ﰡ
الطّلاق السني في العدة
كره الإسلام الطلاق، لأنه تبديد الشمل، وقطع الصّلة، وهدم الحياة الزوجية، وإذا كان لا بدّ منه، فينبغي اقترانه ببدء العدة، حتى لا تطول مدّتها على المرأة، وتتضرر فالإضرار بالطلاق حرام، وكيلا يقع الزوج في الندم إذا طلّق في وقت غير مناسب، فيحرم في وقت الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وهذا هو الطلاق البدعي، ويقابله الطلاق السني الذي أمر به في الآيات الآتية من مطلع سورة الطلاق، المدنية بالإجماع:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الطّلاق: ٦٥/ ١- ٣].
(٢) اضبطوها.
(٣) ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا.
(٤) قضين عدتهن.
(٥) أهل عدالة وذمة.
(٦) أدوها لوجه الله بلا تحريف.
(٧) طريقا للخروج من المحنة.
(٨) كافيه.
(٩) محقق ما يريده.
(١٠) تقديرا لا يتجاوزه.
الآية، فقيل له: راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
خوطب النّبي في مطلع السورة للتنبيه على سماع القول وتلقّي الأمر، ثم خوطبت أمته، أي إذا طلقتم أنت وأمتك، فيا أيها الرسول والمؤمنون به، إذا أردتم تطليق النساء، وعزمتم عليه، فطلّقوهن (أي يجب عليكم) مستقبلات لعدتهن، حتى لا تطول العدة عليهن، ولئلا يلحقهن ضرر بتطويل العدة، واضبطوا أيها الأزواج مدة العدة واحفظوها، لتكون عدة كاملة، وهي ثلاثة أقراء (أطهار في رأي، وحيضات في رأي آخر) وضبط العدة واجب، لترتب أحكام فيها، من معرفة وقت الرجعة، والإشهاد عليها، وأداء نفقة المعتدة وسكناها، والتزام بيوتهن، واتّقوا الله الرّب تعالى، فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تلحقوا ضررا بالمرأة، ولا تخرجوا المطلقات من بيوتهن (بيت الزوجية) في مدة العدة، فلكل معتدة الحق في السكنى على حساب الزوج، ما دامت في عدتها منه، وليس للزوج أن يخرجها، ولا يجوز لها الخروج من بيت الزوجية: بيت العدة لغير ضرورة ليلا أو نهارا، إلا إذا ارتكبت فاحشة ظاهرة ثابتة كالزّنا.
وهذه الأحكام المتعلقة بالعدة: هي حدود الله التي حدّها لهم، لا يحلّ لهم تجاوزها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود، فقد ظلم نفسه وأضرّ غيره، وأهلكها.
وعلّة تحريم تعدي حدود الله: أنك لا تدري أيها المطلق حين ألزمنا بإبقاء المطلقة في منزل الزوج مدة العدة، أن يتراجع الزوجان، ويندم كل منهما على ما حدث، وهذا هو الغالب الواقع، ويؤلف الله بين قلوبهما، ويراجع المطلق زوجته، وتعود الحياة الزوجية كما كانت، بل ربما أحسن مما مضى، لأن الطلاق أمر صعب شاق على كل من الرجل والمرأة.
ويأمركم الله بالإشهاد على الرجعة أو الفراق من شاهدي عدل، حسما للخلاف، وإعلاما للناس حتى لا يطعن بالزوج إن راجع، أو بالمرأة إن تزوجت بزوج آخر، وأدّوا أيها الشهود الشهادة خالصة لوجه الله، دون تحيّز أو ميل لأحد الخصمين. وهذه الشهادة على الرجعة والفراق مندوبة باتّفاق المذاهب الأربعة، للإجماع على عدم وجوبها عند الطلاق، فكذلك عند الإمساك.
ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد وإخلاص الشهادة لله تعالى، وإيقاع الطلاق على وجه السّنة، وإحصاء العدة، والكفّ عن الخروج والإخراج، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخاف عقاب الله في الآخرة.
ومن يتّق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه، ويقف عند حدوده، يجعل له مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه، ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه، على وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه.
ومن يفوّض أمره لله فيما نابه، فالله كافيه، إن الله يبلغ ما يريده، ويحقق مراده، قد جعل للأشياء قدرا محددا قبل وجودها، وقدّر لها أوقاتها. والآية كلها عظة لجميع الناس وحضّ على التوكّل.
