائع واليأس من كل جانب. لقد قالوا مقالتهم وهم في غاية الإحساس بالندامة والحسرة والإياس موقنين أنه لن يجديهم بعد ذلك ندم ولا توبة وأن مصيرهم المحتوم إلى الثبور وعظائم الأمور.
قوله :﴿ قال النار مثوكم خلدين فيها ﴾ مثواكم : منزلكم. والمثوى معناه المنزل. ثوى بالمكان، أي أقام فيه٣ ويجوز أن يكون المثوى مصدرا بمعنى الثواء وهو الإقامة. وخالدين، حال النار مكان إقامتكم في حال الخلود٤ وذلك جواب فاصل وقاطع من الله لا معقب له من أحد. وهو أن النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائم يوم القيامة، إذ تثوون إليها ثواء اللابثين بغير فراق ولا مبارحة، لا جرم أن النار لهي دار مقام للفاسقين من البشر الذين أضلهم الشيطان ليظلوا فيها يكابدون العذاب بكل ألوانه وصنوفه. نعوذ بالله من ذلك عوذا كبيرا.
قوله :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ الاستثناء منقطع، فهو ليس من الخلود في النار. والمعنى أنهم خالدون في النار باستثناء المدة التي ما بين مبعثهم من قبورهم ومصيرهم إلى جهنم. أي باستثناء مقدار حشرهم في قبورهم ومقدار لبثهم في الحساب.
قوله :﴿ إن ربك حكيم عليم ﴾ الله حكيم في معاقبة هؤلاء الفاسقين المعرضين، أتباع الشياطين. حكيم في تعذيبهم وما لهم من المصير المهين. بل إنه حكيم في كل ما يصدر عنه من أفعال وأحكام. وهو كذلك عليم بما يستحقه هؤلاء العصاة من الجزاء.
٢ - مختار الصحاح ص ٦١٤ والمصباح المنير ج ٢ ص ٢٢٦..
٣ - المصباح المنير ج ١ ص ٩٧..
٤ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٣٩..
وقيل : نولي، من الولي وهو الناصر والحليف. أي نجعل الظالمين حلفاء ونصراء ومتعاونين فيما بينهم على الكفر والضلال والباطل. وذلك هو ديدن الكافرين الظالمين من أهل الباطل في كل زمان ومكان. إنهم يوالي بعضهم بعضا. أي يناصر بعضهم الآخر لما بينهم من شعيرة التحالف والتعاون على الشر والباطل. بل على الإضرار بالمؤمنين بفعل ما يؤذيهم وينزل بساحتهم الشرور والمفاسد والموبقات.
قوله :﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ أي نولي بعضهم بعضا بسبب ما اكتسبوه من الذنوب والمعاصي١.
شرع بعد ذلك في تقريع المعشرين ( الإنس والجن ) وتوبيخهم بسبب تفريطهم وإجرامهم في حق أنفسهم وحق الآخرين. ومثل هذا التوبيخ والتقريع إلى جملة التنكيل الذي سيلاقيه المفرطون العصاة من الإنس والجن. فقال سبحانه :﴿ يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم ءايتي ﴾.
هذا قول الله للكافرين من الإنس والجن يوم القيامة موبخا لهم توبيخا : ألم أبعث إليكم رسلي يخبرونكم بما أوحي إليهم مما فيه تنبيهكم وإرشادكم وتفصيل الدلائل والحجج لكم على توحيدي وصدق أنبيائي ولزوم ائتماركم بأوامري والانتهاء إلى حدودي ؟
لكن هل التأويل اختلفوا في الجن هل أرسل منهم إليهم مرسلون أم لا ؟ فقد قيل : أرسل الله من الجن رسلا كما أرسل من الإنس، استدلالا بهذه الآية. وقيل : لم يرسل الله من الجن رسلا إليهم ولم يكن منهم قط رسول. وإنما الرسل من الإنس خاصة. أما الجن فمنهم النذر، بدليل قوله تعالى عن الجن :﴿ ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ وذهب إلى هذا ابن عباس. وقالوا في تأويل قوله :﴿ ألم يأتكم رسل ﴾ إن المراد كون الرسل من أحد الفريقين كما قال سبحانه :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الماء الملح دون العذب منهما. وإنما المعنى أنه يخرج من بعضهما أو من أحدهما.
قوله :﴿ وينذروكم لقاء يومكم هذا ﴾ أي أرسل الله المرسلين إلى معشر الجن والإنس ليخوفوهم من أهوال هذا اليوم العصيب. اليوم الذي يحشرون فيه إلى ربهم فيجدون فيه من البلايا والويلات ما ليس له في نوائب الدنيا نظير.
قوله :﴿ قالوا شهدنا على أنفسنا ﴾ هذه شهادة الظالمين على أنفسهم يوم القيامة من غير زيغ أو إنكار أو دوران. وإنما الاعتراف الواضح المكشوف بجيئة المرسلين إليهم وتبليغهم إياهم دعوة ولزوم التصديق والائتمار بأوامر الله.
قوله :﴿ وغرتهم الحيوة الدنيا ﴾ هذا خطاب من الله للمؤمنين. وهو أن هؤلاء الظالمين الناكبين عن صراط الله، المجانبين لمنهجه الرباني الكامل، كانوا قد غرتهم – أي خدعتهم الحياة الدنيا بكل ما في العبارة ( الحياة الدنيا ) من مضامين. والحياة الدنيا حافلة باللذات والغوايات والمباهج وغير ذلك من خسائس الحياة العاجلة التي تمر مرور الأطياف والآفلين سراعا. وهذه الدنيا بالرغم من هوانها و حقارتها وزرايتها في نظر المؤمن المتدبر الحريص، فإنها شركا للغافلين من شرار الناس الذين خدعتهم الحياة خداعا فسقطوا في أرجاسها وأدناسها ومعايبها التي استغلتهم وجنحت بهم عن دين الله جنوحا مغاليا فباؤوا بذلك بالخسران ليكونوا يوم القيامة من أصحاب الجحيم.
قوله :﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين ﴾ هذا إقرار من الكافرين الذين أغوتهم الشياطين – على أنفسهم بأنهم كانوا في الدنيا كافرين. يقولون مقالتهم هذه في صراحة منطوقة لا خفية ولا مخبوءة. وإنما هو الاعتراف العجيب في مثل هذا الموقف المرعب المشهود بما يكشف عن هول ما يطوق هؤلاء الخاسرين من الحسرة والندامة والإياس ثم ليصروا بعد ذلك إلى النار١.
اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ يحتمل وجهين من الإعراب. أحدهما : أنه في محل رفع على أنه خبر، ومبتدأه تقديره : الأمر ذلك. وثانيهما : أنه مبتدأ وخبره محذوف مقدر. أو خبره قوله تعالى :﴿ أن لم يكن ربك مهلك القرى ﴾ وأن، مخففة من الثقيلة. وتأويل الآية أن الله لم يعذب الناس إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل إليهم. فلم يعاجلهم بالعقاب لشركهم وهم في غفلة حتى يبعث إليهم رسله لتنبيههم على حجج الله وتنذيرهم عذابه يوم معادهم إليه كيلا يحتجوا ويقولوا :﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾.
وقيل في تأويلها وجه آخر وهو : أن الله لا يهلك القرى بشرك من أشرك وكفر من كفر من أهلها وهم غافلون. وهو كقوله :﴿ ولا تزر وازرة أخرى ﴾.
ربك الغني : مبتدأ وخبره. ذو الرحمة صفة للغني. والمعنى أن الله غني عن سائر الكائنات. وهو غني عن عباده وعن كل ما يصدر عنهم من طاعات وعبادات. والحقيقة الراسخة في هذا الصدد والتي يعيها كل مسلم واع متدبر هي ﴿ إن اله لغني عن العلمين ﴾ بل إن العاملين والخلائق كافة محتاجة إلى الله. فهو بعظيم سلطانه ورحمته مرجو ومقصود يتضرع إليه داعيا متذللا كل مؤمن عابد.
قوله :﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾ ذلك تخويف للمكذبين العصاة وفيه من الوعيد ما لا يخفى على كل مدرك بصير. فالله تعالى إن يشأ يهلك الضالين المضلين الذين خلقهم من ذرية آدم ثم يأت بآخرين سواهم ليخلفوهم في الأرض من بعدهم وليكونوا أمثل منهم وأطوع.
قوله :﴿ كما أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين ﴾ الكاف في موضع نصب، صفة للمصدر المحذوف. وما مصدرية. والتقدير : ويستخلف استخلافا مثل إنشائكم من ذرية آخرين. والمراد أن الله إن يشأ يخلق غيركم من نسل قوم آخرين أفضل منكم وليسوا مثل صفتكم.
قوله :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ بمعجزين أي بفائتين. والمعنى أنكم أيها الضالون المكذبون لن تعجزوا ربكم هربا منه في الأرض فتفوتوه، لأنكم حيث كنتم في قبضته فإنه قادر على أن يعاقبكم فاحذروه وأنيبوا إليه قبل أن يحل عليكم غضبه وعقابه.
