ﰡ
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
الإعراب:
إِذا يَغْشى، إِذا تَجَلَّى إِذا في الموضعين: لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم.
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما: فيها ثلاثة أوجه كما في السورة السابقة.
وَما بَناها إما أن تكون مصدرية، أو بمعنى الذي وهو الأولى، أو بمعنى (من).
ويجوز الجر في الذكر والأنثى على البدل من ما.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ما: نافية.
البلاغة:
اللَّيْلِ والنَّهارِ بينهما طباق، وكذا بين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وبين (اليسرى، والعسرى) وبين صَدَّقَ وكَذَّبَ.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى بينهما مقابلة، والمقابلة والطباق من المحسنات البديعية.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى حذف المفعول لإفادة التعميم وإطالة التأمل.
يَغْشى يغطي كل شيء بظلامه. تَجَلَّى ظهر وانكشف. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق آدم وحواء وكل ذكر وأنثى في الإنسان والحيوان والنبات.
سَعْيَكُمْ عملكم أو مسعاكم. لَشَتَّى مختلف متفرق، جمع شتيت: وهو المتباعد عن غيره.
واختلاف المنهج والمسعى إما بالعمل للجنة بالطاعة، أو للنار بالمعصية.
أَعْطى بذل المال. وَاتَّقى التزم الأوامر وفعل الخير، واجتنب النواهي والشر.
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة أو الخصلة الحسنى- صفة تأنيث الأحسن، وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا اللَّه، والجنة والثواب، وكل فضيلة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون والتي تؤدي إلى الخير، وذلك في الدنيا والآخرة، كدخول الجنة.
بَخِلَ أمسك المال وشح به ولم يؤد حق اللَّه فيه. وَاسْتَغْنى عن ربه عز وجل وعن الثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى نهيئه للحالة السيئة في الدنيا والآخرة التي لا تنتج إلا شرا.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ لا يفيده ماله وغناه. إِذا تَرَدَّى هوى وسقط في النار أو في القبر.
سبب النزول:
نزول الآية (٥) :
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى..: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي اللَّه عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء، يقومون معك.
ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند اللَّه، فنزلت هذه الآيات فيه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. إلى آخر السورة.
نزول الآية (٨) :
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ: قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف.
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح، لزوال ظلمة الليل، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم، كقوله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ ٧٨/ ٨].
ولم يذكر مفعول يَغْشى للعلم به، وقيل: يغشى النهار، أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المحلوف عليه جواب القسم، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة، فمن فاعل خيرا، ومن فاعل شرا، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى، وبعضها يوجب الجنة، وبعضها يوجب النار.
ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠] وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة ٣٢/ ١٨] وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٤٥/ ٢١].
ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين، فقال:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير، واتقى محارم اللَّه التي نهى عنها، وصدق بموعود اللَّه الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة اللَّه.
ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا.
أخرج البخاري ومسلّم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكل؟
فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى.
وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
أقسم اللَّه عز وجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر، وبالذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء، فبعضهم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص، وبعضهم في هدى أو في ضلال، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في المعاصي، كما
ذكر الثعلبي من قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها».
الأول- من بذل ماله في سبيل اللَّه، وأعطى حق اللَّه عليه، واتقى المحارم والمنكرات، وصدّق بوعد اللَّه بالعوض على عطائه، فاللَّه يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته، ويرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا».
والثاني- من ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيرا، وكذلك بتعويض اللَّه، فاللَّه يسهل طريقه للشر، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح، حتى يصعب عليه فعلها.
قال العلماء: ثبت بهذه الآية: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ.. وبقوله تعالى:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة ٢/ ٣] وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة ٢/ ٢٧٤] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها، والجواد: هو الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل: هو الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا، فهو الجواد، وكل من استحق ذما أو عقابا، فهو البخيل، والمسرف المذموم، وهو من المبذّرين الذين جعلهم اللَّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم «١».
ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٢ الى ٢١]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
الإعراب:
يَتَزَكَّى بدل من يُؤْتِي أو حال من فاعله.
