تفسير سورة القصص

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة القصص من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
[ بسم الله الرحمن الرحيم. رب يسر بفضلك ]١ تفسير سورة القصص
[ وهي مكية ]٢ قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله : حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا وَكِيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب قال : أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا ﴿ طسم ﴾ المائتين، فقال : ما هي معي، ولكن عليكم مَن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : خَبَّاب بن الأرَت. قال : فأتينا خَبَّاب بن الأرت، فقرأها علينا، رضي الله عنه٣.
١ - زيادة من ت..
٢ - زيادة من ف..
٣ - المسند (١/٤١٩)..

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. رَبِّ يَسِّرْ بِفَضْلِكَ] (١)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَصَصِ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ] (٢)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا ﴿طسم﴾ الْمِائَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هِيَ مَعِي، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ مَن أَخَذَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَبَّاب بْنَ الأرَت. قَالَ: فَأَتَيْنَا خَبَّاب بْنَ الْأَرَتِّ، فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٣).
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) ﴾.
(١) زيادة من ت.
(٢) زيادة من ف.
(٣) المسند (١/٤١٩).
وقوله :﴿ تلك ﴾ أي : هذه ﴿ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ أي : الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن.
وقوله :﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ كما قال تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [ يوسف : ٣ ] أي : نذكر لك الأمر على ما كان عليه، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.
ثم قال :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ ﴾ أي : تكبر وتجبر وطغى. ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ أي : أصنافا، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله :﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ﴾ يعني : بني إسرائيل. وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم. هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل، حين ورد الديار المصرية، وجرى له مع جبارها ما جرى، حين أخذ سارة ليتخذها جارية، فصانها الله منه، ومنعه منها١ بقدرته وسلطانه. فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك ملك مصر على يديه، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون، فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر ؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولكل أجل كتاب ؛ ولهذا قال :﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾.
١ - في ف، أ :"ومنعها منه"..
وقد فعل تعالى ذلك بهم، كما قال :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] وقال :﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ]، أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدلله وتتفداه، وحتفك، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦) ﴾.
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ﴾ أَيْ: هَذِهِ ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أَيْ: الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْكَاشِفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَعِلْمِ مَا قَدْ كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يُوسُفَ: ٣] أَيْ: نَذْكُرُ لَكَ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ وَكَأَنَّكَ حَاضِرٌ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَطَغَى. ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ أَيْ: أَصْنَافًا، قَدْ صَرَّفَ كُلَّ صِنْفٍ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ أُمُورِ دَوْلَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خِيَارَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ. هَذَا وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَخَسِّ الْأَعْمَالِ، ويكُدُّهُم لَيْلًا وَنَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَأَشْغَالِ رَعِيَّتِهِ، وَيَقْتُلُ مَعَ هَذَا أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِهَانَةً لَهُمْ وَاحْتِقَارًا، وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ الْغُلَامُ الَّذِي كَانَ قَدْ تَخَوَّفَ هُوَ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ غلام،
يَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِ وَذَهَابُ دَوْلَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ. وَكَانَتِ الْقِبْطُ قَدْ تَلَقَّوْا هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا كَانُوا يَدْرُسُونَهُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حِينَ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَجَرَى لَهُ مَعَ جَبَّارِهَا مَا جَرَى، حِينَ أَخَذَ سَارَّةَ لِيَتَّخِذَهَا جَارِيَةً، فَصَانَهَا اللَّهُ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ مِنْهَا (١) بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ. فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ مِنْ صُلْبِهِ وَذَرِّيَّتِهِ مَن يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَتِ الْقِبْطُ تَتَحَدَّثُ بِهَذَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَاحْتَرَزَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ؛ لِأَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾. وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٣٧] وَقَالَ: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٥٩]، أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ مُوسَى، فَمَا نَفَعَهُ ذَلِكَ مَعَ قَدَر الْمَلِكِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ أَمْرُهُ الْقَدَرِيُّ، بَلْ نَفَذَ حُكْمُهُ وَجَرَى قَلَمُهُ فِي القِدَم بِأَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي احْتَرَزْتَ مِنْ وُجُودِهِ، وَقَتَلْتَ بِسَبَبِهِ أُلُوفًا مِنَ الْوِلْدَانِ إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي دَارِكَ، وَغِذَاؤُهُ مِنْ طَعَامِكَ، وَأَنْتَ تُرَبِّيهِ وَتُدَلِّلُهُ وَتَتَفَدَّاهُ، وَحَتْفُكَ، وَهَلَاكُكَ وَهَلَاكُ جُنُودِكَ عَلَى يَدَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ الْعُلَا هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ الْعَظِيمُ، الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الْمِحَالِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩) ﴾.
ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْني بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢) فَيَلُون (٣) هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ -إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ -أَنْ يَمُوتَ شُيُوخُهُمْ، وَغِلْمَانُهُمْ لَا يَعِيشُونَ، وَنِسَاؤُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُمْن بِمَا يَقُومُ بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَوُلِدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَكَانَ لِفِرْعَوْنَ أُنَاسٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ
(١) في ف، أ: "ومنعها منه".
(٢) في ف: "أن تفنى بنو إسرائيل" وفي أ: "أن يفنى ينو إسرائيل".
(٣) في أ: "فيكون".
221
أَحْصَوُا اسْمَهَا، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُها إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فَإِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذبَّاحون، بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ، فَقَتَلُوهُ وَمَضَوْا قَبَّحَهُم اللَّهُ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا، وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ، وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَحَبَّهُ طَبْعًا وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طَهَ: ٣٩]. فَلَمَّا ضَاقَتْ ذَرْعًا بِهِ أُلْهِمَتْ فِي سِرِّهَا، وَأُلْقِي فِي خَلَدِهَا، وَنُفِثَ فِي رَوْعِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ دَارُهَا عَلَى حَافَّةِ النِّيلِ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا، ومهدَت فِيهِ مَهْدًا، وَجَعَلَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ تَخَافُ جَعَلَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَسَيَّرَتْهُ (١) فِي الْبَحْرِ، وَرَبَطَتْهُ (٢) بِحَبْلٍ عِنْدَهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا مَنْ تَخَافُهُ، فَذَهَبَتْ فَوَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَأَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَذَهَلَتْ عَنْ أَنْ تَرْبِطَهُ، فَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ وَاحْتَمَلَهُ، حَتَّى مَرَّ بِهِ (٣) عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ، فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي فَاحْتَمَلْنَهُ، فَذَهَبْنَ بِهِ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَلَا يَدْرِينَ مَا فِيهِ، وَخَشِينَ أَنْ يَفْتَتْنَ عَلَيْهَا فِي فَتْحِهِ دُونَهَا. فَلَمَّا كَشَفَتْ عَنْهُ إِذَا هُوَ غُلَامٌ مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ وَأَجْمَلِهِ وَأَحْلَاهُ وَأَبْهَاهُ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَعَادَتِهَا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا وَشَقَاوَةِ بَعْلِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [وَحَزَنًا] ﴾ (٤).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: "اللَّامُ" هُنَا لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِالْتِقَاطِهِ ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ، وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى مَعْنَى السِّيَاقِ فَإِنَّهُ تَبْقَى (٥) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَيَّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ لِيَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا فَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ حَذَرِهِمْ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِأَقْدَارِهِ النَّافِذَةِ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ: وَمُوسَى فِي عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ لِفِرْعَوْنَ عَدُوٌّ وَحَزَنٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَوْ شَاءَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى وَلِيًّا وَنَصِيرًا، وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يَعْنِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ همَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ تُحَاجُّ عَنْهُ وتَذب دُونَهُ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ فَقَالَ: أَمَّا لَكِ فَنَعَم، وَأَمَّا لِي فَلَا. فَكَانَ كَذَلِكَ، وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ فِي سُورَةِ "طَهَ" هَذِهِ الْقِصَّةُ بِطُولِهَا، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عباس مرفوعًا عن النسائي وغيره.
(١) في ت: "وأرسلته".
(٢) في أ: "وأوثقته".
(٣) في أ: "حتى قربه".
(٤) زيادة من ت، ف، أ.
(٥) في ت: "يعني".
222
قال محمد بن إسحاق وغيره :" اللام " هنا لام العاقبة لا لام التعليل ؛ لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك. ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى١ اللام للتعليل ؛ لأن معناه أن الله تعالى، قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ؛ ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كتب كتابًا إلى قوم من القدرية، في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق : وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن، قال الله تعالى :﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾، وقلتم أنتم : لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليًا ونصيرًا، والله يقول :﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾.
١ - في ت :"يعني"..
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ يعني : أن فرعون لما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تُحَاجُّ عنه وتَذب دونه، وتحببه إلى فرعون، فقالت :﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ﴾ فقال : أما لك فَنَعَم، وأما لي فلا. فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة " طه " هذه القصة بطولها، من رواية ابن عباس مرفوعًا عن النسائي وغيره.
وقوله " :﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ﴾، وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقولها :﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ أي : أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه.
وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ أي : لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه، من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة.
وَقَوْلُهُ": ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾، وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَسْكَنَهَا الْجَنَّةَ بِسَبَبِهِ. وَقَوْلُهَا: ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أَيْ: أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَتَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: لَا يَدْرُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ، مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ.
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى، حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ، إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى. قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أَيْ: إِنْ كَادَتْ مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظهر أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتها وصبَّرها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أَيْ: أَمَرَتِ ابْنَتَهَا -وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقَالُ لَهَا -فَقَالَتْ لَهَا: ﴿قُصِّيهِ﴾ أَيْ: اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَخُذِي خَبَرَهُ، وتَطَلَّبي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ. فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ، ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَانِبٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ : عَنْ بَعِيدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ، وَاسْتَطْلَقَتْهُ مِنْهُ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا ثَدْيًا، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجُوا بِهِ إِلَى سُوقٍ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بِأَيْدِيهِمْ عَرَفَتْهُ، وَلَمْ تُظْهِرْ ذَلِكَ وَلَمْ (١) يَشْعُرُوا بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: تَحْرِيمًا قَدَريا، وَذَلِكَ لِكَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ صَانَهُ (٢) عَنْ أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ -جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ، لِتُرْضِعَهُ وَهِيَ آمِنَةٌ، بَعْدَمَا كَانَتْ خَائِفَةً. فَلَمَّا رَأَتْهُمْ [أُخْتُهُ] (٣) حَائِرِينَ فِيمَنْ يُرْضِعُهُ قَالَتْ: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ (٤) لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
(١) ففي ت، ف: "فلم".
(٢) في ت: "صيانة".
(٣) زيادة من ت.
(٤) في ت: "يرضعونه".
223
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ أَخَذُوهَا، وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لَهَا: وَمَا يُدْرِيكِ نُصْحَهُمْ لَهُ وَشَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي ظُؤُورة (١) الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ. فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وخَلَصت مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَدَخَلُوا بِهِ (٢) عَلَى أُمِّهِ، فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ. وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ. فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وأجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالصِّلَاتِ وَالْكَسَاوِي وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا، فِي عِزٍّ وَجَاهٍ وَرِزْقٍ دَارٍّ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا" وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، أَوْ نَحْوُهُ، وَاللَّهُ [سُبْحَانَهُ] (٣) أَعْلَمُ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدَيْهِ الْأَمْرُ! مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الَّذِي يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ (٤) مَخْرَجًا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ أَيْ: بِهِ، ﴿وَلا تَحْزَنْ﴾ أَيْ: عَلَيْهِ: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أَيْ: فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رَدِّهِ إِلَيْهَا، وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَحِينَئِذٍ تَحَقَّقَتْ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُ رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَعَامَلَتْهُ فِي تَرْبِيَتِهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ طَبْعًا وَشَرْعًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: حُكْمَ اللَّهِ فِي أَفْعَالِهِ وَعَوَاقِبَهَا الْمَحْمُودَةَ، الَّتِي هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ، وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩].
(١) في هـ، ت، ف، أ: "صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر: الجزء الخامس، تفسير سورة طه.
(٢) في ت: "بها".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "ضيقة".
224
﴿ وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ أي : أمرت ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يقال لها - فقالت لها :﴿ قُصِّيهِ ﴾ أي : اتبعي أثره، وخذي خبره، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي البلد. فخرجت لذلك، ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ﴾، قال ابن عباس : عن جانب.
وقال مجاهد :﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ﴾ : عن بعيد.
وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده.
وذلك أنه لما استقر موسى، عليه السلام، بدار فرعون، وأحبته امرأة الملك، واستطلقته منه، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم، فلم يقبل منها ثديًا، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك. فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تظهر ذلك ولم١ يشعروا بها.
١ - ففي ت، ف :"فلم"..
قال الله تعالى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : تحريمًا قَدَريا، وذلك لكرامة الله له صانه١ عن أن يرتضع غير ثدي أمه ؛ ولأن الله - سبحانه - جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعدما كانت خائفة. فلما رأتهم [ أخته ]٢ حائرين فيمن يرضعه قالت :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ﴾ ٣ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
قال ابن عباس : لما قالت ذلك أخذوها، وشكوا في أمرها، وقالوا لها : وما يدريك نصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظُؤُورة٤ الملك ورجاء منفعته. فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخَلَصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به٥ على أمه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا. وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاءً جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك. ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دَارٍّ. ولهذا جاء في الحديث :" مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها " ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل : يوم وليلة، أو نحوه، والله [ سبحانه ]٦ أعلم، فسبحان من بيديه الأمر ! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق٧ مخرجًا. ولهذا قال تعالى :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾
١ - في ت :"صيانة"..
٢ - زيادة من ت..
٣ - في ت :"يرضعونه"..
٤ - في هـ، ت، ف، أ :"صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر : الجزء الخامس، تفسير سورة طه..
٥ - في ت :"بها"..
٦ - زيادة من أ..
٧ - في ت :"ضيقة"..
﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾أي : به، ﴿ وَلا تَحْزَنْ ﴾ أي : عليه :﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي : فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين. فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.
وقوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى :﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] وقال تعالى :﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [ النساء : ١٩ ].
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) ﴾.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَبْدَأَ أَمْرِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا -قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قَدَّر له من النبوة والتكليم : قضية قتله ذلك القبطي، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، فقال تعالى :﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء.
وقال ابن المنْكَدر، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار. وكذلك قال سعيد بن جبير، وعِكْرمة، والسُّدِّي، وقتادة.
﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ﴾ أي : يتضاربان ويتنازعان، ﴿ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ﴾ أي : من بني إسرائيل١، ﴿ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي : قبطي، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق. فاستغاث الإسرائيلي بموسى، عليه السلام، ووجد موسى فرصة، وهي غفلة الناس، فعمد إلى القبطي ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾.
قال مجاهد : وكزه، أي : طعنه بجُمْع٢ كفه. وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه.
﴿ فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ أي : كان فيها حتفه فمات، قال موسى :{ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
١ - في ت :"أي إسرائيلي"..
٢ - في ت :"بجميع"..
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي : بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ﴾ أي : معينا ﴿ لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي : الكافرين بك، المخالفين لأمرك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي : بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ﴾ أي : معينا ﴿ لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي : الكافرين بك، المخالفين لأمرك.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ وُصُولِهِ إِلَى مَا كَانَ تَعَالَى قَدَّر لَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالتَّكْلِيمِ: قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ قَالَ ابْنُ جُرَيج، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ ابْنِ المنْكَدر، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرمة، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ.
﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ﴾ أَيْ: يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾ أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١)، ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أَيْ: قِبْطِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. فَاسْتَغَاثَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَجَدَ مُوسَى فُرْصَةً، وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ، فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَزَهُ، أَيْ: طَعَنَهُ بجُمْع (٢) كَفِّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ.
﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ أَيْ: كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ، قَالَ مُوسَى: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أَيْ: بِمَا جَعَلْتَ لِي مِنَ الْجَاهِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا﴾ أَيْ: مُعِينًا ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾ أَيِ: الْكَافِرِينَ بِكَ، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِكَ.
﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٣)، لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ: إِنَّهُ أَصْبَحَ ﴿فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا﴾ أَيْ: مِنْ مَعَرّة مَا فَعَلَ، ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ أَيْ: يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ (٤) مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِذَا ذَاكَ (٥) الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخَرَ، فَلَمَّا مَرَّ مُوسَى، اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ أَيْ: ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشَّرِّ. ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الْإِسْرَائِيلِيُّ لخوَرِه وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ: ﴿يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ﴾ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم
(١) في ت: "أي إسرائيلي".
(٢) في ت: "بجميع".
(٣) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٤) في هـ، ت: "أي يتقلب أي يتوقع" والمثبت من ف، أ.
(٥) في ت، ف: "ذلك".
ثم عزم على البطش بذلك القبطي، فاعتقد الإسرائيلي لخوَرِه وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك، فقال يدفع عن نفسه :﴿ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ﴾ وذلك لأنه لم
يعلم به إلا هو وموسى، عليه السلام، فلما سمعها ذلك القبطي لقَفَها من فمه، ثم ذهب بها إلى باب فرعون فألقاها عنده، فعلم بذلك، فاشتد حنقه، وعزم على قتل موسى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لقَفَها مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَاهَا عِنْدَهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فَطَلَبُوهُ فَبَعَثُوا وَرَاءَهُ لِيُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ.
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) ﴾.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾ وَصَفَهُ بالرّجُولية لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، فَسَلَكَ طَرِيقًا أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعثوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى ﴿إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ ﴿لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ﴾ أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾.
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) ﴾
لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك قلبه، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة، ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ أي : يتلفَّت ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي : من فرعون وملئه. فذكروا أن الله، سبحانه وتعالى، بعث له ملكًا على فرس، فأرشده إلى الطريق، فالله أعلم.
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) ﴾
لَمَّا أَخْبَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَدَوْلَتُهُ فِي أَمْرِهِ، خَرَجَ مِنْ مِصْرَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَأْلَفْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَرِئَاسَةٍ، ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ أَيْ: يتلفَّت ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. فَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَعَثَ لَهُ مَلَكًا عَلَى فَرَسٍ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أَيْ: أَخَذَ طَرِيقًا سَالِكًا مَهْيَعا فَرِحَ بِذَلِكَ، ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أَيْ: إِلَى الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ. فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَهُدَاهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجُعِلَ هَادِيًا مَهْدِيًّا.
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ أَيْ: وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَوَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بِئْرٌ تَرده رِعَاءُ الشَّاءِ ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ﴾ أَيْ: جَمَاعَةً ﴿يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ أَيْ: تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ غَنَمِ أُولَئِكَ الرِّعَاءِ لِئَلَّا يُؤذَيا. فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَقَّ لَهُمَا وَرَحِمَهُمَا، ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ أَيْ: مَا خَبَرُكُمَا لَا تَرِدَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ؟ ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ أَيْ: لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ، ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ أَيْ: فَهَذَا الْحَالُ الْمُلْجِئُ لَنَا إِلَى مَا تَرَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عَمْرو (١)
(١) في هـ، ت، ف، أ: "عروة بن ميمون" والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة.
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ أي : ولما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر تَرده رعاء الشاء ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ﴾ أي : جماعة ﴿ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ أي : تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا. فلما رآهما موسى، عليه السلام، رق لهما ورحمهما، ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ أي : ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ ﴿ قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ﴾ أي : لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء، ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ أي : فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى.
قال الله تعالى :﴿ فَسَقَى لَهُمَا ﴾ قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الله، أنبأنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عَمْرو١
بن ميمون الأوْدي، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن موسى، عليه السلام، لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال : ما خطبكما ؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. إسناد صحيح٢.
وقوله :﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصل مَدْيَن حتى سقطت نعل قدمه. وجلس٣ في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
وقوله :﴿ إِلَى الظِّلِّ ﴾ قال ابن عباس، وابن مسعود، والسدي : جلس تحت شجرة.
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيّ٤، حدثنا أبي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حَثثتُ٥ على جمل ليلتين، حتى صَبَّحت مدين، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى، فإذا شجرة خضراء ترف، فأهوى إليها جملي - وكان جائعا - فأخذها جملي فعالجها ساعة، ثم لفظها، فدعوت الله لموسى، عليه السلام، ثم انصرفت٦.
وفي رواية عن ابن مسعود : أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها لموسى، كما سيأتي والله٧ أعلم.
وقال السدي : كانت من شجر السَّمُر.
وقال عطاء بن السائب : لما قال موسى ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾، أسمعَ المرأة.
١ - في هـ، ت، ف، أ :"عروة بن ميمون" والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة..
٢ - المصنف لابن أبي شيبة (١١/٥٣٠)..
٣ - في هـ، أ :"ولما جلس"..
٤ - في ف :"عمير العنقزي" وفي أ :"عمير القفقري"..
٥ - في ف أ :"أخببت"..
٦ - تفسير الطبري (٢٠/٣٧)..
٧ - في ف :"فالله"..
بْنِ مَيْمُونٍ الأوْدي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ، وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ، فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رَوِيَتِ الْغَنَمُ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ (١).
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ، لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا فَمَا وَصَلَ مَدْيَن حَتَّى سَقَطَتْ نَعْلُ قَدَمِهِ. وَجَلَسَ (٢) فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ بَطْنَهُ لَاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَى الظِّلِّ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّدِّيُّ: جَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو العَنْقَزِيّ (٣)، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -قَالَ: حَثثتُ (٤) عَلَى جَمَلٍ لَيْلَتَيْنِ، حَتَّى صَبَّحت مَدْيَنَ، فَسَأَلْتُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا مُوسَى، فَإِذَا شَجَرَةٌ خَضْرَاءُ تَرِفُّ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا جَمَلِي -وَكَانَ جَائِعًا -فَأَخَذَهَا جَمَلِي فَعَالَجَهَا سَاعَةً، ثُمَّ لَفِظَهَا، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ (٥).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا لِمُوسَى، كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ (٦) أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مِنْ شَجَرِ السَّمُر.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: لَمَّا قَالَ مُوسَى ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، أسمعَ الْمَرْأَةَ.
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) ﴾.
لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سِرَاعًا (٧) بِالْغَنَمِ إِلَى أَبِيهِمَا، أَنْكَرَ حَالَهُمَا ومجيئهما سريعا، فسألهما عن
(١) المصنف لابن أبي شيبة (١١/٥٣٠).
(٢) في هـ، أ: "ولما جلس".
(٣) في ف: "عمير العنقزي" وفي أ: "عمير القفقري".
(٤) في ف أ: "أخببت".
(٥) تفسير الطبري (٢٠/٣٧).
(٦) في ف: "فالله".
(٧) في أ: "سريعا".
227
خَبَرِهِمَا، فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لِتَدْعُوَهُ إِلَى أَبِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ أَيْ: مَشْيَ الْحَرَائِرِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ مستتَرة بِكُمِّ درْعها.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا [أَبِي، حَدَّثَنَا] (١) أبو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَتْ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وَجْهِهَا، لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ (٢) خَرَّاجة وَلَاجَّةً. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّلْفَعُ مِنَ الرِّجَالِ: الْجَسُورُ، وَمِنَ النِّسَاءِ: الْجَرِيئَةُ السَّلِيطَةُ، وَمِنَ النُّوقِ: الشَّدِيدَةُ.
﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ، لَمْ تَطْلُبْهُ طَلَبًا مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ يَعْنِي: لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ أَيْ: ذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ بَلَدِهِ، ﴿قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. يَقُولُ: طِبْ نَفْسًا وَقرّ عَيْنًا، فَقَدْ خرجتَ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ فَلَا حُكْم لَهُمْ فِي بِلَادِنَا. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ: مَنْ هُوَ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٣) الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرِينَ، وَقَدْ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شُعَيْبًا هُوَ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ مُوسَى الْقَصَصَ قَالَ: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ وَفَدَ على رسول الله ﷺ فَقَالَ لَهُ: "مَرْحَبًا بِقَوْمِ شُعَيْبٍ وأَخْتان مُوسَى، هُديت" (٤).
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنَ أَخِي شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ شُعَيْبٌ قَبْلَ زَمَانِ مُوسَى، عَلَيْهِ (٥) السَّلَامُ، بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ [هُودٍ: ٩٥]. وَقَدْ كَانَ هَلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٦) بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَالْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مُدَّةٌ طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) في ف: "تستلفع".
(٣) في ف: "صلى الله عليه وسلم" وفي أ: "صلى الله عليه".
(٤) المعجم الكبير (٧/٥٥) من طريق حفص بن سلمة عن شيبان بن قيس عن سلمة بن سعد به، وقال الهيثمي: "فيه من لم أعرفهم".
(٥) في ت: "عليهما".
(٦) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
228
ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَمَا قِيلَ: إِنَّ شُعَيْبًا عَاشَ مُدَّةً طَوِيلَةً، إِنَّمَا هُوَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -احْتِرَازٌ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، ثُمَّ مِنَ الْمُقَوِّي لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِشُعَيْبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى اسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا. وَمَا جَاءَ فِي (١) بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى (٢) لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ مِنَ الْمَوْجُودِ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ اسْمُهُ: "ثَبْرُونُ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَأَثْرُونُ (٣) وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ (٤) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ، وَلَا خَبَرَ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾ أَيْ: قَالَتْ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَذَا الرَّجُلِ. قِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ وَرَاءَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ لِأَبِيهَا: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ أَيْ: لرعْية هَذِهِ (٥) الْغَنَمِ.
قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وشُريح الْقَاضِي، وَأَبُو مَالِكٍ، وقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تقدمتُ أمامهُ، فَقَالَ لِي: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اجْتَنَبْتُ (٦) الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي [لِي (٧) ] بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ لِأَتَهَدَّى (٨) إِلَيْهِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَر، وَصَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ [يُوسُفَ: ٢١]، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾.
قاال: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ أَيْ: طَلَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَنْ يَرْعَى عَنْهُ (٩) وَيُزَوِّجَهُ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَهُمَا صَفُورَا، وَلِيَّا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: صَفُورَا وَشَرْقَا، وَيُقَالُ: لِيَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ [رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى] (١٠) بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إِذَا قَالَ: "بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ. فقال: اشتريت" أنه يصح، والله أعلم.
(١) في ت: "من".
(٢) في أ: "لموسى".
(٣) في أ: "يثرون".
(٤) في ف، أ: "أبي هريرة".
(٥) في أ: "رعية هذا".
(٦) في أ: "اختلفت".
(٧) زيادة من أ.
(٨) في أ: "لأهتدي".
(٩) في ت، ف، أ: "غنمه".
(١٠) زيادة من ت، ف.
229
وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ أَيْ: عَلَى أَنْ تَرْعَى عَلَيَّ ثَمَانِي سِنِينَ، فَإِنْ تَبَرَّعْتَ بِزِيَادَةِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ إِلَيْكَ (١)، وَإِلَّا فَفِي ثَمَانٍ كِفَايَةٌ، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أَيْ: لَا أُشَاقُّكَ، وَلَا أُؤَاذِيكَ، وَلَا أُمَارِيكَ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِمَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ، فِيمَا إِذَا قَالَ: "بِعْتُكَ هَذَا بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً" أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَخْتَارُ الْمُشْتَرِي بِأَيِّهِمَا أَخَذَهُ صَحَّ. وحُمل الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: "مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا " (٢) عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ نَظَرٌ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ لِطُولِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ومَنْ تَبِعَهُمْ، فِي صِحَّةِ (٣) اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ بِالطُّعْمَةِ وَالْكُسْوَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَةَ فِي كِتَابِهِ السُّنَنِ، حَيْثُ قَالَ: "بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنِهِ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى الحِمْصي، حَدَّثَنَا بَقيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مَسْلَمَةَ (٤) بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاح قَالَ: سَمِعْتُ (٥) عُتبةَ بْنَ النُّدَّر (٦) يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ ﴿طسم﴾ (٧)، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: "إِنَّ مُوسَى أجَّرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ: عَشْرَ (٨) سِنِينَ عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ (٩).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفٌ (١٠)، لِأَنَّ مَسْلَمَةَ (١١) بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ الخُشَني الدِّمَشْقِيُّ الْبَلَاطِيُّ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَقَالَ (١٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهيعة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السُّلَمِيَّ -صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ، وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ" (١٣).
. وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾، يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى ثَمَانِ سِنِينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِي، فَأَنَا مَتَى فَعَلْتُ أَقَلَّهُمَا [فَقَدْ] (١٤) بَرِئْتُ مِنَ الْعَهْدِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ أي: فلا
(١) في ت: "لك".
(٢) سنن أبي داود برقم (٣٤٦١).
(٣) في أ: "حجة".
(٤) في أ: "سلمة".
(٥) في ت: "ثم روى بإسناده عن".
(٦) في هـ، ت: "المنذر" والمثبت من ف، وسنن ابن ماجه.
(٧) في ت: "طس".
(٨) في ت: "أو عشرة".
(٩) سنن ابن ماجه برقم (٢٤٤٤) وضعفه البوصيري في الزوائد (٢/٢٦٠) لتدليس بقية بن الوليد.
(١٠) في ت: "وهذا الحديث فيه ضعف من هذا الوجه".
(١١) في أ: "سلمة".
(١٢) في أ: "فقال".
(١٣) ورواه البزار في مسنده برقم (١٤٩٥) "كشف الأستار" من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة بأطول منه، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
(١٤) زيادة من أ.
230
حَرَجَ عَلَيَّ مَعَ أَنَّ الْكَامِلَ -وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ فَاضِلٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (١) تَعَالَى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٣].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ -فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" (٢) مَعَ أَنَّ فِعْلَ الصِّيَامِ رَاجِحٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
هَذَا وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا فَعَلَ أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ وَأَتَمَّهُمَا؛ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوان بْنُ شُجاع، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْر الْعَرَبِ فأسأَلَه. فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (٣) وَهَكَذَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَوَقَعَ فِي "حَدِيثِ الفُتُون"، مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ رُوي مِنْ (٤) حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى قَالَ: أَكْمَلَهُمَا وَأَتَمَّهُمَا" (٥).
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ -حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ -وَكَانَ مِنْ أَسْنَانِي أَوْ أَصْغَرَ مِنِّي -فَذَكَرَهُ.
قُلْتُ: وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٦).
وَقَالَ (٧) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرئ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ تَيْرَحَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سئل: أيّ
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) رواه أحمد في مسنده (٣/٤٩٣) والنسائي في السنن (٤/١٨٥).
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٦٨٤).
(٤) في ت: "روى طرق مرسلة من".
(٥) تفسير الطبري (٢٠/٤٤).
(٦) قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (١/١٢٤) "إبراهيم بن يحيى العدني عن الحكم بن أبان وعنه سفيان بن عيينة بخبر منكر والرجل نكرة، وحديثه عن الحميدي ومتنه: سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أي الأجلين قضى موسى، انتهى. وهذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأزدي: لا يتابع في حديثه، وأخرج الحاكم حديثه المذكور في المستدرك".
(٧) في ف: "ثم قال".
231
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "لَا عِلْمَ لِي". فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَا عِلْمَ لِي، فَسَأَلَ جِبْرِيلُ مَلَكًا فَوْقَهُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي. فَسَأَلَ (١) ذَلِكَ المَلَك رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ -عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "قَضَى أَبَرَّهُمَا وَأَبْقَاهُمَا -أَوْ قَالَ: أَزْكَاهُمَا" (٢).
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ (٣) سُنَيد: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ: "أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ " فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ إِسْرَافِيلَ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا" (٤).
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي قَالَ: سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا" (٥).
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَاضِدَةٌ، ثُمَّ قَدْ (٦) رُوِيَ [هَذَا] (٧) مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَوْبَد بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْني، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا"، قَالَ: "وَإِنْ سئلتَ أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ (٨).
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوبَد بْنِ أَبِي عِمْرَانَ -وَهُوَ ضَعِيفٌ -ثُمَّ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ (٩) بِزِيَادَةٍ غَرِيبَةٍ جِدًّا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ (١٠) يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا". ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ. فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ مِنْ قالِب لَون. قَالَ: فَمَا مَرَّتْ شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ مُوسَى جَنْبَهَا بِعَصَاهُ، فَوَلَدَتْ قَوَالب أَلْوَانٍ كُلُّهَا، وَوَلَدَتْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ فِيهَا فَشُوش وَلَا ضبُوب، وَلَا كَمِيشة تُفَوّت الْكَفَّ، وَلَا ثَعُول". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا (١١) افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ فَإِنَّكَمْ ستجدون بقايا منها، وهي السامرية" (١٢).
(١) في ف، أ:"عز وجل".
(٢) مسند البزار برقم (٢٢٤٥) "كشف الأستار".
(٣) في ف، أ: "فقال".
(٤) تفسير الطبري (٢٠/٤٤).
(٥) تفسير الطبري (٢٠/٤٤).
(٦) في ف: "وقد".
(٧) زيادة من ف، أ.
(٨) مسند البزار برقم (٢٢٤٤) "كشف الأستار".
(٩) في ف، أ: "المنذر".
(١٠) في ف، أ: "المنذر".
(١١) في أ: "إنكم إذا".
(١٢) مسند البزار برقم (٢٢٤٦) "كشف الأستار".
232
هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَزَّارُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا (١) فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَير، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدّر (٢) السُّلَمِيَّ -صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٣) آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وطُعمة بَطْنِهِ. فَلَمَّا وَفَى الْأَجَلَ -قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟ قَالَ -أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا. فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ مِنْ غَنَمِهِ مِنْ قَالَبِ (٤) لَوْنِ مَنْ وُلِدَ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ سَوْدَاءَ حَسْنَاءَ، فَانْطَلَقَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عَصَاهُ فَسَمَّاها مِنْ طَرَفِهَا، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَصْدُرْ مِنْهَا شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا شَاةً شَاةً قَالَ: "فَأَتْأَمَتْ وَأَثْلَثَتْ، وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ، إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ. قَالَ يَحْيَى: وَلَا ضَبُونٌ. وَقَالَ صَفْوَانُ: وَلَا ضبُوب. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصَّوَابُ ضَبُوب -وَلَا عَزُوز وَلَا ثَعُول، وَلَا كَمِيشَةٌ تُفَوّت الْكَفَّ"، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَوِ افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ".
وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ لَهِيعة: مَا الْفَشُوشُ؟ قَالَ: الَّتِي تَفُشّ بِلَبَنِهَا وَاسِعَةَ الشَّخب. قُلْتُ: فَمَا الضَّبُوبُ؟ قَالَ: الطَّوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ. قُلْتُ: فَمَا العَزُوز؟ قَالَ: ضَيِّقَةُ الشَّخب. قَالَ فَمَا الثَعُول؟ قَالَ: الَّتِي لَيْسَ لَهَا ضَرْعٌ إِلَّا كَهَيْئَةِ حَلَمَتَيْنِ. قُلْتُ: فَمَا الْكَمِيشَةُ؟ قَالَ: الَّتِي تُفَوّت الْكَفَّ، كَمَيْشَةُ الضَّرْعِ، صَغِيرٌ لَا يُدْرِكُهُ الْكَفُّ.
مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعة الْمِصْرِيِّ -وَفِي حِفْظِهِ سُوءٌ -وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ خَطَأً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ وَلَا عَزُوزٌ، وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا ثَعول وَلَا كَمِيشَةٌ، لِتُذْكَرَ كُلُّ صِفَةٍ نَاقِصَةٍ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ (٥) كَلَامِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -مَوْقُوفًا عَلَيْهِ -مَا يُقَارِبُ بَعْضَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ (٦)، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى غَيْرِ لَوْنِهَا فَذَلِكَ وَلَدُهَا لَكَ. فَعَمَدَ فَرَفَعَ حِبَالًا عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَيَالَ فَزِعَتْ فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً، فذهب بأولادهن ذلك العام (٧).
(١) في ت: "بزيادة غريبة".
(٢) في ت، ف، أ: "المنذر".
(٣) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٤) في ت: "قابله".
(٥) في ت: "عن".
(٦) في ت: "ما يقارب هذا".
(٧) تفسير الطبري (٢٠/٤٤).
233
وقوله :﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ﴾ أي : قالت إحدى ابنتي هذا الرجل. قيل : هي التي ذهبت وراء موسى، عليه السلام، قالت لأبيها :﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ﴾ أي : لرعْية هذه١ الغنم.
قال عمر، وابن عباس، وشُريح القاضي، وأبو مالك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد : لما قالت :﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ﴾ قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئت معه تقدمتُ أمامهُ، فقال لي : كوني من ورائي، فإذا اجتنبت٢ الطريق فاحذفي [ لي٣ ] بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأتهدّى٤ إليه.
قال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عُمَر، وصاحب يوسف حين قال :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾ [ يوسف : ٢١ ]، وصاحبة موسى حين قالت :﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ﴾.
١ - في أ :"رعية هذا"..
٢ - في أ :"اختلفت"..
٣ - زيادة من أ..
٤ - في أ :"لأهتدي"..
قال :﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ﴾ أي : طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى عنه١ ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين.
قال شعيب الجبائي : وهما صفورا، وليّا.
وقال محمد بن إسحاق : صفورا وشرقا، ويقال : ليا. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة [ رحمه الله تعالى ]٢ بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال :" بعتك أحد هذين العبدين بمائة. فقال : اشتريت " أنه يصح، والله أعلم.
وقوله :﴿ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ﴾ أي : على أن ترعى عليّ ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك٣، وإلا ففي ثمان كفاية، ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي : لا أشاقك، ولا أؤاذيك، ولا أماريك.
وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي، فيما إذا قال :" بعتك هذا بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة " أنه يصح، ويختار المشتري بأيهما أخذه صح. وحُمل الحديث المروي في سنن أبي داود :" من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا " ٤ على هذا المذهب. وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر، ليس هذا موضع بسطه لطوله. والله أعلم.
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومَنْ تبعهم، في صحة٥ استئجار الأجير بالطعمة والكسوة بهذه الآية، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه السنن، حيث قال :" باب استئجار الأجير على طعام بطنه " : حدثنا محمد بن المصفّى الحِمْصي، حدثنا بَقيَّة بن الوليد، عن مسلمة٦ بن علي، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رَبَاح قال : سمعت٧ عُتبةَ بن النُّدَّر٨ يقول : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ﴿ طسم ﴾ ٩، حتى إذا بلغ قصة موسى قال :" إن موسى أجَّرَ نفسه ثماني سنين أو : عشر١٠ سنين على عفة فرجه وطعام بطنه١١.
وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف١٢، لأن مسلمة١٣ بن علي وهو الخُشَني الدمشقي البلاطيّ ضعيف الرواية عند الأئمة، ولكن قد رُوي من وجه آخر، وفيه نظر أيضا.
وقال١٤ ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لَهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن علي بن رَبَاح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه، وطعمة بطنه " ١٥.
١ - في ت، ف، أ :"غنمه"..
٢ - زيادة من ت، ف..
٣ - في ت :"لك"..
٤ - سنن أبي داود برقم (٣٤٦١)..
٥ - في أ :"حجة"..
٦ - في أ :"سلمة"..
٧ - في ت :"ثم روى بإسناده عن"..
٨ - في هـ، ت :"المنذر" والمثبت من ف، وسنن ابن ماجه..
٩ - في ت :"طس"..
١٠ - في ت :"أو عشرة"..
١١ - سنن ابن ماجه برقم (٢٤٤٤) وضعفه البوصيري في الزوائد (٢/٢٦٠) لتدليس بقية بن الوليد..
١٢ - في ت :"وهذا الحديث فيه ضعف من هذا الوجه"..
١٣ - في أ :"سلمة"..
١٤ - في أ :"فقال"..
١٥ - ورواه البزار في مسنده برقم (١٤٩٥) "كشف الأستار" من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة بأطول منه، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف..
وقوله تعالى إخبارا عن موسى، عليه السلام :﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾، يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين، فإن أتممت عشرًا فمن عندي، فأنا متى فعلت أقلهما [ فقد ]١ برئت من العهد، وخرجت من الشرط ؛ ولهذا قال :﴿ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ أي : فلا حرج علي مع أن الكامل - وإن كان مباحًا لكنه فاضل من جهة أخرى، بدليل من خارج. كما قال [ الله ]٢ تعالى :﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي، رضي الله عنه، وكان كثير الصيام، وسأله عن الصوم في السفر - فقال :" إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " ٣ مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر.
هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما ؛ قال البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مَرْوان بن شُجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه. فقدمت فسألت ابن عباس، رضي الله عنه، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. هكذا رواه البخاري٤ وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره، عن سعيد بن جبير. ووقع في " حديث الفُتُون "، من رواية القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير ؛ أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية. والأول أشبه، والله أعلم، وقد رُوي من٥ حديث ابن عباس مرفوعا، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سألت جبريل : أيّ الأجلين قضى موسى قال : أكملهما وأتمهما " ٦.
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن الحميدي، عن سفيان - وهو ابن عيينة - حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب - وكان من أسناني أو أصغر مني - فذكره.
قلت : وإبراهيم هذا ليس بمعروف.
ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. ثم قال : لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه٧.
وقال٨ ابن أبي حاتم : قُرئ على يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث، عن يحيى بن ميمون الحضرمي، عن يوسف بن تيرح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال :" لا علم لي ". فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال جبريل : لا علم لي، فسأل جبريل ملكا فوقه فقال : لا علم لي. فسأل٩ ذلك المَلَك ربه - عز وجل - عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب سبحانه وتعالى :" قضى أبرهما وأبقاهما - أو قال : أزكاهما " ١٠.
وهذا مرسل، وقد جاء مرسلا من وجه آخر، وقال١١ سُنَيد : حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج قال : قال مجاهد : إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل :" أيّ الأجلين قضى موسى ؟ " فقال : سوف أسأل إسرافيل. فسأله فقال : سوف أسأل الرب عز وجل. فسأله فقال :" أبرهما وأوفاهما " ١٢.
طريق أخرى مرسلة أيضا : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن كعب القُرظي قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال :" أوفاهما وأتمهما " ١٣.
فهذه طرق متعاضدة، ثم قد١٤ روي [ هذا ]١٥ مرفوعا من رواية أبي ذر، رضي الله عنه، قال الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا عَوْبَد بن أبي عمران الجَوْني، عن أبيه، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال :" أوفاهما وأبرهما "، قال :" وإن سئلتَ أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما ".
ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد١٦.
وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَد بن أبي عمران - وهو ضعيف - ثم قد روي أيضا نحوه من حديث عتبة بن الندر١٧ بزيادة غريبة جدا، فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني، حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر١٨ يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال :" أبرهما وأوفاهما ". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن موسى، عليه السلام، لما أراد فراق شعيب عليه السلام، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به. فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالِب لَون. قال : فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه، فولدت قَوَالب ألوان كلها، وولدت ثنتين وثلاثًا كل شاة ليس فيها فَشُوش ولا ضبُوب، ولا كَمِيشة تُفَوّت الكف، ولا ثَعُول ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا١٩ افتتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها، وهي السامرية " ٢٠.
هكذا أورده البزار. وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا٢١ فقال :
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير، حدثني عبد الله بن لهيعة( ح ) وحدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النُّدّر٢٢ السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن موسى، عليه السلام٢٣ آجر نفسه بعفة فرجه وطُعمة بطنه. فلما وفى الأجل - قيل : يا رسول الله، أي الأجلين ؟ قال - أبرهما وأوفاهما. فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب٢٤ لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداء حسناء، فانطلق موسى، عليه السلام إلى عصاه فَسَمَّاها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال :" فأتأمت وأثلثت، ووضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش. قال يحيى : ولا ضبون. وقال صفوان : ولا ضبُوب. قال أبو زرعة : الصواب ضَبُوب - ولا عَزُوز ولا ثَعُول، ولا كميشة تُفَوّت الكف "، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية ".
وحدثنا أبو زُرْعة، حدثنا صفوان قال : سمعت الوليد قال : فسألت ابن لَهِيعة : ما الفشوش ؟ قال : التي تَفُشّ بلبنها واسعة الشَّخب. قلت : فما الضبوب ؟ قال : الطويلة الضرع تجره. قلت : فما العَزُوز ؟ قال : ضيقة الشَّخب. قال فما الثَعُول ؟ قال : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين. قلت : فما الكميشة ؟ قال : التي تُفَوّت الكف، كميشة الضرع، صغير لا يدركه الكف.
مدار هذا الحديث على عبد الله بن لَهِيعة المصري - وفي حفظه سوء - وأخشى أن يكون رفعه خطأ، والله أعلم. وينبغي أن يُرْوَى ليس فيها فشوش ولا عزوز، ولا ضبوب ولا ثَعول ولا كميشة، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة. وقد روى ابن جرير من٢٥ كلام أنس بن مالك - موقوفا عليه - ما يقارب بعضه بإسناد جيد٢٦، فقال : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : لما دعا نبي الله موسى، عليه السلام، صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فذلك ولدها لك. فعمد فرفع حبالا على الماء، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة، فولدن كلهن بلقًا إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام٢٧.
١ - زيادة من أ..
٢ - زيادة من ف، أ..
٣ - رواه أحمد في مسنده (٣/٤٩٣) والنسائي في السنن (٤/١٨٥)..
٤ - صحيح البخاري برقم (٢٦٨٤)..
٥ - في ت :"روى طرق مرسلة من"..
٦ - تفسير الطبري (٢٠/٤٤)..
٧ - قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (١/١٢٤) "إبراهيم بن يحيى العدني عن الحكم بن أبان وعنه سفيان بن عيينة بخبر منكر والرجل نكرة، وحديثه عن الحميدي ومتنه : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام أي الأجلين قضى موسى، انتهى. وهذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأزدي : لا يتابع في حديثه، وأخرج الحاكم حديثه المذكور في المستدرك"..
٨ - في ف :"ثم قال"..
٩ - في ف، أ :"عز وجل"..
١٠ - مسند البزار برقم (٢٢٤٥) "كشف الأستار"..
١١ - في ف، أ :"فقال"..
١٢ - تفسير الطبري (٢٠/٤٤)..
١٣ - تفسير الطبري (٢٠/٤٤)..
١٤ - في ف :"وقد"..
١٥ - زيادة من ف، أ..
١٦ - مسند البزار برقم (٢٢٤٤) "كشف الأستار"..
١٧ - في ف، أ :"المنذر"..
١٨ - في ف، أ :"المنذر"..
١٩ - في أ :"إنكم إذا"..
٢٠ - مسند البزار برقم (٢٢٤٦) "كشف الأستار"..
٢١ - في ت :"بزيادة غريبة"..
٢٢ - في ت، ف، أ :"المنذر"..
٢٣ - في ت :"صلى الله عليه وسلم"..
٢٤ - في ت :"قابله"..
٢٥ - في ت :"عن"..
٢٦ - في ت :"ما يقارب هذا"..
٢٧ - تفسير الطبري (٢٠/٤٤)..
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) ﴾.
قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا وَأَنْقَاهُمَا، وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ قَوْلِهِ (١) :﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ﴾ أَيِ: الْأَكْمَلَ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ (٢) أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: قَضَى عَشْرَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا عَشْرًا أُخَرَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّهُ (٣) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بِلَادِهِ وَأَهْلِهِ، فَعَزَمَ عَلَى زِيَارَتِهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَجَعَلَ كُلَّمَا أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضيء شَيْئًا، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ [إِذْ] (٤) ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ أَيْ: رَأَى نَارًا تُضِيءُ لَهُ عَلَى بُعْدٍ، ﴿قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ أَيْ: حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا، ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ أَيْ: قِطْعَةٍ مِنْهَا (٥)، ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي: تَتَدفؤون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ﴾ أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (٦) :﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ﴾، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ، وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِي لحْف الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أَمْرِهَا، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُودِيَ مِنْهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَمْرَةً خَضْرَاءَ تَرِفُّ. إِسْنَادُهُ مُقَارَبٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: شَجَرَةٌ مِنَ العُلَّيق، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ: مِنَ الْعَوْسَجِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنَ الْعَوْسَجِ، وَعَصَاهُ مِنَ الْعَوْسَجِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيِ: الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ مماثلة المخلوقات في
(١) في أ: "حيث قال".
(٢) في ت: "فالله".
(٣) في ف: "فالله".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ت: "قطعة من النار".
(٦) في ت: "قال الله تعالى".
234
ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ!
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ أَيِ: الَّتِي فِي يَدِكَ. كَمَا قَرَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طَهَ: ١٧، ١٨]. وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا أَلْقِهَا ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُكَلِّمُهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "طَهَ".
وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ أَيْ: تَضْطَرِبُ ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ أَيْ: فِي حَرَكَتِهَا السَّرِيعَةِ مَعَ عِظَمِ خَلْق قَوَائِمِهَا (١) وَاتِّسَاعِ فَمِهَا، وَاصْطِكَاكِ أَنْيَابِهَا وَأَضْرَاسِهَا، بِحَيْثُ لَا تَمُرُّ بِصَخْرَةٍ إِلَّا ابْتَلَعَتْهَا، فَتَنْحَدِرُ فِي فِيهَا تَتَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾، رَجَعَ فَوَقَفَ فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أَيْ: إِذَا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ : قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْفَزَعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الرُّعْبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا خَافَ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وَهِيَ يَدُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فُؤَادِهِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَوْ يَخف، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ (٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ (٣) : كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ مُلئ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِهِ، وَأُعَوِّذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، فَفَرَّغَ (٤) اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ بَالَ كَمَا يَبُولُ الْحِمَارُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي: إِلْقَاءَهُ الْعَصَا وَجَعْلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ -دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أَيْ: وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله، مخالفين لدين الله، [والله أعلم] (٥).
(١) في ت: "عظم خلقها" وفي ف: "عظم خلقتها".
(٢) في ت: "روى".
(٣) في ت: "بإسناده".
(٤) في ت، ف، أ: "فنزع".
(٥) زيادة من ف.
235
قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ ﴾ أي : من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، كما قال تعالى١ :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾، فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحْف الجبل مما يلي الوادي، فوقف باهتًا في أمرها، فناداه ربه :﴿ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾.
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال : رأيت الشجرة التي نودي منها موسى، عليه السلام، سمرة خضراء ترف. إسناده مقارب.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض مَنْ لا يتهم، عن وهب بن منبه قال : شجرة من العُلَّيق، وبعض أهل الكتاب يقول : من العوسج.
وقال قتادة : هي من العوسج، وعصاه من العوسج.
وقوله تعالى :﴿ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي : الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين، الفعال لما يشاء، لا إله غيره، ولا رب سواه، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته، وأقواله وأفعاله سبحانه !
١ - في ت :"قال الله تعالى"..
وقوله :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ أي : التي في يدك. كما قرره على ذلك في قوله :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [ طه : ١٧، ١٨ ]. والمعنى : أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها ﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء : كن، فيكون. كما تقدم بيان ذلك في سورة " طه ".
وقال هاهنا :﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ أي : تضطرب ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ أي : في حركتها السريعة مع عظم خَلْق قوائمها١ واتساع فمها، واصطكاك أنيابها وأضراسها، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها، فتنحدر في فيها تتقعقع، كأنها حادرة في واد. فعند ذلك ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي : ولم يكن يلتفت ؛ لأن طبع البشرية ينفر من ذلك. فلما قال الله له :﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ﴾، رجع فوقف في مقامه الأول.
١ - في ت :"عظم خلقها" وفي ف :"عظم خلقتها"..
ثم قال الله له :﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ أي : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ؛ ولهذا قال :﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ أي : من غير برص.
وقوله :﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ : قال مجاهد : من الفزع. وقال قتادة : من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية.
والظاهر أن المراد أعم من هذا، وهو أنه أمر عليه السلام، إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب، وهي يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يَخف، إن شاء الله، وبه الثقة.
قال١ ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ الصالح، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم، عن مجاهد، قال٢ : كان موسى عليه السلام، قد مُلئ قلبه رعبًا من فرعون، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره، ففرّغ٣ الله ما كان في قلب موسى عليه السلام، وجعله في قلب فرعون، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.
وقوله :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ يعني : إلقاءه العصا وجعلها حية تسعى، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء - دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه ؛ ولهذا قال :﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ أي : وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ أي : خارجين عن طاعة الله، مخالفين لدين الله، [ والله أعلم ]٤.
١ - في ت :"روى"..
٢ - في ت :"بإسناده"..
٣ - في ت، ف، أ :"فنزع"..
٤ - زيادة من ف..
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) ﴾.
لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، الَّذِي إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْهُ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا﴾ يَعْنِي: ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ، ﴿فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ أَيْ: إِذَا رَأَوْنِي.
﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ فِي لِسَانِهِ لَثْغَةٌ، بِسَبَبِ مَا كَانَ تَنَاوَلَ تِلْكَ الْجَمْرَةَ، حِينَ خُيّر بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ أَوِ الدُّرَّةِ، فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَحَصَلَ فِيهِ شِدَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طَهَ: ٢٧ -٣٢] أَيْ: يُؤْنِسُنِي فِيمَا أَمَرَتْنِي بِهِ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [يُصَدِّقُنِي] ﴾ (١)، أَيْ: وَزِيرًا وَمُعِينًا وَمُقَوِّيا لِأَمْرِي، يَصَدِّقُنِي فِيمَا أَقُولُهُ وَأُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ خَبَرَ اثْنَيْنِ أَنْجَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَبَرِ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ﴿رِدْءًا يُصَدِّقُنِي﴾ أَيْ: يُبَيِّنُ لَهُمْ عَنِّي مَا أُكَلِّمُهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ يُفْهِمُ [عَنِّي] (٢).
فَلَمَّا سَأَلَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ أَيْ: سَنُقَوِّي أَمْرَكَ، وَنُعِزُّ جَانِبَكَ بِأَخِيكَ، الَّذِي سَأَلْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَعَكَ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طَهَ: ٣٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٣]. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَى أَخِيهِ، مِنْ مُوسَى عَلَى هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ شُفِّعَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا وَرَسُولًا مَعَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَلِهَذَا قَالَ [اللَّهُ تَعَالَى] (٣) فِي حَقِّ مُوسَى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الْأَحْزَابِ: ٦٩].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ أَيْ: حُجَّةً قَاهِرَةً، ﴿فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا﴾ أَيْ: لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَذَاكُمَا بِسَبَبِ إِبْلَاغِكُمَا آيَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٤) :﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] (٥). وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الْأَحْزَابِ: ٣٩]، أَيْ: وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا وَمُؤَيِّدًا. وَلِهَذَا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمَا ولِمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾، كما قال
(١) زيادة من ت.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) زيادة من ت، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
236
تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢].
وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: ﴿بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾، تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمَا ومَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ بِآيَاتِنَا (١).
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، وَاللَّهُ أعلم.
(١) تفسير الطبري (٢٠/٤٨).
237
﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ﴾، وذلك أن موسى، عليه السلام، كان في لسانه لثغة، بسبب ما كان تناول تلك الجمرة، حين خُيّر بينها وبين التمرة أو الدرّة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فحصل فيه شدة في التعبير ؛ ولهذا قال :﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ [ طه : ٢٧ - ٣٢ ] أي : يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد. ولهذا قال :﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [ يُصَدِّقُنِي ] ﴾١، أي : وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل ؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد ؛ ولهذا قال :﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾.
وقال محمد بن إسحاق :﴿ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ﴾ أي : يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم [ عني ]٢.
١ - زيادة من ت..
٢ - زيادة من أ..
فلما سأل ذلك قال الله تعالى :﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ أي : سنقوي أمرك، ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبيا معك. كما قال في الآية الأخرى :﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ [ طه : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٣ ]. ولهذا قال بعض السلف : ليس أحد أعظم مِنَّةً على أخيه، من موسى على هارون، عليهما السلام، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيًّا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال [ الله تعالى ]١ في حق موسى :﴿ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [ الأحزاب : ٦٩ ].
وقوله تعالى :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ أي : حجة قاهرة، ﴿ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ﴾ أي : لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله، كما قال الله تعالى [ لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ]٢ :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] ٣. وقال تعالى :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [ الأحزاب : ٣٩ ]، أي : وكفى بالله ناصرًا ومعينًا ومؤيدًا. ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولِمَنْ اتبعهما في الدنيا والآخرة، فقال :﴿ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [ غافر : ٥١، ٥٢ ].
ووجه ابن جرير على أن المعنى :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾، ثم يبتدئ فيقول :﴿ بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾، تقديره : أنتما ومَنْ اتبعكما الغالبون بآياتنا٤.
ولا شك أن هذا المعنى صحيح، وهو حاصل من التوجيه الأول، فلا حاجة إلى هذا، والله أعلم.
١ - زيادة من ت، ف، أ..
٢ - زيادة من ت، أ..
٣ - زيادة من ت، أ، وفي هـ :"إلى قوله"..
٤ - تفسير الطبري (٢٠/٤٨).
.

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَجِيءِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَعَرْضِهِ مَا آتَاهُمَا اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاهِرَةِ، عَلَى صِدْقِهِمَا فيما أخبر عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ. فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ وَتُحَقَّقُوهُ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، عَدَلُوا بِكُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ إِلَى الْعِنَادِ وَالْمُبَاهَتَةِ، وَذَلِكَ لِطُغْيَانِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَقَالُوا: ﴿مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾ أَيْ: مُفْتَعَلٌ مَصْنُوعٌ. وَأَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بِالْحِيلَةِ وَالْجَاهَ، فَمَا صَعِدَ مَعَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (١) :﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ﴾ يَعْنُونَ: عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ آبَائِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَمْ نَرَ (٢) النَّاسَ إِلَّا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. فَقَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُجِيبًا لَهُمْ: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ يَعْنِي: مِنِّي وَمِنْكُمْ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أَيِ: النُّصْرَةُ وَالظَّفَرُ وَالتَّأْيِيدُ، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيِ: الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) ﴾.
(١) في ت، ف: "وقولهم".
(٢) في ف: "وما نرى".
237
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَافْتِرَائِهِ فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ لِنَفْسِهِ الْقَبِيحَةِ -لَعَنَهُ اللَّهُ -كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٥٤]، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ أَذْهَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، [وَ] (١) قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النَّازِعَاتِ: ٢٣ -٢٦] يَعْنِي: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ الْعَالِي مُصَرِّحا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. وَلِهَذَا انْتَقَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَجَعَلَهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَتَّى إِنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكِلِيمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩].
وقوله: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ أَيْ: أَمَرَ وَزِيرَهُ هَامَانَ وَمُدَبِّرَ رَعِيَّتِهِ وَمُشِيرَ دَوْلَتِهِ أَنْ يُوقِدَ لَهُ عَلَى الطِّينِ، لِيَتَّخِذَ لَهُ آجُرّا لِبِنَاءِ الصَّرْحِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الْمُنِيفُ الرَّفِيعُ -كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ﴾ [غَافِرٍ: ٣٦، ٣٧]، وَذَلِكَ لِأَنَّ (٢) فِرْعَوْنَ بَنَى هَذَا الصَّرْحَ الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِرَ لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيبَ مُوسَى فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَهٍ غَيْرِ فِرْعَوْنَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أَيْ: فِي قَوْلِهِ إِنَّ ثَمّ رَبًّا غَيْرِي، لَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] وَقَالَ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٢٩] وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مَعَادَ وَلَا قِيَامَةَ (٣)، ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: ١٣، ١٤]، ولهذا قال ها هنا: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ أَيْ: أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أَيْ: لِمَنْ سَلَكَ وَرَاءَهُمْ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِهِمْ، فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أَيْ: فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٣]
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ (٤) أَيْ: وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلكهم فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّبِعِينَ رُسُلَهُ، وَكَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾. قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ [هود: ٩٩].
(١) زيادة من ت، ف.
(٢) في ت: "أن".
(٣) في ت: "لا قيامة ولا معاد".
(٤) في ت: "فأتبعناهم".
238
فقال موسى، عليه السلام، مجيبا لهم :﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ﴾ يعني : مني ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم. ولهذا قال :﴿ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ أي : النصرة والظفر والتأييد، ﴿ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ أي : المشركون بالله.
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة - لعنه الله - كما قال تعالى :﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٤ ]، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ؛ ولهذا قال :﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾، [ و ]١ قال تعالى إخبارا عنه :﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [ النازعات : ٢٣ - ٢٦ ] يعني : أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مُصَرِّحا لهم بذلك، فأجابوه سامعين مطيعين. ولهذا انتقم الله تعالى منه، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ].
وقوله :﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ أي : أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين، ليتخذ له آجُرّا لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع - كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ﴾ [ غافر : ٣٦، ٣٧ ]، وذلك لأن٢ فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء أعلى منه، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ؛ ولهذا قال :﴿ وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ أي : في قوله إن ثَمّ ربًّا غيري، لا أنه كذبه في أن الله أرسله ؛ لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع، فإنه قال :﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٣ ] وقال :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ وهذا قول ابن جرير.
١ - زيادة من ت، ف..
٢ - في ت :"أن"..
وقوله :﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ﴾ أي : طغوا وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا معاد ولا قيامة١، ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [ الفجر : ١٣، ١٤ ]، ولهذا قال ها هنا :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ﴾
١ - في ت :"لا قيامة ولا معاد"..
أي : أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة، فلم يبق منهم أحد { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ أي : لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم، في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ﴾ أي : فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة، كما قال تعالى :﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٣ ]
وقوله :﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ ١ أي : وشرع الله لعنتهم ولعنة مَلكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله، وكما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾. قال قتادة : وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ [ هود : ٩٩ ].
١ - في ت :"فأتبعناهم"..
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى﴾ يَعْنِي: أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ [الْحَاقَّةِ: ٩، ١٠].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَا حَدَّثَنَا عوف، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى﴾ (١).
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَميلة (٢) الْأَعْرَابِيِّ، بِنَحْوِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى القَطَّان، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْقُوفًا (٣). ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رَفَعَهُ (٤) إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ:"مَا أهلكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى﴾ (٥).
وَقَوْلُهُ: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ أَيْ: مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، ﴿وَهُدًى﴾ إِلَى الْحَقِّ، ﴿وَرَحْمَةً﴾ أَيْ: إِرْشَادًا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ، ويهتدون بسببه.
(١) تفسير الطبري (٢٠/٥٠).
(٢) في أ: "حبلة".
(٣) مسند البزار برقم (٢٢٤٧) "كشف الأستار".
(٤) في ت: "مرفوعا".
(٥) مسند البزار برقم (٢٢٤٨) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (٧/٨٨) :"رواه البزار موقوفا ومرفوعا ورجالهما رجال الصحيح".
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) ﴾.
239
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى بُرْهَانِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ، خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شَاهِدٌ ورَاءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ مَرْيَمَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٤]، أَيْ: مَا كُنْتَ حَاضِرًا لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ. وَهَكَذَا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْجَاءِ اللَّهِ لَهُ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هُودٍ: ٤٩] وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ (١) الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ [هُودٍ: ١٠٠]، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٢]، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ [طَهَ: ٩٩] وقال ها هنا -بَعْدَمَا أَخْبَرَ عَنْ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَتَكْلِيمُهُ لَهُ -: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ﴾ يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي هِيَ شَرْقِيَّةٌ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ، لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، ونَسُوا حُجَج اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أَيْ: وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، حِينَ أخْبرتَ عَنْ نَبِيِّهَا شُعَيْبٍ، وَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ، وَمَا ردُّوا عَلَيْهِ، ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ نَحْنُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ -قَالَ أَبُو عبد الرحمن النسائي، في التفسير من سننه: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْر، أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ -عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِك، عَنْ أَبِي زُرْعَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ﴿: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾، قَالَ: نُودُوا: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ، عَنْ حَمْزَةَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ -عَنِ الْأَعْمَشِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَيَحْيَى بْنِ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِك، عَنْ أَبِي زُرْعَة -وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ (٢) -أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُقاتِل بْنُ حَيَّان: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ : أُمَّتَكَ في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا
(١) في ت، ف: "الغيب" وهو خطأ.
(٢) تفسير الطبري (٢٠/٥١) والذي فيه من طريق سفيان ويحيى بن عيسى.
240
وقوله :﴿ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ أي : وما كنت مقيما في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، حين أخْبرتَ عن نبيها شعيب، وما قال لقومه، وما ردُّوا عليه، ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ أي : ولكن نحن أوحينا إليك ذلك، وأرسلناك للناس رسولا.
﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ - قال أبو عبد الرحمن النسائي، في التفسير من سننه : أخبرنا علي بن حُجْر، أخبرنا عيسى - وهو ابن يونس - عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن علي بن مُدْرِك، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه ﴿ : وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾، قال : نودوا : يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث جماعة، عن حمزة - وهو ابن حبيب الزيات - عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن علي بن مُدْرِك، عن أبي زُرْعَة - وهو ابن عمرو بن جرير١ - أنه قال ذلك من كلامه، والله أعلم.
وقال مُقاتِل بن حَيَّان :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ : أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت.
وقال قتادة :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ موسى. وهذا - والله أعلم - أشبه بقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾.
ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك، وهو النداء، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ﴾ [ الشعراء : ١٠ ]، وقال :﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [ النازعات : ١٦ ]، وقال :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٢ ].
وقوله :﴿ وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي : ما كنت مشاهدًا لشيء من ذلك، ولكن الله أوحاه إليك وأخبرك به، رحمة منه لك وبالعباد بإرسالك إليهم، ﴿ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي : لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل.
١ - تفسير الطبري (٢٠/٥١) والذي فيه من طريق سفيان ويحيى بن عيسى..
﴿ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي : وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولتقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، كما قال تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن :﴿ أَنْ تَقُولُوا١ إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [ الأنعام : ١٥٦، ١٥٧ ]، وقال :﴿ رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ]، وقال تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ المائدة : ١٩ ]، والآيات في هذا كثيرة [ والله أعلم ]٢.
١ - في ت، ف :"يقولوا"..
٢ - زيادة من ف، أ..
بِكَ إِذَا بُعِثْتَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ مُوسَى. وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ﴾.
ثُمَّ أَخْبَرَ هَاهُنَا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٠]، وَقَالَ: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [النَّازِعَاتِ: ١٦]، وَقَالَ: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ أَيْ: مَا كُنْتَ مُشَاهِدًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ وَأَخْبَرَكَ بِهِ، رَحْمَةً مِنْهُ لَكَ وَبِالْعِبَادِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ، ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ لِتُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَلِتَقْطَعَ عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَ كِتَابِهِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ الْقُرْآنُ: ﴿أَنْ تَقُولُوا (١) إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٦، ١٥٧]، وَقَالَ: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّسَاءِ: ١٦٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٩]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (٢).
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) ﴾
(١) في ت، ف: "يقولوا".
(٢) زيادة من ف، أ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:يقول تعالى مخبرًا عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم، لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول : إنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد، صلوات الله وسلامه عليه١ قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد :﴿ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ﴾، يعنون - والله أعلم - : من الآيات الكثيرة، مثل العصا واليد، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وتنقص٢ الزروع والثمار، مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المنِّ والسلوى، إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة، التي أجراها الله على يدي موسى عليه السلام، حجة وبراهين له على فرعون وملئه وبني إسرائيل، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه، بل كفروا بموسى وأخيه هارون، كما قالوا لهما :﴿ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس : ٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٨ ]. ولهذا قال هاهنا :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة. ﴿ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا، ﴾، أي تعاونا، ﴿ وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ أي : بكل منهما كافرون. ولشدة التلازم والتصاحب والمقارنة بين موسى وهارون، دلَّ ذكر أحدهما على الآخر، كما قال الشاعر :
فمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا أريدُ الخَيْرَ أيهُمَا يَليني
أي : فما أدري أيليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر : أمرت اليهود قريشا أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ قال : يعني موسى وهارون صلى الله عليه وسلم٣ ﴿ تَظَاهَرَا ﴾ أي : تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر. وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رَزِين في قوله :﴿ ساحِران ﴾ يعنون : موسى وهارون. وهذا قول جيد قَويّ، والله أعلم.
وقال مسلم بن يَسَار، عن ابن عباس ﴿ قَالُوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ يعني : موسى ومحمدًا، صلوات الله وسلامه عليهما٤ وهذا رواية عن الحسن البصري.
وقال الحسن وقتادة : يعني : عيسى ومحمدًا، صلى الله عليهما وسلم، وهذا فيه بعد ؛ لأن عيسى لم يجر له ذكر هاهنا، والله أعلم.
وأما من قرأ ﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾، فقال علي بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عباس. يعنون : التوراة والقرآن. وكذا قال عاصم الجَنَديّ، والسُّدِّيُّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال السدي : يعني صَدّق كل واحد منهما الآخر.
وقال عكرمة : يعنون : التوراة والإنجيل. وهو رواية عن أبي زرعة، واختاره ابن جرير٥.
وقال الضحاك وقتادة : الإنجيل والقرآن. والله سبحانه، أعلم بالصواب. والظاهر على قراءة :﴿ سِحْرَانِ ﴾ أنهم يعنون : التوراة والقرآن ؛ لأنه قال بعده :﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ ﴾، وكثيرًا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن، كما في قوله تعالى ﴿ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾ إلى أن قال :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [ الأنعام : ٩١، ٩٢ ]، وقال في آخر السورة :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾، إلى أن قال :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٥ ]، وقالت الجن :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ] ﴾ [ الأحقاف : ٣٠ ] ١ وقال ورقة بن نوفل : هذا الناموس الذي أنزل [ الله ]٢ على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله لم ينزل كتابًا من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم٣، وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران، عليه السلام، وهو التوراة التي قال الله تعالى فيها :﴿ إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]. والإنجيل إنما نزل متمما للتوراة ومُحلا لبعض ما حُرّم على بني إسرائيل. ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي : فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل.
١ - في أ :"صلى الله عليه وسلم"..
٢ - في ت، ف، أ :"تنقيص"..
٣ - في ف، أ :"عليهما السلام"..
٤ - في ف :"عليهما وسلم"..
٥ - تفسير الطبري (٢٠/٥٣)..

قال الله تعالى :﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ﴾ أي : فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ أي : بلا دليل ولا حجة ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ أي : بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ: أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه (١) قالوا على
(١) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
241
وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ: ﴿لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾، يَعْنُونَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، مِثْلَ الْعَصَا وَالْيَدِ، وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، وَتَنَقُّصِ (١) الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ المنِّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ، الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حُجَّةً وَبَرَاهِينَ لَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُونُسَ: ٧٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٨]. وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: أَوْلَمَ يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ. ﴿قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا،﴾، أَيْ تَعَاوَنَا، ﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ أَيْ: بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَافِرُونَ. وَلِشِدَّةِ التَّلَازُمِ وَالتَّصَاحُبِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ، دلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أريدُ الخَيْرَ أيهُمَا يَليني...
أَيْ: فَمَا أَدْرِي أَيَلِينِي الْخَيْرُ أَوِ الشَّرُّ. قَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: أَمَرَتِ الْيَهُودُ قريشا أَنْ يَقُولُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ قَالَ: يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٢) ﴿تَظَاهَرَا﴾ أَيْ: تَعَاوَنَا وَتَنَاصَرَا وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو رَزِين فِي قَوْلِهِ: ﴿ساحِران﴾ يَعْنُونَ: مُوسَى وَهَارُونَ. وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ قَويّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿قَالُوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا﴾ يَعْنِي: مُوسَى وَمُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا (٣) وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: يَعْنِي: عِيسَى وَمُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ. وَكَذَا قَالَ عَاصِمٌ الجَنَديّ، والسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي صَدّق كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (٤).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: الْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَالظَّاهِرُ عَلَى قِرَاءَةِ: ﴿سِحْرَانِ﴾ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ﴾، وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩١، ٩٢]،
(١) في ت، ف، أ: "تنقيص".
(٢) في ف، أ: "عليهما السلام".
(٣) في ف: "عليهما وسلم".
(٤) تفسير الطبري (٢٠/٥٣).
242
وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٥]، وَقَالَتِ الْجِنُّ: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٣٠] (١) وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ [اللَّهُ] (٢) عَلَى مُوسَى. وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ أَكْمَلَ وَلَا أَشْمَلَ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنَ الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٣)، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٤٤]. وَالْإِنْجِيلُ إِنَّمَا نَزَلَ مُتَمِّمًا لِلتَّوْرَاةِ ومُحلا لِبَعْضِ مَا حُرّم عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: فِيمَا تُدَافِعُونَ بِهِ الْحَقَّ وَتُعَارِضُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ عَمَّا قُلْتَ لَهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أَيْ: بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَيَّنَّا لَهُمُ الْقَوْلَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ تَعَالَى: أخبَرَهم كَيْفَ صُنع بِمَنْ مَضَى وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: ﴿وَصَّلْنَا لَهُمُ﴾ يَعْنِي: قُرَيْشًا. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَة، عَنْ رِفَاعَةَ -رِفَاعَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ قَرَظَة القُرَظيّ، وَجَعَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ: رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، خَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَهُوَ الَّذِي طَلَّقَ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ (٤) -قَالَ: نَزَلَتْ ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ فِي عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِهِ (٥).
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥) ﴾.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من ف.
(٣) في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(٤) أسد الغابة لابن الأثير (٢/٢٢٨).
(٥) تفسير الطبري (٢٠/٥٦) ورواه اللطبراني في المعجم الكبير (٥/٥٣) من طريق حماد بن سلمة به.
243
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ (١) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٢١]، وَقَالَ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٩]، وَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٧، ١٠٨]، وَقَالَ: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٨٢، ٨٣].
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: ﴿يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ حَتَّى خَتَمَهَا، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ كُنَّا مُسْلِمِينَ، أَيْ: مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِالثَّانِي [يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِالرَّسُولِ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِالثَّانِي] (٢) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ؛ فإنَّ تجشُّم مِثْلِ هَذَا شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، ورَجُل كَانَتْ لَهُ أمَة فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فتزوَّجها" (٣).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ السَّيلَحيني، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ سُلَيْمَانَ (٤) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنِّي لتحتَ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا وَقَالَ فِيمَا قَالَ: "مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، [ومَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ ما علينا] " (٥) (٦).
وقوله ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ أَيْ: لَا يُقَابِلُونَ السَّيِّئَ (٧) بِمِثْلِهِ، وَلَكِنْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أَيْ: وَمِنَ الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنَ الْحَلَالِ يُنْفِقُونَ عَلَى خَلْق اللَّهِ فِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ لِأَهْلِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، وَصَدَقَاتِ النَّفْلِ والقربات.
(١) في ت، ف: "الألباء" وفي أ: "الألباب".
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) صحيح البخاري برقم (٩٧) وصحيح مسلم برقم (١٥٤).
(٤) في، أ: "سليم".
(٥) زيادة من ف، أ، ومسند أحمد.
(٦) المسند (٥/٢٥٩).
(٧) في ت، ف، أ: "يقابلون على السيئ".
244
﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ يعني : من قبل هذا القرآن كنا مسلمين، أي : موحدين مخلصين لله مستجيبين له.
قال الله :﴿ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ﴾ أي : هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني [ يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بالرسول الأول ثم بالثاني ]١ ؛ ولهذا قال :﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾ أي : على اتباع الحق ؛ فإنَّ تجشُّم مثل هذا شديد على النفوس. وقد ورد في الصحيحين من حديث عامر الشعبي، عن أبي بُرْدَةَ، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورَجُل كانت له أمَة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوَّجها " ٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السَّيلَحيني، حدثنا ابن لَهِيعة، عن سليمان٣ بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبي أمامة قال : إني لتحتَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنًا جميلا وقال فيما قال :" مَنْ أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا وعليه ما علينا، [ ومَنْ أسلم من المشركين، فله أجره، وله ما لنا وعليه ما علينا ] " ٤-٥.
وقوله ﴿ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : لا يقابلون السيئ٦ بمثله، ولكن يعفون ويصفحون. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ أي : ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خَلْق الله في النفقات الواجبة لأهلهم وأقاربهم، والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات، وصدقات النفل والقربات.
١ - زيادة من ت، ف، أ..
٢ - صحيح البخاري برقم (٩٧) وصحيح مسلم برقم (١٥٤)..
٣ - في، أ :"سليم"..
٤ - زيادة من ف، أ، ومسند أحمد..
٥ - المسند (٥/٢٥٩)..
٦ - في ت، ف، أ :"يقابلون على السيئ"..
وقوله :﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ﴾ أي : لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [ ٠الفرقان : ٧٢ ].
﴿ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ أي : إذا سَفه عليهم سَفيه، وكلمهم بما لا يَليقُ بهم الجوابُ عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب. ولهذا قال عنهم : إنهم قالوا :﴿ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ أي : لا نُريد طَريق الجاهلين ولا نُحبّها.
قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك، من النصارى، حين١ بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه - ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة - فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عما أرادوا، دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا٢ لهم : خَيَّبَكُم الله مِنْ ركب. بعثكم مَنْ وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم٣ بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ؛ ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا [ لهم ]٤ سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نَألُ أنفسَنا خيرًا٥.
قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أيّ ذلك كان٦.
قال : ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هذه الآيات :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ إلى قوله :﴿ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾.
قال : وقد سألت الزهري عن هذه الآيات فيمن أنزلْن٧، قال : ما زلتُ أسمع من علمائنا أنهن أنزلهن٨ في النجاشي وأصحابه، رضي الله عنهم، والآيات التي٩ في سورة المائدة :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ﴾ إلى قوله :﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ المائدة : ٨٢، ٨٣ ]
١ - في أ :"حتى"..
٢ - في أ :"فقال"..
٣ - في ت :"فتأتونهم"..
٤ - زيادة من ت، ف، أ..
٥ - السيرة النبوية لابن هشام (١/٣٩٢)..
٦ - في أ :"كما"..
٧ - في ت :"نزلت" وفي ف، أ :"نزلن"..
٨ - في أ :"نزلن"..
٩ - في أ :"اللاتي"..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ أَيْ: لَا يُخَالِطُونَ أَهْلَهُ وَلَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [٠الْفُرْقَانِ: ٧٢].
﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ أَيْ: إِذَا سَفه عَلَيْهِمْ سَفيه، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا لَا يَليقُ بِهِمُ الجوابُ عَنْهُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ إِلَّا كَلَامٌ طَيِّبٌ. وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ أَيْ: لَا نُريد طَريق الْجَاهِلِينَ وَلَا نُحبّها.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، مِنَ النَّصَارَى، حِينَ (١) بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إِلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ -وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ -فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا (٢) لَهُمْ: خَيَّبَكُم اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ. بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ (٣) بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ فِيمَا قَالَ؛ مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ. أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُمْ. فَقَالُوا [لَهُمْ] (٤) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَألُ أنفسَنا خَيْرًا (٥).
قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ (٦).
قَالَ: وَيُقَالُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.
قَالَ: وَقَدْ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أنزلْن (٧)، قَالَ: مَا زلتُ أسمع من علمائنا أنهن أنزلهن (٨) فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْآيَاتُ الَّتِي (٩) فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٨٢، ٨٣]
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) ﴾.
(١) في أ: "حتى".
(٢) في أ: "فقال".
(٣) في ت: "فتأتونهم".
(٤) زيادة من ت، ف، أ.
(٥) السيرة النبوية لابن هشام (١/٣٩٢).
(٦) في أ: "كما".
(٧) في ت: "نزلت" وفي ف، أ: "نزلن".
(٨) في أ: "نزلن".
(٩) في أ: "اللاتي".
245
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أَيْ: لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢]، وَقَالَ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣].
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهداية بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الغِوَاية، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ عَمّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَحوطُه وَيَنْصُرُهُ، وَيَقُومُ فِي صَفِّهِ وَيُحِبُّهُ حُبًّا [شَدِيدًا] (١) طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَسَبَقَ الْقَدَرُ فِيهِ، وَاخْتُطِفَ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ (٢) التَّامَّةُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ -وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْن الْمَخْزُومِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣]، بوأنزل فِي أَبِي طَالِبٍ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
أَخْرَجَاهُ (٣) مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (٤). وَهَكَذَا رَوَاهُ (٥) مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَان، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وفاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيّرني (٦) بِهَا قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَع الْمَوْتِ، لأقرَرْتُ بِهَا عينَك، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لأقرَّ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (٧)، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ (٨).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّان، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هريرة، فذكره بنحوه (٩).
(١) زيادة من ت، ف، أ.
(٢) في أ: "الحجة".
(٣) في ت: "البخاري ومسلم".
(٤) صحيح البخاري برقم (١٣٦٠) وصحيح مسلم برقم (٢٤).
(٥) في ت: "وروى".
(٦) في ف: "يعيرني".
(٧) في ت: "رواه الترمذي وقال: حسن صحيح".
(٨) صحيح مسلم رقم (٢٥) وسنن الترمذي برقم (٣١٨٨).
(٩) المسند (٢/٤٣٤).
246
وقوله :﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ :[ يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع١ الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ ] ٢ أي : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا مَنْ حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، فقال الله تعالى مجيبا لهم :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ﴾ يعني : هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين، وحَرَم معظم آمن منذ وُضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟.
وقوله :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي : من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة ﴿ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ﴾ أي : من عندنا ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ فلهذا قالوا ما قالوا.
وقد قال٣ النسائي : أنبأنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جُرَيْج، أخبرني ابن أبي مُلَيْكة قال : قال عمرو بن شعيب، عن ابن عباس - ولم يسمعه منه - : أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال :﴿ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾٤.
١ - في أ :"اتباعهم"..
٢ - زيادة من ت، ف، أ..
٣ - في ت :"وقد روى"..
٤ - النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٥)..
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: (١) أيْ ابْنَ أَخِي، ملةَ الْأَشْيَاخِ. وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ (٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم (٣)، عن سعيد بن أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ قَيْصَرَ جَاءَ (٤) إليَّ قَالَ: كَتَبَ مَعِي قَيْصَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا، فَأَتَيْتُهُ فَدَفَعْتُ الْكِتَابَ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"مِمَّنْ الرَّجُلُ؟ " قُلْتُ: مِنْ تَنُوخَ (٥). قَالَ: "هَلْ لَكَ فِي دِينِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ؟ " قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ، وَعَلَى دِينِهِمْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ (٦) :﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ :[يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ (٨) الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ] (٩) أَيْ: نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كُنَّا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ يَعْنِي: هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ، وحَرَم مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضع، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، وَلَا يَكُونُ آمِنًا لَهُمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَتَابَعُوا الْحَقَّ؟.
وَقَوْلُهُ: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ ﴿رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فَلِهَذَا قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَدْ قَالَ (١٠) النَّسَائِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكة قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ -: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ (١١).
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩) ﴾.
(١) في أ: "وكان".
(٢) في ت: "وروى".
(٣) في ت: "بإسناده".
(٤) في أ: "جارا".
(٥) في هـ: "تيرح" والمثبت من ف، أ.
(٦) في ت، ف، أ: "فقال".
(٧) رواه أحمد في المسند (٣/٤٤١) من طريق حماد بن سلمة بنحوه.
(٨) في أ: "اتباعهم".
(٩) زيادة من ت، ف، أ.
(١٠) في ت: "وقد روى".
(١١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٥).
247
يَقُولُ تَعَالَى مُعَرّضًا بِأَهْلِ مَكَّةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ أَيْ: طَغَتْ وأشرَت وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ (١)، فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [النَّحْلِ ١١٢، ١١٣] وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا﴾ أَيْ: دَثَرت دِيَارُهُمْ فَلَا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ أَيْ: رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [هَاهُنَا] (٢) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ لِعُمْرَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٣) قَالَ لِلْهَامَّةِ -يَعْنِي الْبُومَةَ -مَا لَكِ لَا تَأْكُلِينَ الزَّرْعَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُ أُخْرِجَ آدَمُ بِسَبَبِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَشْرَبِينَ الْمَاءَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللَّهَ أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِهِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَأْوِينَ إِلَّا إِلَى الْخَرَابِ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُ مِيرَاثُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَلَا ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ (٤) مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظَالِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ مَنْ أَهْلَكَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ وَهِيَ مَكَّةُ ﴿رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾. فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٥)، الْمَبْعُوثَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى، رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى، مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشُّورَى: ٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨]، وَقَالَ: ﴿لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٩]، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هُودٍ: ١٧]. وَتَمَامُ الدَّلِيلِ [قَوْلُهُ] (٦) ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٨]. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَالَ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٥]. فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ الْقُرَى؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى (٧) أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٨)، أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ". وَلِهَذَا خَتَمَ بِهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ أَيْ: أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا، كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ. حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الجوزيّ، وغيرهما، وليس ببعيد.
(١) في ف: "بنعم الله" وفي أ: "نعم الله".
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٤) في ت، ف: "تعالى".
(٥) في ت، ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) في ت، ف، أ: "في".
(٨) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
248
ثم قال الله١ مخبرًا عن عدله، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا ﴾ وهي مكة ﴿ رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾. فيه دلالة على أن النبي الأمي، وهو محمد، صلوات الله وسلامه عليه٢، المبعوث من أم القرى، رسول إلى جميع القرى، من عرب وأعجام، كما قال تعالى :﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الشورى : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال :﴿ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقال :﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]. وتمام الدليل [ قوله ]٣ ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [ الإسراء : ٥٨ ]. فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]. فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى ؛ لأنه مبعوث إلى٤ أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه، صلوات الله وسلامه عليه٥، أنه قال :" بعثت إلى الأحمر والأسود ". ولهذا ختم به الرسالة والنبوة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة.
وقيل : المراد بقوله :﴿ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا ﴾ أي : أصلها وعظيمتها، كأمهات الرساتيق والأقاليم. حكاه الزمخشري وابن الجوزيّ، وغيرهما، وليس ببعيد.
١ - في ت، ف :"تعالى"..
٢ - في ت، ف، أ :"صلى الله عليه وسلم"..
٣ - زيادة من ت، أ..
٤ - في ت، ف، أ :"في"..
٥ - في ف، أ :"صلى الله عليه وسلم"..
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا (١)، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ، كَمَا قَالَ: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النَّحْلِ: ٩٦]، وَقَالَ: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٨]، وَقَالَ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٦]، وَقَالَ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الْأَعْلَى: ١٦، ١٧]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا كَمَا يَغْمِس أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْينظُر مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ" (٢).
[وَقَوْلُهُ] (٣) :﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ (٤) أَيْ: أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ : يَقُولُ: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، كمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُعَذَّبِينَ.
ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَكِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ فِي الدَّرَجَاتِ وَذَاكَ فِي الدَّرَكَاتِ: ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٥٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٥٨].
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُوَبِّخُ بِهِ الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: ﴿أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾
(١) في ت: "عن الحياة الدنيا وحقارتها".
(٢) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٥٨) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(٣) زيادة من ف، أ.
(٤) في ف، أ: "تعقلون".
249
يَعْنِي: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٩٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ يَعْنِي: مِنَ الشَّيَاطِينِ والمَرَدَة وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ، ﴿رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾، فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ، ثم تبرؤوا مِنْ عِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٨١، ٨٢]، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٥، ٦]، وَقَالَ الْخَلِيلُ لِقَوْمِهِ: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥]، وَقَالَ اللَّهُ (١) :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٦٦، ١٦٧]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ [أَيْ] (٢) : لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أَيْ: وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ أَيْ: فَوَدُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ [الْكَهْفِ: ٥٢، ٥٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ : النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ: مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسأل الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ (٣) ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ (٤) وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ.. هَاهَ. لَا أَدْرِي؛ وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾
(١) في ت، ف: "تعالى" وفي أ: "الله تعالى".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "من نبيكم وما دينكم".
(٤) في ف، أ: "عبده".
250
وقوله :﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ : يقول : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل، ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ قال مجاهد، وقتادة : من المعذبين.
ثم قد قيل : إنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. وقيل : في حمزة وعلي وأبي جهل، وكلاهما عن مجاهد. والظاهر أنها عامة، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه، وهو في الدرجات وذاك في الدركات :﴿ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [ الصافات : ٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥٨ ].
يقول تعالى مخبرًا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة، حيث يناديهم فيقول :﴿ أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾
يعني : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا، من الأصنام والأنداد، هل ينصرونكم أو ينتصرون ؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد، كما قال :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ].
وقوله :﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ يعني : من الشياطين والمَرَدَة والدعاة إلى الكفر، ﴿ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾، فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم، كما قال تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [ مريم : ٨١، ٨٢ ]، وقال :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٥، ٦ ]، وقال الخليل لقومه :﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ]، وقال الله١ :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٦٦، ١٦٧ ]، ولهذا قال :﴿ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ﴾
١ - في ت، ف :"تعالى" وفي أ :"الله تعالى"..
﴿ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ﴾[ أي ]١ : ليخلصوكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ أي : وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.
وقوله :﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾ أي : فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا. وهذا كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾ [ الكهف : ٥٢، ٥٣ ].
١ - زيادة من أ..
وقوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ : النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوات : ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم ؟ وكيف كان حالكم معهم ؟ وهذا كما يُسأل العبد في قبره : مَنْ ربك ؟ ومَنْ نبيك ؟ وما دينك١ ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله٢ ورسوله. وأما الكافر فيقول : هاه. . هاه. لا أدري ؛ ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت ؛ لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ولهذا قال تعالى :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ﴾.
١ - في أ :"من نبيكم وما دينكم"..
٢ - في ف، أ :"عبده"..
﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ وقال مجاهد : فعميت عليهم الحجج، فهم لا يتساءلون بالأنساب.
وقوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ أي : في الدنيا، ﴿ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
أي : يوم القيامة، و " عسى " من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومَنّه لا محالة.
أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ"عَسَى" مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، فَإِنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِفَضْلِ اللَّهِ ومَنّه لَا مَحَالَةَ.
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِعٌ وَلَا مُعَقِّبٌ فَقَالَ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ أَيْ: مَا يَشَاءُ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا بِيَدِهِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ نَفْيٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٣٦].
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ ﴿مَا﴾ هَاهُنَا بِمَعْنَى "الَّذِي"، تَقْدِيرُهُ: وَيَخْتَارُ الَّذِي لَهُمْ فِيهِ خِيرَةٌ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ طَائِفَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَصْلَحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَقَامَ فِي بَيَانِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تَخْتَارُ شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ (١) الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ الظَّوَاهِرُ مِنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ، ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٠].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، كَمَا لَا رَبَّ يَخْلُقُ وَيَخْتَارُ سِوَاهُ ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ، لِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ أَيِ: الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لَهُ، لِقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: جَمِيعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي (٢) كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي سائر الأعمال.
(١) في هـ، أ: "مكتمة" والمثبت من ت، ف.
(٢) في ت، ف: "فيجزي".
ثم قال :﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي : يعلم ما تكن١ الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق، ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [ الرعد : ١٠ ].
١ - في هـ، أ :"مكتمة" والمثبت من ت، ف..
وقوله :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾ أي : هو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ويختار سواه ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ ﴾ أي : في جميع ما يفعله هو المحمود عليه، لعدله وحكمته ﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ ﴾ أي : الذي لا معقب له، لقهره وغلبته وحكمته ورحمته، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي : جميعكم يوم القيامة فيجازي١ كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.
١ - في ت، ف :"فيجزي"..
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) ﴾.
ثم أخبر أنه لو جعل النهار سرمدًا دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة، لأضرَّ ذلك بهم، ولتعبت الأبدان وكلَّت من كثرة الحركات والأشغال ؛ ولهذا قال :﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ﴾ أي : تستريحون من حركاتكم وأشغالكم. { أَفَلا تُبْصِرُونَ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ } أي : بكم ﴿ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ أي : خلق هذا وهذا ﴿ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ أي : في الليل، ﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي : في النهار بالأسفار والترحال، والحركات والأشغال، وهذا من باب اللف والنشر.
وقوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي : تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ]. والآيات في هذا كثيرة١.
١ - بعدها في ت، ف :"فصل : فانظر إلى هذه الآيات وما تضمنته من العبرة والدلالة على ربوبية الله وحكمته، كيف جعل الليل سكنا ولباسا ؟ يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وثباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها. جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار، فقدم حيثه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وأزالها وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان، وتصرف في معايشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من ميعاد! ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، وتكرره ومشاهدة النفوس له بحيث صار عادة ومألفا، منعها من الاعتبار والاستدلال به على النشأة الثانية، وإحياء الخلق بعد موتهم، كما وردت السنة بذلك، أنه يستجاب للعبد إذا قام من نومه يقول : الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا وإليه النشور"..
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، اللَّذَيْنِ لَا قوَامَ لَهُمْ بِدُونِهِمَا. وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ جعلَ الليلَ دَائِمًا عَلَيْهِمْ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَسَئِمَتْهُ النُّفُوسُ وَانْحَصَرَتْ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ أَيْ: تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَسْتَأْنِسُونَ بِسَبَبِهِ، ﴿أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ النَّهَارَ سَرْمَدًا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لأضرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَتَعِبَتِ الْأَبْدَانُ وكلَّت مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ أَيْ: تَسْتَرِيحُونَ مِنْ حَرَكَاتِكُمْ وَأَشْغَالِكُمْ. ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أَيْ: بِكُمْ ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ أَيْ: خَلَقَ هَذَا وَهَذَا ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ أَيْ: فِي اللَّيْلِ، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ: فِي النَّهَارِ بِالْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ: تَشْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِاللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالنَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٦٢]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ (١).
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) ﴾.
وَهَذَا أَيْضًا نِدَاءٌ [ثَانٍ] (٢) عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِمَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، يُنَادِيهِمُ الرب -تبارك وتعالى -على رؤوس الْأَشْهَادِ فَيَقُولُ: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الدُّنْيَا.
﴿وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ : قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي رَسُولًا. ﴿فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أَيْ: عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ، ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ﴾ أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَيْ: فَلَمْ يَنْطِقُوا وَلَمْ يُحِيرُوا (٣) جَوَابًا، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ: ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ.
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) ﴾.
(١) بعدها في ت، ف: "فصل: فانظر إلى هذه الآيات وما تضمنته من العبرة والدلالة على ربوبية الله وحكمته، كيف جعل الليل سكنا ولباسا؟ يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوى الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وثباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها. جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار، فقدم حيثه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وأزالها وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان، وتصرف في معايشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من ميعاد! ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، وتكرره ومشاهدة النفوس له بحيث صار عادة ومألفا، منعها من الاعتبار والاستدلال به على النشأة الثانية، وإحياء الخلق بعد موتهم، كما وردت السنة بذلك، أنه يستجاب للعبد إذا قام من نومه يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا وإليه النشور".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "فلم يجيبوا".
252
قَالَ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ. وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (١).
قَالَ ابْنُ جُرَيْج: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ.
وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار: أَنَّ قَارُونَ كَانَ عمَّ مُوسَى (٢)، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامة: كُنَّا نُحدّث أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ.
وَقَالَ شَهْر بْنُ حَوْشَب: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ أَيْ: [مِنَ] (٣) الْأَمْوَالِ ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ أَيْ: لَيُثقلُ حملُها الفئامَ مِنَ النَّاسِ لِكَثْرَتِهَا.
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الْأُصْبُعِ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُملت عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ أَيْ: وَعَظَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ صَالِحُ قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ: لَا تَبْطَرْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ (٤) ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا (٥) مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك
(١) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٢) في ف، أ: "موسى بن عمران".
(٣) زيادة من ت.
(٤) في ت، ف، أ: "المال".
(٥) في ت، ف: "لك".
253
حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ.
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ ﴿وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: لَا تكنْ هِمَّتُكَ بِمَا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تُفْسِدَ بِهِ الْأَرْضَ (١)، وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
(١) في أ: "في الأرض".
254
﴿ وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴾ : قال مجاهد : يعني رسولا. ﴿ فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ أي : على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء، ﴿ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ أي : لا إله غيره، أي : فلم ينطقوا ولم يحيروا١ جوابا، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ أي : ذهبوا فلم ينفعوهم.
١ - في ت :"فلم يجيبوا"..
قال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾، قال : كان ابن عمه. وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جُرَيْج، وغيرهم : أنه كان ابن عم موسى، عليه السلام١.
قال ابن جُرَيْج : هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث.
وزعم محمد بن إسحاق بن يَسَار : أن قارون كان عمَّ موسى٢، عليه السلام.
قال ابن جرير : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه، والله أعلم. وقال قتادة بن دِعَامة : كنا نُحدّث أنه كان ابن عم موسى، وكان يسمى المنوّر لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
وقال شَهْر بن حَوْشَب : زاد في ثيابه شبرًا طولا ترفعًا على قومه.
وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ﴾ أي :[ من ]٣ الأموال ﴿ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ أي : لَيُثقلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها.
قال الأعمش، عن خَيْثَمَةَ : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدته، فإذا ركب حُملت على ستين بغلا أغر محجلا. وقيل : غير ذلك، والله أعلم.
وقوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ أي : وعظه فيما هو فيه صالح قومه، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد : لا تفرح بما أنت فيه، يعنون : لا تبطر بما أنت فيه من الأموال٤ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ قال ابن عباس : يعني المرحين. وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
١ - في ت :"صلى الله عليه وسلم"..
٢ - في ف، أ :"موسى بن عمران"..
٣ - زيادة من ت..
٤ - في ت، ف، أ :"المال"..
وقوله :﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. ﴿ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ أي : مما أباح الله فيها١ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه.
﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ﴿ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ ﴾ أي : لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض٢، وتسيء إلى خلق الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
١ - في ت، ف :"لك"..
٢ - في أ :"في الأرض"..
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ، حِينَ نَصَحُوهُ وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ أَيْ: أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ لِي فَتَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا (١) مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٤٩] أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِي، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ [فُصِّلَتْ: ٥٠] أَيْ: هَذَا أَسْتَحِقُّهُ.
وَقَدْ رُوي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ أَيْ: إِنَّهُ كَانَ يُعَانِي عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الْحَجِّ: ٧٣]، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ (٢) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً" (٣). وَهَذَا وَرَدَ فِي الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الشَّكْلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِيلُ مَاهِيَّةَ هَذِهِ الذَّاتِ إِلَى مَاهِيَّةِ ذَاتٍ أُخْرَى، هَذَا زُورٌ وَمُحَالٌ، وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ. وَإِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْغِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ كَذِبٌ وَزَغَلٌ وَتَمْوِيهٌ، وَتَرْوِيجٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ صَحَّ مَعَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَتَعَانَاهَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْفَسَقَةُ الْأَفَّاكُونَ فَأَمَّا مَا يُجْرِيهِ اللَّهُ تَعَالَى (٤) مِنْ خَرْق الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ قَلْبِ بَعْضِ الْأَعْيَانِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا هَذَا عَنْ مَشِيئَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَاخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيح الْمِصْرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَرَأَى ضَرُورَتَهُ، فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ فَأَجَالَهَا فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَإِذَا هِيَ ذَهَبٌ أَحْمَرُ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ [فِي هَذَا] (٥) كَثِيرَةٌ جِدًّا يطول ذكرها.
(١) في ت، أ: "وإذا" وهو خطأ.
(٢) في ف: "رسول الله".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٩٥٣) وصحيح مسلم برقم (٢١١١).
(٤) في ت، ف: "سبحانه".
(٥) زيادة من ت، ف، أ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَارُونَ كَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا اللَّهَ بِهِ، فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ أَيْ: قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِكَفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أَيْ: لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: ﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ : عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي، وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا أُعْطِيَ] (١).
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (٨٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ: إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، مِنْ مَرَاكِبَ وَمَلَابِسَ عَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَمِيلُ إِلَى زُخرفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ، قَالُوا: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أَيْ: ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أَيْ: جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ.
[كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (٢) [السَّجْدَةِ: ١٧] (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ﴾ : قَالَ السُّدِّيُّ: وَمَا يُلَقَّى الْجَنَّةَ (٤) إِلَّا الصَّابِرُونَ. كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَا يُلَقَّى (٥) هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) ﴾
(١) زيادة من ت، ف، أ.
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) صحيح مسلم برقم (٢٨٢٤).
(٤) في أ: "وما يلقاها أي الجنة".
(٥) في أ: "وما يلقاها".
255
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ، وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ -أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ (١)، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْقَاصُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ (٣)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٤) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، خَرَجَ فِي بُرْدَيْن أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٥)، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ (٦)، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ (٧) كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ فَاخْتَالَ فِيهِمَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (٨).
وَقَدْ ذَكَرَ [الْحَافِظُ] (٩) مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ -شكَّر -فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ بِسَنَدِهِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا فِي مَسْجِدِ نَجْرَانَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَتَعَجَّبُ مِنْ طُولِهِ وَتَمَامِهِ وَجَمَالِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَقُلْتُ: أَعْجَبُ مِنْ جَمَالِكَ وَكَمَالِكَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنِّي. قَالَ: فَمَا زَالَ يَنْقُصُ وَيَنْقُصُ حَتَّى صَارَ بِطُولِ الشِّبْرِ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ قَرَابَتِهِ فِي كُمِّهِ وَذَهَبَ.
وَقَدْ ذُكر أَنَّ هَلَاكَ قَارُونَ كَانَ عَنْ دَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (١٠) وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيَّا مَالًا عَلَى أَنْ تَبْهَتَ مُوسَى بِحَضْرَةِ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ قَائِمٌ فِيهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَتَقُولُ: يَا مُوسَى، إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَالَتْ فِي الْمَلَأِ ذَلِكَ (١١) لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أرْعِدَ مِنَ الفَرَق، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا (١٢) وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ الَّذِي فَرَق الْبَحْرَ، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ فرعون، وفعل كذا و [فعل] (١٣) كذا،
(١) في ت: "خسف الله به".
(٢) صحيح البخاري برقم (٥٧٩٠).
(٣) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(٤) في ت: "النبي".
(٥) المسند (٣/٤٠).
(٦) في هـ: "أبو يعلى بن منصور" والصواب ما أثبتناه من مسند أبي يعلى.
(٧) في ف، أ:"ممن".
(٨) مسند أبي يعلى (٧/٢٧٩) وقال الهيثمي في المجمع (٥/١٢٦) :"فيه زياد بن عبد الله النميري وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان وقال: يخطئ".
(٩) زيادة من ف، أ.
(١٠) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(١١) في أ: "بذلك".
(١٢) في أ: "بعد ما".
(١٣) زيادة من ف، أ.
256
لَمَا أَخْبَرْتِنِي بِالَّذِي حَمَلَكِ عَلَى مَا قُلْتِ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَني فَإِنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ أَقُولَ لَكَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرّ مُوسَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدًا، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي قَارُونَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ فَكَانَ (١) ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ تِلْكَ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ الثِّيَابُ الْأُرْجُوَانُ الصِّبْغَةِ (٢)، فَمَرَّ فِي جَحْفَله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ قَارُونَ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ حَوْلَهُ، يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ. فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ، فَلْتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ وَأَدْعُو عَلَيْكَ. فَخَرَجَ وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ مُوسَى (٣) : تَدْعُو أَوْ أَدْعُو أَنَا؟ قَالَ: بَلْ أَنَا أَدْعُو. فَدَعَا قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى (٤) : أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ، مُر الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَنِي (٥) الْيَوْمَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ، خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوَى (٦) فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خُسف بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةٌ، فَهُمْ يَتَجَلْجَلُونَ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القيامة.
وقد ذكر ها هنا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ [غَرِيبَةٌ] (٧) أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ أَيْ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مالُه، وَمَا جَمَعه، وَلَا خَدَمُهُ وَ [لَا] (٨) حَشَمُهُ. وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ [بِهِ] (٩)، وَلَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ [لَا] (١٠) مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا مَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ﴾ أَيِ: الَّذِينَ لَمَّا رَأَوْهُ فِي زِينَتِهِ قَالُوا ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ أَيْ: لَيْسَ الْمَالُ بِدَالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْ صَاحِبِهِ [وَعَنْ عِبَادِهِ] (١١) ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ" (١٢).
﴿لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ أَيْ: لَوْلَا لُطف اللَّهِ بِنَا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف
(١) في ف، أ: "وكان".
(٢) في ت، ف، أ: "المصبغة".
(٣) في ت: "صلى الله عليه وسلم". وفي ف، أ: "عليه السلام".
(٤) في ف، أ: "قال: يا موسى".
(٥) في ت: "فلتطعني".
(٦) في أ: "اذهبوا به لا أرى".
(٧) زيادة من ت، ف.
(٨) زيادة من ت، ف.
(٩) زيادة من أ.
(١٠) زيادة من أ.
(١١) زيادة من أ.
(١٢) المسند (١/٣٨٧).
257
فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم :﴿ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾أي : جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.
[ كما في الحديث الصحيح : يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم :﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾١ [ السجدة : ١٧ ] ٢.
وقوله :﴿ وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ﴾ : قال السدي : وما يلقى الجنة٣ إلا الصابرون. كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير : وما يلقى٤ هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا، الراغبون في الدار الآخرة. وكأنه جعل ذلك مقطوعًا من كلام أولئك، وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
١ - زيادة من ت، ف، أ..
٢ - صحيح مسلم برقم (٢٨٢٤)..
٣ - في أ :"وما يلقاها أي الجنة"..
٤ - في أ :"وما يلقاها"..
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري، عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به١، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ".
ثم رواه من حديث جرير بن زيد، عن سالم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص، حدثنا الأعمش، عن عطية٣، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله٤ صلى الله عليه وسلم :" بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة ". تفرد به أحمد٥، وإسناده حسن.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا أبو معلى بن منصور٦، أخبرني محمد بن مسلم، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بينا رجل فيمن٧ كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما، فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " ٨.
وقد ذكر [ الحافظ ]٩ محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك. فقال : إن الله ليعجب مني. قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب.
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام١٠ واختلف في سببه، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله، فتقول : يا موسى، إنك فعلت بي كذا وكذا. فلما قالت في الملأ ذلك١١ لموسى عليه السلام، أرْعِدَ من الفَرَق، وأقبل عليها١٢ وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فَرَق البحر، وأنجاكم من فرعون، وفعل كذا و[ فعل ]١٣ كذا، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا، على أن أقول لك، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه. فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا، وسأل الله في قارون. فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان١٤ ذلك.
وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك، وهو راكب على البغال الشّهب، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة١٥، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام، وهو يذكرهم بأيام الله. فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله، ينظرون إلى ما هو فيه. فدعاه موسى عليه السلام، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا موسى، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالدنيا، ولئن شئت لتخرجن، فلتدعون عليّ وأدعو عليك. فخرج وخرج قارون في قومه، فقال موسى١٦ : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو. فدعا قارون فلم يجب له، ثم قال موسى١٧ : أدعو ؟ قال : نعم. فقال موسى : اللهم، مُر الأرض أن تطيعني١٨ اليوم. فأوحى الله إليه أني قد فعلت، فقال موسى : يا أرض، خذيهم. فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال : خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم. ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم. قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها. ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوى١٩ فاستوت بهم الأرض.
وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة.
وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة.
وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [ غريبة ]٢٠ أضربنا عنها صفحًا.
وقوله :﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ أي : ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه و [ لا ]٢١ حشمه. ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [ به ]٢٢، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه، فلا ناصر له[ لا ]٢٣ من نفسه، ولا من غيره.
١ - في ت :"خسف الله به"..
٢ - صحيح البخاري برقم (٥٧٩٠)..
٣ - في ت :"وروى الإمام أحمد بإسناده"..
٤ - في ت :"النبي"..
٥ - المسند (٣/٤٠)..
٦ - في هـ :"أبو يعلى بن منصور" والصواب ما أثبتناه من مسند أبي يعلى..
٧ - في ف، أ :"ممن"..
٨ - مسند أبي يعلى (٧/٢٧٩) وقال الهيثمي في المجمع (٥/١٢٦) :"فيه زياد بن عبد الله النميري وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان وقال : يخطئ"..
٩ - زيادة من ف، أ..
١٠ - في ت :"صلى الله عليه وسلم"..
١١ - في أ :"بذلك"..
١٢ - في أ :"بعد ما"..
١٣ - زيادة من ف، أ..
١٤ - في ف، أ :"وكان"..
١٥ - في ت، ف، أ :"المصبغة"..
١٦ - في ت :"صلى الله عليه وسلم". وفي ف، أ :"عليه السلام"..
١٧ - في ف، أ :"قال : يا موسى"..
١٨ - في ت :"فلتطعني"..
١٩ - في أ :"اذهبوا به لا أرى"..
٢٠ - زيادة من ت، ف..
٢١ - زيادة من ت، ف..
٢٢ - زيادة من أ..
٢٣ - زيادة من أ..
وقوله تعالى :﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ ﴾ أي : الذين لما رأوه في زينته قالوا ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾، فلما خسف به أصبحوا يقولون :﴿ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ أي : ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه [ وعن عباده ]١ ؛ فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود :" إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم وإن الله يعطي المال من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب " ٢.
﴿ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ أي : لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف به، لأنا وَددْنا أن نكون مثله.
﴿ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ يعنون : أنه كان كافرًا، ولا يفلح الكافر عند الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى [ ها هنا ]٣ :﴿ وَيْكَأَنَّ ﴾، فقال بعضهم : معناها :" ويلك اعلم أن "، ولكن خُفّفت فقيل :" ويك "، ودلَّ فتح " أن " على حذف " اعلم ". وهذا القول ضعَّفه ابن جرير٤، والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة " ويكأن ". والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي، والله أعلم.
وقيل : معناها : ويكأن، أي : ألم تر أن. قاله قتادة. وقيل : معناها " وي كأن "، ففصلها وجعل حرف " وي " ٥ للتعجب أو للتنبيه، و " كأن " بمعنى " أظن وأحسب ". قال ابن جرير : وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة : إنها بمعنى : ألم تر أن، واستشهد بقول الشاعر٦ :
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني قَلّ مَالي، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر
وَيْكأنْ مَنْ يكُن له نَشَب يُحْ*** بَبْ ومن يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ
١ - زيادة من أ..
٢ - المسند (١/٣٨٧)..
٣ - زيادة من ت، ف، أ..
٤ - تفسير الطبري (٢٠/٧٧)..
٥ - في أ :"أي"..
٦ - هو زيد بن عمرو بن نفيل، والبيت في تفسير الطبري (٢٠/٧٧)..
بِهِ، لِأَنَّا وَددْنا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ.
﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ يَعْنُونَ: أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُفْلِحُ الْكَافِرُ عِنْدَ اللَّهِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في معنى قوله تعالى [ها هنا] (١) :﴿وَيْكَأَنَّ﴾، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: "وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّ"، وَلَكِنْ خُفّفت فَقِيلَ: "وَيْكَ"، ودلَّ فَتْحُ "أَنَّ" عَلَى حَذْفِ "اعْلَمْ". وَهَذَا الْقَوْلُ ضعَّفه ابْنُ جَرِيرٍ (٢)، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً "وَيْكَأَنَّ". وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: وَيْكَأَنَّ، أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا "وَيْ كَأَنَّ"، فَفَصَلَهَا وَجَعَلَ حَرْفَ "وَيْ" (٣) لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ، وَ"كَأَنَّ" بِمَعْنَى "أَظُنُّ وَأَحْسَبُ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (٤) :
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني... قَلّ مَالي، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر...
وَيْكأنْ مَنْ يكُن لَهُ نَشَب يُحْ... بَبْ وَمَنْ يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ...
﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، أَيْ: تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ وَتَجَبُّرًا بِهِمْ، وَلَا فَسَادًا فِيهِمْ. كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعُلُوُّ: الْبَغْيُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ (٥) الْبَطِينِ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ: التَّكَبُّرُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْفَسَادُ: أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: ﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ﴾ تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا (٦)، ﴿وَلا فَسَادًا﴾ : عَمَلًا بِالْمَعَاصِي.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَشْعَثَ السَّمَّانِ (٧)، عَنْ أَبَى سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ (٨) فِي قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
(١) زيادة من ت، ف، أ.
(٢) تفسير الطبري (٢٠/٧٧).
(٣) في أ: "أي".
(٤) هو زيد بن عمرو بن نفيل، والبيت في تفسير الطبري (٢٠/٧٧).
(٥) في أ: "سالم".
(٦) في ف: "ولا تجبرا".
(٧) في أ: "أشعب السماك".
(٨) في أ: "فدخل".
258
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَ [بِذَلِكَ] (١) الْفَخْرَ [وَالتَّطَاوُلَ] (٢) عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قَالَ] (٣) إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تواضَعُوا، حَتَّى لَا يفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" (٤)، وَأَمَّا إِذَا أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ".
وَقَالَ (٥) :﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَة الْعَبْدِ، فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً فَهَذَا (٦) مَقَامُ الْفَضْلِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٩٠] وَهَذَا مَقَامُ الْفَصْلِ وَالْعَدْلِ.
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
(٤) صحيح مسلم برقم (٢٨٦٥) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(٥) في ت، ف: "وقوله".
(٦) في ف: "وهذا".
259
وقال١ :﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ﴾ أي : ثواب الله خير من حَسَنَة العبد، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة فهذا٢ مقام الفضل.
ثم قال :﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ النمل : ٩٠ ] وهذا مقام الفصل والعدل.
١ - في ت، ف :"وقوله"..
٢ - في ف :"وهذا"..
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رسولَه، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِبَلَاغِ الرِّسَالَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ أَيِ: افْتَرَضَ عَلَيْكَ أَدَاءَهُ إِلَى النَّاسِ، ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ أَيْ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٦]، وَقَالَ ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ] (١) ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٠٩] [وَقَالَ] :(٢) ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٩].
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ (٣) ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، يَقُولُ: لرادُّك إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَائِلُكَ عَنِ الْقُرْآنِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مِثْلَهَا.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبان، عَنْ عِكْرمِة، [وَ] (٤) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت: "وقال".
(٤) زيادة من ت.
259
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) :﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ : إِلَى الْمَوْتِ.
وَلِهَذَا طُرُقٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا: لَرَادُّكَ إِلَى مَعْدِنِكَ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْيِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي قَزَعَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَيْ وَاللَّهِ، إِنَّ لَهُ لَمَعَادًا (٢)، يَبْعَثُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ (٣) :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ العُصْفُريّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قَالَ: إِلَى مَكَّةَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُنَنِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسيّ -بِهِ (٤). وَهَكَذَا رَوَى العَوْفيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ أَيْ: لَرَادُّكَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ : إِلَى مَوْلِدِكَ بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطِيَّةَ، وَالضَّحَّاكِ، نَحْوُ ذَلِكَ.
[وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: فَسَمِعْنَاهُ مِنْ مُقَاتِلٍ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، عَنِ الضَّحَّاكِ] (٥) قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَبَلَغَ الجُحْفَة، اشْتَاقَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ إِلَى مَكَّةَ.
وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الضَّحَّاكِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مَكِّيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قَالَ: هَذِهِ مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهَا، وَقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ نُعَيْمٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ ذَلِكَ تَارَةً بِرُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَارَةٌ عَلَى اقْتِرَابِ أَجَلِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٦)، كما فسره ابن عباس
(١) في ت: "وعنه".
(٢) في ت: "إنه لمعاد".
(٣) في ت: "كما روى البخاري بإسناده".
(٤) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٦) وتفسير الطبري (٢٠/٨٠).
(٥) زيادة من ف، أ.
(٦) في أ: "أجل النبي صلى الله عليه وسلم".
260
بِسُورَةِ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ أَنَّهُ أجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعي إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمَ مِنْهَا غَيْرَ الَّذِي تَعْلَمُ. وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى الثِّقْلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَفْصَحُ (١) خَلْقِ اللَّهِ، وَأَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: قُلْ -لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ -قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ، ولِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مذكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أَيْ: مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ (٢) إِلَيْكَ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْكَ، ﴿إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا نَزَلَ (٣) الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ ﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا﴾ أَيْ: مُعِينًا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ [أَيْ] (٤) : وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ.
﴿وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِكَ (٥) لَا تَلْوِي عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مُعْلٍ كَلِمَتَكَ، ومؤيدٌ دِينَكَ، وَمُظْهِرٌ مَا أُرْسِلْتَ (٦) بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ أَيْ: إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ أَيْ: لَا تَلِيقُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ : إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٢٦، ٢٧]، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ أَيْ: إِلَّا إِيَّاهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ [كَلِمَةُ] (٧) لَبِيَدٍ:
أَلَا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ (٨)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ أَيْ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ،
(١) في أ: "وأنصح".
(٢) في أ: "الذكر".
(٣) في ت، أ: "أنزل".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "طريقتك".
(٦) في أ: "ما أرسلك".
(٧) زيادة من ف، أ، وصحيح البخاري.
(٨) صحيح البخاري برقم (٣٨٤١) وصحيح مسلم برقم (٢٢٥٦).
261
وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَالْمُقَرِّرِ لَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَسْتَشْهِدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ... رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ...
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ (١) عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ الذَّوَاتِ فَانِيَةٌ (٢) وَهَالِكَةٌ وَزَائِلَةٌ إِلَّا ذَاتَهُ (٣) تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ (٤) أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: كَانَ (٥) ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ، يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ أَيِ: الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: يَوْمَ مَعَادِكُمْ، فَيَجْزِيكُمْ (٦) بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
[وَاللَّهُ أَعْلَمُ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْقَصَصِ"] (٧)
تَفْسِيرُ سورة العنكبوت
(١) في ف: "به وجه الله" وفي أ: "به وجهه".
(٢) في ت: "تفنى".
(٣) في ت: "وجهه".
(٤) في ت: "وروى".
(٥) في ت: "بسنده أن".
(٦) في ت: "فيجازيكم".
(٧) زيادة من ف، أ.
262
ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم :﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ﴾ أي : ما كنت تظن قبل إنزال الوحي١ إليك أن الوحي ينزل عليك، ﴿ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي : إنما نزل٢ الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة ﴿ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا ﴾ أي : معينًا ﴿ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [ أي ]٣ : ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم.
١ - في أ :"الذكر"..
٢ - في ت، أ :"أنزل"..
٣ - زيادة من أ..
﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ ﴾ أي : لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك١ لا تلوي على ذلك ولا تباله ؛ فإن الله مُعْلٍ كلمتك، ومؤيدٌ دينك، ومظهر ما أرسلت٢ به على سائر الأديان ؛ ولهذا قال :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ أي : إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، ﴿ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
١ - في أ :"طريقتك"..
٢ - في أ :"ما أرسلك"..
وقوله :﴿ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾ أي : لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته.
وقوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾ : إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ﴾ [ الرحمن : ٢٦، ٢٧ ]، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾ أي : إلا إياه.
وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصدق كلمة قالها شاعر [ كلمة ]١ لبيد :
ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ٢ وقال مجاهد والثوري في قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾ أي : إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له.
قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ
وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله٣ عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية٤ وهالكة وزائلة إلا ذاته٥ تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.
قال٦ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب " التفكر والاعتبار " : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عمر بن سليم الباهلي، حدثنا أبو الوليد قال : كان٧ ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخربة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾.
وقوله :﴿ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ أي : الملك والتصرف، ولا معقب لحكمه، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي : يوم معادكم، فيجزيكم٨ بأعمالكم، إن كان خيرا فخير، وإن شرا فشر.
[ والله أعلم. آخر تفسير سورة " القصص " ]٩.
١ - زيادة من ف، أ، وصحيح البخاري..
٢ - صحيح البخاري برقم (٣٨٤١) وصحيح مسلم برقم (٢٢٥٦)..
٣ - في ف :"به وجه الله" وفي أ :"به وجهه"..
٤ - في ت :"تفنى"..
٥ - في ت :"وجهه"..
٦ - في ت :"وروى"..
٧ - في ت :"بسنده أن"..
٨ - في ت :"فيجازيكم"..
٩ - زيادة من ف، أ..
Icon