قوله :﴿ فسوف تعلمون من تكون له عقبة الدار ﴾ المراد بالدار : هذه الدنيا. والعاقبة : الحسنى، أو عاقبة الخير، أو العاقبة المحمودة. وعاقبة الدار أي العاقبة الحسنة التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وقنطرة يمر من فوقها العباد في طريقهم إلى يوم الحساب. ومن، استفهامية، في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبرها. والمعنى : سوف تعلمون أيها المشركون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار. وقيل : من اسم موصول بمعنى الذي وهو في محل نصب مفعول ﴿ تعلمون ﴾ أي سوف تعلمون الذي له عاقبة الدار. وفي ذلك من الإنذار والوعيد ما لا يخفى.
قوله :﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ أي أن هؤلاء المشركون لن يفوزوا أو يفلحوا في حياتهم الدنيا ولا الآخرة. فلسوف يحرمون في حياتهم هذه من البركة ورضى النفس وسكينتها فضلا عما يبتليهم به الله من أمراض الهلع والجشع وفرط الأنانية واحترار الشهوات التي تظل تؤزهم أزا ثم يثوبون بعد ذلك إلى جحيم البرزخ وهو التوطئة المفروضة للعذاب الواصب الأكبر في الآخرة١.
قوله :﴿ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ﴾ أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى. وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم. وقال ابن عباس في تأويل ذلك : كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما جعلوا منها لله سهما، وسهما لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوا لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردوه إلى الذي جعلوه لآهتهم.
وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم أقروه ولم يردوه. وروي عنه قوله أيضا أنهم : جعلوا لله من ثمراتهم ومالهم نصيبا، وللشيطان والأوثان نصيبا فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان والأوثان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقطوه وحفظوه وردوه إلى نصيب الشيطان. وقيل غير ذلك من نحوه وما يشبهه من التأويل مما تتصوره الحلوم السخيفة لأهل الجاهلية.
قوله :﴿ ساء ما يحكمون ﴾ ما في محل رفع ساء. أي ساء حكمهم في تفضيل آلهتهم على الله. وساءت أحلامهم التي سول لها الشيطان مثل هذا الضلال المبين١.
قوله :﴿ ليردوهم ﴾ اللام للتعليل أي ليهلكوهم. من التردية بمعنى الإهلاك. رديته تردية. ومنه أرداه يرديه أي يهلكه١ والمراد إهلاكهم بالإغواء والتضليل.
قوله :﴿ وليلبسوا عليهم دينهم ﴾ من اللبس وهو الخلط، والتلبيس وهو التخليط. التبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه٢ والمعنى أن الشياطين قد خلطوا على المشركين دينهم – وهو دين إسماعيل القائم على التوحيد – فالتبس عليهم التباسا. لقد خلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل حتى انحرفوا عنه البتة إلى الشرك بكل ما فيه من خرافات وترهات ومفاسد وأباطيل، ومن جملتها جعلهم لله نصيبا مما خلق فضلا عن وأد البنات وقتل الأولاد.
قوله :﴿ ولو شاء الله ما فعلوه ﴾ لو شاء الله أن لا يفعل المشركون ما فعلوه لما فعلوا، لأنه ما من شيء إلا هو مندرج في ملكوت الله وسلطانه فلا يند عن تقديره ومشيئته شيء. وما يكون من طاعة ولا معصية ولا غير ذلك من فعل إلا وهو تحيط به إرادة الله المطلقة.
قوله :﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ أي دعهم واجتنبهم وما هم فيه من الافتراء والباطل ولا تعبأ بهم وبما يخرصون. وفي ذلك من الوعيد للمشركين ما لا يخفى٣.
٢ - مختار الصحاح ص ٥٩٠..
٣ - روح المعاني ج ٨ ص ٣٢- ٣٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٠ وتفسير الطبري ج ٨ ص ٣٠- ٣٣..
وهذا لون آخر من ألوان الكفر وصورة أخرى من صور الجهالة والضلالة قد ارتكس فيهما المشركون الجاهليون أشنع ارتكاس. إذ قالوا :﴿ هذه أنعم وحرث حجر ﴾ أي أنعام وزرع ﴿ حجر ﴾ والحجر، بالكسر معناه الحرام والمنع١ فقد حرموا أنعاما وجعلوها لأصنامهم. فهي ممنوع منها كل أحد غير آلهتهم الأصنام. وقالوا أيضا :﴿ لا يطعمها إلا من نشاء ﴾ أي نحتجرها عن النساء ونجعلها للرجال. وقيل : احتجروها لخدم الأصنام. لا جرم أن ذلك تحكم وباطل لم يرد به شرع ولم يأمر به الله. وهو قوله :﴿ بزعمهم ﴾ أي بظنهم المشوب بالكذب والذي لا تسعفه حجة أو برهان.
قوله :﴿ وأنعم حرمت ظهورها ﴾ المراد بها البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقد سبق توضيح معاني هذه الأسماء. فهذه الأنعام تعتق وتمنع ظهورها من الركوب أو الحمل عليها لتظل بزعمهم محتجرة للآلهة. وقيل : المراد بالأنعام هنا ما يجعلونه نصيبا لآلهتهم، فيسيبونه لها ويمنعون ظهوره من الركوب والحمل.
قوله :﴿ وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ وهذا قسم آخر من أقسام الأنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها عند ذبحها بل كانوا يذكرون عليها اسم الأصنام. وقيل : المراد : ما ذبح من الأنعام على النصب. أي من أجل آلهتهم.
قوله :﴿ افتراء عليه ﴾ مفعول لأجله منصوب. أو مصدر مؤكد. أي فعل هؤلاء المشركون ما فعلوه، وقالوا من الكفر ما قالوا مما نسبوه إلى الله ظلما، إنما كان كذبا عليه سبحانه.
قولهم :﴿ سيجزيهم بما كانوا يفترون ﴾ ذلك وعيد من الله لأولئك المشركين الخراصين الذين يفترون على الله الكذب، بأنه مجازيهم من العقاب ما يستحقونه في مقابل شركهم وضلالهم وافترائهم على الله بالباطل٢.
٢ - فتح القدير ج ٢ ص ١٦٧ ونفسبر البيضاوي ص ١٩٢ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ٢١٨ والنسفي ج ٢ ص ٣٥..
فقوله :﴿ سيجزيهم وصفهم ﴾ وصفهم منصوب لوقوعه موقع مصدر " يجزيهم " والتقدير : جزاء وصفهم. والمعنى : سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله. وقيل : سيجزيهم جزاء وصفهم. والمراد بوصفهم افتراؤهم على الله فيما أحلوه وحرموه.
قوله :﴿ إنه حكيم عليم ﴾ أي أن الله في مجازاة هؤلاء المشركين على افترائهم على الله الكذب وقيلهم الباطل ﴿ حكيم ﴾ فما يصدر عنه من جزاء أو عقوبة أو وعيد إنما هو عن حكمة ربانية لا تزيغ. وهو كذلك ﴿ عليم ﴾ بما يصلح عليه الناس من الأحكام أو الجزاء١.
وقد ذكر القرطبي رواية في هذا الصدد تؤز القلب والمشاعر أزا، وتقض الوجدان والأعصاب قضا. وتستنفر في النفوس بالغ الأسى والاتياع والأشمئزاز رواية في ظلم المشركين الجاهلين تطير لها القلوب والعقول، وتقشعر لفظاعتها ونكرها النواصي والأبدان، إذ قال : روي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مالك تكون محزونا ؟ " فقال : يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفر الله لي وإن أسلمت ! فقال له : " أخبرني عن ذنبك " فقال : يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل الناس فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زواج. فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها. فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر. فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول : يا أبت ! أيش١ تريد أن تفعل بي ! فرحمتها. ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية ثم التزمتني وجعلت تقول : يا أبت لا تضيع أمانة أمي. فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال : " لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك٢ ".
قوله :﴿ سفها بغير علم ﴾ سفها منصوب على المصدرية لفعل محذوف. وقيل : على الحال. وقيل : على أنه مفعول لأجله. والمعنى أنهم فعلوه من وأد وغيره لجهالتهم وخفة أحلامهم.
قوله :﴿ وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ﴾ المقصود بما رزقهم الله مما حرموه على أنفسهم هي البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. فقد حرموا ذلك على أنفسهم اجتراء على الله بالباطل والكذب.
قوله :﴿ قد ضلوا وما كانوا مهتدين ﴾ أي ضاعوا عن صراط الله المستقيم. وهم في الأصل ليسوا من أهل الهداية بل من أهل الضلال٣.
٢ - تفسير القرطبي ج ٧ص ٩٧..
٣ - روح المعاني ج ٨ ص ٣٥- ٣٦ والنسفي ج ٢ ص ٣٦ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ٢٢١..
