تفسير سورة الليل

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الليل من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الليل
تفاوت أعمال الناس وثوابهم
الناس في مركب الحياة أو سفينة الحياة متفاوتون في هممهم وعزائمهم، وأعمالهم وتصرفاتهم، بسبب اختلاف عقولهم وأفكارهم وأهوائهم، وتفاوتهم في التزام الدين والأخلاق والآداب والأنظمة، أو تجاوز ذلك، وكل واحد في مسيرة الحياة يرصد لنفسه ما يلقاه في مستقبل عمره، وفي آخرته، فأما أهل الاستقامة: فهم موفقون للخصال الحسنة، ويكونون في جنان الخلد، وأما أهل الانحراف والضلال: فهم أيضا موفقون للخصال السيئة، ويكونون بسبب جناياتهم وسيئاتهم في نيران الجحيم، ولا يغنيهم عن سوء عملهم أهل ولا مال ولا صديق حميم، كما يتبين في سورة الليل المكية في قول الجمهور:
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ٢١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠»
(١) يستر بظلامه.
(٢) ظهر وانكشف. [.....]
(٣) مختلف نوعا وجزاء، جمع شتيت.
(٤) بالخصلة الحسنى أو الجنة والثواب.
(٥) للخطة الفضلى الميسرة المؤدية للخير.
(٦) للخطة أو الحالة السيئة المؤدية للشر.
(٧) هوى وسقط.
(٨) تتوهج وتتقد، أي تتلظى.
(٩) لا يحترق بها.
(١٠) ملازم الشقاء.
2886
«١» «٢» [الليل: ٩٢/ ١- ٢١].
أقسم- أنا الله- بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر ووضح، لإزالة الظلمة الليلية، وبالذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم. ولم يذكر مفعول (يغشى) للعلم به ضمنا، أو يغشى النهار. وقوله وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) ما: إما بمعنى الذي، أو مصدرية أي بخلق الجنسين.
وجواب القسم: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) السعي: العمل، أي إن جميع أعمال العباد مختلفة متباعدة، ومفترقة جدا، فالفاعل: إما خير أو شر، والعمل: إما هدى أو ضلال، وإما مرضي لله يوجب الجنة أو سخط يوجب النار. والساعون قسمان:
فأما من أعطى في وجوه الخير وفي سبيل الله، واتقى محارم الله المنهي عنها، وصدق بالجنة أو الأجر والثواب مجملا، فسنأخذ بيده ونسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك، والحسنى: الجنة، واليسرى: الحال الحسنة المرضية في الدنيا والآخرة.
نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) السورة.
(١) يبعد عنها التقي.
(٢) تجازى وتكافأ.
2887
وأما من بخل بماله، ولم يبذل منه شيئا في سبيل الله وطريق الخير، واستغنى عن الله ورحمته بزعمه، واكتفى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وزهد في الأجر والثواب وفضل الله، وكذّب بالجزاء الأخروي، فسنأخذ بيده ونسهله للحال الصعبة التي لا تنتج إلا شرا، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، حتى يصل إلى النار، ولا يفيده شيئا ماله الذي بخل به، إذا وقع في جهنم، وإذا جمع في الكلام بين الخير والشر، جاء التيسير فيهما معا. والإعطاء والبخل المذكوران: إنما هما في المال. وقوله: إِذا تَرَدَّى معناه سقط في جهنم، أي من حافاتها.
قال ابن عباس: آية وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) نزلت في أمية بن خلف.
ثم أخبر الله تعالى عما قام به من الهداية والبيان، فقال: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٣) أي إن علينا أن نبين طريق الخير والشر، وسبيل الهداية والضلال، والحلال والحرام، بوساطة الأنبياء وإنزال الكتب المشتملة على تشريع الأحكام، وتبيان العقائد والعبادات، والأخلاق، وأنظمة العقود والمعاملات.
وإن لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا، نتصرف به كيف نشاء، فمن أراد شيئا من الدارين، فليطلبه منا، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم، بل نفع ذلك وضرره عائدان عليكم أيها الناس.
ثم حذر الله تعالى من سلوك طريق النار بقوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) أي لقد خوّفتكم نارا عظيمة، تتوهج وتلتهب وتوقد، لا يحترق بنارها إلا الشقي الكافر الذي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، ومنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أنزل الله عليه الفرقان، والمراد بقوله: لا يَصْلاها.. أي لا يصلاها صلي خلود.
2888
وسيباعد عن النار كل تقي اتقى الكفر والعصيان اتقاء بالغا، وهو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير، طالبا أن يكون عند الله زكيا، متطهرا نقيا من الذنوب، من غير رياء ولا سمعة. ولا خلاف في أن المراد بالأتقى: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقوله تعالى: يَتَزَكَّى معناه: يتطهر ويتنمّى. وظاهر هذا الإتيان: أنه في المندوبات.
وتراه لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه، يكافئه عليها. أو ليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أنزلت إليه، بل هو صادر عنه ابتداء، ابتغاء وجه الله تعالى، العلي الأعلى، وتحقيق رضوان الله ومثوبته، لا لمكافأة نعمة، وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.
وسبب نزول هذه الآية: أن قريشا قالوا- لما أعتق أبو بكر رضي الله عنه بلالا- كانت لبلال يد (معروف) عنده.
وقوله تعالى: إِلَّا ابْتِغاءَ.. مستثنى منقطع، والابتغاء: الطلب. وقوله:
وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١) وعد من الله تعالى لأبي بكر بالرضا عنه في الآخرة.
2889
Icon