ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البيهقي، والحاكم في جماعة آخرين عن أبي بن كعب: أن ناسًا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة في عِدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار، والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وذوات الحمل؟ فأنزل الله تعالى في سورة النساء الصغرى، ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ...﴾ الآية. وروي: أن قومًا، منهم: أبي بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ قالوا: يا رسول الله، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ...﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾؛ أي (١): إذا أردتم تطليق النساء المدخول بهن المعتدات بالأقراء، وعزمتم عليه بقرينة ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ مستقبلات ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ متوجهات إليها، وهي الحيض عند الحنفية. فاللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام، والمراد أن يطلقن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن. فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم على القرء الأول من أقرائها.. فقد طلقت مستقبلة لعدتها. والأقراء عند أبي حنيفة هي الحيض. وقال الجرجاني: واللام في قوله: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ بمعنى (في)؛ أي: طلقوهن في زمن استئناف عدتهن، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه، كما عليه الشافعي، فالأقراء عند الشافعي هي الأطهار، فإذا طلقوهن هكذا.. فقد طلقوهن في عدتهن.
والمعنى: إذا طلقت أنت وأمَّتك. وقيل: خصه بالنداء أولًا تشريفًا له ثم خاطبه مع أمَّته، أو: الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمَّته أسوته في ذلك. وفي "الكشاف ": خص النبي - ﷺ - بالنداء وعمم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان، افعلوا كيت وكيت، إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه لسان قومه، فكأنه هو وحده في حكم كلهم لصدورهم عن رأيه، كما قال البقلي: إذا خاطب السيد.. بأن شرفه على الجمهور: إذ جَمَعَ الجميع في اسمه. ففيه إشارة إلى سر الإتحاد.
وفي "كشف الأسرار": في هذا الخطاب أربعة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للرسول - ﷺ -، وذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، كما يخاطب الملوك بلفظ الجمع.
والثاني: أنه خطاب له، والمراد أمَّته.
والثالث: أن التقدير: يا أيها النبي والمؤمنون إذا طلقتم، فحذف لأن الحكم يدل عليه.
والرابع: معناه: يا أيها النبي قل للمؤمنين: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾، انتهى. يقول الفقير: هذا الأخير أنسب بالمقام، فيكون مثل قوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾، ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ لأن النبي - ﷺ -، وإن كان أصيلًا في المأمورات كما أن أمته أصيل في المنهيات؛ إلا أن الطلاق لما كان أبغض المباحات إلى الله تعالى.. كان الأولى أن يسند التطليق إلى أمته دونه - ﷺ - مع أنه - ﷺ - قد صدر منه التطليق، فإنه طلق حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - واحدة، فلما نزلت الآية.. راجعها، وكانت علَّامةً كثيرة الحديثِ قريبًا منزلتها من منزلة عائشة - رضي الله عنهما -: فقيل له - ﷺ -: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة، حكاه الطبري. وفي الحديث بيان فضل العلم وحفظ الحديث، ومحبة الصيام والقيام، وكرامة أهلهما عنده تعالى.
والعدة (١): مصدر عدّه يعده. وفي الحديث: سئل رسول الله - ﷺ - متى تكون القيامة؟ قال: "إذا تكاملت العدتان"؛ أي: عدة أهل الجنة وعدة أهل النار؛ أي: عددهم. وسمي الزمان الذي تتربص المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدة؛ لأنها تعد الأيام المضروبة عليها، وتنتظر أوان الفرج الموعود لها.
والمعنى (٢): أي أيها المؤمنون: إذا أردتم طلاق نسائكم.. فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه؛ حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن في زمان الحيض.. كان الطلاق طلاقًا بدعيًا حرامًا. والمراد بالنساء: المدخول بهن من ذوات الأقراء. أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذات الأشهر سيأتي حكمهن فيما بعد.
أخرج الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في آخرين عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله - ﷺ -، فتغيظ منه، ثم قال: "ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهير ثم تحيض ثم تطهير، فإن بدا له أن يطلقها.. فليطلقها قبل أن يمسا، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
والخلاصة: أن السنة في الطلاق: أن تطلق المرأة وهي طاهرة، دون أن يكون الرجل لامسها في هذا الطهر، أو أن يطلقها وهي حامل حملًا مستبينًا. ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقسامًا ثلاثة:
١ - طلاق سنة، وهو: أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملًا حملًا قد استبان.
(٢) المراغي.
٣ - طلاق لا هو سنة ولا بدعة، وهو: طلاق الصغيرة، والآيسة من الحيض، وغير المدخول بها. وقد روي عن إبراهيم النخعي: أن أصحاب رسول الله - ﷺ - كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وما كان أخس عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاقًا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة في طهر واحد. وعند الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سُنة، ولا بدعة، بل هو مباح.
والخلاصة: أن مالكًا يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده.
﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾؛ أي: واحفظوا عدة الأقراء بحفظ الوقت الذي وقع فيه الطلاق، وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل لا نقصان فيهن؛ أي: ثلاث حيض، كما عند أبي حنيفة؛ لأن الغرض من العدة استبراء الرحم، وكماله بالحيض الثلاث لا بالأطهار، كما يغسل الشيء ثلاث مرات لكمال الطهارة؛ أي: واحفظوا العدة واحفظوا الوقت الذي وقع في الطلاق، واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلا تطول على المرأة، واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.
والمخاطب بالإحصاء هم الأزواج لا الزوجات ولا المسلمون كما قيل، وإلا.. يلزم تفكيك الضمائر، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق، وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء؛ لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليها.
وقال أبو الليث: أمر الرجال بحفظ العدة: لأن في النساء غفلة، فربما لا
قالوا (١): وعلى الرجال في بعض المواضع العدة:
منها: أنه إذا كان للرجل أربع نسوة، فطلق إحداهن.. لا يحل له أن يتزوج بامرأة أخرى ما لم تنقض عدتها.
ومنها: أنه إذا كان له امرأة ولها أخت، فطلق امرأته.. لا يحل له أن يتزوج بأختها ما دامت في العدة.
ومنها: أنه إذا اشترى جارية.. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة.
ومنها: أنه إذا تزوج حربية.. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة.
ومنها: أنه إذا بلغ المرأةَ وفاةُ زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت، ثم جاء زوجها الأول.. فهي امرأتهن لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق، ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني، ووجوب العدة لا يتوقف على صحة النكاح إذا وقع الدخول، بل تجب العدة في صورة النكاح الفاسد أيضًا، على تقدير الدخول.
ومنها: أنه إذا تزوج امرأة وهي حائض.. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من حيضها.
ومنها: أنه إذا تزوج بامرأة نفساء.. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من نفاسها.
ومنها: إذا زنى بامرأة ثم تزوجها.. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن بإيقاع طلاق ثان بعد الرجعة، فالأمر بالتقوى متعلق بما قبله. والتقوى في الأصل (١): اتخاذ الوقاية، وهي ما يقي الإنسان مما يكرهه ويؤمل أن يحفظه ويحول بينه وبين ذلك المكروه؛ كالترس ونحوه، ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما يقي العبد بوعد الله ولطفه من قهره، ويكون سببًا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة، وللتقوى فضائل كثيرة ومراتب عديدة.
والمعنى: أي واخشوا الله ربكم ومالككم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن وفي القيام بما للمعتدات من الحقوق، وفي وصفه تعالى بالربوبية مبالغة في وجوب الامتثال لأمره لما في لفظ الرب من التربية التي هي الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.
ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾؛ أي: لا تخرجوا أيها الأزواج المعتدات ﴿مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾؛ أي: من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة؛ أي: لا تخرجوهن من مساكنكم عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن. وإنما أضيفت إليهن مع أنها لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن، مثل قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ وقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. وفي ذكر البيوت دون الدار إشارة إلى أن اللازم على الزوج في سكناهن ما تحصل المعيشة فيه؛ لأن الدار ما يشتمل على البيوت.
والمعنى: أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن، فيها قبل الطلاق غضبًا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن؛ لأن تلك السكنى حق الله تعالى، أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة؛ كانهدام المنزل، أو الحريق، أو السيل، أو خوف الفتنة في الدين.
ثم لما نهى الله سبحانه الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق فيها.. نهى الزوجات عن الخروج أيضًا، فقال: ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ المعتدات من بيوتهن
قلت: معنى الإخراج أي: لا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأن إذنهم لا أثر له في دفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهم إن أردن ذلك، انتهى. وقيل: المراد: لا يخرجن بأنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس، والأول أولى.
فإن خرجت المعتدة لغير ضرورة أو حاجة.. أثمت، فإن وقعت ضرورة؛ بأن خافت هدمًا أو حرقًا.. لها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارًا لا ليلًا، فإن خرجت ليلًا.. أثمت.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾؛ أي: بالزنا، فيخرجن لإقامة الحد عليهن ثم يعدن. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا، وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة بها. على من هو ساكن معها في ذلك البيت، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ: ﴿إلا أن يفحشن عليكم﴾ وقال بعضهم: ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ هنا بالكسر لازم؛ بمعنى: بيّن متبينة، كمبين من الإبانة؛ بمعنى: بين. والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وهو الزنا في هذا المقام، وقيل: البذاء - بالمد -. وهو: القول القبيح وإطالة اللسان، فإنه في حكم النشوز في إسقاط حقهن. فالمعنى: إلا أن يبذون عن الأزواج وأقاربهم، كالأب والأخ، فيحل حينئذٍ إخراجهن. وعن ابن عباس: هو كل معصية.