والمعروشات، من العرش وهو أعلى الشيء. وعرش البيت يعني سقفه. واعترش العنب إذا علا على العريش. وعرش الكرم عرشا وعروشا. أي رفع دواليه على الخشب. والكروم المعروشات : ما حمل منها على العريش، وهو عيدان تصنع على هيئة السقف ليوضع عليها الكرم١ أما غير المعروشات فما كان من الكرم ممدودا على الأرض غير مرفوع. قال ابن عباس في ذلك : معروشات ما عرش من الكرم، وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم. وفي رواية عنه أخرى أن المعروشات ما عرش الناس وهو ما يغرسونه من بساتين ونحوها. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمرات.
قوله :﴿ والنخل والزرع مختلفا أكله ﴾ النخل والزرع، معطوف على جنات، سمي أكلا، لأنه يؤكل. والمعنى أنه سبحانه خلق النخل والزرع مختلفا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر. يعني مختلفا طعمه فمنه الجيد ومنه دون ذلك.
وقيل : أنشأهما مختلفين في الصورة والمعنى، أو في الهيئة والكيفية.
قوله :﴿ والزيتون والرمان متشبها وغير متشابه ﴾ الزيتون والرمان معطوف على جنات كذلك. متشابها حال منصوب. أي خلق الزتتون والرمان حال كونه متشابها وغير متشابه. واختلف في تأويل ﴿ متشبها وغير متشبه ﴾ فقيل : المراد في الطعم فمنه الحلو والحامض والمر. وقيل : متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم. فهذه الأنواع من النبات كالنخيل والزرع والزيتون والرمان وغير ذلك من أنواع المغروسات والثمرات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، وتفاوت طعومها ومذاقاتها، وتباين أصنافها وأحجامها، كل ذلك ينطق بالبرهان الساطع، والدليل الأبلج اللامع لكل امرئ عاقل فطين على وجود الله وعلى جلال ملكوته وعظيم سلطانه وجبروته. لا جرم أن ذلك كله من صنع الله وتقديره ليكون ذلك كله أعظم شاهد على وحدانية الخالق الحكيم.
قوله :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر ﴾ الأمر في قوله :﴿ كلوا ﴾ للإباحة. فقد أباح الله للناس الأكل من ثمر ما غرسوا. وظاهر الآية يدل على إباحة الأكل قبل النضج والينع قوله :﴿ وءاتوا حقه يوم حصاده ﴾ اختلفوا في المراد بحقه يوم حصاده على ثلاثة أقوال هي : القول الأول : على أن المراد به الزكاة المفروضة. وهي العشر ونصف العشر لكيفية السقي. فما سقي بماء المطر ففيه العشر، وما سقي بالسانية – وهي الناقة يستقى عليها – فيقتضي ذلك كلفة مالية، ففيه نصف العشر. وهو قول فريق من أهل العلم فيهم أنس بن مالك وابن عباس وطاووس والحسن البصري وسعيد بن المسيب. ويفهم من هذا القول أن هذه الآية نزلت في المدينة. وقد تمسك الإمام أبو حنفية بهذه الآية في وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من النبات، مطعوما أو غير مطعوم. واستدل على ذلك أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح٢ أو دالية نصف العشر " وتفصيل ذلك في موضعه من تفسير سورة البقرة.
قوله :﴿ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ السرف، بالتحريك : ضد القصد أو مجاوزته. والإسراف معناه التبذير ومجاوزة القصد. أو ما أنفق في غير طاعة الله٣.
وثمة تفصيل لأهل التأويل في تأويل الإسراف الذي نهى الله عنه بهذه الآية.
وذلك على جملة أقوال :
منها : أنه مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال. والتقدير : لا تتجاوزوا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء. وقالوا في هذا الصدد : إنهم كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ثم تسارفوا. أي تباروا في الإعطاء وأسرفوا فأنزل الله الآية.
وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، إذ جذ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فقال الله :﴿ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾.
ومنها : أن الإسراف المنهي عنه في الآية هو منع الصدقة ( الزكاة ) وتلك معصية كبيرة.
ومنها : أن المراد بالإسراف في الآية هو الأكل من الزرع والثمر قبل الحصاد أو الجذاذ لما في ذلك من إضرار بالفقراء ببخسهم حقهم.
ومنها : أن المراد بالإسراف النفقة في معصية الله.
ومنها : أن الخطاب في الآية للولاة وأهل السلطان، إذ نهاهم عن الأخذ من الرعية ما ليس لهم أن يأخذوه من أموالهم.
الراجح هنا، القول بالنهي عن عموم معاني الإسراف من غير تخصيص لواحد من هذه المعاني دون غيره٤.
٢ - النضح: الماء الذي ينضحه الناضح وهو البعير الذي يستقى عليه. والأنثى ناضحة أو سانية. انظر مختار الصحاح ص ٦٦٤والمصباح المنير ج ٢ ص ٢٧٩..
٣ - القاموس المحيط ج ٣ ص ١٥٦ والمصباح المنير ج ١ ص ٢٩٤..
٤ - روح المعاني ج ٨ ص ٣٧- ٣٩ وتفسير الطبري ج ٨ ص ٤٠- ٤٦ وفتح القدير ج ٢ ص ١٦٨..
قوله :﴿ كلوا مما رزقكم ﴾ الأمر في قوله :﴿ كلوا ﴾ للإباحة. ومن، في قوله :﴿ مما ﴾ للتبعيض. والرزق بعمومه شامل للحلال والحرام، فالمراد هنا : كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال.
قوله :﴿ ولا تتبعوا خطوت الشيطن ﴾ خطوات يعني طرقه وأوامره في التحليل والتحريم. أي لا تتبعوا أوامر الشيطان وإغواءه بتحريم ما أحل الله من الأنعام كتحريم البحيرة والسائبة وغيرهما من الأنعام، وكذلك تحريم ما جعلوه من الحرث نصيبا لله افتراء عليه.
قوله :﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ الشيطان ظاهر العداوة للإنسان فهو عدوه القديم الألد، إذ أخرج آدم من الجنة بكيده وخداعه وحسده. وما فتئ الشيطان يناصب الإنسان العداوة والإغواء والتضليل حتى يهوي في الفسق والفساد كيما يتردى معه يوم القيامة في جهنم. وسيظل الشيطان على حاله من فرط الخبث والحسد والكيد لبني آدم وهو يزين لهم الحرام وينفرهم من الحلال ويغريهم بفعل المنكرات جميعها ليكونوا أشقياء تعساء في هذه الدنيا وليتقاحموا في النار معذبين يوم القيامة. أعاذنا الله من كيد الشيطان وإغوائه وإغرائه٢.
٢ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٢ وروح المعاني ج ٨ ص ٣٨- ٣٩..
ويقال للاثنين : هما زوجان وهما زوج، وكما يقال : هما سيان وهما سواء ونقول : عندي زوجا حمام يعني ذكرا وأنثى وعندي زوجا نعل. وثمانية أزواج يعني ثمانية أفراد. وسمي الفرد زوجا في هذه الآية، لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة للآخر. والواحد إن كان منفردا سواء كان ذكرا أو أنثى سمي فردا. وإن كان الذكر مع الأنثى من جنسه قيل لهما : زوج. ويقال لكل واحد منهما على انفراده زوج١.
وقوله :﴿ من الضأن اثنين ﴾ الضأن جمع ضائن. كركب وراكب، وصحب وصاحب. والأنثى ضائنة والجمع ضوائن٢ والضأن هي ذوات الصوف من الغنم، وهي خلاف المعز من الغنم. واثنين منصوب على البدل من ثمانية.
قوله :﴿ ومن المعز اثنين ﴾ المعز من الغنم ضأن. وهو اسم جنس. وواحد المعز ماعز. مثل صاحب وصحب. والأنثى ماعزة وهي العنز، والجمع مواعز٣.
قوله :﴿ قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، لنسبتهم ما حرموه إلى الله افتراء عليه فكانوا مرة يحرمون الذكور، ومرة يحرمون الإناث، وغير ذلك من صور التحريم الباطل.
والمراد بالذكرين : ذكر الضأن والمعز. والمراد بالأنثيين : أنثى الضأن والمعز. أي قل لهم : أجاءكم التحريم فيما حرمتم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من الذكرين أم من الأنثيين ؟ فلو قالوا : من قبل الذكر، لاقتضى ذلك تحريم كل ذكر عليهم. ولو قالوا : من قبل الأنثى لاقتضى ذلك تحريم كل أنثى عليهم. وإن قالوا بتحريم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فذلك يستلزم أن كل مولود حرام سواء كان ذكرا أو أنثى وكلها مولود.
قوله :﴿ نبئوني بعلم إن كنتم صدقين ﴾ أي بينوا لي ما حرمتموه بعلم يظهر صدق ما تقولون. وذلك على سبيل التبكيت لهم والتوبيخ. والله يعلم أنهم كاذبون فيما زعموه من تحريم وأنهم ليس لهم في ذلك برهان.
٢ - مختار الصحاح ص ٣٧٦..
٣ - مختار الصحاح ص ٦٢٧..
قوله :﴿ أم كنتم شهداء إذ وصكم الله بهذا ﴾ أم للاستفهام الإنكاري. وهي بمعنى بل والهمزة. أي بل أكنتم شهداء. يعني حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم. والمراد تبكيتهم وتقريعهم وإظهار سفاهتهم وخفة أحلامهم وطيش تفكيرهم السقيم.
