ﰡ
إثبات القدرة الإلهية بالمحسوسات
الله سبحانه وتعالى إله غيبي غير مشاهد لنا في الدنيا بالأبصار والمرئيات، وإنما يمكن الاستدلال عليه بسهولة فيما نشاهده ونلمسه في هذا الكون من إبداع السماوات والأرض وإيجاد الليل والنهار، وخلق الإنسان من بداية معينة وتقدير أجل محدد لوجوده في الحياة، وإحاطة علمه سبحانه بدقائق الأشياء، السّرية منها والجهرية. قال الله تعالى في مطلع سورة الأنعام المكّية:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ١- ٣].
هذه حملة إلهية قوية على أولئك المشكّكين في وجود الله وقدرته ووحدانيته، وتمكّنه من بعث الأجساد مرة أخرى، من غير مشقة ولا صعوبة، وهذه الحملة تذكرنا بضرورة تخصيص كل أنواع الحمد والثناء والشكر لله تعالى، فهو أهل للمحامد كلها على أنواعها، وله الحمد الشامل للشكر المختص بأنه على النعم، إنه سبحانه جدير
(٢) يسوون به غيره في العبادة.
(٣) قدر زمانا للموت.
(٤) للبعث اختص بعلمه هو.
(٥) تشكون في البعث.
أما ترتيب خلق السموات والأرض، فالمفهوم من مجموع آي القرآن: أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها أو يبسطها، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض ومدّدها بعد ذلك.
ولم يخلق السماوات والأرض على شكل واحد، وإنما جعل فيهما التنويع والتّبدل، والحركة والتّغير، وذلك آية الجمال والقدرة التامة الشاملة، فجعل الله العالم متبدلا، يلفّه الليل والنهار، والظلمة والنور يتعاقبان ويتبادلان، وهو وضع تجديدي يطرد السأم والملل، ويمنح النشوة والأمل، فلو كانت الحياة كلها على منوال واحد، ليل مظلم أو نهار مضيء دائم، لتضايق الإنسان، ولم يرق له العيش الهني ولم يدرك الارتياح النفسي. ومع هذه التبدلات والتغيرات، ووجود الأرض والسماوات، يجحد الكفار نعمة الله الصانع، ويجعلون لله عديلا مساويا له في العبادة، وهو الشريك، مع أن هذا الشريك ضعيف عاجز غير خالق، ولا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا. وقوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ توبيخ للناس على سوء فعلهم بعد قيام الحجج ووضوحها.
والظلمات في الكون كثيرة، تشمل المحسوس والمعنوي، فالمحسوس هو ظلمة الليل وأعماق الأرض والبحر، والمعنوي فيها ظلمات الشّرك والكفر. والنّور يشمل النهار المحسوس، والإيمان والعلم وسائر فنون المعرفة.
ومرجع العالم في النهاية إلى الله تعالى وهو سبحانه القادر التام القدرة على إعادة
وهناك دليل آخر على وجود الله ووحدانيته: أن الله لم تنته مهمته بخلق السماوات والأرض، وإنما هو دائم الوجود والهيمنة والسيطرة، والقائم في السماوات والأرض المعبود فيها، المعروف بالألوهية، يعبده ويوحّده كل من في السماوات ومن في الأرض، ويسمّونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ يعلم السّر والجهر، ويستوي في علمه سبحانه الخفاء والعلانية، ويعلم جميع أعمالكم خيرها وشرّها، ويجازي الناس جميعا عليها، فهل بعد هذه الأدلة والبراهين أي شك في توحيد الله وقدرته على البعث والحياة الثانية بعد الأولى، بل والخلود في عالم الآخرة.
أسباب كفر الناس بالله تعالى
العقل والواقع يقضيان بأنه لا يوجد سبب مقبول ولا برهان واضح يسوّغ جحود الناس وكفرهم بوجود الله ووحدانيته، وإنما الكفر والجحود لون من ألوان المكابرة
فبالرغم من وجود الآيات الكونية التي تدلّ على إثبات الوحدانية لله، وكمال الألوهية والربوبيّة، وبالرغم من وجود الآيات القرآنية التي تنادي الناس للإيمان والتصديق بها، فإن بعض الناس يتّجهون إلى التكذيب والإنكار والكفر. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ٤- ٦].
يذمّ الله تعالى أولئك الكفار الذين يعدلون بالله سواه، ويجعلون الشركاء مثل الله، يذمّهم بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، فكلما أتتهم معجزة أو حجة واضحة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها، وكلما ذكّرهم القرآن العظيم بآيات ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوة، وأمدّهم بالرزق، وأعطاهم كل شيء، وخلق لهم جميع ما في الأرض، فإنهم مع ذلك كله يعرضون عن النظر في آيات الله، كما قال سبحانه: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: ٢١/ ٢- ٣].
(٢) أمة من الناس.
(٣) أمددناهم من القوة.
(٤) المطر.
(٥) غزيرا.
إنهم لم ينظروا في الوجود نظرة تأمّل وتفكّر واعتبار، ولم يحرّروا أنفسهم من رقّ التقليد الأعمى للآباء والأجداد، ولم يترفعوا عن سيطرة العصبية وحماقة الجاهلية، فهم إذا جاءتهم رسالة التجديد والحياة الأفضل أعرضوا وقالوا: سحر مستمر، قال تعالى: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) [الأعراف:
٧/ ١٣٢].
والإعراض عن الحق، والجمود على الباطل، استدعى تهديد هؤلاء الكفار على تكذيبهم بالحقّ، فلا بدّ من أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم واستهزائهم بالإسلام والقرآن، فإنهم سيتعرضون في الدنيا للقتل والدمار بمختلف الأسباب، وفي الآخرة يجدون العذاب في نار جهنم يطوّق أعناقهم ويلازمهم إلى الأبد، قال تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [النّحل: ١٦/ ٣٤].
ثم أبان الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، ألم يروا في قلوبهم وينظروا في عقولهم أن الله أهلك كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط الذين كذّبوا رسلهم، بالرغم مما كانوا يتمتعون به من أسباب القوة والسّعة في الرزق، والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله، وما لم نمكّن لهم شبيها به.
لقد كان قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط في سعة كبيرة من العيش، وشدة في السلطان، وقوة في الحياة، وسّع الله عليهم الرزق، وأرسل عليهم الأمطار الغزيرة، وجعل الأنهار تجري من تحت بيوتهم ووسط مزارعهم، فلما كفروا بأنعم
إن هذه الإنذارات والتهديدات للكفار كفيلة بتذكير العقلاء في أنهم أخطئوا الطريق، وإنهم سيتعرضون لعقاب مماثل لعقاب الكفار من الأمم السابقة: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: ٨٥/ ١٢- ١٦].
مطالب الكفّار المادّية وشبهاتهم الواهية
إن موقف المشركين الذين عارضوا دعوة الإسلام يتمثّل في شيء من العناد الشديد، والمكابرة في المحسوسات، والمطالبة بألوان من المعجزات المادّية لا من أجل الإيمان والتصديق، وإنما للإعنات والمضايقة والإحراج، والتّهرب من مواجهة الحقائق.
ولكنهم بهذا الأسلوب في المقاومة، والاستهزاء الذي هو أمارة الإفلاس والعجز، سيتعرضون لأشد أنواع العذاب، والوقوع في أسوأ العواقب بسبب تكذيبهم برسالة الحق والقرآن، وإنكارهم دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاة والسعادة. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ١١]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
«١» «٢» »
«٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ٧- ١١].
(٢) لا يمهلون لحظة. [.....]
(٣) لخلطنا.
(٤) ما يخلطون على أنفسهم.
(٥) أحاط ونزل.
إن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله، لا نؤمن لك، حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسول الله، فنزلت آية: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ.
وقال جماعة من المشركين كالنضر بن الحارث: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: ١٧/ ٩٠].
وروى ابن المنذر وغيره عن ابن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب وآخرون: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس، ويرى معك» فأنزل الله في ذلك:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
تحدّثنا هذه الآيات أنه لو جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم المشركين بأشد وأشنع مما جاء به من الإخبار بعقوبات الأمم السابقة، لكذّبوا به، وفي هذا مبالغة تؤكد عنادهم وموقفهم المتعنّت، إنهم اقترحوا اقتراحين:
أولهما- أن ينزل الله عليهم كتابا مسطورا من السماء يخبرهم بصدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ويطالبهم بالإيمان به، قال عبد الله بن أبي أمية: «لا أومن لك حتى تصعد إلى السماء، ثم تنزل بكتاب فيه: من ربّ العزّة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا كنت أصدّقك». ثم أسلم بعد ذلك عبد الله هذا، وقتل شهيدا في الطّائف. إن عبد الله وأمثاله من المشركين لو جاءهم كتاب إلهي مسجّل من الله، والتقطوه بأيديهم، لقالوا: هذا سحر واضح. وذلك يمثّل غاية التّعنّت والمكابرة، وهذا جواب اقتراحهم الأول.
والاقتراح الثاني- أن ينزل الله ملكا من السماء يرونه ويكون مؤيّدا لرسول الله
وردّ الله عليهم ثانيا بأنه لو أنزل الله مع الرسول البشر ملكا، لكان متمثّلا بصورة الرجل، ليخاطبهم ويخاطبوه، وينتفعوا به، ثم يعود الأمر كما كان، ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه، ويختلط الأمر عليهم، لأنه سيقول: إني رسول الله كما قال محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يكذّبونه فلا يؤمنون ولا يصدّقون برسالة القرآن والنّبي والإسلام. قال ابن عباس في الآية: لو أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النّور.
ثم أخبر الله تعالى أن اقتراحات بعض كفار مكة بإنزال كتاب مدوّن من السماء، أو بإنزال ملك من الملائكة، صادرة على سبيل الاستهزاء، ولكنه قد نزل وأحاط بهم من العذاب مثلما كانوا به يستهزئون أو يسخرون. وإن ارتاب المشركون في إمكان وقوع العقاب، فليسيروا وينتقلوا في الأرض ليقفوا بأنفسهم على الحقيقة من تاريخ عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط، كيف عذّبهم الله، وكيف كانت عاقبة المكذّبين لرسالات أنبيائهم، وكيف أحاط بهم جزاء ما استهزءوا وسخروا به.
أدلّة واضحة على إثبات البعث
تضافرت الآيات الدّالة على إثبات أصول الدين الثلاثة: وهي إثبات وجود الله وتوحيده، وإثبات البعث والمعاد والجزاء، وإثبات النّبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكل هذه البراهين الواقعية والحجج الدامغة من أجل خير الإنسان وإسعاده وإفهامه حقيقة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٦]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأنعام: ٦/ ١٢- ١٦].
حاور الله تعالى من علياء سمائه المشركين آمرا نبيّه بهذا السؤال، وهو: من مالك جميع ما في السماوات وما في الأرض؟ ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التّبكيت والتوبيخ، لأن المشركين في الجاهلية كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى الله تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) [لقمان: ٣١/ ٢٥].
أمر الله عزّ وجلّ محمدا عليه الصّلاة والسّلام بهذه الحجة الساطعة، والبرهان القطعي الذي لا يستطيع أحد نقضه، فيا أيها الكافرون بربّهم: لمن ما في السماوات والأرض، ثم سبقهم في الجواب، فقال: الله، إذ لا يستطيع أحد إنكار ذلك، ومن صفات الله: صفة الرحمة بجميع عباده، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلفه، ومن
(٢) مبدع.
(٣) يرزق عباده.
(٤) خضع لله وانقاد له.
وليعلم البشر أن الذين خسروا أنفسهم ممن يجمعون يوم القيامة، هم الذين لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب.
ثم يؤكد الله تعالى ملكيته المطلقة لجميع الكون، فيذكر أنه تعالى مالك جميع المتحرّك والساكن في الليل والنهار، وأنه المتصرّف تصرّفا كاملا في كل شيء، وهو السميع لكل ما يحدث، العليم بكل ما يقع، المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، وبكل فعل ونيّة، والشامل سمعه كل مسموع من الأقوال والأصوات والحركات.
وهل يصح لذي عقل اتّخاذ ولي أو ناصر غير مبدع السماوات والأرض على غير مثال سبق: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) [الزّمر: ٣٩/ ٦٤].
وهل يتصور عاقل استمداد القوة والعون من غير الرازق المطعم لجميع خلقه، ولا يطعمه أحد ولا يحتاج لأحد؟ يقول النبي بأمر ربه: إنني أنا نبي الله ورسوله أمرت أن أكون أول من خضع وانقاد لعظمة الله وجلاله، وألا أكون من المشركين مع الله إلها آخر، أيّا كان نوع الشّرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتّخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرّب إلى الله زلفى. إنني أنا نبي الله أخشى إن عصيت الله ربّي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر، وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم، ويجازيهم على ما يستحقّون. إن من يدفع عنه عذاب يوم القيامة وينجو من نار جهنم، فقد رحمه الله وحماه، وذلك هو الفوز السّاحق الذي لا فوز أعظم منه، كما قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما
[آل عمران: ٣/ ١٨٥].
كاشف الضّر وأصدق الشهود
يتعرّض الإنسان في حياته لأحداث كثيرة في النفس والأهل والمال، ويلتمس طرق النجاة والفرج من الكرب، وينتظر إزالة الضّر بمختلف الوسائل، فيبذل أقصى ما لديه من جهود، وأغلى ما لديه من أموال، ولا يجد المضرور أو المكلوم أو المصاب بابا يطرقه غير باب الله الكريم في أوقات السّحر وخفوت الأصوات وسكون الليل، وهذا أمر يقع بالفطرة من المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وكذلك إذا كذّب النّبي وتجهّم الناس في وجه دعوته لن يجد ملاذا له يصدق قوله ويشهد له بالحق سوى الله تعالى. قال الله عزّ وجلّ مبيّنا هاتين الحالتين:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
«١» [الأنعام: ٦/ ١٧- ١٩].
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النّحام بن زيد، وقروم ابن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا: يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.. الآية.
سوء الحال في الجسم وغيره، والضّرّ- بفتح الضّاد: ضدّ النفع، وناب الضّر في هذه الآية مناب الشّر، وإن كان الشّر أعم منه، فقابل الخير.
يخبر الله بأنه: إن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو أي مصيبة تحصل، أو حزن أو ذلّ ونحوه، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى لأنه القادر على كل شيء، أي على كل شيء جائز أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه. وكذلك إن يحصل لك أيها الإنسان خير من صحة أو غنى أو عزّ ونحوه، فهو أيضا من الله سبحانه، لكمال قدرته على كل شيء، ولأنه القاهر الغالب صاحب العزّة والمجد والسلطان، والقاهر: أي المستولي المقتدر، ولأنه سبحانه الحكيم في جميع أفعاله، يضع كل شيء في موضعه المناسب له، وهو عزّ وجلّ الخبير بمواضع الأشياء، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق، كما قال تعالى في آية أخرى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) [فاطر: ٣٥/ ٢].
وفي مقابلته تعالى الخير بالضّر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا، بل قد يكون فيه نفع. وإذا كان الله تام القدرة والسلطان والتّصرف، فلا سبيل للعبد إلا اللجوء إليه ودعوته رغبا ورهبا. والفوقية في قوله: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان.
ثم أيّد الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلّها، وأصحّها وأصدقها، وهي شهادة الله بالحق بين نبيّه محمد وبين المشركين، شهادة تدلّ على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه. وتتضمن هذه الآية أن الله تعالى يقال عليه:
وأردفها الله بأمر نبيّه بأن يخبر قومه: بأنه أوحي إلي هذا القرآن لأخوّفكم به العقاب والآخرة على تكذيبي، وأخوف به كل من بلغه هذا القرآن من العرب وغير العرب (العجم) فهو نذير لكل من بلغه وعلم به، ينذر من عصاه بالنار، ويبشّر من أطاعه وآمن به بالجنة، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: ٢/ ١١٩].
روى عبد الرّزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلّغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله».
وفي رواية أخرى: «يا أيها الناس، بلّغوا عني ولو آية، فإنه من بلّغ آية من كتاب الله تعالى، فقد بلغه أمر الله تعالى، أخذه أو تركه».
ومن أهم خصائص دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التصريح بأن الإله إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وأن هذا النّبي بريء مما يشرك به العرب وغيرهم من الأصنام والأوثان وغيرها.
إقرار غير المؤمنين بالحق والتوحيد
من المعلوم أن الحقيقة مرّة، وأن الاعتراف بها يحتاج إلى جرأة وصراحة، وقوة إيمان وصفاء نفس، ولكن هذا الإقرار تحجبه أحيانا كثيرة المؤثرات المصلحية والعوامل المادّية والتّخوف من فقدان المنصب والجاه، وضياع الذّات، وخسارة ولاء الأتباع والأنصار، والدليل على حجب الحقيقة الدينية الكبرى: اعتراف أهل الكتاب بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، وإعلان المشركين في الآخرة أنهم ما كانوا مشركين، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ٢٠- ٢٤].
ذكر المؤرّخون أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) عن رأيهم في النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي دينه، فقالوا: ليس في التوراة والإنجيل شيء يدلّ على نبوّته. ولكنهم في هذا لم يكونوا صادقين لأنهم يعرفونه بالنّبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم، لما
روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حقّ من الله تعالى.
ومعنى الآيات: إن الذين آتيناهم الكتاب قبل القرآن وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي، وأنه خاتم الرّسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرّسل المتقدّمين والأنبياء السابقين، فإن صفته في كتبهم واضحة، ودلائل نبوّته التي ظهرت معه مؤيدة للأوصاف السابقة، ولكنهم أنكروا، كما أنكر المشركون.
وسبب إنكارهم ناشئ من أنهم خسروا (أي غبنوا) أنفسهم، حين لم يؤمنوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا بالقرآن، لعنادهم وحسدهم، لا لجهلهم به. وليس أحد أظلم
(٢) غاب وزال عنهم.
(٣) يكذبون.