وهو استثناء من الأول: لا تخرجوهن في حال من الأحوال، إلا حال كونهن آتيات بفاحشة، أو من الثاني للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة. أي: لا يخرجن إلا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج. يعني: أن من خرجت.. أتت بفاحشة، كما يقال: لا تكذب إلا أن تكون فاسقًا، يعني: إن تكذب.. تكن فاسقًا.
﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ وأحكامه التي عينها لعباده. والحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر؛ أي: هذه الأمور التي بينتها لكم، من الطلاق للعدة، واحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وأن لا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة.. هي حدود الله وأحكامه التي حدّها لكم، فلا تتعدوها ولا تتجاوزوها.
ثم بيّن عاقبة تجاوز تلك الحدود، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾ أصله (١): يتعدى، فحذفت اللام بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، وهو من التعدي بمعنى التجاوز؛ أي: ومن يتجاوز ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾؛ أي: حدوده المذكورة وأحكامه، بأن أخل بشيء منها، والإظهار في مقام الإضمار لتهويل أمر التعدي، والأشعار بعلية الحكم في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ أي: أضر بها؛ أي: ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع وما أبيح له إلى ما لم يبح له.. فقد ظلم نفسه وأضر بها من حيث لا يدري.
ثم بيّن علة هذا الضرر، فقال: ﴿لَا تَدْرِي﴾ ولا تعلم أيها المرء. تعليل لمضمون الشرطية؛ أي: فإنك أيها المطلق المتعدِّي لا قدر ولا تعلم عاقبة أمرك وأمر المطلقة. ومفعول الدراية محذوت كما قدرنا. وجملة ﴿لَعَلَّ اللَّهَ...﴾ إلخ، مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها؛ لأن الجمهور لم يعدوا ﴿لَعَلَّ﴾ من المعلقات، كما في "السمين". و ﴿لَعَلَّ﴾ بمعنى: ﴿إنَّ﴾ الناصبة؛ أي: لا تدري ولا تعلم أيها المطلق المتعدي بإيقاع ثلاث طلقات عاقبة أمرك وأمر المطلقة، فإن الله سبحانه ربما ﴿يُحْدِثُ﴾ ويوجد في قلبك ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الذي فعلت من التعدي عليها وإيقاع ثلاث طلقات ﴿أَمْرًا﴾ يقتضي خلاف ما فعلته من التعدي، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا إليها، ولا يمكن تداركه برجعة أو استئناف نكاح، فإن القلوب بين
والمعنى: ومن يتعد حدود الله.. فقد أضر بنفسه؛ فإنك لا تدري أيها المطلق المتعدي بإيقاع الثلاث وبإخراجها من البيوت أن الله ربما يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت - من التعدي بإيقاع الثلاث - أمرًا يقتضي خلاف ما فعلت، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا، ولا يمكنك تدارك ما فعلت من التعدي فتندم.
وفي الآية دلالة (١) على كراهة التطليق ثلاثًا بمرة واحدة؛ لأن إحداث الرجعة لا يمكن بعد الثلاث، ففي إيقاع الثلاث عون للشيطان، وفي تركها رغم له، فإن الطلاق من أهم مقاصده، كما روى مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه - أي: جنوده وأعوانه من الشياطين - فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده الأعظم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت"؛ أي: نِعم المضل أنت، أو الشرير أنت. فيكون (نِعم) بكسر النون فعل مدح حذف المخصوص به، أو نَعَمْ أنت ذاك الذي يستحق الإكرام، فيكون بفتح النون حرف إيجاب.
والخلاصة (٢): أن من يتعد حدود الله.. فقد أساء إلى نفسه؛ فإنه لا يدري
(٢) المراغي.
تنبيه: الشريعة الإسلامية وإن أباحت الطلاق.. بغضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل؛ لبقاء رباط الزوجية الذي حببت فيه وجعلته من أجل النِّعم، فرغبت في إرسال حَكَم من أهله وحَكَم من أهلها قبل حدوث الطلاق؛ لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور، كما رغبت في أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات؛ لعل النفوس تصفو بعد الكدر والقلوب ترعوي عن غيها، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما، فتكون الفرصة مواتية ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا عليه.
روى أبو داود عن محارب بن دثار: أن رسول الله - ﷺ - قال: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق". وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق". وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يحب الذواقين ولا الذواقات"، وعن ثوبان: أن رسول الله - ﷺ - قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به.. حرم الله عليها رائحة الجنة" أخرجه أبو داود والترمذي.
٢ - ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ﴾؛ أي: شارفن وقاربن ﴿أَجَلَهُنَّ﴾؛ أي: آخر عدتهن وانقضاء أجلها ومدتها، وهي (١): مضي ثلاثة أقراء، ولو لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وذلك لأنه لا يمكن الرجعة بعد بلوغهن آخر العدة، فحمل البلوغ على المشارفة، كما قال في "المفردات": البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى القصد والمبتغى، مكانًا كان أو زمانًا، أو أمرًا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه؟ مثل: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ...﴾ إلخ، فإنه للمشارفة، فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل.. لا يصح للزوج مراجعتها وامساكها. والأجل: المدة المضروبة للشيء. وقرأ الجمهور: ﴿أَجَلَهُنَّ﴾ بالإفراد والضحاك وابن سيرين: ﴿أجالهن﴾ بالجمع.
ومعنى الآية (٣): فإذا قاربت العدة على الانتهاء، فإن شئتم.. فأمسكوهن وراجعوهن، مع الإحسان في الصحبة، وحسن العشرة، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة، وإن صممتم على المفارقة.. فلتكن بالمعروف، وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة، مع إيفاء ما لهن من حقوق لديكم؛ كمؤخر صداق وإعطاء متعة حسنة
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
ثم ذكر ما يحسن إذا أرادوا الرجعة، فقال: ﴿وَأَشْهِدُوا...﴾ إلخ؛ أي: وأشهدوا على الرجعة - إن اخترتموها - شاهدين من ذوي العدالة، حسمًا للنزاع فيما بعد، إذ ربما يموت الزوج فيدعي الورثة أن مورثهم لم يراجع؛ ليمنعوها ميراثها، ودفعًا للقيل والقال وتهمة الريبة، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضي عدتها وتنكح زوجًا غيره.
ثم خاطب الشهداء زجرًا لهم، فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾؛ أي: وأدوا - أيها الشهداء - الشهادة عند الحاجة إلى أدائها خالصة لله تعالى؛ وذلك بأن يؤدوها لله لا للمشهود له وعليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم، فلو شهد لغرض لا لله.. برىء بها من وبال كتم الشهادة، لكن لا يثاب عليها؛ لأن الأعمال بالنيات.
والحاصل (١): أن الشهادة أمانة، فلا بد من تأدية الأمانة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾. فلو كتمها فقد خان، والخيانة من الكبائر، دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾؛ أي: وأشهدوا على الحق إذا استشهدتم، وأدوا الشهادة على الصحة، إذ أنتم دعيتم إلى أدائها. وإنما حث على أداء الشهادة لما قد يكون فيه من العسر على الشهود؛ إذ ربما يؤدي ذلك إلى أن يترك الشاهد مهام أموره، ولما فيه من عسر لقاء الحاكم الذي تُؤدَّى الشهادة عنده، وقد يبعد المكان أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها.
وهذا (٢) أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقربًا إلى الله تعالى. وقيل: الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة؛ أي: الشهود عند الرجعة، فيكون قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ أمرًا بنفس الإشهاد، ويكون قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾ أمرًا بأن تكون خالصة لله.
(٢) الشوكاني.
والمعنى (٢): أي هذا الذي أمرتكم به وعرفتكم عنه، من أمر الطلاق والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ليعمل على نهجها وطريقتها.
ودلت الآية (٣) على أن للإنسان يومين: اليوم الأول وهو يوم الدنيا، واليوم الآخر وهو يوم الآخرة. واليوم عرفًا: زمان طلوع الشمس إلى غروبها، وشرعًا: زمان طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. وهذان المعنيان ليسا بمرادين هنا، وهو ظاهر، فيكون المراد مطلق الزمان، ليلًا كان أو نهارًا، طويلًا كان أو قصيرًا. وذلك الزمان إما محدود؛ وهو زمان الدنيا المراد باليوم الأول، أو غير محدود؛ وهو زمان الآخرة المراد باليوم الآخر الذي لا آخر له لتأخره عن يوم الدنيا.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتي لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله سبحانه فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ سبحانه في طلاق البدعة، فطلق للسنة ولم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط في الإشهاد وغيره من الأمور ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ مصدر ميمي؛ أي: خروجًا وخَلاصًا مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب. وقال بعضهم: هو عام؛ أي: ومن يتق الله في كل ما يأتي وما
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٣ - ﴿وَيَرْزُقْهُ﴾ بعد ذلك الجعل ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ ولا يظن. ﴿مِنْ﴾ ابتدائية متعلقة بـ ﴿يَرْزُقْهُ﴾؛ أي: من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، فيوفي المهر ويؤدي الحقوق ويعطي النفقات. قال في "عين المعاني": من حيث لا يرتقب من الظن، أو يعتد من الحساب.