قوله :﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغيرعلم ﴾ أي ليس من أحد أظلم ممن كذب على الله فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه افتراء عليه ولم يقتصر ظلمه على افتراء الكذب على الله، بل تجاوز ظلمه هذا حتى أضل غيره من الناس فسن لهم هذه السنة الضالة وأغواهم بفعل ما لم ينزل به الله سلطانا.
قوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظلمين ﴾ إن الله لا يكتب هدايته لمن فسد طبعه ومال عن الحق واتبع هواه وأضل الناس بغير علم أو برهان أولئك هم الظالمون الذين فتنوا الناس عن دينهم وأفضوا بهم إلى الفسق والكفران١.
لما ذكر الله أن المشركين حرموا ما حرموا افتراء على الله، أمر نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بإخبارهم أن مصدر العلم بالتحريم الحقيقي هو الوحي وهو من الله وحده، إذ يبين للناس سائر الأحكام وكل وجوه الحلال والحرام، ولا ينبغي الركون في ذلك إلى أهواء الناس وما يختلقونه باطلا وتخريصا أو يفترونه على الله افتراء. فأخبرهم النبي بما بين له ربه، أنه لا يجد فيما أوحى الله إليه شيئا محرما غير هذه المذكورة في الآية.
وبذلك فإن المحرمات محصورة هنا في هذه الآية، بيد أنه نزل في المدينة سورة المائدة، وزيد فيها على هذه المحرمات مذكورات أخرى وهي. المنخنقة والوقوذة والمتردية والنطيحة. وهو ما بيناه في سورة المائدة. وكذلك بينت السنة محرمات أخرى من البهائم كتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وكذلك تحريم الحمر الأهلية والكلام وغير ذلك من المحرمات والخبائث.
واختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أم محكمة ؟ فقد قيل : إنها محكمة وبهذا ليس من شيء محرم من الحيوان إلا ما ورد ذكره فيها دون غيره. أي أنه لا حرام إلا ما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعائشة. وهو قول ضعيف مخالف لما ذهب إليه أكثر العلماء من السلف الخلف، وهو أن حصر التحريم فيما ذكرته الآية هنا منسوخ، فما ذكرته الآية هنا من محرمات محكم ثم أضيف إليه كل ما ذكر تحريمه بعد ذلك في الكتاب أو السنة. وهو الصواب. وبذلك فإن الآية هذه محكمة وقد أخبر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر. فجميع ما حرم بالمدينة لم يكن قد سبق فيه وحي بمكة. فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحي إليه تحريمه بمكة.
قوله :﴿ على طاعم يطعمه ﴾ أي على آكل يأكله. وجملة ﴿ يطعمه ﴾ في محل جر صفة لطاعم.
قوله :﴿ إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ﴾ أي لا أجد فيما أوحاه إلي من كتابه شيئا محرما على آكل يأكل مما تزعمون أنه محرم من هذه الأنعام إلا أن يكون ميتة. وهي التي ماتت بغير تذكية. أو لم تذبح ذبحا شرعيا كالمنخنقة ونحوها. مسفوحا ( مصبوبا ) الدم الجامد كالكبد والطحال. وفي الحديث " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال " وكذلك حرم لحم الخنزير. وقد مر بيانه.
قوله :﴿ فإنه رجس ﴾ الضمير عائد إلى المحرمات المذكورة – وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير – والرجس معناه القذر والنتن١.
قوله :﴿ أو فسقا ﴾ معطوف على قوله :﴿ أو لحم خنزير ﴾ ٢.
قوله :﴿ أهل لغير الله به ﴾ صفة لفسق. وأهل من الإهلال، وهو رفع الصوت أي ذبح على الأصنام. وسمي فسقا لتوغله في الفسق وهو الخروج عن أمر الله وطاعته.
قوله :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد ﴾ بعد أن يبين تحريم هذه الأربعة المذكورة، بين أنه عند الضرورة أو الاضطرار تصير هذه المحرمات مباحة للأكل أي أن من اضطر إلى أكل ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به مما ذبح على النصب، أبيح له أن يأكل شريطة أن يكون الذي يأكل ﴿ غير باغ ﴾ أي لا يأكله على سبل التلذذ. بل للضرورة من الجوع، ﴿ ولا عاد ﴾ أي غير متجاوز قدر الضرورة في أكله وهو أن يأكل منه ما يدفع عن نفسه الهلاك من الجوع.
قوله :﴿ فإن ربك غفور رحيم ﴾ الله جل وعلا يغفر لمن يفعل المحظور من أجل الاضطرار فلا يعاقب على ذلك رحمة منه بالعباد. وذلك يدل على حصول الرخصة في أكل ما حرم أكله بسبب الضرورة التي يخشى عندها من الهلاك٣.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٤٧..
٣ - تفسير البيان للطوسي ج ٤ ص ٣٠٣ والبحر المحيط ج ٤ ص ٢٤١ وتفسير البغوي ج ٢ ص ١٣٨ والبيضاوي ص ١٩٤..
قوله :﴿ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا ﴾ حرم الله خاصة شحوم البقر والغنم دون لحومها فهي مباحة لهم. واستثنى من هذه الشحوم المحرمة ما بينته الآية ﴿ إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ﴾ فكل شحم سوى ما استثناه الله من البقر والغنم في هذه الآية فإنه كان محرما عليهم. وفي الحديث فيما رواه البخاري ومسلم " قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها٢ ثم باعوها وأكلوا أثمانها " والمراد بما حملته ظهورها ما علق بالظهر من الشحم فهو مستثنى من التحريم. والحوايا جمع ومفرده حاوية وحوية وحاوياء وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار وهي المباعر وفيها الأمعاء. والحوايا معطوف على الظهور. فيكون معنى الكلام : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما ما حملت ظهورها أو ما حملت الحوايا. فما حملته الحوايا من الشحم غير حرام، أما الحوايا نفسها فهي مما أحل لهم.
قوله :﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾ ما في محل نصب معطوف على ﴿ ما حملت ﴾ والمعنى : حرمنا على اليهود شحوم البقر والغنم سوى ما حملت ظهورها أو ما حملت حواياها أو ما اختلط بعظم فهو لهم حلال. والمراد بما اختلط بعظم شحم الألية والجنب والرأس وما أشبه مما كان من شحم على عظم.
قوله :﴿ ذلك جزينهم ببغيهم ﴾ ذلك، في موضع نصب مفعول به ثان لقوله :﴿ جزينهم ﴾ وتقديره : جزيناهم ذلك ببغيهم٣. والبغي معناه الظلم والتعدي والمجاوزة٤ والمعنى : أن هذا الذي حرمناه على اليهود من الأنعام والطير ذوات الأظافر غير المشقوقة، وما حرمناه عليهم كذلك من شحوم البقر والغنم – كان عقابا لهم من الله في مقابل معاصيهم وبغيهم على ربهم. والبغي معناه الظلم والتعدي والمجاوزة٥ فقد اعتدوا على حدود الله وعصوه عصيانا نكرا وقارفوا من الموبقات والخطايا أشنعها كقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله واستحلالهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من وجوه الظلم والاعتداء على الناس وعلى أولياء الله من المؤمنين الصادقين.
قوله :﴿ وإنما لصدقون ﴾ أي فيما أخبرناكم به عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من لحوم الأنعام والطير والشحوم.
٢ - جملوها: يعني جمعوها وأذابوها. من الجميل وهو الشحم المذاب. انظر القاموس المحيط ج ٣ ص ٣٦٢ ومختار الصحاح ١١١..
٣ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٤٨..
٤ - المصباح المنير ج ٢ ص ٦٤ ومختار الصحاح ص ٥٩..
٥ - المصباح المنير ج ٢ ص ٦٤ ومختار الصحاح ص ٥٩..
ذلك إخبار من الله بالغيب عما سيقوله العرب المشركون قبل أن يقولوه وقد قالوه حسبما تحكيه الآيات هنا عن أباطيل المشركين الجاهلين وسفاهاتهم وتهافت أفكارهم وتصوراتهم وما اصطنعوه من حجج سقيمة واهية، إذ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أراد الله منا الإيمان غير إيماننا وإفراده بالعبادة دون الأوثان والأصنام وتحليل ما حرم علينا من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وبطلان ما جعلناه لله نصيبا من الحروث والأنعام وغير ذلك من الأحكام لما فعلنا شيئا من ذلك ولكان الله قد حال بيننا وبين هذه الأفعال، لأن الله قادر على الحيلولة بيننا وبين ما عبده آباؤنا من الأصنام والأوثان، ولما قلدناهم فيه من مختلف الأحكام. الله قادر أن يصدنا وآباءنا من قبل عن عبادة الأصنام وعن كل ما فعلنا من تكريم لآلهتنا وإجلال لها ! لا جرم أن ذلك ترخيص وهذيان تتقوله ألسنة الضالين من الناس وهم تتيه أحلامهم في غاية السفاهة والسقم، لذلك رد الله مقالتهم بقوله :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ﴾ أي كما كذب هؤلاء المشركون ما جئتهم به يا محمد من الحق والبيان فقد كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طغوا – أنبياءهم وما جاءوهم به من الآيات والدلائل حتى أسخطوا الله عليهم فاستحقوا بذلك منه غضبه فأحل بهم البأس وهو قوله :﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ أي أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، فذلوا في هذه الدنيا وباءوا بالخسران والعمه والضياع، فضلا عما أعده الله لهم من العذاب البئيس يوم القيامة.