وزيادة في الإيلام والتأنيب والتّبكيت يسأل المشركون يوم القيامة والحشر سؤال تقريع وتوبيخ: أين شركاؤكم من الأصنام والأوثان الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله، وتدعونهم كما تدعون الله؟ والزّعم: القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم.
ثم لم تكن فتنتهم، أي لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبار الله إياهم اعتذارا عما سلف منهم من الشّرك بالله إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين، أي لم نكن مقرّين بالشّرك ولا معتزين به ولا بدين الآباء والأجداد.
وذلك موقف لهم في غاية التّخاذل والخزي والحيرة، وتأمل أيها الإنسان وتعجب من تناقضهم، فتارة يصدقون وتارة يكذبون، وإنكارهم الشّرك يوم القيامة كذب صريح، فانظر كيف كذبوا على أنفسهم، بعد الاعتداد بدين الشّرك والوثنية، وتعجب كيف ضلّ عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوث الشّرك في الدنيا، مع أنهم كانوا أساطين الشّرك، وذلك مثل قوله تعالى في آية أخرى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً.. [غافر: ٤٠/ ٧٣- ٧٤].
إن هذا الموقف المتناقض من المشركين يتّسم بالكذب والخزي والعار، ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة، فإن دار الدنيا هي دار التكليف بالإيمان والفرائض،
موقف المشركين من القرآن الكريم
كان الموقف الرسمي المعلن للمشركين القرشيين من القرآن الكريم هو الرفض والإنكار جملة وتفصيلا، لأنهم قدروا بانضمامهم للإسلام أنهم يفقدون مركز الزعامة والسيادة بين العرب، الذي كانوا يتميزون به في الجاهلية، ولكنهم بهذا الموقف التاريخي كانوا سبّة الدهر، وخسروا برفضهم الدنيا والآخرة، فقد زالت زعامتهم وانتقلت للمسلمين، وكانوا حطب جهنم وبئس المصير، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ٢٥- ٢٦].
أبان ابن عباس رضي الله عنهما سبب نزول هاتين الآيتين فقال: إن أبا سفيان ابن حرب، والوليد بن المغيرة، والنّضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية وأبيّا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا للنّضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرّك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية،
(٢) أكاذيبهم المسطرة في كتبهم.
(٣) يتباعدون عنه. [.....]
والمعنى والمقصد من هذه الآية أن مشركي مكة كانوا في أعجز موقف، حين حاولوا ردّ الحق القرآني بالدعوى المجردة، ومنهم فريق كانوا يستمعون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وهم في أشدّ حالات الغباء وصمم الآذان، يرون الآيات الناطقة بالحق فلا يؤمنون بها، وإذا جاؤوا للمجادلة أي المقابلة في الاحتجاج، قابلوا بدعوى مجردة فارغة من البرهان المقبول، والعقل السليم لأن الله تعالى- بسبب عنادهم وإصرارهم على شركهم- جعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما شبّههم القرآن بحال الطيور الناعقة بما لا تعي ولا تفهم، فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة:
٢/ ١٧١]. لقد حجزوا عن فهم القرآن وقبوله وتدبّر معانيه بسبب التقليد الأعمى للأسلاف، وإعراضهم الناشئ عن تصميم وعناد وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمّل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.
فمهما رأوا من الآيات البيّنات والبراهين الصادعة بالحق لا يؤمنوا بها، وصاروا بلا فهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) [الأنفال: ٨/ ٢٣].
وإذا جاؤوا يحاجّون النّبي ويناظرونه في الحق وفي دعوته، قالوا قولا تافها: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من أخبار الأولين وأقاصيصهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ، وما هي إلا نوع من خرافات وأباطيل القدماء.
وهم بهذا الموقف اللاعقلاني والدعائي بمجرد الأقاويل المبطلة، ينهون الناس عن
وعاقبة ذلك أنهم ما يضرّون وما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الكفر أو الصنيع الذي يدخلهم جهنم، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنّون أنهم يضرّون رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين، إما بالقتل في ساحات الحرب، وإما بالبلاء والانتقام الذي سيتبعه هلاك الآخرة. وهذا من إعجاز القرآن الذي أخبر عن المغيبات في المستقبل، ووقع ما أخبر به، لقد انمحى ذكرهم من التاريخ وصاروا مثلا للتخليط الذي لا حجة فيه، والبلاهة التي لا حدود لها، فخسروا الدنيا والآخرة.
أحوال المشركين في الآخرة
للمشركين حالتان محرجتان ورهيبتان يوم القيامة، الحال الأولى: يوم عرضهم على النار وما يطرأ عليهم من ذعر وندم على ماضيهم في الدنيا، والحال الثانية: يوم حسابهم ووقوفهم بين يدي ربّهم حيث يناقشهم الله على أعمالهم، فتستولي عليهم الحيرة والدهشة وهول الأمر.
قال الله تعالى واصفا الحال الأولى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
«١» [الأنعام:
٦/ ٢٧- ٢٩].
ثم أخبر الله تعالى عن عقيدة المشركين الكفار المتأصّلة فيهم وهي تكذيبهم بالحشر والعودة إلى الله وإنكار الآخرة، فإنهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا فقط، وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا آخرة ولا معاد، وهؤلاء هم المادّيون الدّهريون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.
ثم ذكر الله تعالى حالا ثانية للكفار أمام الله حين وقوفهم للحساب، فقال سبحانه:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ٣٠- ٣٢].
(٢) فجأة.
(٣) ذنوبهم.
فأجابوا: بلى وربّنا، أي إنه الحق الذي لا شكّ فيه، وأكّدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكون البعث حقّا، فردّ الله عليهم: فذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت.
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم بهذا الإقرار منكم بأن العذاب حقّ.
ثم أخبر الله تعالى خبرا عامّا مفاده: تعظيم المصاب الذي حلّ بهم، وهو: خسارة الذين كذبوا بلقاء الله، أي بإنكار القيامة وبالرجوع إلى الله وإلى أحكامه وقدرته، حتى إذا جاءتهم ساعة القيامة فجأة، قالوا: يا حسرتنا على فرّطنا من العمل للآخرة، وما أسلفنا من العمل القبيح. وهؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا الحمل الذي حملوه وهو الذنوب، فقوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يأثمون، مضمّن التعظيم لذلك والإشادة به.
ثم أخبر الله عن حال الدنيا بأنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها، أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا انقضى، فغالب أعمال الدنيا لعب لا يفيد، ولهو يشغل عن المصلحة الحقيقة، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى للذين يتّقون الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزوال ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.
لقد كان الرّسل والأنبياء ومنهم خاتم النّبيّين على درجة كبيرة من الإخلاص في دعوتهم لتوحيد ربّهم وإخلاص العبادة له، وكانوا في حرج عظيم أمام الله بسبب إعراض أقوامهم عن دعوتهم وتكذيبهم إياهم، ولكنهم صبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله، ولا مناص من الصبر على الأذى واحتمال المكروه والرّضا بالواقع لأن الهداية بيد الله وحده، فلا يصح لرسول الجهل بهذا، قال الله تعالى مبيّنا ذلك:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ٣٣- ٣٥].
نزلت آية قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ فيما
روى الترمذي والحاكم عن علي رضي الله عنه: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذّبك، ولكن نكذّب بما جئت به، فأنزل الله:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
ليس هناك أعظم ولا أروع ولا أقدس من هذه المواساة أو ما يسمّونه المشاركة الوجدانية، يواسي الله تعالى من علياء سمائه نبيّه على ما ألّم به من حزن شديد وألم عميق بسبب تكذيب قومه له ومعارضتهم دعوته، وصدّهم الناس عنها، فالله يعلم بذلك تمام العلم، كما في آية أخرى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) [الكهف: ١٨/ ٦].
(٢) شقّ.
(٣) سربا ومنفذا.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ.. آية فيها إلزام الحجة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وتقسيم الأحوال عليه، حتى يتبيّن أنه لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى.
والمعنى: إن كنت أيها النّبي تعظّم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتحزن عليه، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض، أو على ارتقاء سلّم إلى السماء، فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بدّ لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي أقامها الله تعالى للناظرين المتأملين. فالله لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد ترك الحرّية للناس في النظر والتأمل في آياته، ليهتدي بها الأسوياء العقلاء، ويضل آخرون. وهناك عوامل تساعدهم على الوصول إلى الحق، فقد خلقهم الله على الفطرة الإسلامية النقية وهي
قال ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذّكر الأول.
وهذا كله دليل واضح على حرية الإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر، وعلى أن الحساب والثواب والعقاب منوط بما اختاره الإنسان لنفسه من إيمان أو ضلال، وخير أو شرّ.
قدرة الله تعالى وعلمه
يؤكّد الله تعالى مواساته لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم على حزنه بسبب إعراض قومه عن دعوته لأن قضية الإيمان والكفر يتعلق بها أصول ثلاثة: هي حرية الإنسان، وتمام قدرة الله تعالى، وكمال علمه بالأشياء قبل وقوعها، وهذه الأسس الثلاثة تحدّثت عنها آيات قرآنية كثيرة منها قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
«١» [الأنعام: ٦/ ٣٦- ٣٩].
هذا مع العلم بأن الله قادر على كل شيء، فكما أنه قادر على بعث الموتى من القبور يوم القيامة، والرجوع إليه للجزاء، هو سبحانه قادر على إحياء قلوب الجاحدين بالإيمان، وأنت أيها النّبي لا تقدر على هدايتهم. لكنهم- أي هؤلاء المشركين- قوم معاندون يرفضون دعوة الحقّ القرآني كبرا وحسدا وعنادا. ومن مظاهر عنادهم: مطالبتهم بإنزال آية مادّية محسوسة من السماء، خارقة للعادة على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم كعصا موسى، ومائدة عيسى، وملك يشهد له، وتفجير الينابيع، وإنشاء البساتين أو الإتيان بكنز، أو غير ذلك من الشّطط، ولكن أكثر هؤلاء الكفار لا يعلمون أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، ولكن حكمته اقتضت الامتناع من إنزالها لأنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، فإنزال آية ماديّة مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.
ثم نبّه الله سبحانه على قدرته وعلى آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، لمن شاء
ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة، فهذا دليل آخر على إحاطة علم الله بكل شيء، وجد أو سيوجد لحكمة يعلمها، ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلّا منها، أفليس في هذا الحشر ما يدلّ على قدرته تعالى ووحدانيته؟! وإذا كان ما من دابّة ولا طائر ولا شيء إلا وفيه آية دالّة على قدرة الله ووحدانيته، فهلا تؤمنوا! ولكن الكافرين الذين كذبوا بآيات الله صمّ وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه، ولا يسمعون دعوة الحقّ والهدى سماع قبول، ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبّطون في ظلمات الشّرك والوثنية وعادات الجاهلية القبيحة والجهل والأميّة، فكيف يهتدون إلى الطريق الصحيح؟ والله هو المتصرّف في شؤون خلقه، ويعلم حال كل مخلوق، فمن يشأ الله إضلاله أضلّه ولم يلطف به لأنه ليس أهلا للطف، ومن يشأ هدايته وفّقه وهداه إلى الصراط المستقيم: وهو الإسلام، لأنه من أهل اللطف، فيكون معيار الهداية والإضلال بما علم الله أزلا من استعدادات المخلوقات للخير والحق أو الشّر والباطل. ذلك حكم الله ومشيئته في خلقه.
هناك أدلّة لا شعوريّة أو لا إراديّة على قدرة الله عزّ وجلّ، مغروسة في الفطرة الإنسانية، وهي اللجوء إلى الله تعالى من المؤمنين والكفرة إذا نزلت بهم نازلة أو بلية أو محنة، فلا يجدون ملاذا ولا مفزعا يلوذون به أو يفزعون إليه سوى الله سبحانه القادر القاهر، المتصرّف في الكون حسبما يشاء، يقدر المقدورات، ويهيء الأسباب، أو يقول للشيء: كن فيكون. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الأنعام: ٦/ ٤٠- ٤٥].
هذه ردود قاطعة الدلالة على الكفار الجاعلين لله شركاء، ترشدهم إلى وحدانية الله، وتدلّهم على أنهم لا بدّ من لجوئهم إلى الله طوعا أو كرها. والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني عما أنتم فاعلون، أرأيتم إذا أتاكم أمارات عذاب الله، مثلما نزل بالأمم السابقة كالخسف والريح الصّرصر العاتية، والصاعقة، والطّوفان، أو خفتم هلاكا، أو خفتم الساعة وأتتكم القيامة بأهوالها ومخازيها، أتدعون أصنامكم وتلجؤون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟!
(٢) الفقر والمرض.
(٣) يتذلّلون ويتوبون.
(٤) أتاهم عذابنا.
(٥) عذّبناهم فجأة.
(٦) آيسون من الرّحمة. [.....]
(٧) آخرهم.
والتّرجي في (لعلّ) إنما هو في معتقد البشر، فلو رأى أحد أمارات العذاب لرجا تضرّعهم بسببه. ثم أكّد تعالى الحضّ على التّضرع لله، وألا سبيل للناس إلا إلى الله، فهلا إذا نزل بهم أوائل البأس والعذاب ومقدمات الشدائد تضرّعوا إلى الله خاشعين تائبين؟!! ولكنهم لم يفعلوا وصلبت قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشّرك والعصيان، ووسوس لهم حتى حسّن لهم الكفر في قلوبهم، ورغّبهم في سوء أعمالهم. فلما تركوا ما أنزل الله، وأصروا على كفرهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق، استدراجا لهم منه تعالى، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال.
فهلك القوم الظالمون أنفسهم بالكفر وتكذيب الرّسل، وقطع دابر القوم، أي آخر الأمر الذي يأتي من خلفه، ولم يبق منهم أحد، وهذا كناية عن استئصال شأفتهم
روى الطبراني والبيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج».
الاحتجاج على الكفار لإثبات التّوحيد
هناك أدلّة كثيرة على قدرة الله ووحدانيّته، منها ما نشاهده في هذا الكون من مشاهد ناطقة بوجود الله وقدرته وتوحيده، ومنها سلب وسائل المعرفة والحس والإدراك، وتسليط العذاب الشامل بغتة على الظلمة. غير أن الإنسان الواعي يتأمل في مقدورات الله، فيؤمن بالله ربّا واحدا، ويصدّق برسالات الرّسل الدّالة على الخير، والمنفّرة من الشّر. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
«١» «٢» «٣» »
«٥» [الأنعام: ٦/ ٤٦- ٤٩].
(٢) نكررها بأوجه مختلفة.
(٣) أي يعرضون عن ذلك.
(٤) أخبروني.
(٥) معاينة.
قل لهم على سبيل الوعيد والتّهديد: أخبروني إن أتاكم عذاب الله فجأة من غير شعور ولا مقدمات، كما أتى الذين من قبلكم من المكذّبين كالخسف والغرق والزّلزال، أو أتاكم العذاب جهارا نهارا وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ هل يهلك بهذا العذاب الشامل إلا القوم الظالمون أنفسهم بالشّرك والاعتقاد الباطل، وأصرّوا على الكفر والعناد؟! ثم أوضح الله تعالى مهام الأنبياء والمرسلين ليتأثّروا بها، ويفيدوا من عطائها ونفعها، فما نرسل الرّسل إلا ليبشّروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن، وبالجنة لمن أسلم، وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذّب وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات،
ومصير الفريقين من المؤمنين والكافرين برسالات الأنبياء واضح وقاطع الوعد، ومحقق الجزاء، فمن آمن وأصلح عمله بامتثال الطاعات، واتّباع الرّسل، فلا خوف عليهم من مخاطر المستقبل، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا ولا على شيء يصادفهم يوم لقاء الله. وهذا وعد ثابت محقق، كما قال الله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) [الأنبياء: ٢١/ ١٠٣].
ومن كذّب بآيات الله التي أرسل الله بها الرّسل، وفسق، أي خرج عن الحدّ في كفرانه وعصيانه، ولم ينفّذ أوامر الله، وارتكب المنهيات المحظورات، يمسّهم العذاب، أي يباشرهم ويلتصق بهم، بسبب كفرهم وفسقهم، وكان جزاؤهم أنواع النقمة في الدنيا، والتّلظّي بنار جهنم في الآخرة. فإن أصاب الكافر خير في الدنيا فهو متاع قليل، والعبرة بالمصير الدائم والخلود الأبدي في العذاب في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، والضّلال البعيد.
مصدر المعرفة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم
تتنوع مصادر المعرفة بالنسبة للبشر، فمنها العلوم المكتسبة المتلقاة من الآخرين، ومنها الأعراف والعادات السائدة، ومنها الخبرات والتجارب، وأهم مصادر المعرفة وأوثقها وأدقها: الوحي الإلهي الذي يزوّد البشرية بمعلومات ومعارف ضرورية وأساسية في تكوين ثقافاتهم، ويبقى أمام الإنسان بعد الوحي ساحة المعرفة الدنيوية المستمدة من الآخرين ومن الإبداع البشري. والوحي الإلهي مقصور على الأنبياء
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
[الأنعام: ٦/ ٥٠- ٥١].
ثم أورد القرآن الكريم دليلا قطعيّا على كون القرآن من مصدر إلهي لا بشري، حين أوصى بالضعفاء الملازمين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفضّلهم على الزعماء وكبار الأشراف، فقال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
«١» «٢» [الأنعام: ٦/ ٥٢- ٥٣].
تحصر الآيتان الأوليان مصدر معارف النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي الإلهي، ردّا على المشركين الذين كانوا يطلبون من النّبي صلّى الله عليه وسلّم معجزات مادّية قاهرة، فأجابهم بأني: لا أملك خزائن الله وأرزاقه، ولا أقدر على التصرّف فيها وتوزيعها كما أشاء، ولا أدّعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحدا، كما قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) [الجنّ: ٧٢/ ٢٦- ٢٧].
