تفسير سورة القصص

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

[الجزء الثالث]

تفسير سورة القصص
مناصرة المستضعفين
إن رسالة الإسلام الخالدة إنما ركزت في مخططها العام على تحقيق العدل ونشره، ومحاربة الظلم وسدنته، والحدّ من غطرسة أهل الاستكبار والبغي، والعمل على مناصرة المستضعفين المظلومين في كل مكان، وكان هذا التّوجه في العهد المكّي الأول، لذا افتتحت سورة القصص المكّية بإعلان جانب من قصة موسى مع فرعون، موسى عليه السّلام الذي يمثّل الحق والدفاع عن المستضعفين، وفرعون حاكم مصر الذي استعلى في أرضها، وأذل بعض طوائفها، ولكن قدرة الله وإرادته بالمرصاد، فأراد الله المنّ والإنعام على الذين استضعفوا، وجعلهم سادة أئمة، يرثون السلطة والملك، وأراد تعذيب المستكبرين فرعون وهامان وجنودهما، لبطشهم بالضعفاء، قال الله تعالى مبيّنا هذا القانون الإلهي:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
«٢» «٣» «٤» [القصص: ٢٨/ ١- ٦].
(١) تجبر وطغى في مصر.
(٢) أصنافا في الخدمة. [.....]
(٣) يبقيهن أحياء للخدمة.
(٤) يخافون من ذهاب ملكهم.
1901
سورة القصص مكّية إلا قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الآية ٨٥ من السورة]، نزلت هذه بالجحفة في وقت هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. افتتحت السورة بالأحرف الأبجدية المقطّعة طسم (١) للتنبيه على إعجاز القرآن، وتحدّي العرب بالإتيان بمثل القرآن الكريم، ما دام مكوّنا من أحرف لغتهم التي يتفاخرون بأنهم فيها أساطين البيان، وفرسان الفصاحة والبلاغة، لذا لا نجد مثل هذه الحروف إلا متبوعة بالكلام عن آي القرآن المجيد. فهذه آيات من الكتاب الواضح الجلي، الكاشف لحقائق الدين وأحكامه. وعبّر عن الآيات ب تِلْكَ وإن كانت إشارة للغائب والبعيد، وكلمة (هذه) للحاضر والقريب، فإنها أي (ذلك) في معنى القريب، بسبب الثقة والتأكد من حصول ما جاء بعدها. إننا نتلو ونذكر لك أيها النّبي خبر موسى وفرعون، حقّا وصدقا مطابقا للواقع، كأنك تشاهد الواقعة، من أجل تعريف قوم يصدّقون برسالتك وبما أنزل إليك من ربّك، فتطمئن به قلوبهم. وخصّ الله المؤمنين في قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ من حيث إنهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم، لأنهم يصدّقون بالقرآن، ويعلمون أنه من عند الله تعالى، فينتفعون بذلك، أما من لم يؤمن، فلا يصدّق أنّه حقّ، وبالتالي لا ينتفع به.
إن فرعون ملك مصر في عهد الفراعنة استعلى في أرضها واستكبر، وبغى وطغى وتجبّر، وقهر أهلها وبطش، وجعل أهل مصر فرقا وأحزابا مختلفة، وسخّر كل طائفة في مصلحة عمرانية أو زراعية أو غيرها، يجعل جماعة منهم أذلّة خدما مقهورين، وهم بنو إسرائيل، يستأصل بالذّبح أبناءهم الذكور، ويبقي إناثهم أحياء، إهانة لهم واحتقارا، إنه كان من المفسدين في أرض مصر وملكه، بالعمل والمعاصي والاستكبار.
وأراد الله تعالى إنصاف الضعيف وعقاب المستكبر، فأنعم الله على المستضعفين المؤمنين برسالة موسى عليه السّلام، وخلّصهم من بأسه، وأنقذهم من ظلمه ومكره.
1902
وجعل الله أولئك الضعاف الأذلة ولاة الأمور، ووارثين لملك فرعون وأرضه وما في سلطانه، وجعل لهم السلطة والنفوذ في أرض فرعون. وأرى الله فرعون الطاغية، وهامان وزيره الماكر، وأتباعهما ما كانوا يخافون منه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل، وقد أنفذ الله أمره، وحقّق حكمه، بأن جعل تدمير فرعون وقومه على يد من تربّى في قصره، بعد أن صيّره الله رسولا ونبيا، وأنزل عليه التوراة، ليعلم أن الله وحده هو القاهر الغالب على أمره، ويتم أمر الله فيما أوقعه بفرعون وقومه وجنده فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل وتغلبهم.
إرضاع موسى عليه السلام من أمّه
خشي فرعون حاكم مصر هلاك ملكه على يد بني إسرائيل، فكان يقتّل الأبناء، ويبقى البنات أحياء للخدمة، وشاء الله تعالى أن ينجو من القتل موسى عليه السّلام بعد ولادته وإلقائه في البحر، فالتقطه آل فرعون لتربيته، وإعداده في النهاية لتدمير ملك فرعون من حيث لا يشعرون، ولم تتضرر أم موسى على رمي وليدها في البحر، فمنعه من قبول ثدي أي امرأة أخرى غير ثدي أمّه، فأرشدت أخته حاشية فرعون إلى من يرضعه، وأعاده الله تعالى لأمّه سالما آمنا، وهذه فصول قصة رضاعه، قال الله تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ١٣]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
«١»
(١) متعمّدين الخطأ الموجب للإثم.
1903
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [القصص: ٢٨/ ٧- ١٣].
كان إقدام فرعون على تذبيح صبيان بني إسرائيل، لأنه- كما قال قتادة- قال له كهنته وعلماؤه: إن غلاما لبني إسرائيل يفسد ملكك، فرأى أن يقطع نسلهم، فصار يذبح عاما، ويستحيي عاما، فولد هارون عليه السّلام في عام الاستحياء، وولد موسى عليه السّلام في عام الذّبح، أي إن فرعون- كما قال ابن عطية- طمع بجهله أن يردّ القدر.
وابتدأت القصة، بذكر نعمة الله على موسى عليه السّلام، فيما معناه: وألهمنا أمّ موسى إرضاعه فترة زمنية، فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر. كما يقال، فإذا خفت عليه من القتل، فألقيه في بحر النّيل، ولا تخافي عليه من الغرق والضياع، ولا تحزني على فراقه، إنّا سنردّه عليك لتكوني أنت مرضعته، وسنجعله نبيّا مرسلا إلى قومه بني إسرائيل.
فلما ألقي موسى في نيل مصر، مرّ أمام قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون (أهله) من أجل معرفة ما في التابوت، وآثروا تبنّيه وتربيته، دون أن يدروا بمصيره، فكانت عاقبة أمره والتقاطه أن يصير موسى عليه السّلام بعد النّبوة والكهولة عدوّا لهم،
(١) مسرة وفرح.
(٢) خاليا من كل شيء عدا موسى.
(٣) لتصرّح ببنوّته.
(٤) أي ثبّتناها.
(٥) تتبّعي أثره وخبره.
(٦) مكان بعيد.
(٧) يربّونه.
(٨) تسرّ وتفرح بولدها.
1904
بمخالفة دينهم، وإغراقهم في البحر وزوال ملكهم، لتكذيبهم برسالة موسى عليه السّلام. فتكون لام لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لام العاقبة أو الصيرورة، لا أن القصد بالالتقاط من أجل أن يكون لهم عدوّا. ولقد كان فرعون ووزيره وأكبر رجاله هامان وجنودهما متعمدين الخطأ، مصرّين على تكذيب موسى. وبهذا يعلم أن (الخاطئ) متعمّد الخطأ، و (المخطئ) : الذي لا يتعمّده، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم عندهم، وكان هو سبب هلاكهم.
وقالت زوجة فرعون له: هذا الطفل قرّة عين لي، أي سلوة لي، تقرّ به عيني، وتفرح به نفسي، فلا تقتلوه، وذلك الإلهام لامرأة فرعون لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة، فكان يحبّه كل من شاهده، ولعله يكون سببا للخير والنفع، أو نتخذه ولدا ونتبنّاه، لما يتمتع به من الوسامة والجمال، ولكن لم يشعر قوم فرعون أن هلاكهم بسبب هذا الطفل وعلى يده.
وأصبح قلب أم موسى بعد إلقاء صندوقه في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا، إلا من ذكر موسى، وكادت من شدّة حزنها وأسفها إظهار أمر ابنها وأنه ذهب لها ولد، وأنها أمّه، لولا أن ثبّت الله قلبها وصبّرها، لتكون من المصدّقين الواثقين بوعد الله لها، بردّه إليها.
وقالت أمّ موسى لأخته ابنتها الكبرى: تتبّعي أثره واعرفي خبره، فخرجت لذلك، فعثرت عليه في بيت فرعون، وأبصرته عن بعد، والقوم لا يشعرون بها وبمهمّتها، ولا بأنه الذي يفسد الملك على يديه.
ومنع الله موسى من قبول ثدي المراضع غير ثدي أمّه، من قبل، أي من أول أمره، فقالت أخته لمن حول بيت فرعون: ألا أدلّكم على أهل بيت يتكفّلون بشأنه وإرضاعه وحضانته، وهم حافظون له، ناصحون للملك، بخدمته والمحافظة عليه؟!
1905
فأعاد الله الطفل موسى إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له، لتقرّ عينها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته عندها، ولا تحزن عليه بفراقه، ولتتيقّن أن وعد الله بردّه إليها حقّ لا شكّ فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في أفعاله، أي حكمته وتدبيره.
خطأ موسى عليه السّلام
قضى موسى عليه السّلام عهد الشباب في مصر، مع قومه الإسرائيليين، وتعايشه مع فرعون وأتباعه، ولكنه كان ضجرا متألما لما عليه سوء الحال في مصر، رافضا ألوهية فرعون، قلقا من استكباره واستعلائه، وإذلاله بني إسرائيل، وينتظر الفرج القريب، بما آتاه الله من العلم والحكمة والبصيرة في إدراك وحدانية الله تعالى، وهو بهذا يصارع الآلام النفسية، من تألّه فرعون وجبروته ومظالمه، وهذا ما وصفه لنا القرآن الكريم، للعبرة والعظة في الآيات الآتية:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٤ الى ١٧]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [القصص: ٢٨/ ١٤- ١٧].
كان تكوين موسى عليه السلام وإعداده للنّبوة وتربيته يشبه إعداد جميع الأنبياء، إنهم كانوا قبل النّبوة على ملّة التوحيد: ملّة إبراهيم الحنيفية عليه السّلام، فلما نضج
(١) قوة البدن والنّمو.