قوله :﴿ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين الطاغين السفهاء : هل عندكم برهان على صدق دعواكم وزعمكم أن الله راض عنكم وعن إشراككم أصنامكم في عبادته وعما تزعمونه من الأحكام المفتراة كتبحير البحيرة وغيرها وما جعلتموه من أموالكم نصيبا لله – هل عندكم من علم أو دليل على ما تقولونه فتظهروه لنا ؟ ! ولا يخفى ما في ذلك من توبيخ لهؤلاء السفهاء. فهم يستحقون من التقريع ما يؤز مشاعرهم ويوقظ فيهم العقول الراكدة المستنيمة.
قوله :﴿ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ أي ما تتبعون في عبادتكم وتصوركم وأفعالكم إلا الباطل وهو لا يغني من الحق شيئا. وما أنتم إلا ﴿ تخرصون ﴾ أي تكذبون وتتقولون الباطل.
قوله :﴿ فلو شاء لهدكم أجمعين ﴾ الله قادر أن يجعل الناس كلهم مؤمنين. قادر أن يخلق بني آدم على طبيعة لا تعرف غير الهدى، فلا تميل للشر ولا تجنح للضلال البتة. قادر أن يجعل الإنسان على هذه الكيفية من التخلق، لكنه سبحانه شاء أن يجعله على غير هذه الخلقة الرفافة المثلى. فقد جعله حافلا بحوافز الفضائل وحوافز الشهوات، فهو بذلك مستجيب لنداء الهداية مثلما هو مستجيب لنداء الضلال، وذلك مستجيب لنداء الضلال، وذلك بما بث في كينونته من استعداد ذاتي مفطور لفعل كل من الخير والشر. فهو إذا ما مضى في طريق الهداية فقد اهتدى وأعانه الله على الخير وفعله. وإذا ما اختار أن يسلك طريق الباطل مكن الله له فعل ذلك بما أوتيه من استعداد جبل عليه في الأصل. وفي كل حال من الأحول أو خيار من خيارات الإنسان إنما يكون ذلك محوطا بقدرة الله وسلطانه. فهو مهما اختار أو فعل، وأنى سار أو توجه إنما هو سادر في قدر الله ومن خلال إرادته المطلقة التي لا تعرف القيود أو الحدود.
قوله :﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بئايتنا ﴾ ذلك تحذير من الله لعباده المؤمنين من اتباع الفاسقين الطغاة الذين كذبوا بالوحي وبما أنزل الله للناس من كتاب. تحذير للمؤمنين قائم بقاء هذا الزمان، من الركون للظالمين الغواة الذين لا يتبعون في هذه الحياة غير الهوى والشهوات، ولا يسيرون في غير طريق الضلال والظلم. فليحذر المسلمون باستمرار من الاغترار بهم، والانخداع بسلوكهم وأساليبهم ومناهجهم المضلة الكافرة.
قوله :﴿ والذين لا يؤمنون بالأخرة ﴾ معطوف على ﴿ الذين كذبوا بئايتنا ﴾ أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآيتنا وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة فهم مكذبون جاحدون. وهم بعد ذلك غير مؤتمنين على عقيدة أو ملة أو خلق. وما ينبغي لمؤمن بعد جحودهم وكفرانهم أن يثق بسلوكهم ومناهجهم، لأنهم إنما يتبعون الهوى ويسول لهم الشيطان أعمالهم.
قوله :﴿ وهم بربهم يعدلون ﴾ من العدل، وهو الذي يعادل غيره في الوزن والقدر. وكذا العديل. ومنه التعادل أي التساوي ١ والمعنى أن هؤلاء المكذبين الجاحدين يجعلون لله عدلا مساويا. أو يتخذون معه شريكا في العبادة من الأوثان ونحوها. والجملة معطوفة على قوله :﴿ لا يؤمنون ﴾ وقيل : في محل نصب على الحال٢.
٢ - فتح القدير ج ٢ ص ١٧٥- ١٧٦ وتفسير الطبري ج ٨ ص ٥٧- ٦٠..
ما اسم موصول في محل نصب مفعول لقوله :﴿ أتل ﴾ ولا، في قوله :﴿ ألا ﴾ زائدة. وتقديره : حرم عليكم أن تشركوا. ويجوز أن تكون ما استفهامية. فهي بذلك في محل نصب بالفعل ﴿ حرم ﴾ وتقدير ذلك : أي شيء حرم ربكم ؟.
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس للإقبال عليه لكي يبين لهم شرع الله فيما حرمه عليهم. يأمره أن يقول لهم : تعالوا إلي أيها القوم أقرأ عليكم ما حرم ربكم عليكم. وما أقوله لكم لهو الحق اليقين الذي أبينه لكم وليس تخريصا كتخريصكم. وكذلك يكون واجب العلماء وهو أن يدعوا الناس إلى دين الله ومنهجه الحق فيبينوا لهم الحق الذي تتضمنه شريعة الإسلام، ويحذروهم من الباطل بكل صوره وأشكاله ويحذروهم كذلك من الوقوع في المحرمات والفسق كما بينته الآية هنا.
قوله :﴿ ألا تشركوا به شيئا ﴾ ألا تشركوا، في محل نصب بدل من ﴿ ما ﴾ أي أتل عليكم تحريم الإشراك. وشيئا، يحتمل المفعولية. أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء. ويحتمل المصدرية. أي لا تشركوا به شيئا من الإشراك. وقد بدأ الله بالنهي عن الشرك، فهو أكبر الكبائر وأفظع المعاصي. لا جرم أن الشرك فادحة شنيعة تدنو دونها كل الموبقات والفوادح فإنه لا يشرك بالله ظالم أثيم قد تردى في هاوية الخاسرين اليائسين. ويستوي في الشرك كل صوره وألوانه من الأوثان الخسران والآلهة المزيفة، ما بين حجر أصم، أو كوكب دائر في فلكه يسبح بحمد الله على الدوام، أو شبحا من الأشباح الموهومة، أو طاغوتا من طواغيت البشر يدين له المغفلون السفهاء بالطاعة المطلقة والولاء الكامل من غير روية ولا نظر، إلا العماية والخور، أو السفاهة والضلالة وانعدام البصر.
قوله :﴿ وبالولدين إحسنا ﴾ إحسانا منصوب على المصدر، لفعل مضمر من لفظه. أي أحسنوا بالوالدين إحسانا. والإحسان إلى الوالدين يعني البر بهما وامتثال أوامرهما وبذل الخير والنصح لهما، وكامل التواضع واللين في مخاطبتهما ودفع الأضرار والشرور عنهما.
قوله :﴿ ولا تقتلوا أولدكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ بعد أن بين الله حق الوالدين على الأولاد، ذكر عقيب ذلك حق الأولاد على الوالدين فنهى عن قتلهم خوفا من الفقر مثلما كان الجاهليون يفعلون بالذكور والإناث على السواء. إذ كانوا يقتلون خوفا من الفقر ويئدون البنات خشية العار. لا جرم أن ذلك مربع الشناعة وبالغ الفداحة والنكر. فإنه لا يجترئ على قتل النفس البريئة إلا مقبوح ظلوم، أو عات وعتل وغشوم. ما ينبغي لعاقل ذي قلب وكينونة بشرية سوية أن يجترئ على قتل ولده خشية الفقر. فإن الله جلت قدرته لهو القمين برزق الوالدين ومن يعولونهم من الأولاد. فليس من مدعاة بعد ذلك للخوف من الفقر على الأسرة والأولاد ما دام الله عز وجل متكفلا بالرزق.
قوله :﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ الفواحش جمع فاحشة، وهي الزنا وكل ما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عنه والفحش ككل شيء جاوز حده، والفاحش ما جاوز الحد١.
على أن تأويل الفواحش ما ظهر منها وما بطن موضع خلاف. فقد قيل : المراد بما ظهر منها زواني الحوانيت، وأما ما بطن فما خفي. وقد كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرا فحرم الله السر منه والعلانية. فما ظهر منها يعني العلانية، وما بطن يعني السر. وقد ذكر مثل ذلك عن ابن عباس، إذ قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية.
وقيل : الأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش والمعاصي ظاهرها وباطنها، لأن اللفظ عام يتناول بعمومه سائر المعاصي والمناهي.
قوله :﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾ ذلك نهي من الله عن قتل النفس التي حرم الله قتلها لعصمتها بالإسلام أو بالعهد كالذمي والمستأمن، ﴿ إلا بالحق ﴾ وهو ما يوجب قتلها. أي لا تقتلوا النفس المعصومة بالإسلام أو الذمة أو العهد في حال من الأحوال إلا في حال الحق. أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق. وهو ما يوضحه الحديث. فقد جاء في الصحيحين وكتب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وهذا الحق عدة أمور نعرض لها في الأخبار التالية. فقد روى الشيخان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمدا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض ".