ولا أقول لكم: إني أحد الملائكة، إنما أنا بشر يوحى إلي من الله عزّ وجلّ ما يريد ويختار، والمراد من هذا أني لا أدّعي الألوهية، ولا علم الغيب، ولا الملكية، إنما
(٢) اختبرنا
ثم أمر الله نبيّه بأن ينذر ويخوّف جميع الخلائق بالوحي القرآني، وهم أهل الملل السماوية الثلاثة الذين يخافون من الحشر وأهواله، وشدة الحساب يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند لقاء الله، في حال من ليس له ولي ناصر ولا شفيع شافع، أنذرهم بهذا أيها النّبي لعلهم- أي البشر- يتّعظون ويتّقون، فيمتثلون الأوامر وينتهون عن الكفر والمعاصي.
ثم ذكر القرآن مثلا رائعا في مجاملة الضعفاء، فمنع من تقريب أشراف القوم من قريش، وحذّر من طرد ضعفاء الناس المؤمنين الموحّدين الذين يعبدون الله في الصباح والمساء، ويدعونه سرّا وعلانية، ويخلصون في طاعتهم وعبادتهم، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى، المستحق وحده للعبادة، وهؤلاء هم الذين يختص الله بحسابهم، وليس لك أيها النّبي محاسبتهم على شيء، ولم تكلف شيئا غير دعائهم للدين، لا ترزقهم ولا يرزقونك، وإن طردتهم من مجلسك كنت من الظالمين أنفسهم.
فأي دليل بعد هذا الإنذار الموجّه للنّبي يدلّ على أن القرآن لا يتصور إلا أن يكون كلام الله، وليس بكلام بشر ولو كان نبيّا.
ثم أماط القرآن اللثام عن حقيقة جوهرية هي تعدد الأديان: من إسلام وشرك، ولقد ابتلى الله المؤمنين بالمشركين وعلى العكس واختبرهم بذلك، وابتلاء المؤمنين
وقد نزلت آية النّهي عن طرد الضعفاء من مجلس النّبي في ستة أنفار كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، طالب المشركون بطردهم من مجلس النّبي، قائلين:
اطردهم، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فنهى الله نبيّه عن ذلك، إعلاء لدرجة الإيمان، وإدناء لمرتبة الشّرك أو الكفر.
مظاهر الرّحمة الإلهيّة
لا يستغني الإنسان عن رحمة الله طرفة عين، فإن وجوده وبقاءه، وسعادته وشقاءه، وأفراحه وأحزانه وغير ذلك مرهون برحمة الله وفضله، وإحسانه ولطفه، فالله لطيف رحيم بعباده، ويزيد اللطف بعبّاده، يمنح لهم الخير، ويحميهم من الشّر ما داموا على جادة الاستقامة قائمين، وبهدي الله عاملين، بل إنه يرحم العصاة والكافرين به، لأن رحمته سبقت غضبه، ولولا الرّحمة الإلهية ما بقي في هذا العالم كافر ولا مشرك. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
«١» [الأنعام: ٦/ ٥٤- ٥٥].
قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، فكان إذا رآهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بدأهم بالسلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسّلام».
وقال الفضيل بن عياض: قال قوم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا، فأعرض عنهم، فنزلت الآية: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا.
والمعنى: وإذا جاءك أيها الرسول الذين يؤمنون بالله ورسله، ويصدقون بكتبه تصديقا قلبيّا وعمليّا، ويؤمنون بآيات القرآن وعلامات النّبوة كلها، فقل لهم: أمان لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة لأن الله سبحانه أوجب على نفسه الكريمة الرحمة بعباده، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا، فهو واسع الفضل والمغفرة، يغفر الذنوب بعد التوبة، ويعفو عن السّيئات بالحسنات.
جاء في الصحيحين وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تبارك وتعالى كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي».
فمن ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد، أو شهوة جامحة، وخفة عارمة، وطيش بيّن، ثم تاب إلى الله وندم على ذلك الذنب، وصمّم على عدم العودة إلى المعصية في المستقبل، وأصلح عمله، فالله يغفر له ذنبه، لأنه واسع المغفرة والرحمة، ونظير هذه الآية الدّالة على غفران السيئات الواقعة عن جهالة قوله تعالى:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النّساء: ٤/ ١٧]. قال بعض السّلف: «كل من عصى الله فهو جاهل» وقال مجاهد: «من الجهالة:
والتّوبة: الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه، والإصلاح يكون بشروط أربعة: النّدم الحقيقي على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل، وردّ المظالم إلى أهلها، وإتباعها بالعمل الصالح. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ثم وضع القرآن الكريم قاعدة عامة في البيان: وهي أنه سبحانه يبين لعباده بيانا بديعا كل ما يتعلق بدلائل التوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، ومثل ذلك التبيان والتفصيل يفصل الآيات كلها، ويوضح حقائق الشريعة، ليهتدي بها العقلاء، ويعرف الحق من الباطل، ويتّضح للمؤمنين طريق المجرمين، وإذا اتّضح سبيلهم كان كل ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين، لأنه متى استبانت طريقة المجرمين المنحرفين عن الهدي الإلهي، فقد استبانت طريقة أهل الحق والإيمان أيضا لا محالة، إذ لا وسيط بين الحق والباطل.
وهل يتأمل الناس من ربّهم غير البيان والتفصيل، فذلك غاية الفضل والإحسان، ومنتهى الرحمة والإعذار؟ ولا يبقى أمام الإنسان بما أوتي من عقل وخبرة وترجيح للمصلحة على المفسدة، إلا أن يختار طريق الخير ويتجنّب سبيل الشّر لأن فعل الخير أمان وسلام، وعافية واطمئنان، وفعل الشّر ضلال وخسران.
تستمر محاولات الإصلاح عادة بين المصلحين وأقوامهم، وقد صبر الأنبياء كثيرا صبرا طويلا في سبيل هداية أقوامهم وإصلاحهم، ولكن لا يعقل أن تظلّ الأمور سائرة من غير حسم، فلا بدّ في النهاية من اتّخاذ موقف حاسم، تتبلور به الأحوال، ويتبين للأجيال ضرورة العمل على سلوك طريق الحق، وترك طريق الشّر، وهذا المنهج هو ما عبّر عنه القرآن الكريم بين النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وقومه المشركين في الآيات الآتية:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
«١» «٢» [الأنعام: ٦/ ٥٦- ٥٨].
نزلت آية: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي.. في النّضر بن الحارث ورؤساء قريش، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم، فنزلت هذه الآية.
أمر الله تبارك وتعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يجاهر قومه بالتّبري مما هم فيه، والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إني نهيت من ربّي ومنعت من عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضّر، من صنم أو وثن أو عبد صالح مهما كان شأنه، أو ملك من الملائكة، لقد حجزت أو صرفت عن هذا كله بالآيات القرآنية والأدلة العقلية والحسّية، فألوهيّة غير الله وعبادتهم باطلة بأبسط فكرة وأدنى تأمّل.
(٢) خير الفاصلين بين الحق والباطل.
فإن عبادة غير الله ضلال وشرك، يترفّع عنها العقلاء، وعبادة الله تدلّ عليها الحجة البالغة والبرهان الواضح، ويرشد إليها الفكر الصحيح.
قل لهم أيها النّبي: إني على أمر بيّن، وإني فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شرع الله الذي أوحاه إلي، وعلى حجة واضحة، وهو هذا القرآن المعجزة الخالدة على صدق اتجاهي ومنهجي، فهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما أنتم أيها المشركون فقد كذّبتم بالقرآن وكفرتم بالرحمن، ورفضتم الحقّ الذي جاءني من عند الله، واتّبعتم الشيطان، والهوى والضلال، وقلّدتم الآباء من غير روية ولا تفكير.
وليس الأمر بيدي كما تتوهمون، وليس عندي الذي تستعجلون به وهو العذاب، فلا أقدر على إنزاله بكم، وما الحكم الفاصل والقضاء المبرم إلا لله، إليه يرجع الأمر كله، إن شاء عجّل لكم ما سألتم من العذاب، وإن شاء أجّلكم إلى أجل معين بمقتضى علمه ومشيئته وحكمته العظيمة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرّعد: ١٣/ ٨].
والله يقضي بالحق، ويقصّ على رسوله القصص الحق في وعده ووعيده وجميع أخباره، وهو خير الفاصلين، أي خير الحاكمين الذين يفصلون في القضايا بين عباده، وينفذ أمره متى شاء إصدار الحكم العادل.
قل لهم أيها النّبي: لو كان عندي ما تستعجلون به من نزول العذاب، ولو كان
عالم الغيب
يتأثّر الإنسان عادة بما هو مشاهد محسوس أمامه، ويهمل أو يتناسى مغيبات الأمور، سواء في الماضي أو في المستقبل، وهذا دليل على نقص علم الإنسان، وبرهان واضح على كمال علم الله تعالى واطّلاعه على كلّ شيء صغير أو كبير، وعلم الغيب مقصور على الله تعالى، لا يستطيع أحد من العقلاء ادّعاء العلم بالغيب لأن الواقع يكذّبه، وقد تورّط بعض السّذّج والجهلة، فادّعوا معرفتهم بالغيبيات، فجاءت الأحداث والوقائع مكذّبة لهم، مما أثبت للناس صدق ما أخبر به القرآن من حصر الغيب بالله، والتأكد من صحة الوحي والنّبوّة التي هي طريق الإخبار عن عالم الغيب، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
«١»
اختصّ الله تعالى بالعلم بمغيبات الأمور، فهو سبحانه عنده خزائن الغيب ومفاتيحها، وهذه استعارة، عبارة عن التوصل إلى الغيوب، كما يتوصل في الأشياء المشاهدة بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، أي عالم الخفيات والمحسوسات المرئية، ولا يعلم بالغيب أحد سواه.
والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس، وهي مذكورة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) [لقمان: ٣١/ ٣٤].
ويعلم سبحانه حديث النفس، ويعلم السّر وأخفى، ويعلم دقائق الأشياء المشاهدة للبشر، كما يعلم الغيبيات، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر، ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان، سواء في البر أو في البحر، ويعلم ما تسقط من حبّة في ظلمات الأرض وأعماقها، سواء بفعل الإنسان كالزارع، أو بفعل الحيوان كالنّمل، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض، ويعلم ما يسقط من الثمار الرطبة أو اليابسة، الحية أو الميتة، فعلم الكائنات كلها ثابت مستقر في كتاب واضح هو اللوح المحفوظ.
وينضم إلى علم الله الشامل قدرة الله التامة على الإحياء والإماتة، والبعث والحشر، والمثل المشاهد للبعث من القبور: مسألة النوم واليقظة، فذلك إماتة وبعث على نحو ما، فالله هو الذي يتوفاكم توفّيا أصغر بالنوم كل ليلة، ويعلم كل ما كسبتم
ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال، ثم يخبركم بأعمالكم التي قمتم بها في الدنيا، ويجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
والله هو الذي يقهر كل شيء، ويخضع لعظمته وجلاله وكبريائه كل شيء، وهو القادر على بعث الأجساد والأرواح لأن من قدر على بعث من توفّي بالنوم قادر على بعث من توفّي بالموت، وهو المتصرّف بعباده، يفعل ما يشاء، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة. ويرسل الله الملائكة الكرام الموكلين بكتب الأعمال، في الليل والنهار، يحفظون بدن الإنسان، ويحصون أعماله، ولا يفرطون بشيء منها. وكتابة الملائكة الحفظة أعمال الإنسان من أجل الإتيان بدليل مادّي محسوس، لإقامة الحجة على الإنسان.
فإذا حان أجل الإنسان، قبضت روحه الرّسل الموكلون بذلك من الملائكة، حال كونهم غير مقصّرين في حفظ أرواح الموتى، بل يحفظونها حيث شاء الله تعالى، ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرّسل إلى حكم الله وجزائه، والله هو مولى الناس ومالكهم الذي يلي أمورهم، له وحده سبحانه الحكم يوم القيامة، لا حكم فيه لغيره، ولا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره، ولا يشغله حساب عن حساب.
اقتضت رحمة الله بعباده أن يعدّد لهم في مناسبات مختلفة بعض مظاهر قدرته ليرشدهم إلى الإيمان به لأنه القادر الرازق المنجي والمنتقم، وذلك سواء في حالات الشّدة والأزمة ليعرفهم من بيده الأمر المطلق، أو في حال التهديد والوعيد بالعذاب حين تكذيبهم برسالات الرّسل وانحرافهم عن طريق الاستقامة وانغماسهم في حمأة الرّذيلة والضّلالة، ومن هذه المظاهر قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ٦٣- ٦٧].
هذه الآيات الأولى لتوبيخ عبدة الأوثان، وتعريفهم بسوء فعلهم في عبادة الأصنام، وتركهم الذي ينجّي من المهلكات، ويلجأ إليه في الشدائد.
ومعناها: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن آيات التوحيد: من الذي ينجّيكم من شدائد البر والبحر، وأهوال السفر ومخاوفه إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية، فإنكم في وقت المحنة لا تجدون غير الله ملجأ تدعونه علانية وسرّا، بخشوع وخوف، ومبالغة في الضّراعة والتّذلل والخضوع، حال كونكم تقسمون: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات وضوائق الأمور، لنكونن من شاكري النعمة، المقرّين بتوحيد الله، المخلصين له في العبادة، دون إشراك.
(٢) يخلطكم في المعارك.
(٣) فرقا مختلفة.
(٤) شدّة بعض في القتال.
(٥) نكرّرها بأوجه مختلفة.
قل أيها النّبي لهؤلاء المشركين على سبيل التهديد والوعيد والإنذار: الله هو القادر على أن ينزل عليكم ألوان العذاب المختلفة، كالرّجم بالحجارة أو الصواعق، أو البراكين والزلازل، أو الطوفان أو أعاصير الريح أو الخسف المعهود في الأمم السابقة، أو إيقاع الفرقة والفتن والاختلاط والاختلاف والاضطراب، حتى تصير الأمة شيعا وأحزابا وجماعات، كل فرقة لها اتجاه ومنهاج، فيقع التقاتل والتحارب، ويذيق بعض الناس بأس بعض وشدته، حتى يقتل بعضهم بعضا. والتّفرق والاقتتال أهون وأخفّ من عذاب الاستئصال.
انظر أيها النّبي على سبيل التعجيب كيف ننوّع أساليب الكلام، وكيف نبيّن الدلائل بوجوه مختلفة، إما بطريق محسوس أو بطريق معقول، لعلهم يفهمون الإنذارات ويتدبرون عن الله الحجج والبيّنات، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح الأحوال. والمراد بذلك صرف أولئك الغواة المشركين عن غيّهم، وتوجيههم نحو ما يسعدهم وينجيهم.
ولكن أولئك المشركين من قريش وأمثالهم كذّبوا بالقرآن الذي جاء به محمد رسول الله، وبالهدى والبيان وبالعذاب الذي هدّدوا به، والحال أن القرآن وإنذاراته حق
ثم أعلن القرآن قاعدة عامة في التّهديد والوعيد على التّكذيب بالقرآن أو بالعذاب، فقال الله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) أي لكل خبر غاية ونهاية يعرف عندها صدقه من كذبه، وسوف تعلمون يقينا صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد، وهو وعد الله رسوله بالنصر على أعدائه، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) [فصّلت: ٤١/ ٥٣].
وإذا تفضّل الله على هذه الأمة المؤمنة برفع عذاب الاستئصال إكراما لنبيّها، فلم يبق بينهم داء إلا الفرقة والشّتات، والنّزاع والخلاف، فليحذروه ليكونوا أمة مهابة بين الأمم، وعنوانا طيبا رفيعا لرسالة الحقّ والقرآن.
جزاء المستهزئين بالقرآن
يوجد في كل أمّة أناس يعادون القيم الدينية والإنسانية والحضارية، لسوء في طباعهم، وانحراف في سلوكهم، وتأثّرا بأهوائهم وشهواتهم، ومن هؤلاء نفر من المشركين المكيّين كانوا يستهزئون بالقرآن المجيد، ويناصرون الأوثان والأصنام، وذلك منتهى التّردي في الإنسانية وإهدار الكرامة وإهمال العقل، ومثل هؤلاء لا يفيدهم نقاش ولا جدال، وأفضل شيء معهم هو التّرفع والإعراض عنهم، وإهمالهم وتركهم سادرين في ضلالهم، انتظارا لعذاب الله الذي يوقعه بهم في الدنيا والآخرة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الأنعام: ٦/ ٦٨- ٧٠].
ذكر الطبري عن السّدّي سبب نزول هذه الآيات، فقال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين، وقعوا في النّبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، فسبّوه واستهزءوا به، فأمرهم الله ألا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. والخائضون في آيات الله: هم المكذّبون بها.
هذه الآيات أمر بترك هؤلاء العابثين وتهديد ووعيد لهم، فإذا رأيت أيها النّبي وكل مؤمن الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء، فأعرض عنهم ولا تجالسهم، حتى ينتقلوا إلى التّحدث بحديث آخر، فإذا فعلوا فلا مانع من مجالستهم والتّحدث إليهم. وإن أنساك الشيطان قبح مجالسهم والمنع منها أو النّهي عنها، فجلست مع الخائضين ناسيا، فلا تقعد بعد التّذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.
وليس نهيكم أيها المؤمنون المتّقون عن القعود، وأمركم بالإعراض عن الخائضين، لأن عليكم شيئا من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم وموعظة، لعلهم يتّقون الخوض في آيات الله، ويذكرون الله وعظمته وجلاله.
(٢) خدعتهم.
(٣) أي لئلا تبسل أي تؤاخذ وتجزى وتسلم إلى الهلاك.
(٤) تفتد بكل فداء.
(٥) حبسوا في النار.
(٦) ماء شديد الحرارة.