والمعنى (١): أي ومن يخش الله، فلا يطلّق في الحيض حتى لا تطول عدتها، ولا يضار المعتدة، فلا يخرجها من مسكنها، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة.. يجعل الله له مخلصًا مما عسى أن يقع فيه من الغم، ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها.
والخلاصه: من اتقى الله.. جعل له مخلصًا من غمّ الدنيا وهم الآخرة، وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة. وفي الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادة في الدارين، وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى، إذ هو أبغض الحلال إلى الله؛ لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها، ولما في الاحتياط في العدة من المحافظة على الأنساب وهي من أجل مقاصد الدين، ومن ثم شدد في إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى. روي عن ابن مسعود: أنه قال: إن أجمع آية في القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾، وإن أكبر آية في القرآن فرجًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ في جميع أحواله، ويعتمد عليه في جميع أموره ﴿فَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَسْبُهُ﴾؛ أي: كافي المتوكل عليه في جميع أموره ومعطيه حوائجه حتى يقول: حسبي. أو: من وثق بالله فيما نابه.. كفاه ما أهمه. والتوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود، وقطع القلب عن كل علاقة، والتعلق بالله في جميع الأحوال. و ﴿حسبه﴾ بمعنى: محسب؛ أي: كاف.
فإن قلت: إذا كان حكم الله في الرزق لا يتغير، فما معنى التوكل؟
قلت: معناه: أن المتوكل يكون فارغ القلب ساكن الجأش غير كاره لحكم الله، فلهذا كان التوكل محمودًا.
والمعنى (٢): أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه.. كفاه ما أهمه في دنياه ودينه، والمراد بذلك: أن العبد يأخذ في الأسباب التي جعلها من سننه في هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، كتوكل الزارع بعد إلقاء الحب في الأرض. وكان السلف يقولون: اتّجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم.. كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلًا في جماعة جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك. وليس المراد أن يلقي الأمور على عواهنها ويترك السعي والعمل ويفوض الأمر إلى الله، فما بهذا أمر الدين؛ بدليل قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقوله - ﷺ -: "اعقلها وتوكل" إلى نحو ذلك مما هو مستفيض في الكتاب والسنة.
وروي عن ابن عباس: أنه ركب خلف رسول الله - ﷺ - يومًا، فقال له رسول الله - ﷺ -: "يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت.. فاسأل الله، وإذا استعنت.. فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة
(٢) المراغي.
ثم ذكر السبب في وجوب التوكل عليه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ بالإضافة؛ أي: منفذ أمره ومتم مراده، وممضي قضائه في خلقه، فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بالغ﴾ بالتنوين، ﴿أمرَه﴾ بالنصب.
وقرأ حفص والمفضل، وأبان، وجبلة وابن أبي عبلة، وجماعة عن أبي عمرو، ويعقوب، وابن مصرف، وزيد بن علي بالإضافة.
وقرأ ابن أبي عبلة أيضًا، وداود بن أبي هند، وعصمة عن أبي عمرو: ﴿بالغ أمرُه﴾ بتنوين ﴿بالغٌ﴾ ورفع ﴿أمرُه﴾ على أنه فاعل بالغ أو على أن ﴿أمره﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿بالغ﴾ خبر مقدم، وقال الفراء في توجيه هذه القراءة: أي أمره بالغ.
والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر، لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب. وعلى القراءة الثالثة: أن الله نافذ أمره لا يرده شيء.
وقرأ المفضل ﴿بالغًا﴾ بالنصب على الحال، ويكون خبر ﴿إنَّ﴾ قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بإن الجزئين، كقوله:
إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ وَلْتَكُنْ | خُطَاكَ خِفَافًا إِنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا |
والمعنى: أي إن الله سبحانه وتعالى منفذ أحكامه في خلقه بما يشاء، وقد جعل لكل شيء مقدارًا ووقتًا، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شيء مما كنت تؤمل وترجو، فالأمور مرهونة بأوقاتها ومقدرة بمقادير خاصة، كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾.
وقال القاشاني: معنى الآية (١): ومن يتوكل على الله بقطع النظر عن الوسائط والانقطاع إليه من الوسائل.. فهو كافيه يوصل إليه ما قدر له، وشوق إليه ما قسم لأجله من أنصبة الدنيا والآخرة، إن الله يبلغ ما أراد من أمره لا مانع له ولا عائق، فمن تيقن ذلك.. ما خاف أحدًا ولا رجا، وفوض أمره إليه ونجا، وقد عين الله لكل أمر حدًّا معينًا، ووقتًا معينًا في الأزل، لا يزيد بسعي ساع ولا ينتقص بمنع مانع وتقصير مقصر، ولا يتأخر عن وقته ولا يتقدم عليه، والمتيقن لهذا الشاهد له متوكل بالحقيقة، انتهى.
٤ - ﴿وَاللَّائِي﴾ من الموصولات، جمع: التي؛ أي: واللاتي ﴿يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ لكبرهن ويأسهن؛ أي: انقطع رجاؤها من رؤية الدم لبلوغها سن اليأس. والمحيض (٢): اسم أو مصدر، ومنه: الحوض؛ لأن الماء يسيل إليه. والحيضة: المرة. وفي الشرع: دم ينفضه رحم امرأة بالغة لا داء بها ولا إياس لها. و ﴿مِنَ﴾ لابتداء الغاية، متعلقة بالفعل قبلها. حال كونها ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ وزوجاتكم اللاتي دخلتم بهن. و ﴿مِن﴾ للتبيين، متعلقة بمحذوف. ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾؛ أي: شككتم في عدتهن، وأشكل عليكم حكمهن لانقطاع دمهن بكبر السن، وجهلتم كيف عدتهن. والمراد بالشك: الجهل، وقيد به لموافقة الواقع، فلا مفهوم له، بل عدتها ما ذكر سواء علموا أو جهلوا، لكن الواقع في نفس الأمران السائلين عن عدة الآيسة كانوا جاهلين بقدرها، فالآية مخرجة على سبب. اهـ "شيخنا". ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُر﴾ فقوله: ﴿وَاللَّائِي﴾ مبتدأ، خبره قوله: ﴿فَعِدَّتُهُنَّ﴾، وقوله: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ اعتراض، وجواب الشرط محذوف تقديره: أي إن ارتبتم فيها.. فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، كذا قالوا. والأشهر: جمع شهر، وهو مدة معروفة مشهورة بهلال الهلال، أو باعتبار
(٢) روح البيان.
وقال أبو حيان: والظاهر: أن قوله: ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ يشمل من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لها حيض ألبتة، وهو موجود في النساء، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض. ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به، ولم تحض.. فقيل: هذه تعتد بسنة، انتهى.
ووضع (٢) السجاوندي الطاء الدالة على الوقف المطلق على وضعه وقانونه في ﴿لَمْ يَحِضْنَ﴾ لانقطاعه عما بعده، وكان الظاهر أن يضع الميم الدالة على الوقف اللازم؛ لأن المتبادر الاتصال الموهم معنى فاسدًا. لعله نظر إلى ظهور عدم حمل التي لم تحض لصغرها؟
والمعنى: أي واللائي بلغن سن اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن؛ بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها.. فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذا الصغار اللائي لم يحضن إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها.. فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا.
﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ اسم جمع، واحدتها ذات؛ بمعنى: صاحبة، والأحمال جمع حَمْلَ - بالفتح -، وهو الولد في البطن؛ أي: ذوات الأحمال من النساء والحبالى منهن ﴿أَجَلُهُنَّ﴾؛ أي: منتهى عدتهن ﴿أَنْ يَضَعْنَ﴾ ويلدن ﴿حَمْلَهُنَّ﴾؛ أي: جنينهن سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن. فلو ولدت (٣) المرأة
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ سبحانه في شأن أحكامه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾؛ أي: يسهل عليه أمره، يوفقه للخمر، ويعصمه من المعاصي والشر بسبب التقوى. فـ ﴿مَنْ﴾ للبيان، قدم على المبين للفواصل، أو بمعنى: في. وقال الضحاك: من يتق الله فليطلّق للسنة، يجعل له من أمره يسرًا في الرجعة.
وحاصل معنى الآية (١): أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهن، سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن، كما روي عن عمر وابنه: فقد أخرج مالك، والشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عمر: أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: إذا وضعت حملها.. فقد حلت، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن.. حلت.
وهكذا روي عن ابن مسعود: فقد أخرج عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه: أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء الصغرى ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ...﴾ الآية، نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شرًا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها.. فأجلها أن تضع حملها.
وروي: أن سبيعية بنت الحارث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حَجة الوداع وهي حامل، فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يومًا، فاختضبت، واكتحلت، وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي - ﷺ -
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ...﴾ الخ؛ أي: ومن يخف الله ويرهبه فيؤدي فرائضه ويجتنب نواهيه.. يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجًا، وينزله طريق الهدى في كل ما يعرض له من المشكلات، فإن في قلب المؤمن نورًا يهديه إلى حلِّ عويصات الأمور. وفي الآية الماء إلى فضيلة التقوى في أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض المرء فيهما.
٥ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأحكام. وإفراد (١) الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه ما بعده، لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خعصوصية المخاطبين. ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: حكمه الشرعي ﴿أَنْزَلَهُ﴾ من اللوح المحفوظ ﴿إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: إلى جانبكم. وقال أبو الليث: أنزله في القرآن على نبيكم لتستعدوا للعمل به، فإياكم ومخالفته.