(٢) أي تكامل عقله وحزمه،
(٣) ضربه على صدره بيده. [.....]
(٤) معينا لهم.
1906
موسى عليه السّلام وتكامل عقله وحزمه، أي استوى، وذلك- عند الجمهور- مع سنّ الأربعين، وقيل: ثلاثين، آتاه الله الحكم، أي الحكمة، والعلم: المعرفة بشرع إبراهيم عليه السّلام، وكما فعل الله ذلك بموسى فعل بسائر الأنبياء، ليجزي المحسنين على إحسانهم، وقد رجح الإمام الفخر الرازي: أن المراد بالحكم هنا:
الحكمة والعلم لا النّبوة، والحكمة والعلم مقدّمات لنبوة موسى عليه السّلام.
والأشد: شدة البدن واستحكام أمره وقوته. واستوى: معناه تكامل عقله وحزمه.
وحدث في هذه المرحلة من العمر: أن دخل موسى عليه السلام مدينة عين شمس، على بعد فرسخين من مصر القديمة، في وقت القائلة أو القيلولة، وقت الغفلة، والناس نيام، فوجد فيها رجلين يتخاصمان، أحدهما إسرائيلي من قومه أو شيعته وحزبه، والآخر مصري فرعوني، هو طبّاخ فرعون، وكان قد طلب من الإسرائيلي أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي المساعدة والعون على عدوه الفرعوني، فضربه موسى بيده على لحيته، فقضى عليه، أي قتله، أي كان الضرب الخطأ مفضيا خطأ إلى الموت، فإن موسى لم يرد قتل القبطي، لكن وافقت وكزته الأجل، ونشأ عنها موته، فندم موسى، ورأى أن ذلك من نزغ الشيطان في يده، وأن الغضب الذي اقترنت به تلك الوكزة، كان من الشيطان ومن همزه، فنسب إلى عمله، وقد اقترنت قوته الكبيرة بوقت غضبه، بأكثر مما يقصد، وكان الحادث قبل النّبوة. فندم موسى على ما فعل، وقال: إن هذا العمل من تزيين الشيطان وإغرائه، إن الشيطان عدوّ للإنسان، موقع له في الضلال والخطأ.
ثم تاب موسى عليه السلام من فعله هذا فقال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي أي يا ربّ إني أوقعت نفسي في الظلم والإثم بهذا الفعل، وهو قتل نفس بريئة، فاستر لي ذنبي، ولا تؤاخذني بجناية نفسي، وإني نادم على ما فعلت، وأتوب إليك
1907
وأستغفرك، فغفر الله له، وقبل توبته، إنه سبحانه وتعالى الغفور: السّتّار لذنوب عباده التائبين المخلصين في توبتهم، الرّحيم بهم: المنعم عليهم بفيض رحمته، فلا يعاقبهم بعد التوبة المخلصة.
وعاهد موسى ربّه عزّ وجلّ قائلا: يا ربّ، اعصمني من الخطأ، بسبب ما أنعمت علي، من الحكمة والمعرفة بالملّة القويمة وبتوحيدك وتمجيدك، يا ربّ، بنعمتك علي، وبسبب إحسانك إلي وفضلك، فأنا ملتزم ألّا أكون معينا للمجرمين، أي المنحرفين الخارجين عن دائرة الحق والاستقامة. قال القشيري: ولم يقل: لما أنعمت علي من المغفرة، لأن هذا كان قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل. وأراد بترك مظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه، كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله.
وظلّ موسى عليه السّلام يتحسس ويتألم من حادثة القتل، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى في يوم القيامة، كما صحّ في حديث الشفاعة.
قلق موسى عليه السّلام وخوفه وخروجه من مصر
إن النفوس المؤمنة، والسّامية العالية، ينتابها الخوف الدائم والقلق والضجر إذا بدر منها الخطأ، وعكّر السّوء صفاءها، وجعلها لا تقرّ ولا ترتاح، وهكذا كان شأن موسى عليه السّلام بعد أن وقعت بسببه حادثة قتل خطأ، قبل أن يكون رسولا نبيّا، ومما زاده ألما وضيقا أن الذي نصره من الإسرائيليين يستنجد به مرة أخرى، لضرب رجل آخر، فأبى موسى مناصرته، ثم جاءه رجل يحذّره من التآمر على قتله من آل
1908
فرعون، فكان ذلك سببا لخروجه من مصر، واتّجاهه نحو أرض مدين، وصف الله تعالى هذه الأحداث في الآيات التالية:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٨ الى ٢١]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [القصص: ٢٨/ ١٨- ٢١].
لقد استبدّ الخوف والقلق في نفس موسى عليه السّلام، فأصبح في المدينة: عين شمس، دائم الخوف في كل أوقاته، فصار يترقّب مباغتا يقتله، ويتحسس ويتألم من الناس بسبب القتل، فمرّ وهو بهذه الحالة القلقة في طريق متخفّيا مستترا، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري، يطلب منه العون والمساعدة على مصري آخر، فقال له موسى معاتبا ومؤنّبا: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي ظاهر الغواية، كثير الفساد والشّر والضّلال.
ولما أراد موسى زجر عدوّهما القبطي: عدو الإسرائيلي وعدوه، قال له مستنكرا مستهجنا لعلمه بحادثة القتل بالأمس: أتريد الإقدام على قتلي، كما قتلت نفسا البارحة، ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة، والجبابرة شأنهم قتل الناس بغير حق؟! فلذلك جعله جبّارا ونفى عنه الصلاح، أي إنك لا تريد إلا أن تكون سفّاحا بطّاشا، كثير الأذى في الأرض، دون أن تتدبّر في عواقب الأمور، ولا تريد
(١) يتوقع مكروها.
(٢) يستغيثه.
(٣) ضال عن الرشد.
(٤) يأخذ بقوة.
(٥) يسرع.
(٦) وجوه القوم.
(٧) يتشاورون في شأنك.
1909
أن تكون من أهل الصلاح والإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة، والموضوعية، والرّوية، حتى ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة.
فأنفذ فرعون إلى موسى من يطلبه من جنده، ويأتي به للقتل، فخرج موسى إلى الطريق الأعظم، أي الشارع العام، فجاءه رجل، يسرع في مشيه، يقال: إنه مؤمن آل فرعون، ويقال: إنه غيره، في إحدى الطرق الصغيرة، المتشعبة من الطرق الكبيرة، ليصل بسرعة إلى موسى عليه السّلام، وليخفي أمره، حتى لا يعرف أحد أنه يريد إبلاغ موسى بالخبر، وقد جاء هذا الرجل الناصح من أبعد مكان في المدينة، فقال: يا موسى، إن فرعون وملأه: أشراف دولته وكبار حاشيته، يتآمرون ويتشاورون في أمرك، وتدبير مكيدة أو مؤامرة قتلك، فاخرج بسرعة من البلد، إني لك ناصح أمين.
فخرج موسى عليه السّلام من مدينة فرعون خائفا على نفسه، يتلفّت ويترقّب متابعة أحد له، وأفلت من القوم، فلم يجدوه، وخرج في حال فزعه إلى طريق مدين، وهي مدينة قوم شعيب عليه السّلام، وكان موسى عليه السّلام لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحب أحدا، فسار واثقا بالله تعالى، ومتوكّلا عليه، وقال في هذه المحنة العصيبة: يا ربّ، نجني من هؤلاء القوم الظالمين: فرعون وملئه، واحمني من شرّهم وسوئهم، فاستجاب الله دعاءه ونجاه ووصل إلى مدين آمنا على نفسه، بفضل الله وإحسانه، كما جاء في آية أخرى: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى [طه: ٢٠/ ٤٠].
وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام، وكان ملك مدين لغير فرعون، قال السّدّي ومقاتل: روي أن الله تعالى بعث إلى موسى جبريل عليه السّلام، وقيل: ملكا غيره،
1910
فسدّده إلى الطريق. وكل ذلك رعاية وعناية، وحماية وعصمة من الله لموسى، ليعدّه لتحمل عبء الرسالة، ومنصب النبوة، وأخذ التوراة.
زواج موسى عليه السلام
بدأت مرحلة جديدة في حياة موسى عليه السّلام، بعد توجّهه إلى أرض مدين بفلسطين، تميّزت بالاستقرار لمدة عشر سنوات، حين تزوج بابنة شعيب عليه السّلام، ورعيه غنمه تلك المدة، وبعد انتهائها وعزمه العودة إلى مصر، حدثت النعمة الكبرى على موسى وهي إيتاؤه الرّسالة والنّبوة وتلقّي التوراة. وكان هذا الزواج لما تمتع به موسى عليه السلام من قوة الرّجولة، وعظمة الأمانة، وهاتان صفتان هما مطمح المرأة وأملها في الرجل الذي تريده زوجا لها، وليس هناك أجمل ولا أجلى مما صوره القرآن الكريم من قصة هذا الزواج المبارك، قال الله تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧»
(١) جهة مدين.
(٢) جماعة كثيرة.
(٣) أي تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السّقاة الأقوياء.
(٤) ما شأنكما؟
(٥) ينصرف الرّعاة عن مورد الماء.
(٦) تكون لي أجيرا في رعي الغنم. [.....]
(٧) أي ثماني سنوات.
1911
[القصص: ٢٨/ ٢٢- ٢٨].
حينما اتّجه موسى عليه السّلام جهة مدين، تاركا فرعون وبلاده، ومن أجل معرفته الطريق، قال داعيا ربّه: ربّي اهدني الطريق الأقوم، فامتن الله عليه، وهداه إلى السبيل الصحيح، المؤدي به إلى بلاد مدين، وكان بحكم العادة يسأل الناس عن الطريق، فيدلّونه.
ومدين: شمال خليج العقبة في فلسطين. وسبب هذا التّوجه: وجود قرابة بين موسى وأهل مدين، فهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وموسى من بني إسرائيل، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام.
وفصول قصة مدين أولها: أن موسى عليه السّلام لما وصل إلى مدين، وورد ماءها، وجد رعاة الماشية يسقون أنعامهم ومواشيهم من بئر فيها، ووجد جماعة من الناس حولهم، ووجد في مكان ناء امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرّعاة الآخرين، لئلا تختلط مع أغنام غيرهما، فسألهما: لماذا لا تسقيان، ما شأنكما وخبركما، لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا: لا نسقي غنمنا إلا بعد أن ينصرف الرّعاة (يصدر) ويبتعدوا من السّقي، وأبونا شيخ كبير هرم، لا يستطيع الرّعي والسّقي بنفسه.