وذكّر أيها الرسول الناس بالقرآن وعظهم به، لئلا تبسل نفس، أي تجازى وتسلّم إلى الهلاك وتتحمل سوء عملها الذي صدر منها في الدنيا، وذلك في حال لا قريب منها ولا شفيع لها ولا ناصر ينصرها، بل ولا ينفعها عدل أي فداء تفتدي به، فإن بذلت كل فداء، لم يقبل منها، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: ٢/ ١٢٣].
وهذا إبطال لمبدأ وثني: وهو رجاء النّجاة في الآخرة، كما في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى، أو بشفاعة الشفعاء، ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.
إن جزاء المستهزئين بآيات الله وهو العذاب في نار جهنم، كان بسبب سوء صنيعهم، فأولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، أي أولئك المتّخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذّبوا بسبب عملهم في الدنيا، وجزاؤهم شراب من حميم، أي من ماء شديد الحرارة، يحرق البطون، ويقطع الأمعاء، ثم ينبت بدلها لتكرار العذاب، كما قال الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: ٤٧/ ١٥]. وقال سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) [النّساء: ٤/ ٥٦].
إن من أهم أصول شريعة الإسلام وشرائع الأنبياء السابقين القضاء على الشّرك وتصفية معاقله وإنهاء وجوده وآثاره بين الناس لأن عقيدة الشّرك صفة بدائية غير حضارية، تسيء إلى الإنسان وتقديره، وتجعله يرتع في مخازي الخرافات والأباطيل، وتكون سببا لتدميره وتعذيبه عذابا شديدا في الدار الآخرة.
قال الله تعالى مبيّنا مخازي الشّرك وضلالات المشركين:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
«١» «٢» [الأنعام: ٦/ ٧١- ٧٣].
هذه حملة شديدة من الجدال والنقاش واللوم على الشّرك والمشركين، قال السّدّي مبيّنا سبب النزول: قال المشركون للمسلمين: اتّبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله عزّ وجلّ: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا.. الآيات.
والمعنى: قل أيها النّبي في احتجاجك على المشركين: أنطيع رأيكم في أن نعبد من دون الله ما لا قدرة له على نفعنا ولا على ضرّنا لأنها أصنام صماء جمادات لا حياة فيها ولا حركة، ثم نردّ على أعقابنا إلى إلى الشّرك والكفر، بعد أن أنقذنا الله منه،
(٢) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل.
وبعبارة أخرى: أيصلح أن يكون بعد الهدى أن نعبد الأصنام، فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب، فيكون كرجل على طريق واضح، فاستهوته عنه الشياطين، فخرج عنه إلى دعوتهم، فيكون حائرا؟
ادع أيها الرسول أولئك المشركين لدين الحق، وقل لهم: إن هدى الله في قرآنه هو الهدى، وطريق الإسلام هو الحق، وهو الصراط المستقيم، لا ما تدعون إليه من أهوائكم، فليس ذلك بهدي، بل هو في نفسه كفر وضلال. وقل لهم: وأمرنا بأن نسلم لله ربّ العالمين، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له، فأسلمنا.
وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة: وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل، الذي شرعت من أجله: وهو تزكية النفس بمناجاة الله، والنّهي أو المنع عن الفحشاء والمنكر.
وأمرنا كذلك بتقوى الله، أي اتّقاء ما يترتّب على مخالفة دين الله وشرعه، فنكون مأمورين بأمور ثلاثة: هي الإخلاص لله دون إشراك، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره، والتقوى في جميع الأحوال سرّا وعلنا. والسبب في هذه الأوامر الثلاثة إعداد النفوس للمستقبل، والخلود الأبدي في الآخرة، لأن الله يحاسبنا، وهو الذي إليه تحشرون، أي تجمعون يوم القيامة، فيحاسب الخلائق على أعمالهم، ويجازيهم عليها.
والله الذي نعبده هو خالق السماوات والأرض ومالكهما ومدبرهما بالحق
واذكر أيها الرسول الخلق والإعادة يوم يقول الله للشيء يوم القيامة: كُنْ فَيَكُونُ ويوم ينفخ في الصور، فيصعق كل من في السماوات والأرض، ويهلك كل مخلوق حتى الملك الذي نفخ فيه. وقول الله هو الحق، أي قضاؤه هو الحق، والله سبحانه صاحب الملك، المطلق في الدنيا والآخرة. ومن صفات الله تعالى أنه عالم الغيب والشهادة، أي ما غاب عنّا، وعالم المحسوسات الذي نراه، وهو سبحانه الحكيم في خلقه، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الخير والحكمة والمصلحة، وهو الخبير بأحوالهم، المطّلع على سرائرهم ونيّاتهم وضمائرهم. وإذا كان الله هو المتّصف بهذه الصفات، فهو الأحقّ بالعبادة، فلا يصحّ لعاقل أن يدعو أو يعبد غير الله تعالى، لذا قال سبحانه: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجنّ: ٧٢/ ١٨]، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: ٦/ ٤١].
مجادلة إبراهيم الخليل لأبيه
لقد تحمّل الأنبياء والرّسل عليهم الصلاة والسّلام عناء كبيرا وجهدا عظيما من أجل ترك الناس عبادة الأصنام والأوثان من قديم الزمان، وكان لسيّدنا إبراهيم الخليل عليه السّلام قدرة بارعة على جدال الوثنيين، ومنهم أبوه آزر، الذي تلطّف في مجادلته، وحاول إقناعه بكل الوسائل، فلم يستجب آزر لدعوة التوحيد، بل هدّد إبراهيم عليه السّلام بالقتل رجما بالحجارة إن لم يكف عن دعوته، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الأنعام: ٦/ ٧٤- ٧٩].
هذه الآيات للاحتجاج بها على مشركي العرب الذين يدّعون أنهم على ملّة أبيهم إبراهيم، من أجل إبطال الوثنية، والمعنى: اذكر أيها النّبي حين قال إبراهيم عليه السّلام لأبيه آزر: أتتخذ هذه الأصنام والأوثان الجمادات آلهة، تعبدها من دون الله، مع أن الله هو الذي خلقها وخلقك، فهو المستحق للعبادة دونها، إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام في ضلال واضح، أي تائهين حيارى جهلاء، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن، تنحتونه بأيديكم، ثم تعبدونه وتقدّسونه؟! كما قال تعالى: قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) [الصّافّات: ٣٧/ ٩٥- ٩٦].
وكما هدينا إبراهيم إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر وعبادة الأصنام، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السماوات والأرض، أي عرفناه طريق إدراك أسرار الكون، ليستدلّ بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا، وليكون ممن تيقن أن شيئا
(٢) ملك. [.....]
(٣) ستره بظلامه.
(٤) غاب.
(٥) طالعا.
(٦) أبدع وأنشأ.
(٧) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السماوات والأرض، أي تبيان وجه الدلالة في خلقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه، فلما أظلم عليه الليل، رأى كوكبا عظيما متميّزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه، وهو كوكب المشتري أو الزهرة، فقال موهما قومه في مقام المناظرة والحجاج: هذا ربّي، على سبيل الفرض، فلما غرب هذا الكوكب، قال إبراهيم: ما هذا بإله، ولا أحب ما يغيب ويختفي لأن للإله السيطرة على الكون، فكيف يغيب الإله ويستتر؟
ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة، فلما رأى القمر بازغا طالعا عم ضوءه الأرض، قال: هذا ربّي، فلما غاب كما غاب الكوكب في الليلة الماضية، قال إبراهيم مسمعا قومه: ما هذا أيضا بإله، ولئن لم يهدني ربّي ويوفّقني لإصابة الحق في توحيده، لأكونن من القوم الضّالين المخطئين الطريق، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله.
ولما رأى إبراهيم الشمس بازغة طالعة، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا، قال إبراهيم: هذا هو الآن ربّي، هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا، وأعظم ضوءا ونورا، فلما غابت الشمس كما غاب غيرها، صرح إبراهيم بعقيدته، وتبرأ من شرك قومه، قائلا: إني توجّهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء، وخالق هذه الكواكب، إني بريء مما تشركون، باتخاذ إله آخر مع الله، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبّرها الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء. ومثّل إبراهيم لقومه بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك.
قال إبراهيم: إني أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني للذي أبدع السماوات
لقد استطاع إبراهيم عليه السّلام هدم أساس الشّرك أولا، ثم إعلان عقيدته بتوحيد الله ثانيا، ليكون قومه على بيّنة من الأمر، قال تعالى: قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) [الأنبياء: ٢١/ ٥٦].
الجدال بين إبراهيم وقومه
اشتدّ الصراع والنزاع بين إبراهيم الخليل عليه السّلام وبين قومه المشركين عبدة الأصنام، وانصبّ الجدل على ترك الشّرك والوثنية، والإقرار بوحدانية الله خالق الأشياء، وراجعوه في الحجة في توحيد الله، ولما أفحمهم في المناظرة وإيراد الأدلة العقلية القطعية، لم يجدوا أمامهم سوى التّمسك بتقليد الآباء، وخوّفوه بالبلايا لما طعن في ألوهية الأصنام، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا.
قال الله تعالى مبيّنا هذه المناظرة:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
«١» «٢» «٣» »
الأنعام: ٦/ ٨٠- ٨٣].
هذا لون من الجدل الحادّ في مبدأ التوحيد بين إبراهيم عليه السّلام وبين قومه،
(٢) حجة وبرهانا.
(٣) لم يخلطوا.
(٤) بشرك أو كفر.
وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم، ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل، تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟
فأي الفريقين: فريق الموحّدين وفريق المشركين أحقّ بالأمن من عذاب الله يوم القيامة، وأجدر بألا يخاف على نفسه في الدنيا. إن كنتم تعلمون، أي على علم وبصيرة بهذا الأمر، فأخبروني بذلك، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.
ثم أبان الله تعالى من هو أحقّ بالأمن والنّجاة والسّلام، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يخلطوا إيمانهم بمعصية توقعهم في الفسق، إنهم الآمنون من العذاب يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
ذكر ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلا، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول
وليس هناك ظلم أشد من الشرك بالله.
وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه السلام على قومه، وهي إبطال عبادة الكواكب والشمس والقمر، آتيناها إبراهيم وأرشدناه إليها ووفقناه، لإقناع قومه بها، إننا نرفع درجات في الدنيا من نشاء من عبادنا، وهي درجة الإيمان، ودرجة العلم، ودرجة الحكمة والتوفيق، ودرجة النبوة، ما لم يحظ بها غيرهم، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢/ ٢٥٣]. ونرفع درجات بعضهم أيضا في الآخرة بالجنة والثواب، إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه، وبمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين، كما وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) [يونس: ١٠/ ٩٦- ٩٧]. والدرجات وإن كان الأصل استعمالها في المحسوسات فهي هنا في المراتب والمنازل المعنوية.
ورفع الدرجات لبعض الناس كالمخلصين الأتقياء يكون بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل، والتفضيل ورفع المنازل إنما هو بفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقوله سبحانه في نهاية الآية حَكِيمٌ عَلِيمٌ صفتان تليق بهذا الموضع، إذ هو موضع مشيئة واختيار، فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام أو الإتقان.
إن النّبوات قديمة في البشرية، وهي لخير الإنسان وإسعاده، وقد اتّصل أولهم بآخرهم في دعوة واحدة هي الدعوة إلى توحيد الله وترك الشّرك والوثنية، والأمر بمكارم الأخلاق، وتنظيم الحياة الإنسانية على نحو من المودّة والمحبّة والألفة والتعاون، وجمع الكلمة وتوحيد الصّف، والتّرفع عن الخلافات والمنازعات. وكان أغلب الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم الخليل عليه السّلام، لذا لقّب بأنه (أبو الأنبياء)، وكان الفضل في الحفاظ على النوع الإنساني والحيواني لسيدنا نوح عليه السّلام، فلقّب بأنه (أبو البشر الثاني).
قال الله تعالى مبيّنا مهام مجموعة من الأنبياء:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٩٠]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ٨٤- ٩٠].
أكرم الله نبيّه إبراهيم عليه السّلام، فوهب له ولدين صالحين إسحاق ويعقوب، وجعلهما من الأنبياء، وهداهما كما هدى إبراهيم أباهما بالنّبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.
(٢) بطل وسقط.
(٣) الفصل بين الناس بالحق.
وأما لوط فهو ليس من ذرّية إبراهيم عليه السّلام، بل هو ابن أخيه، ويمكن نسبته لإبراهيم على رأي من يرى الخال أبا، فدخل في ذرّية إبراهيم تغليبا.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وعد من الله عزّ وجلّ لمن أحسن في عمله، وترغيب في الإحسان.
وهدى الله إلى النّبوة والحكمة جماعة آخرين من ذرّية إبراهيم وهم زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا، وهؤلاء جمعوا بين نعمة الدنيا والرّياسة، وبين هداية الدّين وإرشاد الناس.
وهدى الله أيضا من ذرّية إبراهيم إسماعيل ابنه الصّلبي الذّبيح، وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، واليسع وهو يوشع بن نون، ويونس بن متى، ولوطا، وكل واحد من هؤلاء فضّله الله على العالمين في عصره، فكل واحد أفضل من قومه.
ذكرت الآيات السابقة ثمانية عشر نبيّا، وجعلتهم متميزين بصفات معينة كما ذكرت.
ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء في أنه هدى بعض آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم إلى الحق والخير، لا كلهم، واصطفاهم الله واختارهم وخصّصهم بمزايا كثيرة، وهداهم إلى الصراط المستقيم: وهو الدين الحقّ القويم.
ذلك الهدى هو هدى الله الخالص وتوفيقه دون هداية من عداه، والهداية نوعان:
هداية محضة لا تنال إلا من الله وهي النّبوة، وهداية تنال بالسّعي والكسب أو الاختيار مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.
أولئك المذكورون من الأنبياء السابقين، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وقد آتاهم الله الكتب السماوية وهي الصّحف والتوراة والإنجيل والزّبور، وأعطاهم الله الحكم أي الحكمة وهي الفطنة والفقه في دين الله والعلم النافع، ومنحهم ربّهم النّبوة: وهي إنزال الوحي عليهم لتبليغ أمر الله ودينه، فإن يكفر بالكتاب والحكم والنّبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة، فقد وكّل الله برعايتها والإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها.
أولئك الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين هم الذين هداهم الله، فاقتد بهم، أيها النّبي الرّسول واتّبع آثارهم في القول والفعل والسّيرة، وأمر الرسول باتّباع الأنبياء أمر لأمّته، وقل أيها النّبي لمن أرسلناك إليهم: لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة، وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين من الإنس والجنّ، وإرشاد وهدى للمتّقين.
إثبات ظاهرة الوحي للأنبياء
ظاهرة الوحي للأنبياء والرّسل على ممرّ التاريخ حقيقة واضحة ملموسة، كان يشاهدها الأصحاب والأتباع أمام أعينهم، ويسهل التصديق بوجود الوحي على كل من عرف قدرة الله على إيجاد الأشياء وخلقها، فليس الوحي مجرد أوهام، أو تقمّصات روحانية، أو وساوس شيطانية لأن هذه الأحوال لا ثبات لها، ولا تنتج
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ٩١- ٩٢].
ذكر ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير- في بيان سبب نزول هاتين الآيتين- قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف، فخاصم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النّبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا، فغضب، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..
الآية.
الله سبحانه هو القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والرّحيم بخلقه، فأرسل الرّسل، وأنزل الكتب، وأوحى إلى الأنبياء شرائعه لهداية الناس وإرشادهم، أما منكرو الوحي الذين يكفرون برسل الله من الوثنيين والملاحدة فما عرفوا الله حقّ معرفته، وما عظّموه حقّ تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم، وقالوا: ما أنزل الله كتابا من السّماء.
(٢) أوراقا مكتوبة. [.....]
(٣) باطلهم.
(٤) كثير المنافع.
(٥) أهل مكة.
وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم:
لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام:
٦/ ١٥٧]. والتوراة نور للمؤمنين، وهداية للمسترشدين، وأنتم يا بني إسرائيل تجعلون التوراة قراطيس، أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرّفون منها ما تحرّفون، وتبدّلون منها ما تبدّلون، وتقولون: هذا من عند الله، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند الله. وأنتم أيضا تخفون دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به وبعض الأحكام التشريعية كحكم الزّنى، فيجدر بكم أيها المشركون ألا تثقوا بأقوال المعادين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عداء شديدا بقصد إبطال رسالته.
ويا معشر العرب علّمتم من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم، وقد أصبح للعرب بالإسلام مجد وعزّة ودولة، بعد أن كانوا قبائل شتى، وفي جهالة عمياء.
ثم أمر الله تعالى نبيّه بالمبادرة إلى موضع الحجة والرّد الحاسم، فقل لهم: الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب على موسى، وأنزل علي هذا الكتاب وهو القرآن، ثم أمره تبارك وتعالى بترك من كفر وأعرض بقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم يلعبون، حتى يأتيهم الموت الذي يطوي صحيفة هؤلاء المعاندين المكابرين. ومعنى الخوض: الذهاب فيما لا تعرف حقائقه.
ثم أبان الله تعالى أوصاف القرآن بأنه كتاب كثير البركة والخير، أنزله الله مؤيّدا لما تقدمه من الكتب، ومهيمنا عليها، يبشّر بالجنّة والثواب والمغفرة من أطاع الله، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله، ويخوّف أهل مكة: أمّ القرى ومركز قطب الدائرة في العالم، ومن حولها من سائر الناس، من أحياء العرب ومن سائر طوائف
وكل من آمن بالآخرة والمعاد وقيام الساعة يؤمن ويصدّق بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.