والمعني: أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السابقة في الطلاق والسكنى والعدة هو أمر الله الذي أمركم به، وأنزله إليكم لتأتمروا به وتعملوا وفق نهجه.
ثم كرر الأمر بالتقوى؛ لأنها ملاك الأمر وعماده في الدنيا والآخرة فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ بالمحافظة على أحكامه ﴿يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾؛ أي: يسترها لرضاه عنه باتقائه، وربما يبدلها حسنات. ﴿وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ بالمضاعفة، وهو الجنة. قال بعضهم: يعطيه أجرًا عظيمًا أَيَّ أجرٍ كان، ولذلك نُكِّرَ، فالتنكير للتعيم المنبىء عن التعميم.
والمعنى: أي ومن يخف الله فيؤد فرائضه ويجتنب نواهيه.. يمسح عنه ذنوبه، كما وعد ذلك في كتابه: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَيُعْظِمْ﴾ بالياء مضارع أعظم، وقرأ الأعمش: ﴿نعظم﴾ بالنون، خروجًا من الغيبة إلى التكلم، وقرأ ابن مقسم بالياء والتشديد، مضارع عظم مشددًا.
(٢) البحر المحيط.
٦ - وقوله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾: كلام مستأنف (١) وقع جوابًا لسؤال مقدر نشأ مما قبله من الحث على التقوى، كانه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾؛ أي: بعض مكان سكناكم. والخطاب للمؤمنين المطلقين. ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾؛ أي: من وسعكم وطاقتكم؛ أي: مما تطيقونه. قال الفراء: فإن كان موسعًا عليه.. وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرًا.. فعلى قدر ذلك. قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك، فأسكنها فيه، انتهى.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ عطف بيان لقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ وتفسير له.
وفي "عين المعاني": و ﴿مِنْ﴾ لتبيين الجنس لما في ﴿حَيْثُ﴾ من الإبهام، انتهى. واعترض عليه أبو حيان: بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل، إنما عهد ذلك في البدل، فالوجه جعله بدلًا.
قال صاحب "اللباب": إن كانت الدار التي طلقها فيها ملكه.. يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت الدار بإجارة.. فعليه الأجرة، وإن كانت عارية فرجع المعير.. فعليه أن يكتري لها دارًا تسكنها. قال في "كشف الأسرار": وأما المعتدة من وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق.. فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملًا، انتهى. وقد اختلف (٢) أهل العلم في المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، وذهب أحمد وإسحاق، وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق، قاله الشوكاني.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ بضم الواو. وقرأ الحسن، والأعرج وابن
(٢) فتح القدير.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: أي أسكنوا مطلقات نسائكم في الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب حجرتكم.. فأسكنوها فيها. وإنما أمر الرجال بذلك لأن السكنى نوع من النفقة، وهي واجبة على الأزواج.
ثم نهى عن مضارة المطلقات في السكنى، فقال: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾؛ أي: ولا تقصدوا أيها الأزواج إدخال الضرر عليهن في السكنى بأي وجه كان. فالمفاعلة هنا ليست على بابها. ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن معهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، وتلجئوهن إلى الخروج.
والمعنى: ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى، بشغل المكان أو بإسكان غيرهن معهن ممن لا يحببن السكنى معه؛ لتلجئوهن إلى الخروج من مساكنهن. وفيه حث على المروءة والمرحمة، ودلالة على رعاية الحق السابق حتى يتيسر لها التدارك في أمر المعيشة من تزوج آخر أو غيره.
ثم بين نفقة الحوامل، فقال: ﴿وَإِنْ كُنَّ﴾؛ أي: المطلقات ﴿أُولَاتِ حَمْلٍ﴾؛ أي: ذوات حبل؛ أي: حاملات. و ﴿أُولَاتِ﴾ منصوب بالكسر؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. وتنوين ﴿حَمْلٍ﴾ للتعميم؛ يعني أيّ حمل كان قريب الوضع أو بعيده. ﴿فَأَنْفِقُوا﴾ أيها المطلِّقون ﴿عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: على المطلقات الحوامل ﴿حَتَّى يَضَعْنَ﴾ ويلدن ﴿حَمْلَهُنَّ﴾ وحبلهن، فيخرجن من العدة، وتخلصوا من كلفة الإحصاء، ويحل لهن تزوج غيركم إن شئن؛ لأنه بالوضع تنقضي العدة. وهذا حكم المطلَّقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية.. فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملًا.
واعلم (١): أن البائن بالطلاق إذا كانت حاملًا لها النفقة والسكنى بالاتفاق، وأما البائن الحائل؛ أي: غير الحامل.. فتستحق النفقة والسكنى عند أبي حنيفة كالحامل، إلى أن تنقضي عدتها بالحيض أو بالأشهر، لما روي عن عمر - رضي الله
فإن قلت: فإذا كانت كل مطلقة عند أبي حنيفة يجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ...﴾ إلخ؟
قلت: فائدته: أن مدة الحمل ربما طالت، فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل، فنفى ذلك الوهم، كما في "الكشاف".
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ﴾ هؤلاء المطلقات ﴿لَكُمْ﴾ أيها الأزواج ولدًا من غيرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية وعلاقة النكاح. وإنما قال: ﴿لَكُمْ﴾ ولم يقل أولادكم لما قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾. فالأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرًا، إلا إذا تطوعت الأم برضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ على الإرضاع إن طلبن أو رَجوْنَ، فإن حكمهن في ذلك حكم الأظآر حينئذ. قال في "اللباب": فإن طلقها.. فلا يجب عليها الإرضاع إلا أن لا يقبل الولد ثدي غيرها،
﴿وَأْتَمِرُوا﴾ أيها الآباء والأمهات، وتشاوروا فيما ﴿بَيْنَكُمْ﴾ في شؤون أولادكم، وافعلوا فيهم ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾؛ أي: بما هو معروف وجميل وإحسان ومتعارف بين الناس غير منكر عندهم؛ أي: ليأمر بعضكم بعضًا بجميل في الإرضاع والأجر، وهو المسامحة. ولا يكن من الأب مماكسة، ولا من الأم معاسرة؛ لأنه ولدهما معًا، وهما شريكان فيه في وجوب الإشفاق عليه.
ومعنى الآية (١): أي فإن أرضعن لكم وهن طوالق قد بِنَّ بانقضاء عدتهن.. فلهن حينئذ أن يرضعن الأولاد، ولهن أن يمتنعن، فإن أرضعن.. فلهن أجر المثل، ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه. وفي هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات. ﴿وَأْتَمِرُوا﴾؛ أي: وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات في شؤون الأولاد بما هو أصلح لهم في أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة في سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مماكسة في الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولاد هم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.
ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين في الإنفاق، فقال: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ﴾ أيها الآباء والأمهات؛ أي: تضايقتم وتشاكستم وتنازعتم في أجر الرضاع؛ كأن أبى الأب أن يعطي الأم أجرة إرضاعها، وأبت الأم أن ترضع الولد مجانًا ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾ الولد ﴿لَهُ﴾؛ أي: لوالده امرأة ﴿أُخْرَى﴾ فليس له إكراه الأم على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعة غير أمه. وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم. والضمير (٢) في ﴿لَهُ﴾ للأب كما في "الكشاف" وهو الموافق لقوله: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾، أو للصبي والولد كما في "الجلالين" وفيه: أن الظاهر حينئذ أن يقول: فسترضعه، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة، كما تقول لمن
(٢) روح البيان.
قال سعدي المفتي: ولا يخلو من معاتبة الأب أيضًا، حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إن ضويقت الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك.. فلا بد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضًا تطلب الأجر في الأغلب الأكثر، والأم أشفق وأحن، فهي به أولى.
وبما ذكرنا يظهر كمال الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما خص الأم بالعتاب؛ لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضن به في العرف، ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال، وهو مضنون به في العادة، فهي إذًا أجدر باللوم وأحق بالعتب.
والمعنى: أي وإن ضيق بعضكم على بعض؛ بأن شاحَّ الأب في الأجر، أو اشتطت الأم في طلب زيادة لا يؤديها أمثاله.. فليحضر الأب مرضعًا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية.. فهي أحق بولدها. وهذا إذا قبل الولد ثدي موضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدي الأم.. وجب عليها الإرضاع بالأجر.
٧ - ثم بين مقدار الإنفاق بقوله: ﴿لِيُنْفِقْ﴾ والد ﴿ذُو سَعَةٍ﴾ ويسار على المرضع التي طلقت منه ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾ متعلق بـ ﴿ينفق﴾؛ أي: بقدر سعته وغناه، وفيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم وغناهم. ﴿وَمَنْ قُدِرَ﴾ وضيق ﴿عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ وقوته ﴿فَلْيُنْفِقْ﴾ على المرضعة ﴿مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾؛ أي: مما أعطاه الله من الرزق ليس عليه غير ذلك وإن قلّ.
والمعنى: لينفق كل من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه ويطيقه ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ سبحانه تعالى ﴿نَفْسًا﴾ معسرة ﴿إِلَّا مَا آتَاهَا﴾؛ أي: إلا بإنفاق ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير أن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق.
والمعنى: أي لا يكلف الله سبحانه أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم والنكاح إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني.
﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ﴾ سبحانه عاجلًا وآجلًا؛ إذ ليس في (السين) دلالة على تعين
أي: فلينتظر المعسر اليسر وفرج الله، فإن الانتظار عبادة، وفيه: تطييب لقلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، ووعد لفقراء الأزواج لا لفقراء ذلك الوقت عمومًا، كما جوزه الزمخشري، حيث قال: وعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه، ولم يقصروا.
ولو عجز عن نفقة زوجته يفرق بينهما، قاله أبو هريرة، والحسن، وابن المسيب، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة: لا يفرق بينهما.
وقرأ الجمهور: ﴿لِيُنْفِقْ﴾ بلام الأمر. وحكى أبو معاذ: (لينفَقَ) بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره: شرعنا ذلك لينفقَ. وقرأ الجمهور: ﴿قُدِرَ﴾ مخففًا، وابن أبي عبلة مشدد الدال.
٨ - ولما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام.. حذر من مخالفتها، وذكر عتو قوم خالفوا أوامره، فحل بهم عذابه، فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾؛ أي: وكثير من أهل قرية. و ﴿كأين﴾ بمعنى (كم) الخبرية في كونها للتكثير. والقرية: اسم لموضع اجتماع الناس، فهو من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم وصفه بصفته، أو من المجاز العقلي والإسناد إلى المكان. وهذه الآية تحذير للناس عن المخالفة في الأحكام المذكورة وتأكيد لإيجابها عليهم.
﴿عَتَتْ﴾ أي: استكبرت وأعرضت ﴿عَنْ﴾ امتثال ﴿أَمْرِ رَبِّهَا﴾ وإجابة دعوة ﴿وَرُسُلِهِ﴾ تعالى بسبب التجاوز عن الحد في التكبر والعناد. والعتو: الاستكبار ومجاوزة الحد فيه. والعتو لا يتعدى بـ ﴿عَنْ﴾، وإنما عُدِّيَ بها لتضمينه معنى الإعراض؛ كأنه قيل: أعرضت عن أمر ربها وأمر رسل ربها، بسبب التجاوز عن الحد في التكبر والعناد.
وقال مقاتل: حاسبنا أهلها في الدنيا على عملها بالأخذ الشديد، وعذبناها في الآخرة عذابًا منكرًا فظيعًا بجهثم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: عذبنا أهلها في الدنيا عذابًا نكرًا، بالجوع والقحط والسيف، والخسف والمسخ، وحاسبناها في الآخرة حسابًا شديدًا على أعمالهم.
٩ - ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾؛ أي: ضرر كفرها وثقل عقوبة معاصيها؛ أي: أحسته إحساس الذائق المطعوم. ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ هائلًا لا خسر وراءه؛ أي: وكان عاقبة أمرها هلاكًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة فتجارتهم خسارة لا ربح فيها، لتضييعهم بضاعة العمر والصحة والفراغ يصرفها في المخالفات. والخسر وكذا الخسران في الأصل: انتقاص رأس المال، كما سيأتي.
١٠ - ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ مع ذلك في الآخرة. ولام ﴿لَهُمْ﴾ لام التخصيص، لا لام النفع، كما في قولهم: دعا له، في مقابلة دعا عليه. ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وهو عذاب
ومعنى الآية (٢): أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، وسنحاسبهم حسابًا عسيرًا، ونستقصي عليهم ذنوبهم، ونناقشهم على النقير والقطمير، ونعذبهم عذابًا نكرًا في الآخرة. وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق، كما في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾، ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم، فقال: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا...﴾ إلخ؛ أي: وستجني ثمار ما غرست أيديها، ولا يجنى من الشر إلا الشر، كما جاء في أمثالهم: لا تجني من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقادر قدره. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾؛ أي: هيأ الله لهم العذاب المرتقب؛ لتماديهم في طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاؤوا به من عند ربهم.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم، فقالوا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فخافوا عقاب الله سبحانه ﴿يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: يا أصحاب العقول الراجحة والفطر السليمة ﴿الَّذِينَ﴾ لرجاحة عقولهم وسلامة فطرهم ﴿آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. والموصول في محل النصب نعت للمنادى، أو عطف بيان له، أو منصوب بتقدير: أعني.
(٢) المراغي.
١١ - وأرسل إليهم ﴿رَسُولًا﴾ هو محمد - ﷺ - فهو منصوب بفعل مقدر على حد:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وقرىء: ﴿رسولٌ﴾ بالرفع؛ أي: هو رسول، على إضمار هو. وجملة قوله: ﴿يَتْلُو﴾؛ أي: يقرأ ويعرض ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا أولي الألباب، أو يا أيها المؤمنون، أو ﴿عليهم﴾ على الالتفات السابق صفة ﴿رَسُولًا﴾. ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: القرآن ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾ بالكسر؛ أي: حال كون تلك الآيات مبينات ومظهرات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. أو بالفتح؛ أي: واضحات لا خفاء في معانيها عند الأهالي، أو لا مرية في إعجازها عند البلغاء المنصفين.
وقرأ الجمهور (٢): بالفتح على صيغة اسم المفعول، وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل. ورجح القراءة الأولى أبو حاتم وأبو عبيد؛ لقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾.
وإنما يتلوها، أو أنزله ﴿لِيُخْرِجَ﴾ الرسولُ، ويخَلِّصَ، أو الله تعالى. قال بعضهم: اللام متعلقة بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ لا بقوله: ﴿يَتْلُو﴾؛ لأن ﴿يَتْلُو﴾ مذكور على سبيل التبعية دون ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزاله، إلا.. فإخراج الموصوفين بالإيمان من الكفر لا يمكن إذ لا كفر فيهم حتى يخرجوا منه؛ أي: ليحصل لهم الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح بإخراجهم عما كانوا عليه. أو ليخرج الله من علم أو قدر أنه سيؤمن، أو أطلق عليهم ﴿آمَنُوا﴾ باعتبار ما آل أمرهم إليه. ولم يقل (٣): ليخرجكم إظهارًا لشرف الإيمان والعمل والصالح، وبيانًا لسبب الإخراج وحثًا على التحقق بهما. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾؛ أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان؛ ومن الشبهات إلى الدلائل والبراهين، ومن الغفلة إلى اليقظة.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
ثم بيّن جزاء الإيمان والعمل الصالح، فقال: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ﴾ ويصدق ﴿بِاللَّهِ﴾ سبحانه وعظيم قدرته وبديع حكمته ﴿وَيَعْمَلْ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾؛ أي: خالصًا من الرياء والتصنع والغرض. وهو استئناف لبيان شرف الإيمان والعمل الصالح، ونهاية أمر من اتصف بهما، تنشيطًا وترغيبًا لغير أهلهما لهما؛ أي: ومن يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت قصورها أو أشجارها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة المذكورة في سورة محمد - ﷺ -.
وقرأ الجمهور: ﴿يُدْخِلْهُ﴾ بالتحتية. وقرأ نافع، وابن عامر بالنون.
حال كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾؛ أي: مقيمين ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات إقامة مؤبدة دائمين فيها. وهو حال من مفعول ﴿يُدْخِلْهُ﴾. والجمع (٢) باعتبار معنى ﴿مَنْ﴾ كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. ﴿أَبَدًا﴾ ظرف زمان بمعنى دائمًا غير منقطع، فيكون تأكيدًا للخلود؛ لئلا يتوهم أن المراد به المكث الطويل المنقطع آخرًا.
وجملة قوله: ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في ﴿خَالِدِينَ﴾ على التداخل، أو من مفعول ﴿يُدْخِلْهُ﴾ على الترادف. ومعنى ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾؛ أي: وسع له رزقه في الجنة. وفيه (٣) معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله سبحانه المؤمنين من الثواب؛ لأن الجملة الخبرية إذا لم يحصل منها فائدة الخبر ولا لازمها.. تحمل على التعجب إذا اقتضاه المقام؛ كأنه قيل: ما أحسن
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي ومن يصدق بوحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته، ويعمل بطاعته.. ويدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون ولا يخرجون منها، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
١٢ - ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ الاسم الشريف مبتدأ، والموصول مع صلته خبره؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة هو الإله القادر، الذي خلق وأبدع على غير مثال سابق سبع طبقات علوية. ونكرها للتعظيم المفيد لكمال قدرة صانعها، أو لكفايته في المقصود من إثبات قدرته الكاملة على وفق حكمته الشاملة، وذلك يحصل بإخبار خلقه تعالى سبع سموات من غير نظر إلى التعيين. ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ﴾؛ أي: وخلق عن الأرض ﴿مِثْلَهُنَّ﴾؛ أي: مثل السموات السبع في العدد والطباق، فقوله: ﴿مِثْلَهُنَّ﴾ منصوب بفعل مضمر بعد الواو، دل عليه الناصب لسبع سموات، وليس بمعطوف على سبع سموات؛ لأنه يستلزم الفصل بين حرف العطف - وهو الواو - وبين المعطوف بالجار والمجرور، وصرح سيبويه وأبو علي بكراهيته في غير موضع الضرورة.
واختلف في كيفية طبقات الأرض (٢): قال القرطبي في "تفسيره": واختلف فيهن على قولين:
أحدهما - وهو قول الجمهور -: أنها سبع أرضين طباقًا، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
(٢) البحر المحيط.
والقول الأول أصح؛ لأن الأخبار الصحيحة دالة عليه:
منها: ما في "صحيح مسلم" عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي - ﷺ - يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا.. فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين... " إلى آخر كلامه.