فبادر موسى عليه السّلام لسقي غنم هاتين المرأتين، من بئر مغطاة بصخرة، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، ثم أعادها إلى موضعها على البئر، ثم انزوى إلى ظلّ شجرة للراحة، مناجيا ربّه قائلا: إنّي لمحتاج إلى الخير من ربّي، وهو الطّعام، لدفع غائلة الجوع.
وبعد رجوع المرأتين سريعا بالغنم إلى أبيهما شعيب عليه السلام، سألهما عن
1912
الخبر والسبب، فقصّتا عليه ما فعل موسى عليه السّلام، فبحث إحداهما إليه، لتدعوه إلى أبيها، فجاءت إحداهما تمشي مستحيية مشي الحرائر الأباة، فقالت له في أدب وحزم: إن أبي يطلبك ليكافئك على إحسانك لنا. فلما جاء موسى إلى شعيب الشيخ، وقصّ عليه قصّته مع فرعون وقومه، قال له: لا تخف واطمئن، لقد نجوت من سطوة القوم الظالمين.
فقالت إحدى ابنتي الشيخ الكبير: يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم، فإن خير مستأجر لها هو، لأنه الرجل الأبي القوي، المؤتمن الذي لا يخون.
قال شعيب: يا موسى، إني أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين، فاختر ما تشاء، على أن يكون المهر خدمة من المنافع: وهي رعاية غنمي ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين، فهو إليك، وما أريد إيقاعك في شيء من المشقة والحرج، وستجدني إن شاء الله من الصالحين، المحسنين المعاملة، ولين الكلام أو الخطاب، والفعل.
فقال موسى لعمّه الصّهر: الأمر على ما قلت في اختيار إحدى البنتين، والوفاء بإحدى المدّتين: ثماني أو عشر سنين، ولا مجاوزة للحدّ، ولا حرج من اختيار إحدى المدّتين، أو لا تبعة علي من قول ولا فعل، والاتّفاق موثق بيني وبينك في ثماني سنوات، والله على ما نقول شاهد قائم بالأمور، وبعد إتمام عقد الزواج أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت فيه عصي، فيأخذ منه عصا لرعيه الغنم في مدين.
إيتاء موسى عليه السلام النّبوة في جبل الطّور
أتم موسى عليه السّلام أكمل المدّتين عشر سنوات، في رعي غنم شعيب عليه السّلام في مدين، ثم عزم على العودة إلى مصر، لزيارة أقاربه، مصحوبا بزوجته، ولكنه في طريق العودة، حدث التحول الجديد الأعظم في حياته، حين كلّمه ربّه في
1913
جبل الطّور، وآتاه الله النّبوة والتّوراة، وجعله رسولا إلى فرعون وقومه، بني إسرائيل، وكانت معجزته الدّالة على نبوّته انقلاب العصا حيّة عظيمة، وإضاءة يده كالشمس المشرقة، وكلفه الله بتبليغ رسالته إلى فرعون وملئه: القوم الفاسقين، وتلك مهمة شاقّة وعسيرة.
قال الله تعالى واصفا هذه المرحلة الجديدة في حياة موسى كليم الله:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [القصص: ٢٨/ ٢٩- ٣٢].
لما أتم موسى عليه السلام أكمل المدّتين برعي غنم شعيب عليه السّلام عشر سنين، أراد أن يسير بأهله إلى مصر وقومه، وقد أحسّ لا محالة بالترشيح للنّبوة، وكان رجلا غيورا لا يصحب الرفاق، فسار في ليلة مظلمة باردة، فأخطأ الطريق، واشتدّ عليه وعلى زوجته البرد، فبينا هو كذلك إذ رأى نارا، وكان ذلك نورا، من نور الله تعالى قد التبس بشجرة، من العلّيق أو الزعرور أو السمرة، فقال لأهله:
ابقوا في مكانكم أو أقيموا، إني رأيت نارا، لعلي آتيكم منها بخبر عن الطريق، أين
(١) آنس: أحسّ بالبصر، وأبصر بوضوح.
(٢) عود فيه نار.
(٣) تستدفئون.
(٤) تتحرك بشدة.
(٥) حيّة خفيفة في السرعة.
(٦) لم يرجع على عقبه ولم يلتفت.
(٧) أي داء برص ونحوه.
(٨) ضم إلى صدرك.
(٩) ضمّ يدك إلى صدرك يذهب عنك الخوف من الحية.
1914
هو؟ أو بقطعة من النار في عود كبيرة لا لهب لها، أي إنها جمرة، لعلكم تستدفئون من البرد.
فلما أتى موسى ذلك الضوء الذي رآه، وهو في تلك الليلة ابن أربعين سنة، نبّئ بالنّبوة، حيث نودي في مكان النور من بعيد، من جانب الوادي التي هي عن يمين موسى من ناحية الغرب، أو أن الوادي وصف باليمن، في البقعة المباركة، وابتداء النداء من جهة الشجرة أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وهذا تعريف بالمنادي المتكلم، وهو الله ربّ جميع العوالم من الإنس والجنّ.
ونودي بأن ألق عصاك التي في يدك، فألقاها فصارت حيّة عظيمة تسعى، فتحقق أن الذي يكلمه هو الله تعالى، فلما رأى العصا تتحرك، كأنها جانّ من الحيّات (وهي صغير الحيّات) فجمعت هول الثعبان ونشاط الجانّ، ولّى موسى هاربا، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه، خوفا منها، بحكم الطبيعة البشرية، فقال الله تعالى له: يا موسى ارجع إلى مكانك أو مقامك الأول، ولا تخف من هذه الحية، فأنت آمن من كل سوء. وهذا من تأمين الله تعالى إياه، ثم أمره بأن يدخل يده في جيبه، وهو فتحة الجبّة من حيث يخرج رأس الإنسان. ومعنى اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أدخل يدك في فتحة قميصك العليا من جهة الرأس، ثم أخرجها، تخرج بيضاء تتلألأ، ولها شعاع، كأنها قطعة قمر مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير عيب ولا مرض ولا برص فيها.
وزيادة في التأمين، وإزالة لكثرة الخوف والفزع الذي ألمّ بموسى، وإعدادا له لتحمّل عبء الرسالة بعزم وحزم وهمة عالية، أمره الله بوضع يده على صدره، لإذهاب الخوف كما هي العادة المتّبعة، فهاتان آيتان أو معجزتان: وهما إلقاء العصا وانقلابها حية تسعى، وإدخال يدك في جيبك، فتخرج بيضاء مشعّة من غير سوء ولا مرض، هما دائما دليلان قاطعان واضحان من ربّك، دالان على قدرة الله وصحّة
1915
نبوّتك، يؤيّد انك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الأكابر والرؤساء والأتباع، إنهم كانوا قوما خارجين عن حدود طاعة الله، مخالفين لأمره ودينه، فكانوا بأمسّ الحاجة إلى إرسالك إليهم، مؤيّدا بهاتين المعجزتين.
وكانت هذه المكالمة التي أهّلت موسى عليه السلام لوصفه بأنه كليم الله هي بداية التكليف بالنّبوة والرسالة الإلهية، في أشقّ مهمة وأعسرها، وهي محاولة هداية فرعون المتألّه الجبّار، وإرشاده إلى الإقرار بوجود الإله الحقّ الواحد الذي لا إله غيره ولا شريك له.
نبوّة هارون وتكذيب فرعون
حينما أصبح موسى عليه السلام رسولا من عند ربّه إلى فرعون وملئه، أحسّ بمخاوف أخرى، ومحاذير قديمة، بمفاجأته بأنه قتل في شبابه قبطيّا من قوم فرعون، فطلب من ربّه تأييده وإعانته بجعل أخيه هارون نبيّا ورسولا معه، يؤازره ويصدّقه خشية تكذيبه، فأجاب الله تعالى طلبه، فسار الاثنان في مظلة الرعاية والحماية الإلهية إلى فرعون وملئه، وكانت النتيجة متوقعة، حيث بادر أولئك الفاسقون إلى وصف رسالة موسى وهارون بالسحر المفترى، وبالأسطورة المختلقة، وكان ردّ موسى واضحا بأن الذي أرسله هو الله تعالى، وأنه يعتمد على تأييده ونصره، قال الله سبحانه واصفا هذا اللقاء المثير:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
«١»
(١) سنقويك.
1916
«١» [القصص: ٢٨/ ٣٣- ٣٧].
لما أمر الله تعالى موسى عليه السّلام بالعودة إلى مصر، لهداية فرعون، بعد أن فرّ من سطوته وبطشه، قال موسى: يا ربّ، إني قتلت من قوم فرعون نفسا، فأخاف إن رأوني أن يقتلوني ثأرا من قتيلهم، فكيف أذهب إلى فرعون وقومه؟! إن أخي هارون هو أفصح لسانا مني، وأحسن بيانا، وأدرى مني بلهجة المصريين، لأنه لم يترك بلادهم، فأرسله معي معينا ووزيرا يصدّقني في قولي وخبري، ويتحمّل معي عبء الرسالة، إني أخاف أن يكذّبوني في نبوّتي ورسالتي، فأجاب الله تعالى طلبه، وجعل هارون رسولا.
وقال الرّب عزّ وجلّ لموسى: سنعزز جانبك، ونقوّي شأنك، ونعينك بأخيك الذي سألت أن يكون نبيّا معك، وسنجعل لكما السلطان، أي الحجة الغالبة، والتّفوق على عدوّكما، فلا يكون للأعداء سبيل للوصول إلى أذاكما، بما نسلّطكما عليهم بآياتنا البيّنات، تمتنعان منهم بها، أنت يا موسى وأخوك، ومن آمن بكما، واتّبعكما في رسالتكما الغالبون بالحجة والبرهان. وقوله تعالى: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا يحتمل أن يتعلّق قوله: بِآياتِنا إما بفعل وَنَجْعَلُ لَكُما أو بفعل يَصِلُونَ إِلَيْكُما وتكون الباء باء السبية، أي بسبب آياتنا لن يتسلطوا عليكما، ويحتمل أن يتعلق بقوله: الْغالِبُونَ أي تغلبون بآياتنا.
فلما جاء موسى عليه السّلام بآيات الله البيّنات الواضحات، قال فرعون وقومه:
(١) حجة.