جزاء المفترين على الله الكذب
إن هناك أنواعا من الظلم القبيح، ولكن أشدّ أنواع الظلم قبحا هو افتراء الكذب على الله، وادّعاء نزول الوحي، مثل فئة المتنبّئين الذين ادّعوا النّبوة كمسيلمة الكذّاب والأسود العنسي، فإنهم جماعة حمقى، اقتحموا مجالا يسهل كشف حقيقته، وزيف ادّعاءاته لأن الوحي لا يكون بسخف القول، وتفاهة الكلام الذي يأباه العقلاء، ويرفضه أبسط الناس وأدناهم تأمّلا وتفكّرا، لذا أنكر الله تعالى هذا الظلم الذي ارتكبوه، وفضح هذا المسلك الذي ادّعوه واختلقوا فيه الأكاذيب، فقال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
«١» «٢»
(٢) الهوان والذّل.
نزلت آية وَمَنْ أَظْلَمُ- فيما رواه الطبري عن عكرمة- في مسيلمة، وأما آية سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فنزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فيملي عليه: عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيكتب (غفور رحيم) ثم يقرأ عليه، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
وقال عكرمة في آية وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى قال النّضر بن الحارث: سوف تشفع إلي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى إلى قوله: شُرَكاءُ هذه الآيات لإثبات النّبوة، فيها وعيد من ادّعى النّبوة والرّسالة، على سبيل الكذب والافتراء، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأن نفي النّبوة عن مدّعيها إثبات لمن أعطيها حقّا. ولقد ادّعى النّبوة أناس أغرار حمقى، كمسيلمة الكذّاب في اليمامة، والأسود العنسي في صنعاء اليمن، وطليحة الأسدي في بني أسد، والمختار بن أبي عبيد وسواهم.
والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادّعى النّبوة والرّسالة، ولم يرسله الله إلى الناس، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، وهذا القول الأخير فيه كذبان: ادّعاء النّبوة ونفيها عن غيره، أو قال وهو النّضر بن الحارث سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وقال: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٨/ ٣١]، وكان يقول في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وإنه شعر، لو نشاء لقلنا مثله.
(٢) تفرق الاتّصال بينكم.
وتقول الملائكة لهم توبيخا وتهكّما: أخرجوا أرواحكم إلينا من أجسادكم، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي إنكم اليوم تهانون أشد الهوان، كما كنتم تكذّبون على الله، وتستكبرون عن اتّباع آياته، والانقياد لرسله، فلا تؤمنون بالآيات والرّسل، وتفترون على الله غير الحق. وعذاب الهون: هو عذاب الهوان الشديد.
ثم يقال لهم بعد قبض أرواحهم يوم القيامة: ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والشفعاء وانعدام النصراء، كالانفراد الأول في وقت الخلقة عند ولادتكم من بطون أمهاتكم، وتركتم وراء ظهوركم في الدنيا ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي جمعتموها، ولم تنتفعوا بها هنا، فهي لا تغني عنكم شيئا.
ليس معكم في القيامة ما زعمتم من الأصنام أنها شفعاؤكم عند الله وشركاء له، وفي هذا تبيان الخطأ الشديد في عبادة الأصنام وتعظيمها، لقد تقطّع بينكم، أي لقد تقطع يوم القيامة ووصلكم بينكم، وما كان من صلات وصداقات مزعومة، وغاب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء، ونداء الأوثان والشركاء، ورجاء الأصنام، ويناديهم الرّب جلّ جلاله على رؤوس الأشهاد: فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
مظاهر القدرة الإلهية في الكون
تتوالى الآيات القرآنية تفضّلا من الله ورحمة في إيراد الأدلة القاطعة الحاسمة على إثبات وجود الإله الصانع الخالق، بما يشاهده الإنسان ويجاوره ويلمسه في هذا الكون العجيب من السماء والأرض، وتتلخص تلك الأدلة في لفت الأنظار إلى صاحب الخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم، وتقلّب الليل والنهار، وإنبات الأشجار من كروم النّخيل والعنب والزيتون والرمان، وحمل الثمار اليانعة والفواكه الدانية، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٩]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الأنعام: ٦/ ٩٥- ٩٩].
(٢) شاق ظلمته عن بياض النهار.
(٣) يجريان بحساب مقدر في أفلاكهما.
(٤) في الأصلاب أو الأرحام.
(٥) في الأرحام ونحوها.
(٦) نباتا أخضر.
(٧) متراكما. [.....]
(٨) أول ما يخرج من ثمر النّخل.
(٩) عناقيد قريبة التّناول.
(١٠) نضجه وإدراكه.
وتأمّل أيها الإنسان أيضا، فإن الله هو فالق الإصباح الذي يشقّ فجر النّور من أوساط الظلام، فهو خالق الضياء والظلام، وهو سبحانه الموجد سكون الليل وهدوءه، المبدع نظام الشمس والقمر طريقا للحساب ومعرفة عدد الشهور والسنوات، وكلاهما يجري بحساب دقيق لا يتقدم ولا يتأخر، ذلك الإبداع الشامل حاصل بتقدير الله القوي القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، العليم بكل شيء، فلا يغيب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
والله سبحانه هو الذي أوجد النجوم والكواكب الأخرى غير الشمس والقمر،
وبعد بيان آيات الله في الأرض والسماء، ذكر الله تعالى آياته في الأنفس، فهو سبحانه الذي خلقكم جميعا أيها الناس في الأصل من نفس واحدة هي آدم عليه السّلام، وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر بالتّوالد والتّزاوج عن طريق الاستقرار في الأرحام والاستيداع في الأصلاب، قد أبان الله العلامات الدّالة على قدرته وإرادته، وعلمه وحكمته لقوم يفهمون ما يتلى عليهم.
والله هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه من السحاب ماء بقدر، مباركا ورزقا للعباد، فأخرج بالمطر أصناف النبات المختلف الشكل والخواص والآثار، وأخرج به زرعا وشجرا أخضر، وجعل من النبات حبّا متراكما بعضه على بعض كالسّنابل ونحوها، وجعل من طلع النّخل عناقيد قريبة التّناول، وأخرج من الخضر بساتين من العنب والزيتون والرّمان، متشابها في الورق والشكل، قريبا بعضه من بعض، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا، حلوا وحامضا، انظروا وتأمّلوا إلى الثمار إذا أثمرت وإلى نضجها كيف صارت وأينعت، إن في ذلك لعلامات لقوم يصدقون بالله ويتّبعون رسله، وذلك هو الإيمان المطلوب، وتلك براهينه الدّالة عليه.
بعض المزاعم الباطلة بنسبة الجنّ والولد والصّاحبة لله تعالى
ليس هناك شيء أشدّ افتراء وكذبا على الله من نسبة الشركاء لله، من الجنّ والولد واتّخاذ الصّاحبة، فالله أسمى وأعلى وأغنى من كل ذلك، فلا حاجة له إلى الأعوان،
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ١٠٠- ١٠٣].
هذه الآيات تشير إلى العادلين بالله عزّ وجلّ، والقائلين: إنّ الجنّ تعلم الغيب، وتتصرّف في الأشياء، وتعبد الجنّ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجنّ الأودية في أسفارها. وهناك طائفة من الكتابيّين نسبوا إلى الله الابن كعزير والمسيح، وطائفة أخرى من العرب وصفوا الملائكة بأنهم بنات الله.
والآيات ردّ على فئات المشركين المختلفة الذين عبدوا مع الله غيره، عبدوا الجنّ حين صيّروا لله شركاء له في العبادة، ولم تكن عبادتهم الأصنام إلا بطاعة الجنّ وأمرهم إياهم بذلك، إنهم جعلوا الجنّ من الملائكة أو الشياطين شركاء لله، مع أن الله هو الذي خلق المشركين وغيرهم، فكيف يكون المخلوقون شركاء لله؟! إنهم اختلقوا أكاذيب، وأباطيل، بجعل البنين والبنات لله جهلا بغير علم، تنزه الله
(٢) أي اختلقوا له الأولاد كذبا وزورا.
(٣) مبدع.
(٤) كيف يكون.
(٥) لا تحيط به سبحانه.
لقد خلق الله الكون، وأوجد كل شيء من العدم، فليس الله بوالد ولا مولود، كما تزعمون، فما اخترعتم له من الولد، فهو مخلوق له لا مولود منه، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه؟ وهو الذي لا نظير له. والله محيط علمه بكل شيء، وعلمه ذاتي له، لم يعلّمه أحد، ولا يعلم أحد مثل علمه، فلو كان له ولد، لكان هو أعلم به، وأرشد إليه، فتكون نسبة الولد لله كذبا وافتراء بلا دليل عقلي ولا وحي ثابت.
وإذ ثبت أن الله لا ولد له، فذلكم الإله الحق هو الله ربّكم، الذي لا إله إلا هو، والذي خلق كل شيء، ولا ولد له ولا صاحبة، فما عليكم إلا أن تعبدوه وحده لا شريك له، وتقرّوا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وهو الوكيل على كل شيء، الحافظ المتصرّف في الأشياء، المدبّر لها، فلا يصح أن تعبدوا غير الله، وعليكم أن تعبدوا الله المتّصف بصفات العظمة والقدرة والإرادة، والتّصرف المطلق في الأشياء، والمستقلّ بإبداع الأشياء وإيجادها.
ثم إن الله سبحانه غير محصور في مكان، ولا محدد في موضع معين، لا تستطيع الأبصار إدراكه والإحاطة الكلية به، ولا يتمكّن أحد من رؤيته في الدنيا، وإنما هو
جاء في الصّحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم سترون ربّكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب»
فالمؤمنون يرون ربّهم، ويحرم الكافرون من تلك الرّؤية.
أهداف الوحي
الهدف الواضح الجلي من ظاهرة الوحي على الأنبياء والرّسل: هو إرشاد الناس وتبصيرهم بالحق، وإعانتهم على إدراكه، وتجنّب طرائق الضّلال والزّيغ والانحراف، وهذا كله حبّ للإنسان ومصلحته، ورعاية له وأخذ بيده إلى السّعادة الحقّة، لذا كان عقلاء الناس هم المتّبعين للوحي الإلهي، المستفيدين منه في توجّهات الحياة، فهم أدركوا الحق فاتّبعوه، وعرفوا الباطل بالإرشاد الإلهي فاجتنبوه، قال الله تعالى مبيّنا مبصّرات الوحي:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ١٠٤- ١٠٧].
(٢) نكررها بأساليب مختلفة.
(٣) قرأت وتعلمت من أهل الكتاب.
فمن أبصر الحق فآمن فلنفسه، ومن عمي عن الحق وضلّ وأعرض عن سبيله، فعلى نفسه جنى، كما قال تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها [يونس: ١٠/ ١٠٨]. إن وبال العمى عن الحق يعود على صاحبه، ولست أنا نبي الله عليكم بحافظ ولا رقيب، بل إنما أنا مبلّغ ومنذر، والله يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء بحسب ما يعلم من ميول الإنسان.
وكما فصّلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وإثبات وجود الله الخالق المبدع، هكذا نوضح جميع الآيات ونرددها ونفسّرها في كل موطن، بسبب جهالة الجاهلين، وليؤول الأمر بأن يقول المشركون والكافرون المكذّبون: درست هذا وقرأته على غيرك، وليس ذلك وحيا من الله، كما جاء في آية أخرى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) [النّحل: ١٦/ ١٠٣].
وإنزالنا الوحي لنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتّبعونه، والباطل فيجتنبونه، أي إن البيان إنما يفيد أهل العلم المدركين، الذين يستخدمون بصائرهم في مدلولات القرآن.
أما الجاهلون الذين لم يفهموا آيات القرآن، فلا ينتفعون به.
وإذا كان الوحي لخير الإنسان وإرشاده، فعليك أيها النّبي وأمتك اتّباع ما يوحى
ثم أبان الله حقيقة أبدية ثابتة، وهي أن كل شيء في هذا الكون إنما يحدث بإرادة الله ومشيئته، ولا يقع شيء في ملكوت الله جبرا عنه، فلو شاء الله ما أشرك المشركون، بل لله المشيئة المطلقة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، له الحكمة في ظهور الضّلال والشّرك، ولو شاء لهدى الناس جميعا، بأن يخلقهم مستعدين للإيمان، لكنه خلقهم مستعدين للكفر، وترك لهم حرية الاختيار في أعمالهم. ولا يصحّ للمشركين أن يزعموا أن إشراكهم وغيره وقف على مشيئة الله عزّ وجلّ، فهم لا يعرفون مشيئة الله، وعليهم أن يعملوا بما أمرهم الله به من التوحيد والعبادة الخالصة لله، فإن قصروا في هذا، كانوا محاسبين مسئولين عنه.
وهناك حقيقة أخرى تتعلق بالنّبي وهي أنه لا سلطان له على قهر أحد من الناس وجبره على الدخول في الإسلام، فما جعلناك أيها النّبي حافظا تحفظ أقوال الناس وأعمالهم، وما أنت بموكل على أرزاقهم وأمورهم والتصرف في قضاياهم، ولست عليهم بمسيطر، وليس لك صفة الملوك القاهرين، بل أنت بشير ونذير، والله يجازيهم ويحاسبهم.
المنع من سبّ الأصنام والأوثان
إن توجيه القرآن العظيم في غاية الإحكام والإتقان، والنظر إلى آفاق المستقبل نظرة فاحصة عميقة بعيدة عن التّعصب، تقدر النتائج بالتقدير السليم البعيد عن مضاعفة المشكلات، وتسدّ كل الذرائع والوسائل المؤدّية إلى الضلالات واتّباع الأهواء والشهوات. والمثل الرائع لهذا: هو النّهي عن سبّ الأصنام والأوثان والمنع منه،
قال الله تعالى مبيّنا هذه الحقيقة:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٨ الى ١١٠]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
«١» »
«٣» «٤» «٥» [الأنعام: ٦/ ١٠٨- ١١٠].
قال قتادة مبيّنا سبب نزول هذه الآية: وَلا تَسُبُّوا..: كان المسلمون يسبّون أصنام الكفّار، فيسبّوا- أي الكفار- الله، فأنزل الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وبعبارة أخرى: قال كفار قريش لأبي طالب: إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سبّ آلهتنا والغضّ منها، وإما أن نسبّ إله ونهجوه، فنزلت الآية.
الآية خطاب للمؤمنين وللنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وحكمها على كل حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النّبي صلّى الله عليه وسلّم، أو الله عزّ وجلّ، فلا يحلّ للمسلم أن يسبّ دينهم ولا صلبناهم ولا يتعرّض إلى ما يؤدي إلى ذلك ونحوه.
ينهاكم الله تعالى أيها المؤمنون عن سبّ آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين، وهو اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما قال ابن عباس.
والمعنى: لا تسبّوا أيها المسلمون آلهة المشركين التي يدعونها دون الله لأنه ربما ينشأ عن ذلك سبّهم الله عزّ وجلّ ظلما وعدوانا، لإغاظة المؤمنين، جهلا منهم
(٢) أوكدها.
(٣) نتركهم. [.....]
(٤) تجاوزهم الحدّ بالكفر.
(٥) يتحيّرون ويتردّدون
ثم أوضح الله تناقض المشركين في أقوالهم وخيانتهم في أفعالهم، فإنهم حلفوا أيمانا مؤكّدة بالله: لئن جاءتهم آية، أي معجزة مادّية محسوسة، وخارقة للعادة من الآيات الكونية التي يقترحونها، ليصدقن بها أنها من عند الله، وأنك رسول الله، غير أنهم قوم معاندون، فإذا جاءتهم الآيات أو المعجزات لم يؤمنوا بشيء منها. وردّ الله عليهم.
قل يا محمد لهؤلاء الطالبين آيات تعنّتا وعنادا وكفرا: إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، وهو القادر عليها، إن شاء أتى بها، وإن شاء ترككم فلا ينزلها إلا على موجب الحكمة. وما يدريكم إيمانهم إذا جاءتهم الآيات، فهو لا يؤمنون بها، لسبق علم الله أنهم لن يؤمنوا.
وما يدريكم أننا- نحن الله- نحوّل قلوبهم عن إدراك الحق، والإيمان، ونصرف أبصارهم عن إبصار الحق، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة حين أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره، لتمام إعراضهم عن إدراك الحقائق، وما يشعركم أيضا أننا نذرهم ونخلّيهم وشأنهم
تعنّت المشركين
لقد اشتدّ المشركون كفّار قريش في عداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب الحفاظ على مراكز الزعامة والسيادة، والاستكبار، الذي جعلهم في أشد حالات العناد والتّصلب واتّخاذ موقف المعارضة العنيفة التي لا ترتكز على أساس من الحجة، ولا تحترم كلمة العقل والفكر والنّقاش القائم على الحق والعدل، ومن هنا ظهر اليأس من إيمانهم، وعزّ الأمل في إسلامهم، قال الله سبحانه موضّحا هذا الموقف الصعب منهم:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الأنعام: ٦/ ١١١- ١١٣].
روي عن ابن عباس في بيان سبب نزول الآيات: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها، فقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحقّ ما تقول أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية.
(٢) مقابلة ومواجهة.
(٣) باطله.
(٤) خداعا.
(٥) لتميل لزخرف القول.
(٦) ليكتسبوا من الآثام.
لو أننا نزّلنا إليهم الملائكة، فرأوهم بأعينهم مرة بعد أخرى، وسمعوا شهادتهم لك بالرسالة، ولو كلمهم الموتى إذ أحييناهم، وأخبروهم بصدق ما جاء به النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم كما طلبوا، وجمعنا كل شيء من الآيات والدلائل معاينة ومواجهة، فيخبرونهم بصدق النّبي، لو حدث كل هذا، ما كان شأن هؤلاء القرشيين المكّيين أن يؤمنوا، وليس عندهم الاستعداد أن يصدّقوا لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر تأمّل وهداية وعظة، وإنما ينظرون إليها نظر معاداة واستهزاء، إنهم لا يؤمنون إلا بمشيئة الله، على سبيل الاختيار، وليس الإيمان الاضطراري، ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا، وليس ذلك كما يظنّون، لا يؤمن أحد منهم إلا من هديته ووفقته للإيمان، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرّشد فأضللته.