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، فبم تقتلوني.
إلى غير ذلك من الأسباب الموجبة لقتل المسلم. أما غير المسلم وهو الذمي أو المعاهد. ويراد بالمعاهد، المستأمن من أهل الحرب الذي يدخل دار الإسلام بعقد الأمان من قبل دولة الإسلام. وقد جاء في قتل الذمي والمعاهد ظلما أشد الزجر والتهديد من الله بما يتوعد القاتلين ظلما الحرمان والخسران في الآخرة. فقد روى ابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال : " من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر٢ بذمة الله فلا يُرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا ".
وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من قتل معاهدا في غير كنهه٣ حرم الله عليه الجنة ".
قوله :﴿ ذلكم وصكم به لعلكم تعقلون ﴾ الإشارة عائدة إلى المنهيات المذكورة. فقد وصاكم الله بوجوب المحافظة على ما كلفتم به وهو اجتناب المنهيات لعلكم بعقولكم تكونون من الراشدين. ومن المعلوم أن كمال العقل هو الرشد.
٢ - أخفر: نقض عهده وغدر. انظر القاموس المحيط ج ٢ ص ٢٣ ومختار الصحاح ص ١٨٢..
٣ - كنه الشيء: حقيقته ونهايته. والكنه: الوقت، والغاية. انظر المصباح المنير ج ٢ ص ٢٠٤ والمراد بقتله في كنهه: قتله في غير وقته الذي جاز فيه قتله. أو قتله بغير حق..
قوله :﴿ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ﴾ أي أتموا الكيل وهو المكيل، ﴿ والميزان ﴾ أي موزون الميزان ﴿ بالقسط ﴾ في محل نصب حال، أي بالعدل. والمعنى : لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتموهم، والوزن إذا وزنتموهم بل أوفوهم حقوقهم بإعطائها لهم كاملة غير منقوصة. وذلك بالقسط، أي بالعدل.
قوله :﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. بما يسعها ولا يعسر عليها. وقد جيء بهذه الجملة عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل. والمراد أن هذا الأمر يراعى فيه اقتدار البشر وطاقته من التحفظ والتحرز لتمام الإيفاء. فما لا يمكن الاحتراز عنه كما بين الكيلين من تفاوت فهو معفو عنه ولا يؤاخذ به المرء. وقيل : المراد أن من اجتهد في أداء الحق أو أخذه فأخطأ بعد ما استفرغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه ولا إثم.
قوله :﴿ وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾ يتضمن ذلك وجوب العدل في الأحكام والشاهادات بعيدا عن الجور والاعتساف والزور. فقد أوجب الله أن تجري الأحكام بين الناس بالعدل في غير ميل ولا جنوح. وكذلك في الشهادات لتؤدى في صدق واستقامة لا تعرف اللين أو الكذب أو المحاباة على حساب أهل الحقوق.
ومن واجب المسلم كيفما كان شأنه أو قدره إذا ما حكم أن يقضي بالحق، وإذا ما شهد أن يقول الحق مهما تكن الظروف. ومثل هذا الواجب منوط بكل مسلم أن يلتزمه ليقول الحق إذا علمه. وأن يقضي بالحق إذا كان من القضاة أو الولاة. ولا يميل حاكم أو قاض أو شاهد لقريبه أو صديقه. وإذا مال لا جرم أنه من المفرطين الآثمين أو المائلين الخاطئين.
قوله :﴿ وبعهد الله أوفوا ﴾ العهد معناه : اليمين والموثق والأمان والذمة والوصية٢. والمعنى : أوفوا بكل ما عهده الله إليكم وذلك أن تطيعوه فيما أمركم به وأن تنزجروا عما نهاكم عنه وأن تعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك هو الوفاء بعهد الله. وقيل : المراد ما انعقد بين الناس من العهود والعقود والمواثيق. فهم مأمورون بالوفاء بها دون نقض أو غدر أو تفريط. وقيل : ما عهدتم الله عليه من أيمانكم ونذوركم ونحو ذلك.
قوله :﴿ ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون ﴾ الإشارة عائدة إلى ما فصله الله لعباده من الأحكام والتكاليف. فقد ﴿ وصكم به ﴾ أي أمركم بمراعاته وامتثال أمر الله فيه لعلكم تتعظون وتنتهون عما زجركم وحذركم منه الله.
٢ - المصباح المنير ج ٢ ص ٨٦ ومختار الصحاح ص ٤٦٠..
على أن هذه الآية عظيمة في مدلولها ومعناها، بل إنها بالغة الأهمية في التأكيد على التزام دين الله الحق وهو الإسلام. وذلك بالسير على هداه واتباع عقيدته وقيمه وتشريعه من غير تفريط في شيء من أحكامه وتعاليمه. ومن غير زيغ عن منهج الإسلام أو اغترار بغيره من شرائع الكفر وعقائد الضلال.
أما صراط الله المستقيم، فهو دينه الإسلام الذي ارتضاه لعباده ليكون لهم منهج حياة يسلكونه في دنياهم فينجون ويحظون بسعادة الدارين. وهو كذلك مستقيم أي قويم مستو لا اعوجاج فيه عن الحق. وقد أمر الله العباد باتباعه دون غيره من الأديان والملل والضلالات فقال :﴿ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ فتفرق منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية٢ والسبل، جمع سبيل. والمراد بالسبل : الملل والعقائد وغير ذلك من الطرق المذهبية الفاسدة ومختلف المناهج الأرضية كالضلالات البشرية التي ابتدعتها العقول الضالة والطبائع الشاذة كعقائد المجوس والبهائيين والهندوس والبوذية والاشتراكية وغير ذلك من نظم الأرض التي أفرزنها أهواء البشر، والتي بنيت على الشهوات والأنانيات كالذي بني على عبادة المال وهو نظام رأس المال. أو الذي بني على التعصب للإقليم والجنس بما يسمى بالقوميات، فضلا عن الديانات السماوية المحرفة التي خالطها التحريف والتزييف والتبديل فنسفها من الأصول والفروع نسفا، كاليهودية والنصرانية. إنه لا مساغ بحال من الأحوال أن تتبع البشرية غير منهج الإسلام، لأنه من عند الله حقا وصدقا، إذ لم يصبه تحريف ولا تزييف ولم يمسه مثقال ذرة من تغيير أو تبديل. وإنما هو المنهج الرباني الكامل الذي يراعي فطرة الإنسان أكمل مراعاة، ويلبي رغباته ومطالبه النفسية والروحية والبدنية أتم تلبية من غير إنقاص ولا حرمان ولا كبت ومن غير إسراف ولا تبذير ولا إفراط. وإذا سلكت البشرية صراط الإسلام المستقيم فلسوف تهتدي تمام الاهتداء، ولسوف تمضي في طريق الحق والسداد بعيدا عن كل ظواهر الزيغ والضلال والخوف وجنوح النفس والذهن. وإذ ذاك لسوف تستظل البشرية بظلال الإسلام الوافرة الرخية ونسائمه المشرقة الندية لتعيش عيش الآمنين الكرماء وتحيى حياة المطمئنين السعداء. وذلك هو مقتضى قوله :﴿ ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ أي لا تتبعوا الملل والضلالات والمذاهب الأرضية التي ابتكرتها الطبائع الخبيثة والأذهان الشاردة التائهة من شياطين البشر. وإذا اتبعتم مثل هاتيك العقائد الفاسدة، والمذاهب الفكرية الكاذبة فسوف تفضي بكم إلى التفرق عن سبيل الله. أي تجنح بكم عن طرق الله وهو الإسلام لتذهب بكم مذاهب شتى فتنقلبوا متفرقين أشتاتا أو تبوءوا مختلفين متدابرين. فتذهب ريحكم وتهون شوكتكم ثم تصيرون بعد ذلك إلى سخط الله وعذابه. وفي هذا أخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيما " وخط عن يمينه وشماله ثم قال : " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه " ثم قال ﴿ وأن هذا صرطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ وقد جمع السبل من غير صراط الله، لأنها عبارة عن مجموع الضلالات والأباطيل والأديان المحرفة وهي كثيرة ومختلفة وعديدة. بخلاف صراط الله المستقيم وهو سبيله الواحد لأنه الحق. وهو واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد. كقوله تعالى :﴿ ليخرجكم من الظلمت إلى النور ﴾.
قوله :﴿ ذلكم وصكم به لعلكم تتقون ﴾ الإشارة إلى اتباع سبيل الله وهو صراطه المستقيم، والكف عن اتباع السبل الأخرى الضالة. فقد وصى الله عباده بالسير في سبيله واتباع منهجه الحكيم واجتناب سبل الضلال التي تفرق القلوب وتجعل الناس أشتاتا متنافرين. لقد وصى الله بذلك عباده ليكون لهم في ذلك منجاة لهم من هوان الدنيا وشقائها وتعسها، ومنجاة لهم من عذاب الله يوم القيامة٣.