1917
ما هذا الادّعاء بالرسالة من عند الله إلا سحر مفترى، وقول مكذوب، وما سمعنا بما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، في عهود آبائنا وأجدادنا الأقدمين، ولم نر أحدا من الأسلاف على هذا الدّين، ولم نر إلا الإشراك مع الله آلهة أخرى.
فأجاب موسى عليه السّلام فرعون المتألّه وقومه بقوله: الله ربّي الذي لا إله غيره، خلق كل شيء وأوجده، أعلم مني ومنك بالمحقّ من المبطل، وبمن جاء بالهداية والرّشاد ومن أرسله بهذه الدعوة، ومن الذي تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا بالنصر والظفر والتأييد، وفي الآخرة بالنّجاة والثواب، والرحمة والرضوان، كما جاء في آية أخرى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرّعد: ١٣/ ٢٢- ٢٣]. وآية:
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرّعد: ١٣/ ٤٢]. وسيفصل الله بيني وبينكم، إنه لا يفلح ولا ينجح المشركون بالله عزّ وجلّ، ولا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يكونون هالكين خاسرين.
وهذا أسلوب أدبي رفيع، فإن موسى عليه السّلام لم يعلن أنه المحقّ وغيره هو المبطل، وإنما فوّض الأمر لله، ليجعل للعقل في النّقاش والجدل مجالا في إصدار الحكم النّهائي، وتغليب الصواب على الخطأ، فهذه دعوة للرّوية والأناة، والتعقل، وإعمال الحكمة، كما جاء في أسلوب آخر في خطاب نبيّنا للمشركين، حيث
قال صلّى الله عليه وسلّم: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٣٤/ ٢٤].
عاقبة الجدل المثير بين موسى عليه السلام وفرعون
بادر موسى عليه السّلام بجولة أخرى من الجدل، والنّقاش مع فرعون حول ربوبيّة الله تعالى وألوهيته، على الرغم من إظهاره آيات الله البيّنات المؤيّدة لرسالته، وأصرّ فرعون على إنكار وجود الله، وأعلن للحاشية والأشراف من قومه بأنه هو الإله،
1918
وأنه لم يعلم بوجود إله آخر سواه، وتحدّى ببناء صرح أو برج للبحث عن إله موسى في السماوات، واستبدّت به المادة الحسّيّة والأهواء فتصوّر أن الإله كالبشر، وعلا واستكبر، فجعله الله مع جنوده غرقى في البحر، وجعلهم قادة إلى النار، وأتبعهم اللعنة والطّرد من رحمة الله، وأيّد الله موسى بالتّوراة بصيرة وهداية ورحمة لمن يتذكر ويخشى، قال الله تعالى مبيّنا هذه الفصول:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
«١» «٢» «٣» [القصص: ٢٨/ ٣٨- ٤٣].
ثبّت الله موسى عليه السّلام في محاجّة فرعون، وآتاه الله التوراة هداية ورحمة، ودمّر فرعون وقومه الذي نادى في قومه: يا أيها الملأ الأشراف والكبراء، لم أعلم بوجود إله غيري، فإله موسى غير موجود، فاصنع لي أيها الوزير هامان آجرّا (طينا مشويّا بالنار) وابن لي به قصرا عاليا في الفضاء، حتى أصعد به إلى السماء، فأشاهد إله موسى الذي يعبده، توهّما منه بأن الإله جسم مادّي كالبشر، وإني لأعتقد بأن موسى كاذب في ادّعائه وجود إله غيري.
واستكبر فرعون وجنوده في أرض مصر، بالباطل والإفك المجافي للحقيقة،
(١) قصرا شامخا.
(٢) المطرودين المبعدين من رحمة الله. [.....]
(٣) الأمم الماضية المكذبة.
1919
واعتقدوا بأنه لا قيامة ولا حساب ولا عقاب، ولم يدروا بأن الله رقيب عليهم ومجازيهم بما يستحقون. فأغرقهم في البحر في صبيحة يوم واحد، وأفناهم عن آخرهم، فانظر أيها الرسول وكل متأمّل في قدرة الله وعظمته، كيف كان مصير هؤلاء الظالمين الذي ظلموا أنفسهم؟ لقد أغرقناهم في اليم، أي في بحر القلزم (البحر الأحمر).
وضاعف الله عذابهم حين جعل فرعون وأشراف قومه وأتباعه قادة ضلال، وقدوة لكل كافر وعات، إلى يوم القيامة، لأنهم قاموا بإضلال غيرهم ودعوتهم إلى النار، فجوزوا بجزاءين: جزاء الضلال، والإضلال، وفي يوم القيامة لا يجدون مناصرين لهم، ولا شفعاء يشفعون لهم، لإنقاذهم من بأس الله وعذابه.
وألزمناهم على الدوام في الدنيا لعنة وخزيا، وغضبا، على ألسنة المؤمنين والأنبياء المرسلين، كما أنهم يكونون يوم القيامة من المقبوحين، أي الذين يقبح كل أمرهم، قولا لهم وفعلا، ومن المطرودين المبعدين عن رحمة الله، كما جاء في آية أخرى:
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) [هود: ١١/ ٩٩].
وتم إنجاء أهل الإيمان بعد إغراق فرعون وقومه، فآتى الله موسى كتاب التوراة بعد إهلاك أهل القرون القديمة من قوم نوح وهود وصالح ولوط، ليكون ذلك الكتاب مصدر هداية ونور وتبصّر وتدبّر وتفكّر، ورحمة لمن آمن به، وإرشاد للعمل الطّيب، وإنارة للقلوب، لتمييز الحق من الباطل، لعل الناس يتذكّرون به ويتّعظون، ويهتدون بسببه.
تضمّن هذا الإخبار أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى، بعد إهلاك فرعون وقومه، وبعد إهلاك الأمم القديمة من عاد وثمود وقرى قوم لوط وغيرها، والقصد من هذا الإخبار التمثيل لقريش وتحذيرهم بما تقدّم في غيرهم من الأمم من ألوان العذاب.
1920
إخبار النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأقوام السابقين
تواترت الأدلة والبراهين على صدق النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بما أوحى الله إليه في القرآن الكريم المعجزة الخالدة أبد الدهر. ، ومن أنباء القرآن: ما قصّه الله على نبيّه من أخبار صادقة، عن قوم أو أمم لم يشهدهم، ولم يكن معهم، ولم يدوّن التاريخ أخبارهم، فلم يبق طريق للمعرفة إلا الوحي القرآني فهو المصدر الصحيح لتلك الأخبار، وفي ذلك عظة وعبرة، وبرهان ساطع على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن أهم تلك الأخبار بعض فصول قصة موسى عليه السلام، وأهمها إنزال التوراة عليه، في جبل الطور في صحراء سيناء، قال الله تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
«١» «٢» «٣» [القصص: ٢٨/ ٤٤- ٤٧].
المعنى: لم تحضر أيها النّبي هذه الأخبار الغيبية التي نخبر بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، وذلك حين أنزلنا التوراة على النّبي موسى عليه السّلام، وما كنت أيها النّبي من الحاضرين تلك المناجاة ومكالمة الله تعالى. فكان الواجب على قومك المسارعة إلى الإيمان برسالتك، ولكن تطاول الأمر والزمن على القرون (الأمم) التي أنشأناها، زمنا زمنا، وطال عليها العهد، فاندرست العلوم، وبادت المعارف، وتغيّرت الشرائع، ونسي الناس شرائع الله وأحكامه، واستحكمت فيهم الجهالة والضلالة.
(١) أي بجانب الجبل الغربي من موسى حين المناجاة مع الله.
(٢) أي أنفذنا وصرفنا التوراة.
(٣) مقيما.
1921
وهذا تنبيه على المعجزة، لأن الإخبار عن قصة تاريخية من مئات السنين، دون مشاهدة لأحداثها، دليل واضح على صدق المخبر: وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكذلك لم تكن أيها النّبي مقيما بين قوم شعيب في أهل مدين، تقرأ عليهم آياتنا المنزلة، ولكنا، أي ذات الجلالة كنا مرسلين إياك رسولا للناس، وأوحينا إليك بهذه الأخبار.
ولم تكن أيضا أيها الرسول موجودا بجانب جبل الطور، وقت إنزال التوراة إلى موسى، وحين مناداة موسى عليه السّلام وتكليمه ومناجاته، حتى تعرف تفاصيل الخبر، ثم تحدّث به للناس، ولكن علّمناك وأخبرناك بأخبار القرآن، وجعلناك رحمة للعالمين، لتنذر قوما وهم العرب، لم ينذروا من قبل، تنذرهم بأس الله وعذابه إن لم يؤمنوا بك، لعلهم يهتدون بما جئتهم به من عند الله عزّ وجلّ، ويتذكرون هذه الإنذارات والتحذيرات.
وأما سبب رسالتك أيها النّبي محمد: فهي إخبار قومك والعالم كله بمضمون رسالة الله وشرائعه وأحكامه، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة العذاب على كفرهم، وما قدمته أيديهم من المعاصي، قالوا: يا ربّنا، هلا أرسلت إلينا رسولا يبيّن لنا صحة العقيدة، ونظام الحياة، فنؤمن بك ربّا واحدا، ونعمل بشريعتك، ونلتزم بدينك ونتّبع أحكامك، فلولا خشية الاعتذار بالجهل بالأحكام والتعرّض للمصائب، لما أرسلناك رسولا. والمصيبة: عذاب في الدنيا على كفرهم. وجواب قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ.. محذوف، تقديره: لما أرسلنا الرسل، أي فيكون إرسال الرسل حجة على الناس في تركهم أحكام الله عن بيّنة وعلم. وهذا يلتقي مع المبدأ القانوني المعروف: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ».
لذا بعثناك أيها النّبي رسولا للبشرية، نذيرا للإنسانية، تقيم عليهم الحجة البالغة،
1922
وتبلّغهم رسالة ربّهم في العقيدة والأخلاق ودستور الحياة، وتبطل اعتذارهم بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير. وذلك كما جاء في آية أخرى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) [النّساء: ٤/ ١٦٥].
وهذا الإنزال للقرآن والكتب السماوية السابقة: إنما هو رحمة من الله بعباده، ومن رحمته أنه لا يعذّب أحدا إلا بعد بيان، ولا يعاقب شخصا إلا بعد تكليف وإرسال رسول، وبعد التحقّق من وجود العقل الذي هو مناط التكليف.