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ابْتِغاءَ منصوب لأنه استثناء منقطع، وهو قول أكثر النحويين لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة، أي لكن ابتغاء.
البلاغة:
الْأَشْقَى والْأَتْقَى بينهما طباق.
لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى سجع رصين غير متكلف.
المفردات اللغوية:
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى علينا الإرشاد إلى الحق، بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي للَّه الآخرة والدنيا، نعطي ما نشاء لمن نشاء، فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ، ولا يضرنا ترك الاهتداء. فَأَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم. تَلَظَّى تتلظى أي تتوقد وتتلهب. لا يَصْلاها لا يدخلها ولا يحترق بها إلى الأبد. إِلَّا الْأَشْقَى الشقي الكافر كأبي جهل وأمية بن خلف، أما الفاسق وإن دخلها فلا يلزمها.
كَذَّبَ كذب النبي فيما جاء به. وَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان والطاعة لربه.
وَسَيُجَنَّبُهَا يبعد عنها. الْأَتْقَى التقي الذي اتقى الكفر والمعاصي. يَتَزَكَّى يتطهر بأن يخرجه للَّه تعالى، لا رياء ولا سمعة، فيكون زاكيا عند اللَّه. تُجْزى تكافأ وتجازى.
إِلَّا لكن فعل ذلك. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي طلب ثواب اللَّه. وَلَسَوْفَ يَرْضى بما يعطاه من الثواب في الجنة. والآية تشمل كل من فعل مثل هذا، فيبعد عن النار ويثاب.
نزول الآية (١٧) :
وَسَيُجَنَّبُهَا..: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في اللَّه، وفيه نزلت: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة.
نزول الآية (١٩) :
وَما لِأَحَدٍ..:
روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالا لما أسلّم، ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان عبدا لعبد اللَّه بن جدعان، فشكا إليه المشركون ما فعل، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحد فمرّ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ينجيك أحد أحد. ثم أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر: أن بلالا يعذّب في اللَّه، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب، فابتاعه به.
فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل اللَّه تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «١».
وأخرج البزار عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى.. إلى آخرها، في أبي بكر الصديق.
المناسبة:
بعد أن عرّف اللَّه تعالى أن سعي الناس شتى في العواقب، وبيّن ما للمحسن من اليسرى وما للمسيء من العسرى، أخبر أنه قد قام بما عليه من البيان والدلالة، والترغيب والترهيب، والإرشاد والهداية، وأعلم أنه مالك الدنيا
ثم أنذر الناس جميعا بعذاب النار، وأبان من يصلاها ويحترق بها، ومن يبعد عنها ويسلّم من عذابها، وقد أعذر من أنذر.
التفسير والبيان:
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، والحلال من الحرام، والحق من الباطل، والخير من الشر، من طريق الأنبياء وإنزال الكتب التي فيها تشريع الأحكام، وتبيان العقائد والعبادات والأخلاق وأنظمة المعاملات.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا، نتصرف به كيف نشاء، فمن أراد شيئا من الدارين، فليطلبه منا، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم أيها الناس. ومن ملك الدنيا والآخرة وكان هو المتصرف فيهما، كان هديه وشرعه هو الذي يجب اتباعه.
ثم حذر من سلوك طريق النار، فقال:
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي لقد خوفتكم نارا عظيمة شديدة تتوهج وتتلهب، لا يدخلها ويذوق حرها إلا الكافر الذي كذب الحق الذي جاءت به الرسل، وكذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما جاء به عن ربه، وأعرض عن الإيمان باللَّه واتباع شرائعه وأحكامه، وطاعة أوامره.
وأبان سبيل النجاة من النار، فقال:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي وسيباعد عن النار
وهذا الأتقى هو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير، طالبا أن يكون عند اللَّه زكيا متطهرا نقيا من الذنوب، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة، ولا مديحا وثناء من الناس.
روى الإمام أحمد والبخاري عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة: رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».
وروى مسلم الحديث بلفظ آخر: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يريد أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا».