٢ - الموجز في قواعد اللغة العربية للأستاذ سعيد الأفغاني ص ٧٨..
٣ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٩- ١٩١ والبيضاوي ص ١٩٦ وتفسير الرازي ج ١٣ ص ٢٤٥ وتفسير الطبري ج ٨ ص ٦٠- ٦٥..
قوله :﴿ وتفصيلا لكل شيء ﴾ يعني تبيينا مفصلا لكل ما لقومه حاجة إليه من أمور دينهم بما يوضح لهم أحكام الحلال والحرام.
قوله :﴿ وهدى ورحمة ﴾ الهدى يراد به هنا الدلالة التي ترشدهم إلى الحق والسداد وطريق الله المستقيم كيلا يضلوا. والرحمة، أي من الله في أحكامه للمكلفين لينجوا من الضلالة والتعثر.
قوله :﴿ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ﴾ أي أنزل الله التوراة على موسى لتكون هداية لبني إسرائيل ورحمة لعلهم إذا سمعوا ما فيها من الذكر والمواعظ خافوا وآمنوا بلقاء الله وهو يوم البعث والحساب.
قوله :﴿ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ﴾ أي اجعلوا القرآن لكم إماما تتبعونه فتمتثلون أوامره وتعملون بما فيه ﴿ واتقوا ﴾ أي خافوا الله واجتنبوا مخالفة أوامره ومجاوزة حدوده واستحلال محارمه ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي لتشملكم الرحمة من الله فتنجوا من عذابه الأليم٣.
٢ - مختار الصحاح ص ٧٤٤..
٣ - تفسير الطبري ج ٨ ص ٦٦- ٦٨ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٩١..
أن تقولوا يعني كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا. وإن كنا. إن مخففة من الثقيلة. وتقديره : وإنه كنا١. وتأويل الآية أن الله أنزل القرآن عليكم مباركا لئلا تقولوا : إنما أنزل الكتاب وهو التوراة والإنجيل ﴿ على طائفتين من قبلنا ﴾ وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب ﴿ وإن كنا عن دراستهم لغفلين ﴾ أي وإنه كنا عن تلاوة كتبهم التي أنزلت عليهم غافلين لا ندري ما هي ؟ ولا نعلم ما يقولونه، لأنه أنزل بغير لساننا، فتتخذوا ذلك حجة. لكنه بإنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع الله حجتكم.
قوله :﴿ فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ﴾ الفاء شرطية متعلقة بمحذوف. والتقدير : لا حجة لكم بما تذرعتم به فقد جاءكم بينة وهي الحجة البالغة الكبرى، القرآن، هذا الكتاب العربي المبين. فهو هدى لكم أي يرشدكم إلى الحق ويكشف لكم عن المحجة السوية البيضاء. وهو كذلك رحمة لمن يأخذ به فيتمثل لعقيدته إيمانا صادقا، ولأحكامه عملا وتطبيقا، فسوف يجد المستمسكون به من فيض الرحمة والخير ما يكون لهم مناجاة في الدارين، قوله :﴿ فمن أظلم ممن كذب بئايت الله وصدف عنها ﴾ ذلك تنديد بالظالمين المعرضين عن الله المستكبرين عن آياته بما فيه من استفهام ينطوي على الوعيد. إذ يقول سبحانه : فمن أشد عتوا وعدوانا، وأفحش فعلا وخطيئة من المشركين المكذبين الذين صدفوا عن آيات الله، أي أعرضوا عنها ونأوا ولم يصدقوا بها. والصدف، بالسكون ومعناه الإعراض.
قوله :﴿ سنجزي الذين يصدفون عن ءايتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾ ذلك وعيد لهؤلاء الصادفين، أي المعرضين عن آيات الله، مبينا جزاء إعراضهم وتكذيبهم أو صدهم عن دين الله وهو ﴿ سوء العذاب ﴾ أي أشد العذاب وأسوأه تنكيلا وإيلاما. وذلك بسبب إعراضهم عن آيات الله١.
قوله :﴿ أو يأت بعض ءايت ربك ﴾ وذلك أن تظهر على العالمين بعض أشراط الساعة. وإذا ذاك تحل بالوجود والكائنات رجة كونية عصبية تتزلزل منها القلوب والأبدان وتأخذ موجة من الذعر والوجوم ليسيروا هائمين حيارى في أجواء شداد كوالح من الحيرة المذهلة والترقب المفزع. وحينئذ يستيقن المجرمون والطغاة والجبابرة وكل جموع الكفر والعصيان أنهم أحيط بهم وأنهم صائرون لا محالة إلى النار وبئس القرار. حتى رأوا ما يوعدون آمنوا وصدقوا فلا ينفعهم حينئذ إيمانهم وتصديقهم. وأشراط الساعة معلومة تكشف عن حقيقتها الأخبار الصحيحة التي تستنبه أذهان الغافلين المضللين، وتستثير نفوس الفاسقين الشاردين من أولي الأهواء والشهوات. ومن جملة ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها " وفي لفظ " فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل " ثم قرأ هذه الآية.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إذا خرجن ﴿ لا ينفع إيمنها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا ﴾ : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ".
وروى مسلم وأهل السنن الأربعة بإسنادهم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج الدجال، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " وذلك تأويل قوله :﴿ يوم يأتي بعض ءايت ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا ﴾ أي لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم تقدم إيمانها قبل حصول أشراط الساعة. وكذلك لو كانت مقدمة إيمانها غير كاسبة به خيرا فلا ينفعها. وهذا دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل. قال صاحب الكشاف في تأويل قوله :﴿ أو كسبت في إيمنها خيرا ﴾ عطف على قوله :﴿ ءامنت ﴾ والمعنى : أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي ملجأة١ مضطرة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا. فلم يفرق بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكتسب خيرا.
وقال الرازي : والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك.
قوله :﴿ قل انتظروا إنا منتظرون ﴾ وعيد وتهديد للكافرين الشاردين عن منهج الله وهو الحق. إذ يقول لهم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتنتزع أرواحكم أو تأتيكم أشراط القيامة بما تحمله لكم من الدواهي والأهوال.
وعندئذ تتبينوا بمن المحقمنا من المبطل، أو من الناجي من الهالك، أو الصادق من الكاذب، أو من الذي يحيق به العذاب الأكبر. ستعلمون أننا نحن المحقون والفائزون. وأننا على الصواب والسداد والرشاد، وأنكم في الأذلين مع الخاسرين٢.
٢ - الكشاف ج ٢ ص ٦٣ وتفسير الرازي ج ١٤ ص ٨ وتفسير البيضاوي ص ١٩٧..
نزلت آية المفرقين لدينهم في اليهود والنصارى. فقد اختلفوا قبل مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قولان :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ وقيل : نزلت في كل أهل الكفر والضلال والبدع. وقرأها بعضهم " فارقوا " أي فارقوا دينهم، إذ تركوه وارتدوا عنه، من المفارقة. وقرأها آخرون بالتشديد " فرقوا " أي جعلوا دينهم متفرقا فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه.
وشيعا، أي فرقا وطوائف وأحزابا. وأولى التأويل في المراد بالمفرقين، القول بأن الآية عامة، لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه كل طوائف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من المبتدعين من أهل الإسلام. من أولي الأهواء والضلالات والبدع المختلفة التي لا تستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع معتبر إلا القول بالهوى والتشهي والجنوح المغالي خلف الشيطان الذي يهتف بأمثال هؤلاء الأغرار والجهال والحمقى ليغريهم بإيحاءاته ووسوساته ونفثاته كيما يغويهم إغواء وليضلهم عن صراط الله الحق. صراط الإسلام السوي الذي يستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والإسلام بعقيدته السمحة الوضيئة وتشريعه الواسع المنبسط وتصوره الواضح المنضبط، مستبين وظاهر لا يقبل التضليل أو التوهيم أو الخداع ولا يقبل كل صور الاستغراق المريب في بحور الشطحات الذهنية الشاردة والضلالات المفتراة البلهاء التي يصطنعها التائهون المغرورون من أهل البدع. لا جرم أن ذلك ضلال مبين وأنه مجانبة صارخة لحقيقة الإسلام الساطع الأبلج. فلا مساغ بعد وضوح العقيدة وما ينبثق عنها من شريعة عظيمة هائلة مستفيضة أن تطفو على سطح المجتمع الإسلامي فرق وطوائف ليست موضع ائتمان ووثوق. فهي جماعات قليلة هزيلة تائهة في ضلالها الشاطح وبالرغم مما يبتلى به الإسلام والمسلمون من حين لآخر بمختلف الأهواء والضلالات والبدع فلسوف تبقى كلمة الإسلام هي الأقوى والأمثل والأجل. وذلكم هو الإسلام الكامل الشامل القائم على الكتاب والسنة. ولسوف يبقى المسلمون على اختلاف أجناسهم وأوطانهم ولغاتهم، وعلى كثرة أعدادهم وجموعهم، وترامي بلدانهم وبقاعهم – ممتثلين لمنهح الله وحده دون غيره من مناهج الأرض وإفرازات البشر، ليظلوا على مر الزمن أمة واحدة متماسكة يشد بعضها بعضا بعيدا عن ظواهر الزيغ والتفرقة والأهواء والضلالات، وليقفوا صفا منيعا متراصا في وجه الأعاصير الفكرية والمذهبية الخطيرة المحدقة التي تدهمهم دهما. وذلك كالوثنية والإباحية والاشتراكية والرأسمالية وكل وجوه الضلال والزندقة والكفر على اختلاف صوره وألوانه.