ومن أجل التّخفيف من الله على نبيّه ومواساته، أبان سبحانه أن سنّته في الخلق أن يكون للأنبياء عدوّ من الجنّ والإنس، لا ينفرد به نبيّنا، وإنما كان هذا أمرا عامّا امتحن به غيره من الأنبياء، ليبتلي الله أولي العزم منهم. وأعداء الأنبياء يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيّن المزخرف الذي يخدع بعض السامعين، ويموّه عليهم الحقائق، ويغريهم بالمعاصي والأباطيل، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي إن ذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبيّ عدوّ من الشياطين.
فدعهم أيها الرّسول النّبي وما يفترون أي يكذّبون، واتركهم يخوضون في إفكهم
القرآن برهان النّبوة
من حقّ الناس أن يطلبوا برهانا على صدق الأنبياء، من غير عناد ولا تعنّت، غير أن البرهان أو الدليل المؤيّد للنّبوة والرسالة، ليس كما يطلب الناس من إنزال برهان حسّي أو علامة مادّية، فإن الله تعالى جلّت حكمته يعلم علما تامّا ما يناسب، فينزل من الآيات والمعجزات التي يظهرها على يد نبي أو رسول ما يكون موافقا للحكمة وكافيا في إثبات النّبوة والرّسالة.
والدليل الدّال على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حصل من وجهين: الأول- أنه أنزل إليه القرآن الكريم مبيّنا مختلف الشرائع والأحكام بأسلوب بياني معجز وببلاغة وفصاحة عالية تدلّ على إعجازه وكونه من كلام الله.
الثاني- اشتمال التوراة والإنجيل في صورتهما الأصلية على الآيات الدّالة على أن محمدا رسول حق، وأن القرآن كتاب الله الحق القاطع. قال الله تعالى مبيّنا الاكتفاء بالقرآن دليلا:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)«١» «٢» [الأنعام: ٦/ ١١٤- ١١٥].
يأمر الله نبيّه أن يقول للمشركين: ليس لي أن أطلب قاضيا بيني وبينكم، لأنه لا حكم أعدل من حكم الله، ولا أصدق من قوله، فلا فائدة من طلبكم دليلا مادّيا على صدق نبوّتي، فهناك دليلان واضحان يؤيّدان رسالتي، وهما الآية الكبرى وهي القرآن المعجز الدّال بإعجازه على أنه كلام الله، واشتمال التوراة والإنجيل على ما يدل على أني رسول الله حقّا، وأن القرآن كتاب حقّ من عند الله تعالى.
وإن أنكر المشركون أحقّيّة القرآن وكذّبوا به، فإن اليهود والنّصارى أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من ربّك بالحق، بما ورد لديهم من البشارات بنبوّة خاتم الأنبياء، كما أبان الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) [البقرة: ٢/ ١٤٦].
فلا تكونن يا محمد من المتردّدين الشّاكّين، وهذا تعريض بمن يتردّد أو يشكّ، كما في آية أخرى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) [يونس: ١٠/ ٩٤]. فالواقع أن النّبي لم يشكّ وإنما
قال: «لا أشكّ ولا أسأل».
وتم كلام الله وهو القرآن، فلا يحتاج إلى إضافة شيء فيه، وأصبح كافيا وافيا بإعجازه وشموله، ودلالته على الصدق، فهو صادق فيما يقول، عدل فيما يحكم، صدقا في الإخبار عن الغيب، وعدلا في الطلب، فكل ما أخبر به فهو حق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فهو
(٢) أي من الشّاكّين المتردّدين.
وكل ما ورد في القرآن من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وقصص وخبر، لا تغيير فيه، ولا تبديل لكلمات الله: وهي كل ما نزّل على عباده، وهو السّميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
وقوله تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ معناه: لا تغيير في معاني الوحي المنزل، بأن يبيّن أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به، أو يبيّن أن أمره لا ينفذ. ومن أمثلة ذلك: أن الله منع المنافقين من الخروج إلى الجهاد بعد تخلّفهم عن غزوة تبوك، ولم يبح لهم الخروج «١»، فقال المنافقون بعد ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:
٤٨/ ١٥]، فقال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: ٤٨/ ١٥]. واستقرّ التشريع على منعهم من الخروج كما قال تعالى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التّوبة: ٩/ ٨٣].
المنع من اتّباع ضلالات المشركين ومن أكل ذبائحهم
لا تلاقي بحال من الأحوال بين شرع الله المحكم والأعدل وبين أنظمة الجاهليين المشركين، فإن الله تعالى أراد الحق والخير لعباده، وحذّر من كل معالم الضّلال والشّرك، لذا أبان سبحانه الحلال والحرام، ومنع من أكل ذبائح المشركين التي لا يذكر اسم الله عليها، فإن تلك الذّبائح فسق أي معصية وخروج عن دائرة
قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٦ الى ١٢١]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأنعام: ٦/ ١١٦- ١٢١].
نزلت آية: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كما
قال ابن عباس: أتى ناس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله هذه الآية: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى قوله سبحانه: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
وقوله سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ نزل حينما قال المشركون: يا محمد، أخبرنا عن الشّاة إذا ماتت، من قتلها؟ قال: الله قتلها، قالوا:
فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(٢) اتركوا.
(٣) يكتسبون من الإثم. [.....]
(٤) خروج عن الطاعة، وهو معصية.
وإن ربّك عليم بالضّالّين عن سبيله القويم، وعليم أيضا بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة، وليس كما يزعم المشركون.
ثم أمر الله تعالى بأكل ما ذكر اسم الله عليه، وأن يكون الأكل مقصورا على ذلك، إن كنتم أيها المسلمون مؤمنين بآيات الله، والحذر كل الحذر مما ذبح للأصنام والأوثان ولغير الله.
وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وترك الأكل مما ذبح للأصنام، فليس هناك شيء يمنعكم من هذه المآكل، والحال أن الله قد بيّن لكم المحرّم عليكم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح لغير الله كالأصنام والأنبياء والأولياء والزعماء، لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرّم عليكم، فإنه يباح لكم ما وجدتم حال الضرورة. وإن كثيرا من الكفّار ليضلّون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، والله أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم، وسيجازيهم على هذا الاعتداء والتجاوز، لا محالة.
ثم أمر الله تعالى بترك جميع الآثام والمعاصي المعلنة والسّرية، سواء ما صدر عن الأعضاء كالسّرقة والغصب، أو كان من أفعال القلوب كالحقد والحسد، إن الذين
وتأكيدا للأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل البهيمة التي ماتت ولم يذكر اسم الله عليها، والمذبوح لغير الله، وهو ما كان المشركون يذبحونه لأصنامهم، وهذا المذبوح فسق ومعصية. وإن شياطين الإنس والجنّ ليوسوسون إلى أعوانهم من المشركين، ليجادلوا المؤمنين، فإن وافقهم أحد من المؤمنين على ضلالهم، فهو مثل المشركين لأنهم عدلوا عن أمر الله وشرعه إلى قول غيره، وهذا هو الشّرك، عافانا الله من جميع حالاته، وجعل أعمالنا خالصة لوجه الله الكريم.
مثل المهتدي والضّالّ
الناس في عهد النّبوة وفي كل عهد صنفان إما مؤمن مهتد، وإما كافر ضالّ، والله يحبّ المؤمنين ويحبّ لهم الخير والسعادة، ويبغض الكافرين وما يؤول إليه أمرهم من دمار وشرّ وخسران مبين، لذا تعددت الآيات القرآنية المرغبة في الإيمان، والمنفّرة من الكفر والضّلال إما من طريق التّشبيه بصورة حسّية مرئية، وإما بتقرير العذاب الشديد في الدنيا والآخرة أو وصف النعيم، وإما بالتهديد والإنذار والتوبيخ أو التبشير والرّضا والظفر بفضل الله ورحمته وإحسانه وإنعامه.
من هذه الآيات تشبيه المؤمن بالنّور والكافر بالظلمة، قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
[الأنعام:
٦/ ١٢٢- ١٢٣].
هذه مقارنة أو موازنة بين أهل الإيمان وجماعة الكفر، أفمن كان ميتا بالكفر والجهل، فأحييناه بالإيمان، وجعلنا له نورا يضيء له طريقه بين الناس، وهو نور القرآن المؤيّد بالحجة والبرهان، وهو أيضا نور الهدى والإيمان، أهذا الفريق مثل الفريق السائر في الظلمات: ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وهو ليس بخارج منها، أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما فيه، كما قال الله تعالى في آيات أخرى، منها: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) [الملك: ٦٧/ ٢٢].
وبما أن الاهتداء إلى الإيمان، والانغماس في ظلمات الكفر والضّلال بسبب من الإنسان واختيار منه، فإن الله تعالى يزيد المؤمنين توفيقا إلى الخير، ويترك الكافرين سائرين في متاهات الكفر، لذا ختمت الآية بهذه الحقيقة وهي: كما زيّن الله الإيمان للمؤمنين، زيّن للكافرين الكفر والمعاصي، أي حسّن لكل فريق عمله، فحسّن الإيمان في أنظار المؤمنين، وحسّن الكفر والجهالة والضّلالة في أعين الكافرين، كعداوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وذبح القرابين لغير الله، وتحريم ما لم يحرّمه الله، وتحليل ما حرّمه.
ثم أورد الله تعالى ما يدلّ على سنّة ثابتة في البشر، وهم الذين يعيشون في الظلمات كأبي جهل بن هشام وحالهم وحال أمثالهم، فمثلهم جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها رؤساءها ودعاتها إلى الكفر والصّدّ عن سبيل الله، ليمكروا فيها بالصّد عن
وهكذا يثور في كل وقت الصّراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، ولكل اتّجاه أعوانه وأنصاره، وسادته وكبراؤه، ولكن ما يمكر هؤلاء الأكابر المجرمون المعادون للرّسل إلا بأنفسهم لأن وبال مكرهم عليهم، وعاقبة إفسادهم تلحق بهم، لكنهم عديمو الشعور والإحساس الصادق، فما يعلمون حقيقة أمرهم.
ويستمر النّزاع بين أهل الإيمان والخير، وبين أهل الكفر والشّر، وهذه هي نظرية تنازع البقاء وبقاء الأصلح، والعاقبة والنصر للمؤمنين في النهاية، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرّعد: ١٣/ ١٧].
وواقع هؤلاء الضّالّين أسوأ من البهائم، فإن البهائم تعلم علوم الحسّ، وأما الضّالّون فهم مغرقون في الجهل لا يدركون الحقيقة، وكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حسّ. إن الذين مكروا وضلّوا حفاظا على مراكزهم ونفوذهم، لم يشعروا بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم، لجهلهم بسنن الله في خلقه، كما قال الله سبحانه:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٣٥/ ٤٣].
مطالبة المشركين بالنّبوة
النّبوة أو الرّسالة إنما تمنح لمن هو مأمون عليها وموضع لها، وأقدر على تحمل أعبائها، وليست هي مثل مناصب الدنيا التي تعتمد على الشهرة والنفوذ، والسلطة والجاه أو المال، أو النّسب، أو كثرة الأعوان والأولاد.
ولقد استبدّ الغرور والشّطط بمشركي مكة، فأرادوا أن تكون لهم النّبوة والرسالة، وأن يكونوا متبوعين سادة، لا تابعين، وقالوا: لولا نزّل هذا القرآن على
قال الله تعالى مندّدا بهذه المطامع والآمال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأنعام: ٦/ ١٢٤- ١٢٥].
نزلت الآية الأولى في الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النّبوة حقّا، لكنت أولى بها من محمد لأني أكبر منه سنّا، وأكثر منه مالا وولدا.
الآية الأولى ذمّ للكفار وتوعّد لهم، فإنهم إذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشّرع الإلهي، اشتطّوا واغتروا، وطلبوا أن يؤتوا مثلما أوتي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: إنما يفلق لنا البحر، إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، أي إنهم طلبوا المستحيل، وعلقوا إيمانهم على ممتنع، وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون أبدا.
والمعنى: إذا جاءت المشركين آية وبرهان وحجة قاطعة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ وحي ربّه، قالوا حسدا منهم، وتعنّتا وغرورا: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل محمد، منصب عند الله، وتظهر على أيدينا آية كونية أو معجزة مثلما أوتي رسل الله، كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى لأنهم أكثر أموالا وأولادا، وأعزّ جانبا ورفعة بين الناس.
(٢) شديد الضّيق.
(٣) يتكلف صعودها.
(٤) أي العذاب.
ثم أعلن الله وعيده الشديد لكل المتخلّفين عن الإيمان برسالة القرآن ودعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسيلحق المجرمين يوم القيامة ذلّ وهوان دائمان، ويدركهم العذاب المؤلم الشديد، جزاء بما كانوا يمكرون، وعقوبة لتكبّرهم عن اتّباع الرّسل، والانقياد لهم فيما جاؤوا به، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٤٠/ ٦٠] أي صاغرين ذليلين حقيرين.
ثم جاء قرار الحسم وهو أنه لا داعي للتأسّف على إعراض المشركين عن دعوة الإسلام، فمن يرد الله أن يوفّقه للحق والخير والإسلام، ومن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة القرآن، فإنه يشرح صدره له، وييسره وينشطه ويسهله لذلك، ومن فسدت فطرته بالشّرك، ولم يكن مستعدّا للإيمان، ولا أهلا، يجعل الله صدره ضيّقا شديدا عازلا عن قبول الإيمان، كاتما له عن نفاذ الخير إليه، مثله كمثل من يصّعّد إلى السماء في طبقات الجو العليا، حيث يشعر بضيق شديد في التنفس، وكأنما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وكما يضيّق الله صدر المعاندين، كذلك يسلّط الله العذاب أو الشيطان عليهم وعلى أمثالهم ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصدّه عن سبيل الله سبيل الحق.
والهدي في هذه الآية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ: هو خلق الإيمان في القلب
قال الله تعالى مندّدا بهذه المطامع والآمال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأنعام: ٦/ ١٢٤- ١٢٥].
نزلت الآية الأولى في الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النّبوة حقّا، لكنت أولى بها من محمد لأني أكبر منه سنّا، وأكثر منه مالا وولدا.
الآية الأولى ذمّ للكفار وتوعّد لهم، فإنهم إذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشّرع الإلهي، اشتطّوا واغتروا، وطلبوا أن يؤتوا مثلما أوتي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: إنما يفلق لنا البحر، إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، أي إنهم طلبوا المستحيل، وعلقوا إيمانهم على ممتنع، وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون أبدا.
والمعنى: إذا جاءت المشركين آية وبرهان وحجة قاطعة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ وحي ربّه، قالوا حسدا منهم، وتعنّتا وغرورا: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل محمد، منصب عند الله، وتظهر على أيدينا آية كونية أو معجزة مثلما أوتي رسل الله، كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى لأنهم أكثر أموالا وأولادا، وأعزّ جانبا ورفعة بين الناس.
(٢) شديد الضّيق.
(٣) يتكلف صعودها.
(٤) أي العذاب.
والهدي لفظ مشترك قد يأتي بمعنى الدعوة لشيء مثل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٤٢/ ٥٢] وقد يأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المؤدية إليها، كقوله تعالى: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) [محمد: ٤٧/ ٤- ٥].
الطريق القويم وجزاء المستقيمين
تتعدّد طرق النجاح في الحياة بحسب ما ترتئيه الأفكار والعقول الإنسانية، ولا يعرف الصواب منها إلا بعد تجارب عديدة، وطويلة الأمد، يمر فيها المجتمع، فتدرك الأخطاء، وتعرف أوجه الفائدة والمصلحة، من هنا أراد الله تعالى اختصار الطريق والمدة على الناس، فأبان لهم سلفا ما يحقق لهم الخير والنفع، ويمنع عنهم الشّر والانحراف. وترغيبا في سلوك طريق الشّرع القويم وعد الله متّبعيه بالجنة دار السّلام، وأوعد مخالفيه بالنّار مثوى الظالمين خالدين فيها أبدا بمشيئة الله. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٩]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
«١» [الأنعام: ٦/ ١٢٦- ١٢٩].
يخبر الله تعالى أن هذا القرآن والشّرع الذي جاء به محمد عليه الصّلاة والسّلام
فما عليكم أيها المؤمنون إلا اتّباعه إن أردتم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، قد وضحنا الآيات وبيّنّاها لقوم لهم فهم ووعي يعقلون عن الله ورسوله..
ولهؤلاء القوم الفاهمين الملتزمين طريق الشّرع: دار السلامة والطمأنينة وهي الجنة، يوم القيامة، والله متولّي أمورهم وكافيهم، جزاء على صالح أعمالهم.
واذكر أيها النّبي فيما نقصّه عليك، يوم نحشر الإنس والجنّ جميعا ونقول: يا جماعة الجن قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، فيجيب الإنس الذين أطاعوا الجنّ واستمعوا إلى وسوستهم وتولّوهم: ربّنا انتفع كلّ منا بالآخر، انتفع الإنس بالشياطين حيث دلّوهم على الشهوات وعلى أسباب التّوصل إليها، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم، وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا، أي الموت أو يوم البعث والجزاء، اعترفنا بذنوبنا، فاحكم فينا بما تشاء، وأنت أحكم الحاكمين، ولقد أظهرنا الحسرة والنّدامة على ما فرّطنا في الدّنيا.
فأجابهم الله الحق تعالى بقوله: النار مأواكم ومنزلكم أنتم وإياها وأعوانكم، وأنتم ماكثون فيها مخلدون على الدوام، إلا من شاء الله من الخروج خارج النار لشرب الحميم، أو الانتقال من عذاب النار، إلى عذاب الزمهرير، وفي كلا الحالين انتقال من عذاب إلى عذاب. وهذا معنى قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. وقال ابن عباس فيما رواه ابن جرير الطّبري وغيره: «إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنّة ولا نارا».