إنكار القرآن من قبل المشركين
إن عناد الكفّار يحملهم على شتى أنواع الكفر والضلال والتكذيب، ونشاهد هذه الظاهرة جليّة في مشركي مكة، فإنهم بعد إرسال الرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم إليهم، ولغيرهم من العالم، وتأييده بمعجزة القرآن، طالبوا بإنزال كتاب عليه مثل التوراة دفعة واحدة، وكانوا قبل ذلك كافرين بالتوراة. وإذا طولبوا بكتاب منزل من عند الله خير من القرآن، عجزوا وتراجعوا، مما يدلّ كل ذلك على اتّباعهم الأهواء. وأما سبب تنجيم القرآن، أي نزوله تدريجا مقسطا على حسب المناسبات، فهو تلاؤمه مع الحكمة والحاجة وعلاج النوازل، ومراعاة المصلحة، وتجاوبه مع مقتضيات كل عصر وأوان، وهذا كله حكاه القرآن الكريم، وسجّله على هؤلاء الكفرة في قول الله تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
«١»
(١) تعاونا وهما التوراة والقرآن.
1923
«١» [القصص: ٢٨/ ٤٨- ٥١].
عجبا من شأن كفار قريش، موقفهم لا يتّسم بالمنطق والفكر السديد، فإنهم لما جاءهم الحق الثابت الذي لا مثيل له: وهو القرآن الكريم والنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، قالوا بتعليم اليهود لهم: لم لا يأتي بآية مادّية باهرة، كالعصا واليد وشقّ الجبل وغير ذلك مما جاء به موسى عليه السّلام، فردّ الله تعالى عليهم بأن هذا مجرد عناد ومكابرة وهروب من الإيمان، فإنهم، أو لم يكفر أمثالهم من المعاندين بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة؟! فإن موقف أهل الكفر واحد، فهم وأمثالهم من اليهود لم يؤمنوا بآيات موسى عليه السّلام، وقال مشركو مكة: القرآن والتوراة سحران تعاونا وتعاضدا، ومحمد وموسى ساحران متآزران متعاونان، تعاونا على الدّجل والضّلال، وصدّق كل منهما الآخر، وإنّا بكلا الكتابين والشخصين كافرون، لا نصدق بما حدّثا أو جاءا به.
فأمر الله نبيّه بأن يتحدى المشركين في مكة، ويطالبهم بكتاب خير من القرآن، قل أيها النّبي الرسول: أنتم أيها المكذّبون بهذه الكتب التي تضمّنت الأمر بالعبادات وتوحيد الله ومكارم الأخلاق، ونهت عن الكفر والشّرك والنقائص، ووعد الله تعالى عليها الثواب الجزيل، إن كان تكذيبكم لمعنى، فأتوا بكتاب من عند الله عزّ وجلّ أكثر هداية وأتم إرشادا من القرآن، أتّبعه معكم، إن كنتم صادقين فيما تقولون أو تدّعون، وتنكرون به الحق، وتؤازرون به الباطل، وهذا تنبيه على عجزهم عن محاكاة القرآن ومعارضته والإتيان بمثله.
(١) أنزل القرآن عليهم متواصلا لهم، أي أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال.
1924
فإن لم يجيبوك عما قلت لهم، ولم يتّبعوا الحق، ولم يؤمنوا بالقرآن وبرسالتك أيها النّبي، فاعلم أنهم في عقائدهم الباطلة، يتّبعون أهواءهم بلا حجة ولا برهان، فهم جماعة أهواء وشهوات. والله يعلم أنهم لا يستجيبون، ولكنه أراد سبحانه إيضاح فساد حالهم، وسوء مقالهم، وضعف موقفهم.
والواقع أنه لا أحد أضلّ منهم، إذ ليس هناك في البشر أشدّ ضلالا عن الهدى والرشاد ممن سار مع أهوائه، واتّبع شهواته، بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، وهذا دليل على بطلان التقليد في العقائد، وأنه لا بد لكل إيمان من دليل عليه، إن الله لا يوفق للحق أهل الظلم الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعصية وتكذيب الرسل.
وأما سبب إنزال القرآن منجّما مقسّطا بحسب الوقائع والمناسبات، فهو أن الله أتبع إنزال القرآن بعضه بعضا في أزمان متتابعة، ليتّصل التذكير، ويتوافق مع الحكمة، وينسجم مع المصلحة، لعل قريشا وأمثالهم يتّعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام، أو يتذكّرون محمدا فيؤمنون به، أو يتنبّهون لما فيه خيرهم وصلاحهم، فيؤمنون بالقرآن وبمن أنزله وعلى من أنزله. قال أبو رفاعة القرظي في بيان سبب نزول آية وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ..: نزلت في اليهود في عشرة أنا أحدهم.
وقال جمهور العلماء: المعنى أعم، وهو أننا واصلنا لقريش واليهود نزول القرآن، وتابعناه موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام والحكمة.
المباهاة بإيمان بعض أهل الكتاب
ليس معسكر الشّرك أو الكفر كله شرّا أو سوءا، فقد يتمخّض عن هذا الوسط بعض العناصر الواعية العاقلة، يفكّرون في حقيقة الوحي القرآني، ومشمولات شرائعه وأحكامه، ودعوته إلى عقيدة الحق والتوحيد، والخير والواقع السديد،
1925
فيؤمنون به، ودليل هذا توارد وحدات الإيمان من أفراد وجماعات في كل زمان ومكان، وهذا ما كان واقعا فعلا في إبّان نزول الوحي على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكر الله تعالى القوم الذين آمنوا من أهل الكتاب مباهيا بهم قريشا، وباعثا لهم على تقليدهم.
قال سعيد بن جبير: نزلت آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ.. في سبعين من القسّيسين، بعثهم النّجاشي، فلما قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قرأ عليهم: يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا. وهذه هي الآيات:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
«١» «٢» «٣» [القصص: ٢٨/ ٥٢- ٥٥].
المعنى: إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأصفياء العقلاء، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، آمنوا بالقرآن، لتوافقه مع كتبهم، وبشارتها بمحمد نبي آخر الزمان، فإنهم أوتوا الكتاب من قبل القرآن، وهم به الآن يصدقون.
وهؤلاء الجماعة: إما من اليهود الذين أسلموا، أو بحيرا الراهب، أو النّجاشي وصحبه، أو أهل نجران.
إذا يتلى القرآن على هؤلاء الجماعة يقولون: صدّقنا به، وآمنّا بأنه الكلام الحقّ من ربّنا، وكنا مصدّقين بالله، مسلمين له، أي موحّدين، مخلصين لله، خاضعين لحكمه، مستجيبين لأمره، من قبل نزول هذا القرآن على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمراد به الإسلام المتحصّل لهم من شريعة موسى وعيسى عليهما السّلام. وهذا المعنى هو الذي
قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب السّتة ما عدا أبا
(١) يدفعون.
(٢) السّب والشّتم من الكفار.
(٣) سلمتم منا لا نعاملكم بالمثل من الشتم وغيره.
1926
داود) وغيرهم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، والعبد النّاصح في عبادة ربّه وخدمة سيّده، ورجل كانت له أمة، فأدّبها وعلّمها، ثم أعتقها وتزوّجها».
هؤلاء الذين أسلموا وآمنوا بالقرآن الكريم، من أهل الكتاب، وآمنوا بكتابهم المنزل، لهم الثواب المضاعف مرتين، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمان الراسخ الدائم الموصول النسب، وتحمّلهم أذى قومهم، وكونهم يقابلون السيئة بالحسنة، فلا يقابلون السيئ بمثله، ولكن يعفون ويصفحون، وينفقون من رزق الله الحلال في النّفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم من الزكاة والصدقة. ففي هذا مدح لهم من جانبين: الأول: اتّصافهم بمكارم الأخلاق، حين صبروا على الأذى، وقابلوا من قال لهم سوءا بالقول الحسن الذي يدفعه، والجانب الثاني: النفقة في الطاعات، وعلى موجب الشرع، وفي ذلك حضّ على الصدقات ونحوها.
ومن أخلاقهم العالية: أنهم إذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام، وهو الساقط من القول، من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب، أعرضوا عن أهله، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم، بل كانوا كما قال الله تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: ٢٥/ ٧٢]. وقالوا: في الرّد على السفهاء، على جهة التّبري: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي نحن المسؤولون عن أعمالنا ثوابا وعقابا، ولكم أعمالكم، أي تبعاتها ومسئولياتها، لا نردّ عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، لا سلام أهل الإسلام، فليس هو التحية المعروفة، لا نبتغي الجاهلين معناه: لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمسابّة، ونؤثر الكلام الطيب.
هذه المهادنة هي لبني إسرائيل، بقصد فتح جسور المودة والتفاهم والقناعة، بصدق الرسالات الإلهية، أوّلها وآخرها، فإذا ما تجرّدوا عن العصبية والهوى،
1927
وعادوا لنداء العقل الصائب، توصّلوا إلى وئام أهل الأديان، ووصل الاعتقادات، لأن المصدر واحد، والغاية واحدة، فالله تعالى هو مرسل الرّسل، ومنزل الكتب كلها، والغرض منها تحقيق السعادة والطمأنينة والنجاة للعالم كله، مما يقتضي اتّحاد أهل الأديان في العقائد والشرائع.
الهداية من الله تعالى وتفنيد الشّبهات الشّركية
الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد وبيان، وهداية توفيق، أما هداية البيان فهي إلى النّبي، كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشّورى: ٤٢/ ٥٢]، وأما هداية التوفيق: فهي إلى الله تعالى، لا لرسوله، وذلك كما قال الله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ في هذه الآيات الآتية. وأما شبهات المشركين من أهل مكة في ترك الإيمان بالقرآن والنّبي: فمصدرها المخاوف من المجاورين كما زعموا، ولكن هذا غير صحيح، لذا توعّدهم الله بالقرى المهلكة، فلم يكن إهلاك الأقوام الغابرين إلا بعد إرسال رسول لهم، وليست الدنيا دار مقام واستقرار، وإنما الآخرة هي دار القرار والخير، فلم لا يبادر العقلاء إلى الدائم، ويعبرون بالمؤقت في سلام؟! قال الله تعالى مفنّدا شبهات مشركي قريش:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٦ الى ٦١]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
«١» «٢» «٣»
(١) ننتزع سريعا.
(٢) يجلب إليه.
(٣) طغت وتمرّدت في حياتها.
1928
«١» «٢» [القصص: ٢٨/ ٥٦- ٦١].
والمعنى: إنك أيها النّبي لا تستطيع هداية من شئت، ولكن هداية التوفيق بيد الله تعالى، والله أعلم بمن هو أهل الاهتداء، فما عليك أيها النّبي إلا البلاغ والدعوة إلى الله، وبيان الشريعة.