ومنها: ما روي عن ابن مسعود: أن النبي - ﷺ - قال: "ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة".
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" من طريق أبى الضحى عن ابن عباس في قوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا. قال أبو حيان: وهذا حديث لا شك في وضعه.
وقرأ الجمهور: ﴿مِثْلَهُنَّ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أو على تقدير فعل؛ أي: وخلق من الأرض مثلهن. وقرأ عاصم في رواية وعصمة عن أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والجار والمجرور قبله خبره.
﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ﴾؛ أي: أمر الله، واللام عوض عن المضاف إليه. وقرأ الجمهور (١): ﴿يَتَنَزَّلُ﴾ مضارع تنزل وبرفع ﴿الْأَمْرُ﴾. وقرأ عيسى وأبو عمر في رواية ﴿ينزِّل﴾ مضارع نزل مشددًا، ﴿الأمر﴾ بالنصب، والفاعل ﴿الله﴾ سبحانه. وقرىء: ﴿ينزِل﴾ مخففًا، مضارع أنزل. ﴿بَيْنَهُنَّ﴾؛ أي: بين السموات السبع والأرضين السبع.
والظاهر (٢): أن الجملة استئنافية للإخبار عن شمول جريان حكمه ونفوذ أمره في العلويات والسفليات كلها، فالأمر عند الأكثرين القضاء والقدر، بمعنى: يجري
(٢) روح البيان.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو يدبر فيهن من عجيب تدبيره. فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق المخلوقات على اختلاف ألوانها وهيئاتها، فينقلهم من حالٍ إلى حال.
والمعنى: يجري أمر الله وقضاؤه وقدره، وينفذ حكمه فيهن، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع وحكمته في إقامة نظمها بحسب العدل والمصلحة.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ متعلق (١) بـ ﴿خَلَقَ﴾، أو بـ ﴿يَتَنَزَّلُ﴾ أو بما يعمهما؛ أي: فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر.. قادر على كل شيء، ومنه البعث للحساب والجزاء، فتطيعوا أمره وتقبلوا حكمه، وتستعدوا لكسب السعادة والخلاص من الشقاوة. واللام لام المصلحة والحكمة؛ لأن فعله تعالى نجال عن العبث، لا لام الغرض، فإنه تعالى منزه عن الغرض؛ إذ هو لمن له الاحتياج، والله تعالى غني عن العالمين. ﴿و﴾ لتعلموا ﴿أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ كما أحاط به قدرة؛ لاستحالة صدور الأفعال المذكورة ممن ليس كذلك. والإحاطة: العلم البالغ، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنًا ما كان. ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزل الأمر؛ أي: أوحى ذلك وبينه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تشاهدونها والتي تتلقونها من الوحي من عجائب المصنوعات أنه لا يخرج عن علمه وقدرته شيء ما أصلًا. وقوله: ﴿عِلْمًا﴾ نصب على التمييز المحول عن الفاعل؛ أي: ﴿أَحَاطَ﴾ علمه بكل شيء كما في "عين المعاني أو على المصدر المؤكد لأن ﴿أَحَاطَ﴾ بمعنى علم؛ أي: وأن الله قد علم كل شيء علمًا، كما في "فتح الرحمن" أو على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أحاط إحاطة علمًا، كما في "الشوكاني".
وقرأ الجمهور (١): ﴿لِتَعْلَمُوا﴾ بتاء الخطاب. وقرىء بياء الغيبة.
والمعنى (٢): ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، فهو على ما يشاء قدير. ولتعلموا أن الله بكل شيء من خلقه محيط علمًا، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم؛ فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو قادر على ذلك ومحيط بأعمالكم، لا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت واكتسبت.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾ أو بدل منه، أو عطف بيان، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إذا﴾ ﴿طلقوهن﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿لِعدَّتِهِنَّ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعول ﴿طلقوهن﴾؛ أي: حالة كونهن مستأنفات ومستقبلات لعدتهن ومتوجهات إليها. وهذا أولى ما قيل في بيان متعلق اللام. وقيل: متعلق بـ ﴿طلقوهن﴾ على تقدير مضاف؛ أي: طلقوهن لاستقبال عدتهن ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول، معطوف على ﴿طلقوهن﴾، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف أيضًا على ﴿طلقوهن﴾، ﴿رَبَّكُمْ﴾: بدل من الجلالة، ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾: فعل مضارع، وفاعل،
(٢) المراغي.
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾.
﴿وَتِلْكَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿تلك﴾: مبتدأ، ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يَتَعَدَّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: مفعول به. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب (مَنْ) الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها.
﴿لَا﴾ نافية، ﴿تَدْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المطلق، ومفعول الدراية محذوف تقديره: لا تدري أيها المطلق عاقبة أمرك وأمرها. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون جواب الشرط. ﴿لَعَلَّ﴾: حرف نصب بمعنى ﴿إن﴾ مجرد عن معنى الترجي، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿يُحْدِثُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿يُحْدِثُ﴾، ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿يُحْدِثُ﴾ في محل
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢)﴾.
﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته من أحكام الطلاق، وأردت بيان حكم الرجعة، فأقول لك: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿بَلَغْنَ﴾: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة فاعل، ﴿أَجَلَهُنَّ﴾: مفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط، ﴿أمسكوهن﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ الشرطية، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾: حال من ضمير الإناث، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حال كون إمساكهن متلبسًا بمعروف. ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾: معطوف على ﴿أَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، ﴿وَأَشْهِدُوا﴾: فعل أمر، وفاعل، معطوف على ﴿أَمْسِكُوهُنَّ﴾، ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾: مفعول به منصوب بالياء؛ لأنه تثنية ذا؛ بمعنى صاحب ﴿مِنْكُمْ﴾: صفة لـ ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾؛ أي: كائنين منكم. ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به معطوف على ﴿أشهدوا﴾، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَأَقِيمُوا﴾؛ أي: لوجه الله.
﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُوعَظُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿يُوعَظُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُوعَظُ﴾، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُوعَظُ﴾، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسما ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ وجملة ﴿يُؤْمِنُ﴾ في محل نصب خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾، ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة، ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لـ ﴿الْيَوْمِ﴾، ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو اعتراضية، ﴿مَن﴾: اسم شرط في
﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)﴾.
﴿وَيَرْزُقْهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ﴿يَجْعَلْ﴾، ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: متعلق بـ ﴿يرزق﴾، وجملة ﴿لَا يَحْتَسِبُ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾، ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿يَتَوَكَّلْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَوَكَّلْ﴾، ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿هو﴾: مبتدأ، ﴿حَسْبُهُ﴾: خبر. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿بالغُ﴾: خبره، ﴿أَمْرِهِ﴾: مضاف إليه أو مفعول به، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له إن كانت بمعنى التصيير، ﴿قَدْرًا﴾: مفعول ثان له. والجملة الفعلية في محل الرفع بدل من ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ على كونه خبر لـ ﴿إنّ﴾.
﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤)﴾.
﴿وَاللَّائِي﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللَّائِي﴾: اسم موصول للجمع المؤنث في محل الرفع مبتدأ، ﴿يَئِسْنَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿مِنَ الْمَحِيضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَئِسْنَ﴾، ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾: حال من فاعل ﴿يَئِسْنَ﴾، ﴿إِنِ﴾: حرف شرط،
﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥)﴾.
﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلَهُ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَهُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾. ﴿وَمَنْ يَتَّقِ﴾: اسم شرط وفعله، ﴿اللَّهَ﴾ لفظ الجلالة مفعول و ﴿يُكَفِّرْ﴾: جوابه، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿عنه﴾: متعلق بـ ﴿يُكَفِّرْ﴾، ﴿سَيِّئَاتِهِ﴾: مفعول به. ﴿وَيُعْظِمْ﴾: معطوف على جواب الشرط، ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿يعظم﴾، ﴿أَجْرًا﴾: مفعول به.
﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ متعلق بـ ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾، وجملة ﴿سَكَنْتُمْ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾، ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾: بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُضَارُّوهُنَّ﴾: فعل مضارع، وفاعل، ومفعول به، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾. ﴿لِتُضَيِّقُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تضيقوا﴾: فعل مضارع، ومفعول تضيقوا محذوف، تقديره: لتضيقوا المساكن أو النفقة. وجملة ﴿تضيقوا﴾ صلة أن المضمرة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتضيحق المساكن، ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُضَارُّوهُنَّ﴾.
﴿أَوَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿كُنَّ﴾: فعل ماض ناقص في محل جزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع اسمها، ﴿أُولَاتِ حَمْلٍ﴾: خبرها. ﴿فَأَنْفِقُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية، ﴿أَنْفِقُوا﴾: فعل أمر في محل جزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، على كونه جوابًا لها، مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿عَليهِن﴾: متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾، والجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يَضَعْنَ﴾: فعل مضارع في محل النصب بأن المضمرة بعد حتى، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، ﴿حَمْلَهُنَّ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، بمعنى إلى، تقديره: إلى وضعهن حملهن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾، ﴿فإنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم إنفاقهن، وأردتم بيان حكم إرضاع الولد.. فأقول لكم: إن أرضعن لكم. ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿أَرْضَعْنَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث فاعل، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْضَعْنَ﴾ ومفعول ﴿أَرْضَعْنَ﴾
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧)﴾.