«إذا رضي الله على قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولىّ أمرهم شرارهم». وهذا تهديد عامّ لكل ظالم ظلما اجتماعيّا عامّا أو خاصّا. والتعاون بين الفئات المتشابهة في سلوكها ظاهرة قائمة في المجتمعات، سواء فئات المؤمنين الصلحاء، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التّوبة: ٩/ ٧١]. أو فئات الكافرين الأشقياء، كما قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال: ٨/ ٧٣] أي أعوانهم ونصراؤهم.
تقريع الظّلمة على كفرهم
إن العدل الإلهي أمر مطلق شامل جميع أحوال الناس في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يرسل الله الإنذارات المتوالية من الكتب والرّسل لتبليغ الأحكام وشرائع الله، والتحذير من مستقبل الحساب والجزاء الأخروي. وفي الآخرة لا يجد الظّلمة مناصا من الاعتراف بتقصيرهم وامتناعهم من الإيمان واقترافهم السيئات. ويظهر العدل في الآخرة على أتم وجه وأحكم مظهر، حيث يوفّى كل إنسان بما عمل من خير أو شرّ. قال الله تعالى موضّحا أصول العدل وطرائق التزامه:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
«١»
هذه الآيات تقريع للظالمين، وتهديد شديد للكافرين من الجنّ والإنس، وبيان حالهم يوم القيامة، حيث يسألهم ربّهم، وهو أعلم بما فعلوا، قائلا: هل بلّغتكم الرّسل رسالات الله؟ يخبرونكم بآيات الإيمان والأحكام والآداب، وينذرونكم لقاء يوم الحشر الرهيب، وما فيه من الحساب والجزاء لمن يكفر بها ويجحدها؟! فأجابوا عن السؤال، وقالوا يوم القيامة: أقررنا بأن الرّسل قد بلّغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم يوم القيامة كائن لا محالة، ونظير هذه الآية: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) [الملك:
٦٧/ ٩]. وهذا إقرار منهم بالكفر والتقصير.
وخدعتهم الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحبّ السلطة ورفعة الجاه، ففرّطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرّسل، وإنكار المعجزات، كبرا وعنادا.
وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين في الدنيا، بما جاءتهم به الرّسل عليهم السّلام.
ذلك الإرسال للرّسل وإنذارهم الناس سلفا، وإنزال الكتب الإلهية في عالم الحياة الحاضرة، بسبب أن من سنّة الله ألا يؤاخذ أحد بظلمه إذا لم تبلغه الدعوة الإلهية من طريق صحيح، وألا تهلك الأمم والشعوب بعذاب الاستئصال وهم غافلون عما يجب عليهم، بل لا بدّ من إرسال الرّسل إليهم، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٣٥/ ٢٤]، وقال سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٧/ ١٥]، فالله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فمن
وما الدين إلا دافع لكل فضيلة وتقدّم، ومانع من كل رذيلة وتخلّف، ولا نجد مثل الإسلام يرغّب في الطاعة والعمل والعطاء، ويرهّب من العصيان والخمول والأخذ والاعتماد على جهود الآخرين لهذا جعل القرآن تفاوتا في المنازل والدّرجات بحسب تفاوت الأعمال، فذكر أن لكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله، يبلّغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
والله مطّلع رقيب على كل الأعمال، فما من عمل للعباد إلا يعلمه، وهو محصيه ومثبته لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائه إياهم، ومعادهم إليه.
وهذا دليل على أن مناط السعادة والشقاء: هو عمل الإنسان وإرادته، وكسبه واختياره، وإن كان لا يقع شيء في ملك الله إلا بإرادته، وإلا كان ذلك قهرا، يتنافى مع ملك المالك وهو الله سبحانه، تنزه الله عن كل نقص، وتبرأ من كل عيب، والله مع المحسنين أعمالهم، المقبلين على ربّهم.
تهديد كفّار قريش وإنذارهم
لم يترك الله تعالى في قرآنه وسيلة لدفع الناس إلى الإيمان وترك الكفر إلا ذكرها، ولم يهمل طريقة إصلاحية إلا سلكها، سواء بالترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى، وهذا الحرص التربوي رحمة من الله بعباده، وفضل وإحسان لا نجد له نظيرا عند علماء التربية أو الحكماء والفلاسفة، والسبب في ذلك أن تربية القرآن غير مشوبة
قال الله سبحانه مهدّدا كفار قريش بعذاب الاستئصال ومنذرهم بعذاب الآخرة:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
«١» [الأنعام: ٦/ ١٣٣- ١٣٥].
أخبر الله تعالى عن نفسه بأنه الْغَنِيُّ فهو غير محتاج إلى طاعة المطيعين، ولا يتضرّر بمعصية المذنبين، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، لا تنفعه طاعة ولا تضرّه معصية، ولا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات، وهو سبحانه مع غناه ذو رحمة عامّة كاملة، وقادر على وضع الرحمة في هذا الخلق أو في خلق جديد بديل عنهم، ولكنه فوّض الأمر إلى خلقه على سبيل التهديد.
ومعنى الآيات: وربّك أيها النّبي هو الغني عن جميع خلقه وعن عبادتهم من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو مع ذلك ذو الرحمة الشاملة بهم، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحجّ: ٢٢/ ٦٥]. وقال في بيان غناه: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) [فاطر: ٣٥/ ١٥].
إن يشأ الله يذهبكم ويستأصلكم أيها الكفار المعاندون في مكة وغيرها بعذاب الاستئصال الشامل، كما أهلك من عاند الرّسل كعاد وثمود، ويأت بخلق جديد
وبعد توجيه هذا الإنذار بالإهلاك في الدنيا، أتبعه الله إنذارا آخر في الآخرة بقوله سبحانه: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ أي أخبرهم أيها النّبي أن الذي توعدون به من الجزاء الأخروي كائن لا محالة، ولستم بمعجزين الله بهرب ولا امتناع مما يريد، فهو القادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما بالية، وهو القاهر فوق عباده.
ثم أردف الله تعالى الإنذارين السابقين بتهديد آخر شديد، وهو أخبرهم أيها النّبي بقولك: استمرّوا على طريقتكم وحالتكم التي أنتم عليها، إن كنتم تظنّون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كما جاء في آية أخرى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) [هود: ١١/ ١٢١- ١٢٢].
إنكم سوف تعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة، أنحن أم أنتم؟ وعاقبة الدار:
العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. إنه لا يفلح الظالمون، أي لا يسعد ولا ينجح الظالمون أنفسهم بالكفر بنعم الله تعالى واتّخاذ الشّركاء له في ألوهيّته، كما ورد في آية أخرى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم: ١٤/ ١٣- ١٤].
وقوله تعالى: اعْمَلُوا معناه: إنكم سترون عاقبة عملكم الفاسد، وهذا وعيد وتهديد، وقوله: عَلى مَكانَتِكُمْ معناه: على حالكم وطريقتكم. ثم جزم الله الحكم بأنه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا ينجح سعيهم، ولا يظفرون بشيء مفيد.
نماذج من أنظمة الجاهليّة
قرر عرب الجاهلية مجموعة من الأنظمة والشرائع بمحض الأهواء والتّخيلات ومرتبطة ارتباطا وثيقا بعقيدة الوثنية والشّرك وعبادة الأصنام والأوثان، وكل ذلك لا يتقبّله العقل الإنساني السّوي ولا المصلحة العامة للنّظام القبلي، لأنه يفرّق ولا يجمع، ويهدم ولا يبني. ومن هذه الأنظمة الواهية ما يتعلّق بالصدقات والقرابين، ومنها ما يتعلّق بالأولاد، ومنها ما يتّصل بقسمة الأنعام. قال الله تعالى واصفا هذا التشريع الفاسد والافتراء الكاذب:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧»
(٢) الزرع.
(٣) المواشي وهي الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٤) ليوقعوهم في الهلاك.
(٥) ليخلطوا عليهم.
(٦) يختلقونه من الكذب. [.....]
(٧) أي ممنوعة حرام.
٦/ ١٣٦- ١٤٠].
سبب نزول هذه الآيات: أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءا تسمّيه لله، وجزءا تسمّيه لأصنامها، وكانوا يعنون بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله، لأن الله غني والأصنام فقيرة.
فهذه ألوان ثلاثة من شرائع الجاهلية العربية قبل الإسلام، ابتدعها المشركون بأهوائهم وآرائهم الفاسدة، ومن وساوس الشيطان وإيحاء إبليس. أما اللون أو الأنموذج الأول فهو كيفية قسمة القرابين من الحرث والأنعام، أي الزروع والمواشي، فجعلوا منها نصيبا مخصّصا للأوثان والأصنام، ونصيبا لله، قائلين: هذا لله بزعمهم الذي لا دليل عليه، وهذا لشركائنا ومعبوداتنا نتقرّب به إليها، أما نصيب الله فيطعمونه الفقراء والمساكين ويكرمون به الضّيفان والصّبيان، ونصيب الآلهة المزعومة يعطى لسدنتهم وخدمهم وينفقون منه على معابدهم، وما كان لشركائهم وأوثانهم يصرف لها، وما كان لله فهو واصل إلى شركائهم، وفي الحالين لا يصل إلى الله شيء، ألا ساء الحكم حكمهم، وبئس ما يصنعون.
والأنموذج الثاني الذي زيّن به الشيطان لهم أفعالهم: أن كثيرا من المشركين أقدموا على فعل شنيع جدّا، وهو قتل أولادهم الذكور والبنات، وكان شركاؤهم وهم سدنة الآلهة وخدمها والشياطين زيّنوا لهم قتل هؤلاء البنات، وأفهموهم أن قتلهم أولادهم قربى إلى الآلهة، كما فعل عبد المطّلب حين نذر قتل ابنه عبد الله، ومنشأ هذا التّزيين: أنهم خوّفوهم الفقر العاجل، وأوهمهم أن بقاء البنات عار وخزي
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء: ١٧/ ٣١]. وفي قوله سبحانه:
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) [التّكوير: ٨١/ ٨- ٩].
وغاية هذا التّزيين هي أن يردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء، ويخلطوا عليهم أمر دينهم- دين إبراهيم وإسماعيل- دين التوحيد الذي لا شيء فيه من هذا، ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، فاتركهم أيها النّبي وما يدينون ويفترون من الكذب والضلال، وما عليك إلا البلاغ، فإنهم بأنفسهم اختاروا هذا الطريق المعوج دون جبر ولا إكراه. والأنموذج الثالث من شرائع الجاهلية: أنهم قسموا أنعامهم ثلاثة أقسام:
أ- أنعام محبوسة على معبوداتهم وأوثانهم الآلهة، قائلين: لا يطعمها ولا يأكل منها إلا من شاء بحسب زعمهم من غير حجة وبرهان، وهم خدم الأوثان والرجال دون النساء.
ب- وأنعام ممنوعة ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحيرة والسائبة والحامي، إذا ولد منها نتاج معين.
ج- وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، ولا ينتفعون بها حتى في الحج.
هذه القسمة الجائرة مجرد افتراء على الله، فالله لم يشرع ذلك، وليس لهم أن يحلّلوا أو يحرّموا شيئا لم يأذن الله به، وسيجازيهم الله الجزاء الذي يستحقونه بسبب افترائهم.
ومما قال هؤلاء المشركون: إن أجنّة وألبان هذه الأنعام (المواشي) حلال خاص برجالنا، ومحرّم على نسائنا، فإذا ولدت الشّاة ذكرا، فلبنها للذكور دون الإناث،
ثم حكم الله تعالى على المشركين بالخسارة الفادحة حين قتلوا أولادهم ووأدوا بناتهم، سفها أي حماقة وجهلا، خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر، وحين حرموا على أنفسهم طيّبات الرزق افتراء وكذبا على الله، إنهم ضلّوا ضلالا واضحا بعيدا عن الحق، ولم يهتدوا إلى الصواب، ولم يرشدوا إلى خير أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الرّد على المشركين لإثبات قدرة الله تعالى
التّشريع في الإسلام منوط بمن يملك القدرة اللامتناهية على خلق الأشياء وإيجادها، وبما أن الله تعالى هو وحده مبدع الكائنات كلها، وصاحب النّعم الجليلة، فهو مصدر التشريع من إباحة وتحريم، وإيجاب ومنع، وليس للبشر الحق في أن يحرّموا أو يحلّلوا ما شاؤوا من غير حجة بيّنة ولا برهان واضح، لذا نبّه القرآن الكريم إلى هذه القضية المهمة الخطيرة، فلما افترى المشركون على الله الكذب، وأحلّوا وحرّموا، دلّهم على قدرته ووحدانيّته تعالى، وأوضح لهم أن الخالق المبدع هو صاحب الحق في التحليل والتحريم، فقال الله عزّ وجلّ:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
«٢»
(٢) مستغنية عنه كالنّخل.
هذه الآيات تنبيه على مواضع الاعتبار والاتّعاظ، وقد تضمّنت الأمر بفريضة الزكاة على الزروع والثمار،
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: كان المشركون يعظّمون شيئا سوى الزّكاة، فنزلت هذه الآية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
وقال أبو العالية: كانوا يعظّمون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فقال الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ومعنى الآيات أن الله تعالى هو الذي أوجد البساتين والكروم المشجرة، سواء منها المعروش، أي الذي يحمل على عرش وهو السقف الذي يوضع عليه كروم العنب، وغير المعروش: وهو البساتين وما يلقى على وجه الأرض من غراس الشجر في الجبال والصحراء ونحو ذلك، وخلق سبحانه أيضا النّخل والزّرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل، وخصص الله إيراد النّخل لكثرته عند العرب ولجماله
(٢) ما يحمل الأثقال كالإبل.
(٣) ما يفرش للذّبح كالغنم.
(٤) طرقه وأعماله.
(٥) أمركم الله.
بدليل أن التربة واحدة والماء واحد، ويخرج منهما أصناف الأشجار والثمار والزروع من طعام وعسل ومسك ونباتات وأعشاب طبية وغير طبية، وكل ذلك لمنفعة الإنسان وخدمة أغراضه.
فكلوا أيها الناس من ثمر هذه الزروع والبساتين، واشكروا نعمته عليكم بإيتاء الفقراء والمساكين جزءا من الناتج والغلّة يوم الحصاد أو القطاف، وهذه هي الزّكاة المفروضة المطلقة في بدء صدر الإسلام، ثم حددت أصناف الزكاة في آيات مدنية. ولا تسرفوا أيها الناس، فالإسراف خطأ مطلقا ولو في الشيء الحلال، ولا تسرفوا في الأكل، ولا في التّصدق، إنه سبحانه لا يحبّ المسرفين في أي شيء، وإنما يحب التوسط.
وخلق الله لكم من الأنعام أنواعا مختلفة، منه ما يصلح للحمل والعمل والركوب، ومنه الصغار الذي يتخذ فرشا أي يفرش على الأرض للذبح، كلوا مما رزقكم الله، وانتفعوا بلحوم الأنعام وألبانها وأوبارها وشعرها وصوفها، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ومزالقه بتحريم ما أحلّ الله، أو إحلال ما حرّم الله، فإن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان.
وهذه الأنعام ثمانية أصناف وأزواج وهي الإبل والبقر والغنم والمعز، وكل منها ذكر وأنثى: كبش ونعجة، وتيس وعنزة، وجمل وناقة، وثور وبقرة.
فما الذي حرّم الله عليكم أيها المشركون: أحرّم الذّكرين من الجمل والثور أم حرّم الأنثيين من الناقة والبقرة أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ لم يحرّم الله
المقارنة بين المحرّمات في شريعتنا وبين شريعة اليهود
ذكر القرآن الكريم مقارنة لطيفة بين المطعومات المحرّمة في شريعتنا وبين المحرّمات على اليهود، ليظهر الفارق الواضح بين أسباب التحريم، ففي شريعتنا كان سبب التحريم في المطعومات الحرام ما فيها من ضرر وأذى للصحة أو العقيدة، وفي شريعة اليهود كان سبب التحريم هو البغي والعدوان وتجاوز حدود الوحي الإلهي، فاستحقوا بذلك المكايدة والمضايقة في الدنيا وإنزال العذاب عليهم في الآخرة. قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الأنعام: ٦/ ١٤٥- ١٤٧].
(٢) خبيث نجس.
(٣) ذكر عند ذبحه اسم غير الله.
(٤) ألجئ لأكله.
(٥) غير طالب الحرام للذة، ولا متجاوز ما يسدّ الرمق. [.....]
(٦) ماله إصبع.
(٧) الأمعاء.
(٨) لا يدفع عذابه.
ذكرت هذه الآية المكّية أنواع المحرّمات في الجملة، وفصّلتها آية المائدة (٣) المدنية، ثم حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكل كل ذي ناب من السّباع وكل ذي مخلب من الطير. وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة في المدينة لأنها في حكم الميتة، وإن كان موتها بسبب وليس حتف الأنف.
أمر الله نبيّه أن يعلن أنه لا يوجد في شريعة القرآن تحريم شيء على طاعم وآكل يأكله إلا أربعة أنواع: هي الميتة التي ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، والدّم المسفوح أي الدّم السائل الذي يتدفّق من عروق المذبوح، ولحم الخنزير ومثله شحمه وسائر أجزاء جسده، فإنه نجس ينبغي اجتنابه، والفسق وهو المذبوح لغير الله ولم يذكر اسم الله عليه، وهو ما يتقرّب به إلى الأصنام والأوثان. أما الدّم الجامد وهو الكبد والطّحال فحلال أكله،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر-: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت (السمك) والجراد، وأما الدّمان فالكبد والطّحال».