وقد أجمع أكثر المفسّرين على أن هذه الآية إنما نزلت في شأن أبي طالب عم النّبي صلّى الله عليه وسلّم،
فإنه دخل عليه النّبي، وطالبه بالإيمان، فأجابه: «يا محمد، لولا أني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدي، لأقررت بها عينك، ثم قال أبو طالب: أنا على ملّة عبد المطّلب والأشياخ «٣»، فتفجّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج عنه، فمات أبو طالب على كفره، فنزلت هذه الآية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إشارة إلى أبي طالب.
وقال مشركو قريش في تسويغ عدم إيمانهم برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم واعتذارهم عنه: إن اتّبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما عليه بقية العرب، خفنا أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، فردّ الله تعالى عليهم بأمور ثلاثة:
الأول- تأمين الحرم وأهله: إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعل قريشا في بلد آمن، وحرم آمن، ويستمر فيه الأمن حال كفرهم وإيمانهم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناسا من قريش قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن نتّبعك تخطّفنا الناس،
(١) عاصمتها.
(٢) ممن أحضروا للنار. [.....]
(٣) لكن على رأي القائلين بأن أهل الفترة ناجون يكون هؤلاء أصول النبي صلّى الله عليه وسلّم ناجين كغيرهم
1929
فنزلت هذه الآية: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً.
والمعنى: إنهم لا يقدّرون هذه الأرزاق الآتية لهم من كل شيء ومكان، تفضّلا من الله ونعمة، ولكن أكثرهم جهلة لا يعلمون الحق والخير.
والثاني- ليعلم هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النّعم:
أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النّعم، فكثيرا ما أهلك الله أهل القرى السابقة، التي كفرت وطغت وجحدت بأنعم الله، وبطروا وتكبّروا، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكنها أحد بعدهم إلا لمدة قليلة، أثناء السفر والعبور، وأصبح الوارث لها هو الله تعالى، لأنها صارت خرابا، لا يخلفهم فيها أحد. وهذا توعّد من الله تعالى لقريش بضرب المثل بالقرى المهلكة، والمراد: فلا تغتروا أيها المكّيون بالحرم الآمن، والثمرات التي تجبى لصلاح حالكم وقوام أمركم، فإن الله تعالى مهلك الكفرة بسبب ظلمهم. وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا هلاك إلا بعد ظلم وجحود.
فلم يكن إهلاك أهل القرى من ربّهم إلا بعد إنذار، حيث يرسل لهم رسولا في عواصمهم، يبين لهم الآيات الدالّة على وجود الله وتوحيده، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل، ولا عذر بطمس معالم الحق، ثم لا يكون الإهلاك لقوم إلا وهم ظالمون أنفسهم بإنكار الآيات الإلهية وتكذيب الرّسل.
والرّد الثالث- هو أن الإيمان بالله لا يضيّع منافع الحياة الدنيوية، لأن التمتع بها مهيأ لجميع المخلوقات، علما بأن جميع ما في الدنيا من مال وولد وزينة ومتاع، إنما هو متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا منها، وهو لا بد زائل، وزهيد قليل إذا قيس بنعم الآخرة، فإن نعيم الآخرة باق دائم، وهو خير محض في ذاته، وأفضل من متاع الدنيا، أفلا تتفكرون أيها الناس في أن منفعة الباقي الدائم أولى بالإيثار من منفعة المؤقت الزائل؟!
1930
ولا يستوي المؤمن والكافر في الجزاء، وكيف يستوي المؤمن بكتاب الله، المصدّق بوعده، المتأمّل فضل الله وملاقيه، والكافر الكذوب، المتمتّع بحطام الدنيا أياما قليلة، ثم يحضره الله يوم القيامة، ليتلقى العذاب المهين؟! وهذه الآية: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ.. نزلت كما أخرج ابن جرير عن مجاهد في النبي صلّى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وقيل: في حمزة وأبي جهل.
أسئلة تقريع للمشركين يوم القيامة
ناقش القرآن الكريم المشركين في عقائدهم الفاسدة، مبيّنا لهم ما يتعرّضون له من أسئلة، وهذا غاية الصراحة والإخلاص والبيان السابق، إنهم عبدوا الأصنام والأوثان، فهل تستطيع مناصرتهم؟ ودعوا تلك الآلهة المزعومة لتخليصهم من العذاب، فلم يجيبوا، وسئلوا عن توحيد الله عزّ وجلّ وإجابتهم رسلهم، فلم يجدوا جوابا مقنعا، فأفلسوا ووقعوا في اليأس والإحباط. إن هذه المناقشة تستدعي التأمل والوعي والتفكّر، إن كان الوثنيون من ذوي العقل والرّشد، وأرادوا النّجاة والخير لأنفسهم، ولكنهم بعدوا عن مقتضى العقل، فخابوا وخسروا. قال الله تعالى واصفا هذه الحال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
«١» «٢» [القصص: ٢٨/ ٦٢- ٦٧].
(١) دعوناهم إلى الغي، فاتّبعونا.
(٢) المراد: فعموا عن الأنباء، فقلب الأسلوب، أي خفيت عليهم.
.
1931
هذه مواقف ثلاثة مثيرة للخجل والندم، موقعة في العجز والإحباط، مفادها التوبيخ والتأنيب للمشركين في يوم الحساب، والإشارة لقريش:
الأول- اذكر أيها النّبي يوم ينادي الله المشركين عبّاد الأصنام، إما بواسطة أو بغير واسطة، فيقول لهم: أين الآلهة التي زعمتم أنها شركاء في الألوهية؟ بمقتضى قولكم وزعمكم. والمقصود من السؤال: التوبيخ والتقريع، إذ لا جواب عندهم، وكأن ذلك موجّه أصالة للأعيان والرؤوس منهم، الذين أوقعوا غيرهم في الغواية والضّلال، تأكيدا لاستحقاقهم العذاب المضاعف، لكنهم طمعوا في التّبري من الأتباع، فأجابوا وقد ثبت عليهم مقتضى القول، ولزمهم العذاب: ربّنا هؤلاء هم الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم وإرادتهم، وهؤلاء أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم، وأحبّوا الكفر كما أحببناه، فنحن نتبرأ إليك منهم، وهم لم يعبدونا، إنما عبدوا غيرنا. وهذا يعمّ جميع الكفرة، لكن الجواب من المغوين من الشياطين: الجنّ، ومن الإنس: الرؤساء والسّادة.
الثاني- نداء آخر للكفار لمعرفة ما أجابوا المرسلين الذين دعوهم إلى توحيد الله تعالى، فيقال لهم: ادعوا شركاءكم الآلهة لتخليصكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون في الدنيا، فدعوهم لفرط الدهشة والحيرة، فلم يجيبوهم عجزا عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى عذاب النار، وودّوا حين معاينة العذاب المحيط بهم، لو أنهم كانوا مهتدين إلى الإيمان بالحق والدين القويم. وهذا توبيخ وتقريع آخر، لكشفهم أمام الناس، والله يعلم كل ذلك سلفا.
الثالث- واذكر أيها النبي يوم ينادي الله سبحانه وتعالى أهل الشرك، لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم، وهل استجابوا لدعوتهم لتوحيد الله تعالى، وإلى أصول الأخلاق، وعبادة الله تعالى، وإصلاح الحياة. ولكن أظلمت الأمور عليهم،
1932
وخفيت الأدلة الدفاعية المقنعة، ولم يجدوا معتصما غير السكوت، لما اعتراهم من الاندهاش والذهول. وجاء الفعل: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ بصيغة الماضي، لتحقّق وقوعه، وأنه تعيّن، والماضي من الأفعال متيقّن، فيعبر به عن المستقبل المتيقّن، لتأكيد وقوعه وتقوية صحته. والمعنى: أظلمت جهات الأمور عليهم. ولم يبق لديهم أمل في مساءلة بعضهم بعضا لحلّ المشكلات، لأنهم قد أيقنوا أنهم جميعا، لا حيلة لهم ولا مكانة، ولا أمل في النجاة.
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء المشركين الآيسين من رحمة الله أولئك الذين تابوا من كفرهم، وآمنوا بالله ورسله، وعملوا بتقوى الله، فهؤلاء يرجى لهم من الله الفوز والنّجاة، والظفر بالنعيم الدائم. إن الذين تابوا من الشّرك، وصدّقوا بالله، وأقرّوا بوحدانيته، وأخلصوا العمل لله، وأدّوا الفرائض وغيرها، وآمنوا بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، هم الفائزون برضوان الله ونعيمه الجنان.
والتعبير بكلمة (عسى) المفيدة للرجاء، دون القطع واليقين بحسب اللغة، يراد بها هنا التأكّد والتّيقّن، لأن (عسى) من الله واجبة التّحقّق، كما قال كثير من العلماء.
وهذا مستفاد من حسن الظّن بالله تعالى، المبني على فضله وكرمه، خلافا لما عليه حال البشر، فإن قولهم مثلا: «عسى» و «لعل» مجرد ترج وتوقّع لا يدلّ على التأكّد والتحقّق.
صفات الجلال والجمال والكمال
الجلال التّام، والجمال المطلق، والكمال النّهائي، والإرادة الشاملة، والسّلطان النّافذ: إنما هو كله لله وحده، لا لأحد سواه، فهو خالق الأكوان والعباد، وبيده الأمر في البدء والختام، وله الحكم والقضاء النافذ في الدنيا والآخرة، فأين موقف
1933
المعاندين؟ لا يساوي شيئا، إن الله تعالى خالق الليل والنهار، لحكمة واضحة فيهما، فإن أراد التغيير والتبديل، من يستطيع الحيلولة من ذلك؟ إن الآلهة المزعومة المتخذة شركاء لله في الألوهية لا يصمدون أمام النّقاش في حقيقة الألوهية، ولا يجدون برهانا يقنع، ولا متّكأ يعتمدون عليه، تصور هذه الآيات الكريمة هذه المعاني تصويرا دقيقا، لا لبس ولا غموض فيه، قال الله تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٥]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
«١» «٢» «٣» »
«٥» «٦» [القصص: ٢٨/ ٦٨- ٧٥].
المعنى: إن الله تعالى هو المتفرّد بخلق ما يشاء، واختيار ما يريد، ما كان لأحد غير الله القدرة على الاختيار، يختار قوما لأداء الرسالة، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة، تنزه الله وتقدّس عن إشراك المشركين، وعن منافسة الأصنام وغيرها في خلقه واختياره. سبب نزول هذه الآية الرّد على تطلّعات قريش وترقّبهم إنزال القرآن على غير محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو أحد رجلين: إما الوليد بن المغيرة من مكّة، أو عروة بن مسعود الثّقفي من الطّائف. فردّ الله تعالى عليهم أنه سبحانه يختار
(١) الاختيار.
(٢) ما تخفي.
(٣) أخبروني.
(٤) دائما.
(٥) تاه
. (٦) يختلقونه من الباطل.
1934
لرسالته من يريد، ويجعل فيه المصلحة، وليس الاختيار للناس في هذا ونحوه، كما أنه تعالى هو الذي يختار الأديان والشرائع، وليس لأحد الميل إلى الأصنام ونحوها في العبادة.
واختيار الله تعالى مبني على علم صحيح ثابت، فهو يعلم ما تنطوي عليه الصدور، وما يعلنه الناس من الأقوال والأفعال.
وعلمه تعالى صادر عن قدرة شاملة وسلطان نافذ، فهو المتفرّد بالألوهية، فلا معبود سواه، وهو القادر على كل الممكنات، المنزه عن النقائص والعيوب، المستحقّ للحمد والشكر والعبادة، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة، له القضاء النافذ في كل شيء، وإليه مرجع جميع الخلائق في القيامة.
وأدلة قدرة الله تعالى على كل شيء كثيرة ومتنوعة، فقل أيها الرسول لكل من أشرك بالله إلها آخر: أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما دامسا، وليلا دائما متتابعا إلى يوم القيامة، من الإله المتألّه غير الله يتمكن من الإتيان بضياء النهار، أفلا تسمعون ذلك سماع تعقّل وتأمّل؟! وقل أيها النّبي أيضا: أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا دائما، ونورا متّصلا إلى يوم القيامة، دون أن يعقبه ليل، من الإله الذي يستطيع أن يأتيكم بليل، تسكنون فيه سكن الراحة والاطمئنان، أفلا تبصرون هذه الظاهرة الدالة على القدرة الإلهية التامّة؟! إن من رحمة الله تعالى بكم أيها الناس تعاقب الليل والنهار، وتفاوتهما، لتجعلوا الليل مجالا للراحة والسكن النفسي، والنهار مجالا للتبصّر وتحصيل المنافع، وكسب المعايش، وابتغاء الرزق والفضل الإلهي، والتنقّل من مكان لآخر، وقضاء الحاجات، فتشكروا الله تعالى بأنواع العبادات على ما يسّر لكم.
1935
واذكر أيها النّبي للمشركين مرة أخرى يوم يناديهم الله بواسطة، لأن الله تعالى لا يكلم الكفار كما رجح القرطبي، فيقول: أين الشركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي في الألوهية، ليخلّصوكم مما أنتم فيه؟ وقد كرّر الله تعالى هذا المعنى إبلاغا وتحذيرا، وتوجيه هذا النداء يقصد به توبيخ الكفار وتقريعهم. وأكّد الله ذلك بالإشهاد عليهم، ليعلم أن التقصير منهم، والإشهاد: أن يخرج الله من كل أمّة شهودا عليهم: وهم الرّسل الكرام، فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا، ويشهد نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء جميعا. ويقال للمقصّرين: أحضروا برهانكم على صحة ادّعائكم أن لله شريكا، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا، فعلموا أن الحقّ في الألوهية لله وحده، وتاه عنهم وتبدّد كل ما يفترونه ويكذّبونه من نسبة الشريك لله تعالى.
قصة قارون
- ١- فتنة المال وتأثيره على الإنسان
أورد الله تعالى تفصيلا واضحا لقصة قارون الذي كان من قوم موسى، فاغتر بماله وثرواته، وزعم أنه أوتي ذلك بذكائه ومهارته، وأنه لا حقّ لأحد له فيه، فجاءه التوجيه الإلهي إلى ضرورة استعمال المال والانتفاع به فيما يحقّق له النفع في الآخرة، وإصلاح شؤون الدنيا، والإحسان في تثميره وتنميته وإنفاقه، وتجنّب كل مهاوي الفساد والإفساد به في الأرض، ولكنه لم يستجب لهذا التوجيه، وبطر في عيشه وتبختر، فحقّ عليه الهلاك والدّمار، قال الله تعالى واصفا قصة قارون:
1936

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
«١» «٢» «٣» «٤» [القصص: ٢٨/ ٧٦- ٧٨].
كان قارون الثّري المترف ابن عم موسى عليه السّلام، وهو رجل من بني إسرائيل، كان ممن آمن بموسى، وحفظ التّوراة، وكان من أقرأ الناس لها، وكان عند موسى عليه السّلام من عبّاد المؤمنين، ثم لحقه الزهوّ والإعجاب، فبغى على قومه بأنواع البغي، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به، ومطالبته له بأن يجعل له شيئا من المكانة والنفوذ والمشاركة في شؤون السلطة على الناس، وتجاوز الحدّ في بغيه، حتى إنه حاول التشهير بموسى، بامرأة مومس فاجرة ذات جمال، تدّعي أمام الملأ من بني إسرائيل أن موسى يتعرض لها في نفسها، ويكافئها على ذلك، وتستنجد به، فلما وقفت بين الملأ، أحدث الله لها توبة، وفضحت قارون في محاولاته تلك. وقد آتى الله قارون أموالا نقدية وعينية كثيرة، يثقل بحمل مفاتيح خزائنها الجماعة أولو البأس والقوة، فنصحه الناس بخمس مواعظ:
- قال له قومه الإسرائيليون: لا تبطر ولا تتبختر بمالك، فإن الله يكره البطرين الأشرين. إنهم نهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس، وأشر وإعجاب، مؤدّ به إلى المهالك.
- ثم وصّوه بأن يطلب بماله رضا الله وآخرته، وإنفاق بعض المال في وجوه الخير
(١) ظلمهم.
(٢) لتثقل الجماعة الكثيرة.
(٣) لا تبطر بكثرة المال.
(٤) من الأمم.
1937
وطاعة الله، ونفع الأمة أو المجتمع، والتقرّب إلى الله بأنواع القربات المحققة للثواب في الدار الآخرة، لأن الدنيا لا تغني شيئا.
- ولم يقطعوه عن الدنيا، فقالوا له: لا تترك حظّك من لذّات الدنيا المباحة، من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن وغيرها، لكن لا تضيّع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان: عمره وعمله الصالح، فينبغي ألا تهمله، وطلب الحلال مشروع، مع النظر إلى عاقبة الدنيا.
- وأحسن إلى الخلق كما أحسن الله إليك باللّين والمعاملة الحسنة وتحسين السمعة وحسن اللقاء، وفي ذلك جمع بين خصلتي الإحسان: الإحسان الأدبي الرفيع، والإحسان المادّي المقبول، وهذا أمر بصلة المساكين وذوي الحاجة وإتقان الأعمال.
- ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن الله تعالى يعاقب المفسدين، ويحول بينهم وبين رحمته وعونه.
لكن قارون أبي سماع هذه المواعظ المتضمّنة اتّقاء الله في مال الله، وأخذته العزة بالإثم، فأعجب بنفسه، وقال لناصحيه: أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقّه، ولمعرفتي وخبرتي ومهارتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل، فأجابه الله تعالى بأنه: أو لم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم أن الله تعالى قد دمّر من قبله من هو أكثر منه مالا، وأشد قوة، وأعظم مكانة، وأشهر سلطانا ونفوذا، ولا يسأل المجرمون عن كثرة خطاياهم وسيئاتهم حينما يعاقبهم، لأنه تعالى عليم بكل المعلومات، مطّلع على جميع الأقوال والأفعال، فلا حاجة به إلى السؤال سؤال الاستفسار، كقوله الله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: ٢/ ٢٨٣].
وسؤال الاستعتاب، كما قال عزّ وجلّ: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) [المرسلات: ٧٧/ ٣٥- ٣٦]. لكن لا مانع من سؤال الكافرين والمفرطين سؤال توبيخ
1938
وتقريع، كما في قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:
١٥/ ٩٢- ٩٣]. وقوله سبحانه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) [الصّافّات: ٣٧/ ٢٤].
- ٢- جزاء بغي قارون
استبدّ البغي والغرور بقارون الثّري المترف، وسيطر الكبرياء والعجب والتّجبر على نفسه، فأراد إظهار ما لديه من الثراء والقدرة على الملابس والمراكب وزينة الدنيا ومفاتنها، فافتتن أهل الدنيا باستعراضه الفاخر وتمنّوا أن يكونوا مثله، ولكنّ أهل العلم والمعرفة المتيقّظين لحقائق الدنيا ومظاهرها حذّروا من هذه الفتنة، ووجّهوا إلى العمل الأخروي الباقي. وكانت العاقبة كما قدّروا، فخسف الله بقارون الأرض، ودمّر دوره وممتلكاته، واستيقظ الناس على هذا المصير المشؤوم، وأرشدتهم صحوة العقل والدين إلى أن زوال الدنيا سريع، وأن خطر العقاب لكل عات متمرد قريب، قال الله تعالى مبيّنا هذه الخاتمة لقارون:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [القصص: ٢٨/ ٧٩- ٨٢].
(١) في مظاهر غناه. [.....]
(٢) الويل: الهلاك أو العذاب.
(٣) لا يتلقى المثوبة.
(٤) أي بل إن، وكلمة: وي للتعجب، وكأن للتشبيه، والمراد: ألم تر أن الله.
(٥) يضيق على من يشاء.
(٦) ألم تر أنه لا يفلح.
1939
لقد باهى قارون الناس، فخرج على قومه في موكب بهي، في زينة عظيمة وأبهة واضحة، وتجمّل باهر، في الملابس والمراكب، هو وحاشيته، بقصد التّعالي على قومه، وإظهار التّرفّع والمهابة، فاغتر الجهلة أهل الدنيا وزينتها به وبمظاهره، وتمنّوا ما لديه وقالوا: يا ليت لنا من الثروات والأبهة ما لقارون، لنتمتّع بها مثله، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا.
وقال الفريق الآخر، وهم أولو العلم والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به زاجرين الجهلة الذين تمنّوا حال قارون: ويلكم (وهذه كلمة زجر) ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، يلقاه في الدار الآخرة، وهو أفضل مما تتمنّون، ويكون حال المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب الله خيرا من حال صاحب الدنيا فقط، ولكن لا يتلقّى هذا الثواب العظيم أو الجنة إلا الصابرون على طاعة الله، الرّاضون بقضائه وقدره، في كل ما قسم من المنافع والمضارّ، المترفّعون عن محبة الدنيا المؤثرون لها.
وكان المتوقّع ما قاله هؤلاء العارفون بالله، وكان العقاب السريع لقارون المتفاخر الباغي: هو الخسف به وبداره الأرض، حيث ابتلعته الأرض، وغاب فيها، جزاء لبطره وعتوه، فلم يغن عنه ماله ولا حاشيته، ولم يجد من يدفع عنه نقمة الله، ولم يكن منتصرا لنفسه، ولا منصورا من غيره. والفئة: جماعة المناصرة والنجدة.
وبعد هذه الكارثة التي أطاحت بقارون وتبيّن حقيقة الأمر، صار الذين يتمنّون أن يكونوا مثله يقولون: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي بل إن الله، يوسع الرزق أو العطاء المادّي لمن يريد خلقه، ويضيّقه على من يريد من عباده، بحسب حكمته ومشيئته، وليس المال المعطى دليلا على رضا الله ومحبته لصاحبه، ولا منع المال برهانا على سخط الله وكراهيته لعبده، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيّق ويوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة،
جاء في الحديث المرفوع عن ابن
1940
مسعود فيما رواه أحمد والحاكم وغيرهما: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ».
والمعنى: إن الذين فتنوا بقارون انتبهوا، فتكلموا على قدر علمهم، فقالوا: على جهة التعجب والتّندّم: إن الله يبسط الرزق ويضيّقه بحسب مراده.
ولولا لطف الله بنا، وإحسانه إلينا، لخسف بنا الأرض، كما خسف بقارون، لأنا تمنّينا أن نكون مثله، بل إن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة، مثل قارون ونحوه من عتاة الناس، وطغاة المال، ومردة العصاة من الإنس والجنّ.
العاقبة للمتّقين
العبرة في الأفعال والأعمال والتّصرفات كلها إنما هي في الغاية والهدف، لأن تصرّفات العقلاء تهدف إلى تحقيق غاية، وإنجاز مطلوب، وهكذا الشأن بين الدنيا والآخرة، الدنيا مزرعة الآخرة، والآخرة هدف العاملين العاقلين، فمن أحسن العمل في الدنيا، لقي العاقبة الحسنة في الآخرة، ومن أساء العمل في الدنيا، وجد أمامه النتيجة الوخيمة والخسارة المحقّقة، فلكلّ جزاء عمله حقّا وعدلا، وثوابا مكافئا، وعقابا مناسبا، وتكون موازين الحساب واضحة، والنهاية مؤكدة ومعروفة، لذا كان القرآن الكريم خير واعظ، وأخلص ناصح، يبين الأشياء قبل وقوعها، ويحدّد الأسباب والغايات المرجوة قبل حصولها، قال الله تعالى مبيّنا ذلك:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
[القصص: ٢٨/ ٨٣- ٨٤].
1941
هذا إخبار من الله تعالى لنبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقانونه العام، يراد به حضّ الناس على إحسان العمل وإتقانه، والتحذير من سوء العمل وإفساده، ولوم قارون ونظرائه الذين آثروا الدنيا على الآخرة، فإن الآخرة ليست في حسابات قارون، إنما هي لمن اتّصف بصفات معينة.
والمعنى: إن تلك الدار الخالدة العظيمة، ونعيمها الأبدي المذلّل، دون عناء ولا مشقة، يجعلها الله سبحانه وتعالى للذين لا يستعلون على الناس، ولا يتجبّرون عليهم، ولا يريدون أي لون من ألوان الفساد، والفساد يعمّ جميع وجوه الشّر، ومنها أخذ المال بغير حقّ، والعاقبة الحسنة: هي لأهل التقوى الملتزمين بأوامر الله، المبتعدين عن نواهيه ومحظوراته.
يدلّ ذلك على أن التواضع لله والناس أمر محمود، وأن العلو مذموم، وأن فعل الصلاح خير، وأن الفساد والإفساد شرّ ودمار.
وقانون الجزاء الإلهي على الأعمال واضح وقاطع، إما في الدنيا وإما في الآخرة، فمن جاء بالفعلة الحسنة، فله خير منها ذاتا وقدرا وصفة، ومن عمل صالحا فله خير من القدر الذي ينتظره موازيا لفعله، لأن فضل الله كبير، يضاعف الحسنات، وينمّي الخيرات، ويعطي الثواب الجزيل غير المتوقع بحسب أحوال الدنيا.
ومن جاء بالخصلة السيئة أو الفعلة الشنيعة، المنكرة عقلا وشرعا وعادة، فلا يجزى أصحاب الأعمال السيئة إلا مثلها قدرا، دون زيادة أو ظلم، فضلا من الله ورحمة، ومحبة وعدلا، وإبانة لجود الله وسخائه، وسعة خزائنه. وهذا دليل على أن فعل السوء وباء وظلام، وتدمير وضلال، وأن السيئة لا يضاعف جزاؤها، فضلا من الإله الغني، ورحمة من الرّحيم الرّحمن.
هذا القانون الإلهي بمضاعفة الحسنات، ومقابلة السيئات بمثلها دون زيادة،
1942
يختلف عن قانون البشر ويسمو عنه، فإن الإنسان يعطي إنسانا آخر جزاء مكافئا لعمله، وقد ينقصه في الغالب بسببه ظلم الإنسان لأخيه، أما عطاء الله تعالى فلا يحدّه حدود، ولا يبخس منه شيء، سواء كان العمل قليلا أو كثيرا بحسب تقدير الإنسان، لأن ربّك هو الغني ذو الرّحمة، وهو واسع المغفرة، غافر الذنب، وقابل التّوب، لا يجاريه أحد في عطائه، ولا يسبقه أحد في جوده وسخائه.
أفليس من واجب الإنسان إذن أن يرغب في العطاء الكثير الدائم، فيعمل عملا صالحا يؤهّله لنيله؟ أو ليس من وعي الإنسان وإجراء حسابه أن ينفر ويحذر من سوء العمل الذي يعرّضه للخسران والضياع؟!
نعم وتكاليف نبويّة
النّبوة أو الرسالة مسئولية عظمي، وتكليف ثقيل، يقترن عادة بتخصيص النّبي أو الرّسول بخصائص متميزة، وإمداد بنعم إلهية سامية، لأن ما يتعرّض له النّبي الرّسول من صدود قومه عن دعوته، وإعراضهم عن قبول رسالته يحتاج لصبر ومصابرة، وجهاد ومقاومة، لا يتحملها الإنسان العادي. وقد تشابهت ظروف الرسل في أثناء تبليغ دعوة الله إلى توحيده وعبادته وتنفيذ شرعه، ولكن رحمة الله ورعايته تحمي الرسول. وتتطلب الرسالة أيضا الحزم والعزم في أداء التكاليف، والتّفاني في القيام بها، والتزام الدعوة إلى توحيد الله الحي الباقي الخالد، الذي لا يفنى، ويتفرد بالحكم والقضاء، والمرجع والحساب يوم القيامة، ويفنى غيره ثم يعيده الله للمساءلة، قال الله تعالى مبيّنا أمورا تتعلق بنبوة نبيّنا:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
1943
«١» [القصص: ٢٨/ ٨٥- ٨٨].
الآية الأولى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ.. نزلت بالجحفة حينما هاجر النّبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة،
أخرج ابن أبي حاتم عن الضّحاك قال: لما خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.
قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره: فالآية- على هذا- معلمة بغيب قد ظهر للأمة، ومؤنسة بفتح.
يخبر الله تعالى نبيّه ويبشّره بأن الذي أنزل عليك القرآن وأثبته، وألزمك بالعمل به وأدائه للناس، لرادّك إلى بلدك الحبيب: مكة، فاتحا منتصرا، بعد خروجك منها مهاجرا مطاردا، وكان فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي حطّمت به الأصنام، وأزيلت به معالم الكفر والوثنية. ووعد الله صادق، ومنجز، وقد تحقّق الوعد كما هو معروف في السّيرة النّبوية، في السّنة الثامنة من الهجرة. والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه، وقد اشتهر به يوم القيامة، لأنه معاد للكل.
وقوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى.. آية متاركة للكفار وتوبيخ، فقل أيها النّبي لمن كذّبك من قومك المشركين: الله هو العالم البصير بالمهتدي، مني ومنكم، وعالم بمن هو غارق في الضلال، ومطّلع على من جاء بالهدى، وهو الآتي بالقرآن الكريم، وبما يستحقه من الثواب في المعاد، والإعزاز بالإعادة إلى مكة المكرمة.
ثم ذكّر الله نبيّه بنعمته العظيمة عليه وهي النّبوة، فلم تكن أيها النّبي تتوقّع إنزال
(١) معينا لمن كفر.
1944
الوحي الإلهي والقرآن المبين إليك، إلا برحمة من الله وفضل، لنفع جميع العباد، وبناء عليه تكون مكلفا بخمسة أمور، مع خبر سادس بعدها:
١- لا تكن عونا للكافرين بأي حال، ولكن فارقهم وخالفهم، وكن عونا للمسلمين، والمراد: اشتد يا محمد في تبليغك، ولا تلن، ولا تفشل (تجبن)، فتكون معونة الكافرين يراد بها: بالفتور عنهم.
٢- ولا يمنعنك شيء عن اتباع آيات الله المنزلة إليك، بأقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت إليه، وامض لشأنك، فإن الله مؤيدك وناصرك، ومظهر دينك على جميع الأديان.
٣- وادع إلى عبادة ربّك وحده لا شريك له، وبلّغ دينه، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهّل. وسبب هذه الآية: ما كانت قريش تدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تعظيم أوثانهم.
٤- واحذر أن تكون من فئة المشركين الذين أشركوا بربّهم، فجعلوا له شريكا ونظيرا، فتكون من الهالكين. وهذا نهي عما هم بسبيله، بدئ به النّبي باعتباره القائد والقدوة لأمّته.
٥- ولا تعبد مع الله إلها آخر، ولا تدع في أي عمل مع الله غيره، لأن العبادة لا تستحق إلا لله، ولا فائدة من دعاء غيره.
٦- وكل من في الوجود فان أو هالك إلا ذات الله، المعبّر عنها بوجهه، فإن الله هو الباقي وحده بعد فناء خلقه، وله مهمة فصل القضاء وإنفاذه في الدنيا والآخرة، وإليه مصير جميع الخلائق. وهذا إخبار بالحشر والعودة من القبور، لإيقاع الجزاء على الأعمال، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
1945
Icon