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك للَّه معصية».
وروى أحمد أيضا والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول اللَّه؟
قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».
ثم ذكر صفة الإخلاص في العمل، فقال:
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَلَسَوْفَ يَرْضى» أي لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه، يكافئه عليها، وإنما يريد بذلك طلب رضوان اللَّه ومثوبته، لا لمكافأة نعمة، وتاللَّه لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- اقتضت حكمة اللَّه تعالى ورحمته بعباده أن يبين لهم كل ما هو رشاد وهداية موصلة إلى جنته ورضاه، وقد تعهد اللَّه عز وجل بذلك لبيان أحكام الحلال والحرام، والطاعة والمعصية.
٢- للَّه تعالى ملك الدنيا والآخرة، وهو المتصرف فيهما، ومانح ثوابهما، يعطي ما يشاء لمن يشاء، فمن طلبهما من غير مالكهما ومن غير المتصرف فيهما، فقد أخطأ الطريق. ولا يضره عصيان العاصين، ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم.
٣- حذر اللَّه تعالى بعد هذه البيانات الوافية من نار جهنم التي تتوهج وتتوقد، ولا يجد صلاها وهو حرها على الدوام إلا الشقي الكافر الذي كذّب نبي اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأعرض عن الإيمان.
٤- سيكون بعيدا من النار المتقي المعاصي، الخائف من عذاب اللَّه، وصفة الأتقى أو المتقي: هو الذي يعطي ماله طالبا أن يكون عند اللَّه زاكيا طاهرا متطهرا من الآثام والذنوب، لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، ولا مكافأة لأحد، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللَّه تعالى، قاصدا ثوابه ورضاه، ولسوف يرضى عن اللَّه، ويرضى اللَّه عنه، فيكون راضيا مرضيا. وهو وعد كريم من رب رحيم.
والأشقى: يشمل الكافر الجاحد باللَّه وبرسله وبما أنزل عليه، والمسلم الذي آمن في قلبه باللَّه ورسله، ولكنه يصر على بعض المعاصي والسيئات ولا يتوب منها، وهذا دليل على نقص تصديقه، بدليل
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه ابن ماجه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن».
والأول مخلّد في النار، والثاني معذب فيها على وفق مشيئة اللَّه، ثم يخرج إلى الجنة. وأما صفة الأتقى والأشقى فهو كلام وارد على سبيل المبالغة.
قال الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل:
الْأَشْقَى وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل:
الْأَتْقَى وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي اللَّه عنه «١».
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا من شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال:
الذي لا يعمل للَّه تعالى طاعة، ولا يترك للَّه تعالى معصية».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحىمكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها، حيث أقسم اللَّه بالضحى:
وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور، ولأنها نزلت في شأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة متصلة بسورة الليل من وجهين:
١- ختمت سورة الليل بوعد كريم من اللَّه تعالى بإرضاء الأتقى في الآخرة، وقال تعالى في سورة الضحى مؤكدا وعده لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
٢- ذكر تعالى في السورة السابقة: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على سيد الأتقياء في هذه السورة وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع سورة الضحى المكية الحديث عن شخصية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقد تضمنت أربعة مقاصد:
٢- بشّره ربه بالعطاء الجمّ في الآخرة ومنه الشفاعة العظمى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [٥].
٣- عددت نعم اللَّه على نبيه منذ صغره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى...
[الآيات: ٦- ٨].
٤- ختمت بإيصائه بفضائل ثلاث: العطف على اليتيم، وصلة المسكين، وشكر النعمة العظمى وهي النبوة وغيرها من هذه النعم المذكورة: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [٩- ١١].
فضلها:
ثبت عن الإمام الشافعي أنه يسن التكبير بأن يقول «اللَّه أكبر» أو «اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر» عقب قراءة سورة والضحى وخاتمة كل سورة بعدها.
وذكر القراء في مناسبة التكبير: أنه لما تأخر الوحي عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفتر مدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبّر فرحا وسرورا.
قال ابن كثير: ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.