نزلت آية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ كما
أخرج الحاكم عن جابر: في رجل من أشجع،
اتّق الله، واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا، حتى جاء ابن له بغنم، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت.
وهو حديث منكر له شاهد، أي إن الولد كان أسيرا، فهرب وأخذ من العدو قطيع غنم.
أنواع العدد ومقاديرها وحقوق المعتدات
إذا وقع الطلاق في بدء العدة، ولم تقع الرجعة للحائض في العدة (ثلاثة قروء) وجب على المطلقة الاعتداد بثلاثة قروء (حيضات أو أطهار)، إن كانت حائضا، وأما الآيسة من الحيض، والصغيرة التي لم تر الدم، فعدتهما ثلاثة أشهر، وعدة الحامل بوضع الحمل. وللمعتدة الحق في النفقة والسكنى في بيت الزوجية بحسب الوسع والطاقة، ولو في حجرة من بيت الزوج، ومعيار مقدار النفقة هو بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا، وتوسّعا أو اعتدالا، فالتكليف على قدر الحال. وهذا ما نصّت عليه الآيات الآتية:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٤ الى ٧]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦»
(٢) إن شككتم في عدتهن.
(٣) انقضاء عدتهن بالوضع. [.....]
(٤) من وسعكم وطاقتكم.
(٥) تشاوروا في شأن إرضاع الطفل.
(٦) تعرضتم للإعسار.
أخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية.
النساء اللاتي أصبحن آيسات من مجيء الحيض لكبرهن، ببلوغهن مثلا سنّ الخامسة والخمسين أو الستين، عدتهن وعدة الصغيرات اللاتي لم يبلغن سن الحيض:
ثلاثة أشهر.
وعدة أصحاب الحمل (الحبالى) : بوضع الحمل، ولو بعد الطلاق أو الموت بساعة، في قول الجمهور، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لسبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد وضعها حملها بليال، بعد وفاة زوجها: بأن تتزوج، فتزوجت، أي عقدت زواجها وكان زوجها سعد ابن خولة قد توفي في حجة الوداع، ووضعت حملها قبل أربعة أشهر.
وقد نزلت هذه الآية كما ذكر ابن مسعود بعد آية عدة الوفاة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة: ٢/ ٢٣٤].
ومن يخف الله تعالى ويرهب عقابه، فيأتمر بما أمر الله، وينته عما نهى عنه، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة، وهذا تنويه بفضيلة التقوى.
ذلك، أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة: هو أمر الله الذي أمر به عباده، وأنزله إليهم في قرآنه، ومن يخف الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يمح
وحقوق المعتدة: هي السكنى والنفقة، فأسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم وسعتكم، ولو في غرفة من غرف الدار التي تسكنون فيها، ولا تلحقوا بهنّ ضررا في النفقة والسكنى، فتضطروهن إلى الخروج من المسكن، أو التنازل عن النفقة.
وإن كانت النساء أصحاب حمل (حبليات) فيجب عليكم بلا خلاف الإنفاق عليهن والسكنى حتى يضعن حملهن. وأوجب الحنفية السكنى والنفقة لكل مطلقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. ولم يوجب المالكية والشافعية للمطلقة ثلاثا إلا السكنى فقط دون النفقة، ومذهب الإمام أحمد: ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم وأحمد، حيث طلقها زوجها ثلاثا،
فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نفقة لك ولا سكنى».
وأُولاتِ أي ذوات، جمع ذات، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعمّ الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة، لحديث سبيعة المتقدم.
ويجب على الزوج دفع الأجرة على الرضاع، فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد الطلاق، فأعطوهن أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل، وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات في إرضاع الطفل، بحسب المعروف، أي بالمسامحة، من غير إضرار ولا مضارّة، وليأمر كل واحد صاحبه بخير.
وإن تضايقتم واختلفتم وأصابكم إعسار في شأن الإرضاع، فأبى الزوج إعطاء الأم الأجر الذي تريده، وأبت الأم إرضاعه إلا بما تريد من الأجر، فيستأجر الأب مرضعة أخرى، ترضع ولده.
ثم وعد الله تعالى بالإغناء، فسيجعل الله تعالى بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد من الله تعالى، ووعده حق لا خلف فيه، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، كما جاء في آية أخرى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) [الانشراح: ٩٤/ ٥- ٦].
وعيد المخالفين ووعد المؤمنين الطائعين
اقتضى بيان أحكام الطلاق والعدد وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى والوصية بالتقوى: إنذار المخالفين أمر الله ورسوله، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الماضية الذين كفروا وكذّبوا رسلهم، والتذكير بعظيم قدرة الله تعالى، وإحاطة علمه بكل شيء، تأكيدا للتحذير من مخالفة الأوامر بعد تبيان الأحكام الشرعية، وهذا موضح بالآيات الآتية:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦»
(٢) أعرضت، والعتو: ترك الائتمار والقبول.
(٣) شديدا منكرا عظيما.
(٤) عاقبته.
(٥) أصحاب العقول النّيّرة.
(٦) الذّكر: هو القرآن.
هذا وعيد لكل مخالف أمر الله تعالى، مكذب رسله، فكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله، ولم يقبلوا شرعه، وتكبروا وتمردوا، فحاسبها الله تعالى بأعمالها المعمولة في الدنيا ولم يغتفر لهم زلّة، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب، وعذب أهلها عذابا مؤلما منكرا، في الآخرة، وأما في الدنيا فعذبهم بالجوع والقحط والخسف ونحو ذلك. وعبّر بالماضي في قوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها عن المستقبل، للدلالة على التحقّق والوقوع، لوعيد الله.
وسبب العذاب: أن أولئك المعذبين لقوا عاقبة أمرهم وشؤم كفرهم، وكان مصيرهم الخسارة والهلاك والنكال في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وأعدّ الله لهم في الآخرة عذابا شديدا مؤلما، لكفرهم وتمرّدهم، وهو عذاب النار. فكان قوله تعالى: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً الظاهر أنه في الدنيا، بدليل قوله بعدئذ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً الذي يبين خسران عاقبتهم، هو عذاب الآخرة.
ثم ندب الله تعالى أولي العقول إلى التقوى تحذيرا، وأمرهم بها صراحة، وذكّرهم بما يوجب التقوى أو العمل الصالح بنحو دائم، فاتقوا الله يا أولي الألباب (العقول) من هذه الأمة. الذين صدّقوا بالله ورسله، وأسلموا لله تعالى، وانقادوا لعظمته وحكمه، واتّبعوا رسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله قد أنزل إليكم القرآن الكريم تذكرة دائمة، وأرسل لكم رسولا مذكّرا بهذا القرآن، فهو الترجمان الصادق، وهو الذي يبلّغكم وحي الله وشرعه، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة،
(٢) أمر الله وقضاؤه.
وقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا مختلف فيه، فقال قوم من المتأولين:
المراد بالاسمين القرآن، ورَسُولًا بمعنى رسالة. وقال آخرون: رسولا نعت أو كالنعت لقوله سبحانه: ذِكْراً أي ذكرا ذا رسول. وقال آخرون: المراد بهما جميعا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: ذا ذكر رسولا، والذكر: اسم من أسماء الرسول عليه الصّلاة والسّلام، وهذا هو الظاهر، لكن قال ابن عطية رحمه الله: وأبين الأقوال عندي معنى: أن يكون (الذّكر) القرآن، و (الرّسول) محمدا صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: بعث رسولا، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول، ونحا هذا المنحى السّدي.
ثمّ رغّب الله المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح ببيان الجزاء الحسن لهما، وهو أن من يصدّق بالله، ويعمل العمل الصالح، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه، يدخله الله جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدا على الدوام، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة. والرزق الحسن في الآية: رزق الجنة، لدوامه وتدفّقه.
ثم أورد الله ما يدلّ على عظيم قدرته وسعة علمه، وهو أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات السبع، والأرضين السبع، أي كونها سبعا مثل السماوات السبع، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه بين السماوات والأرض، وقد فعل ذلك لتعلموا كمال قدرة الله، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان، فاحذروا المخالفة، لأن الله مطّلع على كل شيء، واتّعظوا بمصائر الأمم السابقة، فإن الله تام العلم بأعمالكم كلها، وسيجازيكم عليها، والكل خاضع له سبحانه، وفي دائرة سلطانه، فيكون الله قادرا على إثابة الطائعين، وتعذيب العاصين والمخالفين لأمره.