﴿لِيُنْفِقْ﴾: ﴿اللام﴾: لام أمر، ﴿ينفق﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ﴿ذُو سَعَةٍ﴾: فاعل مرفوع بالواو؛ لأنه من الأسماء الستة، ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ينفق﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿قُدِرَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿قُدِرَ﴾، ﴿رِزْقُهُ﴾: نائب فاعل، ﴿فَلْيُنْفِقْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية، و ﴿اللام﴾: لام الأمر، ﴿ينفق﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ الشرطية ﴿مما﴾: متعلق بـ ﴿ينفق﴾ وجملة ﴿ينفق﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿لْيُنْفِقْ﴾ لاشتمالها على الطلب أيضًا، وجملة ﴿آتَاهُ اللَّهُ﴾: صفة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا﴾: فعل وفاعل، ومفعول أول، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿ما﴾: مفعول به ثان لـ ﴿يُكَلِّفُ﴾، وجملة ﴿آتَاهَا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة،
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿كأين﴾: اسم مبهم، بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ، ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: تمييز لـ ﴿كأين﴾، و ﴿مِنْ﴾ زائدة، وجملة ﴿عَتَتْ﴾؛ أي: أعرضت، خبرها. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿عَنْ أَمْرِ﴾: متعلق بـ ﴿عَتَتْ﴾، ﴿رَبِّهَا﴾: مضاف إليه، ﴿وَرُسُلِهِ﴾: معطوف على ﴿رَبِّهَا﴾، ﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿حاسبناها﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، ﴿حِسَابًا﴾: مفعول مطلق، ﴿شَدِيدًا﴾: صفة ﴿حِسَابًا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿عَتَتْ﴾، ﴿وَعَذَّبْنَاهَا﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿حاسبناها﴾، ﴿عَذَابًا﴾: مفعول مطلق، ﴿نُكْرًا﴾: صفة ﴿عَذَابًا﴾. ﴿فَذَاقَتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ذاقت﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿قرية﴾، معطوف على ﴿عذبنا﴾، ﴿وَبَالَ أَمْرِهَا﴾: مفعول به، ومضاف إليه، ﴿وَكَانَ﴾: فعل ماض ناقص، معطوف على ﴿ذاقت﴾، ﴿عَاقِبَةُ أَمْرِهَا﴾: اسمها، ﴿خُسْرًا﴾: خبرها.
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠)﴾.
﴿أَعَدَّ اللَّهُ﴾: فعل، وفاعل، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾، ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به، ﴿شَدِيدًا﴾: صفة ﴿عَذَابًا﴾، والجملة مفسرة لما تقدم تأكيدًا للوعيد، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من استئصال الأمم الماضية بمخالفة أمر ربها ورسله، وأردتم بيان ما هو النجاة لكم من ذلك.. فأقول لكم: اتقوا الله. ﴿اتقوا الله﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿يَا أُولِي﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أولي﴾:
﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (١١)﴾.
﴿رَسُولًا﴾: منصوب بفعل مقدر لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أرسل إليكم رسولًا، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على ﴿أَنْزَلَ﴾، على حد قوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا | حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا |
وجملة ﴿يَتْلُو﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَتْلُو﴾، ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول به، ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾: حال من ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾، ﴿لِيُخْرِجَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يخرج﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإخراجه الذين آمنوا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ أوبـ ﴿يَتْلُو﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل نصب مفعول به. وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿يخرج﴾، ﴿إِلَى النُّور﴾: متعلق بـ ﴿يخرج﴾ أيضًا، ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة جواب الشرط أو الجواب، ﴿يُؤْمِنْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿يُدْخِلْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به ثان على السعة لـ ﴿يُدْخِلْهُ﴾، ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ﴾
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿خَلَقَ﴾: صلة الموصول ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ مفعول به ومضاف إليه، ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ﴾: حال من ﴿مِثْلَهُنَّ﴾، و ﴿مِثْلَهُنَّ﴾: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: وخلق من الأرض مثلهن، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾. ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَيْنَهُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَنَزَّلُ﴾، ﴿لِتَعْلَمُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تعلموا﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَتَنَزَّلُ﴾. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، و ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر ﴿أنَّ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تعلموا﴾، تقديره: لتعلموا قدرة الله على كل شيء، و ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿أحَاطَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿أحَاطَ﴾، ﴿عِلْمًا﴾: تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ ﴿أَحَاطَ﴾، وجملة ﴿أَحَاطَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ معطوفة على جملة أنَّ الأولى على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تعلموا، تقديره: وإحاطة علمه تعالى بكل شيء.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾: قال في "المفردات". أصل الطلاق: التخلية من وثاق. ويقال: أطلقت البعير من عقاله، وطلقته، وهو طالق وطلق بلا قيد، ومنه: استعير: طلقت المرأة، إذا خليتها، فهي طالق؛ أي: مخلاة من حبالة النكاح. والطلاق اسم
﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ العدة مصدر عده يعده، كشده يشده شدة، وشرعًا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها غالبًا؛ أي: مستقبلين لعدتهن؛ بأن تطلقوهن في طهر لا قربان فيه. ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾؛ أي: اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل. وأصل الإحصاء: العد بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديمًا، ثم استعمل في مطلق العد والضبط، وأصله: أحصيوا، بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت الياء حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم ضمت الصاد لمناسبة الواو.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾: والتقوى في الأصل: اتخاذ الوقاية، وهي: ما يقي الإنسان مما يكرهه، ويؤمل أن يحفظه، ويحول بينه وبين ذلك المكروه، كالترس ونحوه، ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما يقي العبد بوعد الله ولطفه من قره، ويكون سببًا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة.
﴿بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ - بالكسر - اسم فاعل، من بين اللازم، بمعنى تبين. والفاحشة: كل ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وهو الزنا في هذا المقام. وقيل: البذاء على الأسماء، أو على الزوج، أو الخروج قبل انقضاء العدة.
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾؛ أي: شرائعه التي أمر بفعلها، ونهى عن ارتكابها، وهي جمع حدّ، والحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾: ﴿يَتَعَدَّ﴾: فيه إعلال بالحذف، فحذف حرف العلة عنه للجازم. ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾؛ أي: أضر بها.
﴿يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ والحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن، عرضًا كان ذلك أو جوهرًا، وإحداثه: إيجاده. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ وفي "المفردات": البلوغ والبلاغ: الانتاء إلى أقصى القصد والمبتغى، مكانًا كان أو زمانًا أو أمرًا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه مثل: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ...﴾ إلخ كما مرّ. ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾ والعدالة: هي الاجتناب عن الكبائر كلها، وعدم
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ التوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود. ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾؛ أي: محسبه؛ أي: كافيه. ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾: ﴿يَئِسْنَ﴾ فعل ماض، والنون للنسوة. واليأس: القنوط ضد الرجاء، يقال: يئس من مراده ييأس يأسًا، وفي معناه: أيس يأيس يأسًا، وإياسًا لا أيسًا، وفاعلهما: آيس، لا يائس، يقال: امرأة آيس، إذا كان يأسها من الحيض دون آيسة؛ لأن التاء إنما زيدت في المؤنث، إذا استعملت الكلمة للمذكر أيضًا فرقًا بينهما، وإذا لم تستعمل له.. فأي حاجة إلى الزيادة؟ ومن ذلك يقال: امرأة حائض وطالق وحامل، بلا تاء إذا كان حملها من الولد، وأما إذا كان يأسها وحملها من غير الحيض وحمل الولد.. يقال: آيسة وحاملة. وفي "المغرب": اليأس: انقطاع الرجاء، وأما الإياس في مصدر الآيسة من الحيض.. فهو في الأصل: ائياس على وزن إفعال، حذفت منه الهمزة التي هي عين الكلمة تخفيفًا.
﴿الْمَحِيضِ﴾: الحيض: وهو في اللغة مصدر حاضت الأنثى، فهي حائض وحائضة؛ أي: خرج الدم من قُبلها، ويكون للأرنب والضبع والخفاش، كما ذكره الجاحظ. وفي "القاموس": حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، فهي حائض. والمحيض: مصدر ميمي بمعنى الحيض، على وزن مفعل بفتح الميم وكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد. ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ الهمزة فيه مبدلة من واو لظهور الواو في نسوة ونسوان. ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أصله: ارتيب، بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما سكن آخر الفعل عند الإسناد إلى ضمير الرفع المتحرك لالتقاء الساكنين.
﴿ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ والأشهر: جمع شهر، وهو مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، ما مرّ بسطه. ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾. ﴿وَأُولَاتُ﴾: اسم جمع لا واحد له من لفظه، واحدتها: ذات، بمعنى صاحبة. والأحمال: جمع حمل - بفتح الحاء - كصحب وأصحاب. وفي "المختار": الحمل - بالفتح -: ما كان في البطن أو على
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ الرضاع لغة: شرب اللبن من الضرع أو الثدي، وشرعًا: وصول لبن آدمية مخصوصة جوف طفل مخصوص على وجه مخصوص. ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ أصله: فائتيوهن، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت الياء حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة واو الجماعة، وأبدلت الهمزة الثانية ألفًا، وحذفت نون الرفع. ﴿وَأْتَمِرُوا﴾ الأصل: ائتمروا، بهمزة وصل قبل الهمزة فاء الفعل من ائتمر الخماسي، فلما دخلت الواو استغني بها عن همزة الوصل للتمكن من النطق عند وجودها. وقرىء: ﴿وَأْتَمِرُوا﴾ بإبدال الهمزة ألفًا حرف مدّ للواو، فالائتمار بمعنى التآمر، كاشتوار بمعنى التشاور، يقال: ائتمر القوم وتآمروا، إذا أمر بعضهم بعضًا. يعني: الافتعال قد يكون بمعنى التفاعل، وهذا منه.