قوله :﴿ لست منهم في شيء ﴾ أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بريء كل البراءة من أولئك الذين فارقوا دينهم الحق أو فرقوه وكانوا فيه فرقا وأحزابا شيعا فهو ليس منهم، ولا هم منه، لأنه على الدين الحق الذي بعثه الله به وهو الإسلام دين إبراهيم الذي جاء بالحنفية. فمن فارق دين الحنفية التي جاء بها إبراهيم من ربه إلى حيث الكف فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان المفارق يهوديا أو نصرانيا أو مبتدعا ضالا من أهل الإسلام.
قوله :﴿ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ ذلك وعيد من الله لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا أحزابا وطوائف. فالله يتوعدهم بأنه سائلهم يوم القيامة عن أفعالهم المريبة ومخالفتهم لشرع الله، ليلاقوا في مقابلة ذلك جزاءهم من العقاب.
وروى الإمام أبو يعلى بإسناده عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من هم بحسنة كتب الله له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله تعالى : إنما تركها من مخافتي " ١.
بعد الحديث عن المفرقين دينهم والذين افترقوا طوائف وأحزابا يأمر الله نبيه أن يعلنها صريحة للناس في غير إبطاء ولا مجاملة ﴿ إنني هدني ربي إلى صرط مستقيم ﴾ أي أرشدني ربي بما أوحاه إلي من كتاب منير – إلى صراطه الحق المستقيم وهو الإسلام ﴿ دينا قيما ﴾ دينا منصوب مفعول هداني. أي هداني دينا. وقيما بكسر القاف وفتح الياء والمخففة صفة لقوله :﴿ دينا ﴾ ١ ومعناه المستقيم الذي لا عوج فيه.
قوله :﴿ ملة إبرهيم حنيفا ﴾ ملة، منصوب بتقدير ( أعني ) وقيل : عطف بيان وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم. والحنيف هو الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه٢ أو هو المائل عن الباطل بكل أشكاله وصوره وألوانه ومخلصا لله وحده بكامل الخضوع والامتثال والطاعة.
قوله :﴿ وما كان من المشركين ﴾ في محل نصب معطوف على ﴿ حنيفا ﴾ وذلك تقرير وتأكيد للحنفية الحقيقية التي كان عليها إبراهيم. وفي تقرير هذه الحقيقة الراسخة ما يدحض مقالات أهل الكتاب الذين يزعمون افتراء أنهم على دين إبراهيم. لا جرم أن هذا اختلاف وزور. فإن إبراهيم عليه السلام كان مخبتا لله بكامل الامتثال والطاعة، مبرأ من إشراك أهل الكتاب وضلالاتهم.
٢ - القاموس المحيط ج ٣ ص ١٣٤..
وقوله :﴿ ومحياي ومماتي ﴾ محياي يعني ما أعمله في حياتي فإنه خالص لله. ومماتي، يعني ما أوصي به من خير وصدقات بعد موتي. فهو كذلك في سبيل الله طلبا لمرضاته. ولنا القول إن الحياة في حق المسلم مسخرة كلها في طاعة الله. وذلك بكل ما تحويه الحياة من أفعال وأقوال يبذلها الإنسان. وذلك أن المسلم إنما يبتغي من كل تصرفاته طيلة حياته رضوان الله. وكذلك الممات في حق المسلم ضرب من ضروب الطاعة لله التي يتقرب بها المؤمن من ربه. ووجه ذلك أن المؤمن لا تبرح قلبه وسريرته الرغبة الكاملة في أن يحيى على منهج الله وصراطه المستقيم وأن يموت كذلك على التوحيد الكامل والطاعة التامة ليحظى بغفرانه وينجو من سخطه وعذابه.
قوله :﴿ لله رب العلمين ﴾ فالصلاة بمختلف ضروبها، والنسك على اختلاف معناه وكذا الأفعال في الحياة وما يبقى منها بعد الممات إنما يبذلها المؤمن لله رب العالمين فيبتغي بها رضوانه.
قوله :﴿ وأنا أول المسلمين ﴾ يعني أنا أول من أذعن لله بالخضوع والطاعة وأقر له بالوحدانية الكاملة. ذلك أن كل نبي متقدم على أمته في إسلامه لله وطاعته له، ولا ينبغي أن يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أول مسلم في الناس كافة. بل المراد أنه أول مسلمي زمانه١.
قوله :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ أي أن ما كسبته كل نفس من الخطايا والمعاصي إن هو إلا عليها ولا يتجاوزها إلى غيرها. ولا يؤاخذ به أحد سواها.
قوله :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ تزر أي تحمل، من الوزر وهو الثقل والإثم وسمي السلاح وزرا لثقله. وكذلك سمي الوزير بهذا الاسم، لأنه يحمل ثقل التدبير عن الملك أو الأمير. ومنه الوزارة بالكسر٢ والمراد به هنا الإثم أو الذنب. والمعنى أنه لا تؤاخذ نفس آثمة نفس أخرى. أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها بل كل نفس مأخوذة بخطيئتها فتعاقب بها.
قوله :﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ذلك وعيد شديد من الله للناس الذين ضلوا وفسقوا عن أمر الله واتبعوا خطوات الشيطان فإن مردهم إلى الله في اليوم الموعود. وهنالك ينبئهم الله بأعمالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وبأحوالهم من الشرك على اختلاف صوره وأشكاله. إذ كان منهم الوثنيون، ومنهم المجوس ومنهم الزنادقة وأهل الضلال، ومنهم أهل الكتاب الذين حرفوا دينهم تحريفا٣.
٢ - المصباح المنير ج ٢ ص ٣٣٣ ومختار الصحاح ص ٧١٨..
٣ - تفسير الرازي ج ١٤ ص ١٤- ١٥ وتفسير القرطبي ج ٧ ص ١٥٥- ١٥٧..
قوله :﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجت ليبلوكم في ما ءاتكم ﴾ درجات مفعول ثان لرفع. وقيل غير ذلك٢ والمعنى أن الله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات في العقل والعلم والرزق والقوة والجاه وغير ذلك من المظاهر الدنيوية التي جاءت نتيجة لما أوتي الإنسان من قوة العقل أو الجسم أو التفكير أو التدبير. والناس بطبيعتهم متفاوتون فيما أوتوه من قدرات فطرية أو طاقات خلقية، كطاقة الذكاء أو البسطة في الجسم أو السعة في مدى الذهن وأفق التفكير، أو القوة في الاحتمال والتخطيط والتدبير وغير ذلك من وجوه التفاوت في القدرات الذاتية الخلقية للإنسان. لا جرم أن التفاوت في مثل هذه القدرات سيفضي بالضرورة إلى التفاوت في مدى الكسب أو التحصيل أو التميز ليكون الناس بعذ ذلك درجات كما بينته الآية. فيكون فيهم القوي والضعيف، وفيهم الغني والفقير، وفيهم العالم والجاهل، وفيهم النشيط والخامل.
قوله :﴿ ليبلوكم في ما ءاتكم ﴾ من الابتلاء وهو الامتحان والاختبار. فإن الله جل وعلا يختبر العباد فيما أوتوه من قدرات ودرجات في العقل أو الجسم أو غير ذلك من المزايا، ليحاسب الموسر على ما آتاه الله من مال، وليحاسب العالم بعلمه، هل عمل به أم لم يعمل. وليحاسب ذا الجاه والمكانة بما فعله في جاهه أو مكانته، هل استعملها في نصرة الحق أم في الباطل كظلم الناس والترفع عليهم في استكبار واستخفاف. وبذلك فإن العبد غير مسيب ولا منفك من تحمل التبعة عما أوتيه من مزايا في دنياه ولكنه مؤاخذ بها ومسؤول عنها يوم القيامة.
قوله :﴿ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ أي أن عقاب الله سريع الإتيان لأن كل ما هو آت قريب. فما يكون من آت إلا كان بالغ الدنو والقرب وإن طال زمانه حتى بلغ الدهر كله. فما تغني الكافرين والظالمين والمضلين أموالهم أو مكانتهم ما دام الموت ينتظرهم، والعذاب واقع بهم لا محالة، وإن امتد زمانه ؟ !
وفي المقابل فإن الله ﴿ لغفور رحيم ﴾ إن الله غفار للذنوب والعيوب سواء في الدنيا إذ يسترها لعبده التائب المستغفر، أو في الآخرة فيمحوها بواسع فضله ورحمته٣.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٥٢ وتفسير النسفي ج ١ ص ٤٣..
٣ - تفسير الرازي ج ١٤ ص ١٥ وتفسير القرطبي ج ٧ ص ١٥٨- ١٥٩..