وتحريم هذه الأشياء الأربعة لما فيها من ضرر صحي يؤذي الجسد، أو ضرر يمسّ الاعتقاد وهو القرابين المذبوحة التي يتقرّب بها إلى الأصنام والأوثان. ثم استثنى الله تعالى من هذه المحرّمات حال الضرورة: وهي احتمال الوقوع في خطر الموت أو الهلاك جوعا أو عطشا إذا لم يتناول الممنوع، فمن أصابته ضرورة ملجئة إلى أكل الحرام، فهو حلال له بشرط ألا يكون باغيا، أي قاصدا له، ولا متجاوزا حدّ الضرورة، فضلا من الله ورحمة، ويغفر الله للآكل حينئذ ويرحمه حفاظا على حقّ
وأما الأشياء التي حرّمها الله على اليهود فهو تحريم مؤقت، عقوبة لهم، لا لذات الأشياء، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) [النّساء: ٤/ ١٦٠].
وانصبّ التّحريم عند اليهود على شيئين: الأول- كل ما له ظفر: وهو ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنّعام والأوز والبط. والثاني- الشحوم الزائدة التي تنتزع بسهولة، على البقر والغنم دون غيرهما، وهي ما على الكرش والكلى فقط، أما شحوم الظّهر (السّنام) والذّيل (الألية) فليست محرّمة، لقوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ. والحوايا: الأمعاء. وهذا التحريم بسبب الظلم والبغي- وخبر الله صادق يقينا- وظلمهم: هو قتل الأنبياء بغير حق، وصدّهم عن سبيل الله، وأخذهم الرّبا، وأكل أموال الناس بالباطل. وهذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرّم علينا شيئا، وإنما حرّمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه، فإن كذبوك يا محمد بما أخبرتك به، فقل لهم على سبيل التّعجب من حالهم والتعظيم لافترائهم الكذب: إن الله ذو رحمة واسعة، إذ لا يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم، ولا تغتروا أيضا بسعة رحمته، فإنّ لله عذابا لا يردّ عن المجرمين إما في الدنيا وإما في الآخرة. وهذا جمع بين أسلوب الترغيب والترهيب في آن واحد، ترغيب في امتثال أمر الله، وترهيب من مخالفة الله والرّسول.
زعم المشركون أن شركهم بالله وتحريمهم الأشياء المباحة إنما هو بقدر الله، فقالوا: «لولا المشيئة لم نكفر» و «لو شاء الله منا ألا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر، وحيث لم يمنعنا عنه، ثبت أنه مريد لذلك، فإذا أراد الله ذلك منا، امتنع منا تركه، فكنا معذورين فيه» فردّ الله هذا الزعم الباطل، وذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب، فقال الله تعالى حاكيا قولهم:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
«١» «٢» «٣» [الأنعام: ٦/ ١٤٨- ١٥٠].
هذه شبهة تمسّك بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرّموا، فإن الله مطّلع على ما هم فيه من الشّرك وتدخّلهم في التحريم، إنهم يقولون: إن شركهم وشرك آبائهم، وتحريم ما أحلّ الله من الحرث (الزرع) والأنعام (المواشي) هو قائم بمشيئة الله وإرادته، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب الجبرية تماما.
فردّ الله عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفي الكلام حذف يدلّ عليه السياق، أي سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حجة لهم، ولا شيء يقتضي تكذيبك، ولكن كذلك كذب الذين من قبلهم بنحو هذه الشبهة، من
(٢) أحضروا أو هاتوا.
(٣) يسوون به غيره في العبادة.
ثم أمر الله نبيّه أن يطالبهم بالبرهان على ما زعموا بقوله: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا.. أي هل لديكم أمر معلوم وبرهان واضح يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم، فتظهرونه وتبيّنونه لنا لنفهمه. وحقيقة حالهم هي أنه لا حجة ولا برهان على ما يقولون، وما يتّبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد، وما هم إلا يكذبون على الله فيما ادّعوه.
ثم أورد الله تعالى الدليل القاطع على الدين الحق بقوله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ والمعنى: قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين الجاهلين بعد بطلان حجتهم: لله تعالى الحجة الكاملة على ما أراد من إثبات الحقائق وإبطال الباطل، وحجته بالغة غاية المقصد في الأمر المحتجّ به، فإن مشيئة الله تعالى لا تعني رضاه عن أعمالهم، والله بيّن الآيات، وأيّد الرّسل بالمعجزات، وألزم أمره كل مكلف، وإرادته وعلمه وكلامه غيب لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وليس الإنسان مجبرا على الإيمان أو الكفر والمعصية، وإنما هو بنفسه الذي يختار عمله ومنهاجه، ولو كان المكلف مجبرا لما اقتضى العدل الإلهي تكليفه بشيء، وإثابته وعقابه في الآخرة. والله قادر على هداية الناس أجمعين.
ومن أدلة إبطال تذرّع المشركين بشبهتهم: مطالبتهم بأن يأتوا بشهود يشهدون على صحة ما يدّعونه من تحريم الله هذه المحرمات، وهذا هو قوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم عن عيان أن الله حرّم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه وكذبتم وافتريتم على الله فيه.
وبهذا بطل ادّعاء المشركين واحتجاجهم بالمشيئة الإلهية، فإن المشيئة أمرها لله، وما على الناس إلا تنفيذ التكليف الإلهي، لأنهم لا علم ولا اطّلاع لهم على مراد الله وعلمه ومشيئته.
الوصايا العشر
أورد القرآن الكريم الوصايا العشر المتّفق عليها في الأديان كلها، في التوراة والإنجيل والفرقان، وأمر الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرّم الله بشرع الإسلام الخالد المبعوث به إلى جميع الناس- الأسود والأحمر والأبيض- قال الله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧»
(٢) أي فقر.
(٣) الكبائر من المعاصي.
(٤) أمركم.
(٥) يرشد ويقوى.
(٦) بالعدل.
(٧) طاقتها.
قال ابن عباس: في الأنعام آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب، ثم قرأ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ تضمنت هذه الآيات الثلاث الوصايا العشر التي وردت خمس منها بصيغة النّهي، وخمس بصيغة الأمر.
الوصية الأولى- نبذ الشّرك بالله تعالى، فالشّرك أعظم جريمة في الدين، لأنه نسبة الشريك إلى الله في الألوهية، وهذا مرفوض عقلا لأن الشّركاء، سواء أكانوا من الكواكب كالشمس والقمر، أم من الملائكة والنّبيين، أم من الجمادات كالأصنام والأوثان، كلهم مخلوقون لله، والمخلوق مهما عظم عبد للخالق، والخالق وهو الله تعالى هو المستحق للعبادة والتعظيم والتقديس.
والوصية الثانية- الإحسان إلى الوالدين إحسانا كاملا، بإخلاص وشعور قلبي بالاحترام والتزام أوامرهما بالمعروف، ومعاملتهما معاملة كريمة قائمة على المحبة والمودّة والبر، لا الخوف والرّهبة. وبرّهما سلف ودين، فكما تبر أبويك يبرك أولادك، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني عن ابن عمر: «برّوا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفّوا تعفّ نساؤكم».
والوصية الثالثة- تحريم وأد البنات وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، فالله يرزقكم أيها الآباء وإياهم رزقا مكفولا دائما، فلا تخشوا الفقر المتوقّع ولا العار اللاحق لأن الله يرزق العباد ويحفظ البنات إذا حسنت التربية، ودانت البنات بالدين الحق والخلق الكريم.
والوصية الخامسة- منع قتل النفس بغير حق، لأن قتل النفس المسلمة والمعاهدة جريمة كبري ومنكر عظيم، واعتداء شنيع على صنع الخالق، ولا يحل القتل إلا عقابا قانونيّا بالحق على أحوال ثلاث: زنا المحصن المتزوج، والقتل العمد، والرّدة عن الإسلام، لما فيه من خروج على قواعد النظام العام في المجتمع، ذلكم أمركم الله به لتعقلوا وتتدبروا المخاطر والسيئات.
والوصية السادسة- المحافظة على مال اليتيم، فلا يجوز أخذ شيء منه إلا بحق، كمقابل الإشراف على الاستثمار والتنمية، والمحافظة والإنفاق للتربية والتعليم وكان الولي فقيرا محتاجا. فإن بلغ الولد رشيدا، وجب دفع ماله إليه من غير تلكؤ ولا تردّد، لقوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.. [النّساء: ٤/ ٦].
والوصية السابعة والثامنة- إيفاء الكيل والميزان بالقسط أي بالعدل، دون زيادة ولا نقص في البيع والشراء والقرض والإيفاء والاستيفاء لأن العدل أساس الحقوق، والتطفيف بالكيل والميزان هضم للحق وضياع للمال.
والوصية التاسعة- العدل في القول، أي الشهادة والحكم والقضاء لأن العدل ميزان الحقوق، وأساس القبول والرّضا دون أحقاد ولا عداوات.
والوصية العاشرة- الوفاء بالعهد الإلهي، سواء أكان عهدا مع الله، أم مع الناس. ذلكم وصاكم وأمركم الله بهذا لعلكم تتذكرون وتتعظون بهذا.
خصائص التّوراة والقرآن
أخبر القرآن الكريم بكل حيدة وموضوعية عن خصائص التوراة والقرآن الكريم، والغاية المقصودة من إنزال كلّ منهما، وخصّص الله تعالى كلاما عن التوراة لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها، ثم ذكر الله تعالى مكانة القرآن العظيم وكونه كتاب هداية ورحمة للعالمين، قال الله سبحانه:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
«١» [الأنعام: ٦/ ١٥٤- ١٥٧].
ثم وصف الله تعالى القرآن الكريم بقوله: وَهذا كِتابٌ.. أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، كثير الخير والنّفع في الدين والدنيا، ثابت لا ينسخ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح، فاتّبعوا أيها الناس ما جاء فيه، واتّقوا النار والجحود بما نهاكم عنه ومنعكم منه، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة.
لقد أنزلنا إليك القرآن أيها النّبي محمد، فيه إرشاد للتوحيد وتزكية النفوس وتطهيرها من لوثات الشّرك والفسوق، لئلا تقولوا معشر العرب يوم الحساب:
لو أنزل علينا مثل ما أنزل على اليهود والنصارى من قبلنا بغير لساننا، لكنّا أهدى منهم فيما أوتوه، لأننا أكثر وعيا وتفهّما وأعمق بصيرة وأشدّ عزيمة، وإبطالا لتلك التعللات ومحاولات التهرب من مسئولية العمل بشرع الله، فقد جاءكم على لسان رسولنا النّبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه، ويقتفون ما فيه، ففيه العقيدة والآداب والأحكام.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الأنعام: ٦/ ٢٦].
ثم هدّد الله وأوعد بالعقاب لكل معرض عن القرآن العظيم، فذكر أنه سبحانه سيجازي المعرضين الحائدين عن آيات الله أشدّ العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله والإعراض عنها لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من منعوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين هداية الله، والإيمان بما أنزل الله، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) [النّحل: ١٦/ ٨٨].
أي زدناهم عذابا غير عذابهم، بسبب إفسادهم وصدّهم عن سبيل الحق. وبهذا يتبيّن أنه لا عذر لأحد في الجهل بما جاء عن الله من أحكام وشرائع، ففي القرآن بيان كاف من الله، وهدى للزائغين، ورحمة للمؤمنين. ومن اهتدى بهدي الله فاز ونجا، ومن استنكف خسر وهلك، ولا يضرنّ إلا نفسه، وسيجزي الله الشاكرين.
تهديد المعاندين وترغيب المحسنين
رسالة القرآن المجيد رسالة إصلاح وتغيير شامل للفرد والجماعة، تبدأ بالعقيدة فالعبادة فالمعاملة، وتنتهي بنظام المجتمع والأمة، وإذا أراد الناس بأنفسهم خيرا، استمعوا لتوجيهات الله تعالى في الحياة، وبما أن القرآن منبر تربية وتوجيه حكيم حذر من ترك الإيمان بالله تعالى ربّا واحدا لا شريك له، وحذّر من الفرقة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
«١» [الأنعام: ٦/ ١٥٨- ١٦٠].
كان القرآن الكريم صريحا واضحا مع مشركي العرب حين أعرضوا عن دعوة الله ورسوله لإصلاح العقيدة والحياة والأخلاق، فبعد أن أنذرهم بسوء العقاب وتعجيل العذاب، وصف موقفهم بأنهم ما ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة، وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرّب، أو مجيء الآيات القاهرة من الله تعالى، هل ينتظرون لإنزال العذاب إلا أن تأتيهم ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المختصّ بقبض الأرواح، فتخلع رقابهم وتعصف بهم، أم هل ينتظرون مجيء الرّب تبارك وتعالى لموقف الحساب يوم القيامة، أم هل ينتظرون مجيء بعض آيات ربّك الدّالة على قرب قيام الساعة؟ يوم يأتي بعض آيات الله القاهرة الموجبة للإيمان الاضطراري، كطلوع الشمس من مغربها، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل، فإن الإيمان تكليف اختياري في وقت عادي غير قهري، ولا يقبل إيمان اليأس مثل إيمان فرعون حينما أحدق به الغرق. كما لا ينفع في وقت الأزمة الخانقة ومجيء أمارات العذاب توبة لم تكن حدثت في وقت السّعة والرّخاء قبل الغرغرة ووصول الروح إلى الحلقوم.
قل: يا محمد على سبيل التهديد والوعيد، سترون من يحقّ كلامه، ويتضح ما أخبر
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة التفرّق والتمزّق، فذكر أن الذين فرقوا دينهم، وهم أهل البدع والشّبهات، وأهل الضّلالة من هذه الأمة، والقائمون على تفريق الأمة، هؤلاء لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم، وإنما عليك تبليغ الرسالة، وإعلان شعائر الدين الحق، إنك أيها النّبي بريء منهم وهم برآء منك، والله يتولى أمرهم وحسابهم، ثم يخبرهم في الآخرة، ويجازيهم على تجزئة الدين، بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه الآخر.
والجزاء على الأعمال واضح وأمر حتمي، فمن جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات وأداء الفرائض والتزام شرائع الله، فله جزاؤها عشر حسنات أمثالها، والمضاعفة بعدئذ إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة بحسب فضل الله وبمقتضى مشيئته وحكمته وعلمه بأحوال المحسنين. ومن جاء بالسيئة فاقترف منكرا أو ارتكب ذنبا، فله عقوبة مماثلة لها فقط لا يظلمون، أي لا ينقصون من أعمالهم شيئا.
جاء في الحديث النّبوي عند أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى: «إن ربّكم عزّ وجلّ رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة، أو يمحوها الله عزّ وجلّ، ولا يهلك على الله إلا هالك»
والملائكة الكرام هم الموكلون بكتابة الحسنات والسيئات، بأمر الله لهم.
ربط القرآن الكريم عقيدة المسلمين بعقيدة التوحيد وهي ملّة أبينا إبراهيم الخليل عليه السّلام، وألزم بضرورة الإخلاص في الاعتقاد والعمل، وحاسب كل امرئ على ما عمل بنفسه فلا يسأل عن عمل غيره، وردّ جميع الأعمال للحساب والجزاء يوم القيامة، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا حاسب الله عليها، قال الله تعالى مبيّنا هذه الأصول العامة:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٥]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
[الأنعام: ٦/ ١٦١- ١٦٥].
لكل شيء بعيد الآثار كثير الجوانب منهج عملي واضح، وخطة تفصيلية تجمع الوسائل مع الغايات، وتربط الفروع بالأصول، وتجمع بين العقيدة والقول والعمل، وهذا هو منهاج القرآن المجيد.
أمر الله عزّ وجلّ نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بإعلان شريعته، ونبذ ما سواها من أضاليل المشركين، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة، لقد أمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر بما أنعم الله عليه من الهداية إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه ولا انحراف وهو الدين القيّم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة،
(٢) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
(٣) عبادتي.
(٤) لا تحمل نفس آثمة.
(٥) يخلف بعضكم بعضا فيها.
(٦) ليختبركم.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: ٢/ ١٣٠] وقال عزّ وجلّ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً «١» قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) [النّحل: ١٦/ ١٢٠]. أي لم يكن أبدا من المشركين، وإنما كان مؤمنا بالله، موحدا إياه، مخلصا له عبادته.
ثم أمر الله نبيّه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه: بأنه مخالف لهم في ذلك كله، فإن صلاته لله، ونسكه أي الذبائح والعبادة وأداء شعائر الحج وغيرها كله لله، والمعنى: إن مقصده في صلاته وطاعته في ذبيحة وغيرها، وتصرفه مدة حياته، وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته، إنما هو لله عزّ وجلّ، وإرادة وجهه وطلب رضاه، فإن عاش فلله، وإن جاهد فلله، وإن صلّى وحجّ واعتمر فلله، وإن مات فلله، له الحكم وله الأمر، وبيده مقاليد أمور الخلائق والعوالم كلها.
وفي هذا إرشاد للمؤمنين وإلزام بالتّأسي به، حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عزّ وجلّ. والله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في ربوبيته، فله العبادة وحده، والتشريع منه وحده، بذلك أمر الله ربّي، ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر الله عن نفسه: وأنا أول المسلمين، أي الخاضعين المنقادين إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، هذا إثبات لتوحيد الألوهية.
ثم أعقبه بتوحيد الرّبوبية، فقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا.. أي أغير الله أطلب ربّا سواه، مع أنه هو مالك كل شيء، خلقه ودبّره، وهو مصدر النفع ومنع الضّر، فكيف أجعل مخلوقا آخر ربّي؟!
ثم فتح الله للناس ميدان العمل، مطلقا لهم الحرية والخلافة في الأرض، يخلف بعضهم بعضا فيها، بعد إهلاك جيل وإحياء جيل آخر، وهم متمايزون يرفع الله بعضهم فوق بعض درجات في الغنى والفقر، والشّرف والجاه، والعلم والجهل، والخلق والشكل، والعقل والرزق، لاختبار الناس في مواهبهم وما أعطاهم الله، وبعد هذا الإفساح في ميدان العمل، والحضّ على الاستباق إلى الخير، توعّد الله ووعد، تخويفا منه وترجية، فالله سريع العقاب إما في الدنيا وإما في الآخرة، وكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به، وإن الله غفور لمن أذنب وأراد التوبة، رحيم بالعباد.