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ﴾ قوله: ﴿سَعَةٍ﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: وسعة، حذفت الفاء من المصدر حملًا له على المضارع، فوزنه (عَلَةْ) ظهرت الفتحة على السين عين الكلمة؛ لأن الفعل من باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها، والتاء عوض عن الواو المحذوفة. ﴿مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ أصله: أءتيه، بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد للأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وكذلك القول في قوله: ﴿آتَاهُ﴾. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾. و ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ كـ (كم) الخبرية في كونها للتكثير. والقرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. والمعنى: وكثير من أهل قرية. ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ قال في "المفردات": العتو: النبو عن الطاعة. وفي "القاموس": عتا يعتو عتوًا، وعتيًا وعتيًّا: استكبر وجاوز الحد، فهو عاتٍ وعتيٌّ. انتهى. وأصل عتا: عتو، بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما اتصلت
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾: و ﴿ذاقت﴾ فيه إعلال بالقلب أصله: ذوقت، قلبت الواو لتحركها بعد فتح. ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ والخسر والخسران: انتقاص رأس المال، وينسب إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته. ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾، أصله: أعدد، نقلت حركة الدال الأولى إلى العين فسكنت فأدغمت في الدال الثانية.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تخصيص النبي - ﷺ - بالنداء، وتعميم المؤمنين بالخطاب في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه؛ لأنه إمام أمّته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان، افعلوا كيت وكيت.
ومنها: تغليب المخاطب على الغائب في قوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ إظهارًا لشرفه واستتباعه إياهم؛ لأن المعنى إذا طلقت أنت وأمَّتك.
ومنها: وصفه تعالى بصفة ربوبيته لهم في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ تأكيدًا للأمر بالتقوى، ومبالغة في إيجاب الاتقاء.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾.
ومنها: إضافة البيوت إليهن في قوله: ﴿مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ مع أنها للأزواج؛ لتأكيد النهي عن الإخراج ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ بعد قوله: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلية الحكم في قوله: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾. ونكتته مشافهة المتعدي بالخطاب لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي، والظاهر: أن يكون بطريق الغيبة: (لا يدري).
ومنها: مجاز المشارفة في قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾؛ أي: قاربن انقضاء
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾. وكذلك في قوله: ﴿بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذت في قوله: ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ حذف منه الخبر؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ للتعظيم؛ أي: أجرًا عظيمًا، وللتعميم المنبىء عن التتميم؛ أي: أيّ أجر كان.
ومنها: تكرار الأمر بالتقوى ثلاث مرات اهتمامًا بشان التقوى في أحكام الطلاق.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ يراد بها أهل القرية، فهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحال، علاقته المحلية.
ومنها: إيراد صفة الرب في قوله: ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ توبيخًا لهم وتجهيلًا لما أن عصيان العبيد لربهم ومولاهم طغيان وجهل بشأن سيدهم، ومالكهم، وبمرتبة أنفسهم ودوام احتياجهم إليه في التربية.
ومنها: تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب في قوله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ﴾.
ومنها: في قوله: ﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾. استعارتان تصريحيتان. استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإيمان. حيث شبه الكفر بالظلمات ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به، وشبه الإيمان بالنور وحذف المشبه وأبقى المشبه به أيضًا.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ من الغيبة إلى الخطاب، وكان مقتضى السياق: قد أنزل الله إليهم ذكرًا، وكذا في قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾. أكد الخلود فيها بقوله: ﴿أَبَدًا﴾ لئلا يتوهم أن المراد به: المكث الطويل المنقطع آخرًا.
ومنها: التعجب في قوله: ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾؛ لأن فيه معنى التعجب
والله أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية، ومناهج دينية، وفتاوى إسلامية وضعت لإقامة العدل بين الخلق، وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام، وقبضة من فيضه، وزهرة من شجرته، فكم بين السموات والأرض من قضاء في هذا الفضاء الواسع الصامت لفظًا، الناطق معنى؟ وكم من حكم بيننا نرى أثره، ولا نسمع النطق به؟ ترى الشمس محكومًا عليها أن تطلع من مواضع في المشرق وتغيبَ في مواضع في المغرب لا تجوزها، وترى الرياح محكومًا عليها والسحب مأمورة والأنهار جارية، والمزارع قد حكم عليها أن تكون في زمن خاص وأمكنة خاصة، فليس للقطن أن ينبت في البلاد الباردة، ولا أن يثمر في زمن الشتاء، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس وسعادتهم في دنياهم.
فانظر أيّ الحكمين أكثر منفعة، أَحُكْمٌ لمصلحةِ أشخاصٍ متنازعِينَ، أَم حكمٌ بسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة التحريم مدنية، قال القرطبي في قول الجميع: نزلت بعد الحجرات، وتسمى (١) سورة النبي.
وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة التحريم بالمدينة، ولفظ ابن مردويه: سورة المحرم. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾.
وآيها (٢): اثنتا عشرة آية، وكلماتها: مئتان وسبع وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وستون حرفًا.
ومناسبتا لما قبلها (٣):
١ - أن سورة الطلاق في حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي - ﷺ -؛ تعليمًا لأمته أن يحذروا أمر النساء وأن يعاملوهن بسياسة اللين، كما عاملهن النبي - ﷺ - بذلك، وأن ينصحوهن نصحًا مؤثرًا.
٢ - أن كلتيهما افتتحت بخطاب النبي - ﷺ -.
٣ - أن تلك في خصام نساء الأمة، وهذه في خصام نساء النبي - ﷺ -، وقد أفردن بالذكر تعظيمًا لمكانتهن.
وقال أبو حيان (٤): والمناسبة بينها وبين السورة التي قبلها: أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين.. ذكر هنا ما جرى من زوجات رسول الله - ﷺ -.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة التحريم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
فضلها: وذكر في فضلها أنه - ﷺ - قال: "من قرأ سورة التحريم.. آتاه الله توبة نصوحًا". وفيه مقال.
قال العلماء (١): والصحيح في سبب نزولها: أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير "الصحيحين"، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح. قال النسائي: إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غايةً.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)﴾.المناسبة
تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. وأما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) بعض نساء النبي - ﷺ - بالتوبة عما فرطن من
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّار...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات له.. أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون في سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وذكر أن جزاءهم في الآخرة جهنم وبئس المقيل والماوى.
قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح، بالندم على ما فات وعدم العودة فيما هو آت، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة عليهم في القول والعمل.. ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقَبول الإيمان وفي جوهرها صفاء ونقاء.. فلا يجدي فيها الغلظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، فقد كانتا في بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام، كذلك إذا كان جوهر النفس نقيًا خالصًا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئًا، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين، ولا عتو الظالمين، وضرب لذلك مثلًا بامرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها، وتعتقد ألوهيته هو، فأبت وجاهدت في الله حق جهاد حتى لاقت ربها، وهي آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل في قلبها من نور الإيمان،
وفي هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبي - ﷺ - لا تجديهم نفعًا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم، وجعلهم كالأجانب بل أبعد منهم، كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما، كما تضمن التعريض بأُمَّي المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - ﷺ - كان يمكث عند زينب بنة جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها رسول الله - ﷺ - فلتقل: إني لأجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: "لا بأس، شربت عسلًا عند زينب بنة جحش، ولن أعود له" فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ إلى ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ لعائشة وحفصة ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ لقوله: "بل شربت عسلًا". الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه مختصرًا ومطولًا.
وأخرج النسائي كما في "تفسير ابن كثير"، والحاكم، وقال: على شرط مسلم، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حرامًا، فأنزل الله هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ...﴾ إلى آخر الآية.
وفي "مجمع الزوائد" عن ابن عباس قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ قال: نزلت هذه في سريته، رواه البزار بالإسنادين والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح غير بشر بن آدم، وهو ثقة.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين
قوله تعالى: ﴿عسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. قال: لما اعتزل نبي الله - ﷺ - نساءه قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله - ﷺ - نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقلت: لأعلمن ذلك اليوم، قال: فدخلت عليَّ عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر! أقد بلغ شأنك أن تؤذي رسول الله - ﷺ -؟ فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك، قال: فدخلتُ على حفصة فقلت لها: يا حفصة؛ أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - ﷺ -؟ والله لقد علمت أن رسول الله - ﷺ - لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله - ﷺ -، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله - ﷺ -؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت فإذا أنا برباحٍ - غلام رسول الله - ﷺ - قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المشربة مدلٍّ رجليه على نقير من خشب - وهو جذع يرقى عليه رسول الله - ﷺ - وينحدر - فناديت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئًا، ثم قلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -، فإني أظن أن رسول الله - ﷺ - ظنّ أني إنما جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله - ﷺ - بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي، فأومأ إليَّ أن إرقه، فدخلت على رسول الله - ﷺ - وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - ﷺ - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظًا، وإذا أفيق معلق، قال: فابتدرت عيناي، قال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب" قلت: يا نبي الله! وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جسمك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله - ﷺ - وصفوته وهذه خزانتك، فقال: