تفسير سورة القصص

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

ﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ
سورة القصص
في السورة تفصيل عن نشأة موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون، تخلّله مواعظ وعبر، وفيها إشارة إلى قارون بسبيل ضرب المثل، وفيها صور عن مواقف الكفار والكتابيين من الدعوة وتنديد بالأولين وتحدّ لهم وتنويه بالآخرين الذين أعلنوا إيمانهم بالنبي ﷺ والقرآن، وفيها صور عن حجاج الكفار ومخاوفهم من عواقب الدعوة وتسلية للنبي ﷺ وتثبيت وتطمين وخطة حازمة له إزاء الكفار والمشركين ومبادئ عامة في واجبات الإنسان والإهابة به إلى عدم الاستغراق في الدنيا ومواعظ وتلقينات اجتماعية وأخلاقية.
وفصول السورة مترابطة بحيث يسوّغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمّت.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [٥٢- ٥٥] مدنية، وأن الآية [٨٥] نزلت في طريق هجرة النبي ﷺ إلى المدينة. ومضامين الآيات وانسجامها مع سياقها يسوّغ الشك في صحة الروايات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٢٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
308
(١) شيعا: هنا بمعنى طوائف وفئات متفاوتة غير متساوية في الحقوق.
(٢) أصبح فؤاد أم موسى فارغا: من تأويلات المفسرين لهذه الجملة:
أصبح فؤادها خاليا من كل همّ إلّا همّ موسى. أو أصبح فؤادها خاليا من كل همّ حينما علمت أن آل فرعون التقطوه وأبقوه حيّا وتبنّوه. ونحن نختار الأول.
(٣) إن كادت لتبدي به: إن كادت لتعلن أنه ابنها من شدة ما اعتراها من الهمّ والخوف عليه، أو الفرح لما علمت ببقائه حيّا، حسب اختلاف تأويل المفسرين، ونحن نختار الأول.
(٤) قصّيه: تتبعي أثره وأخباره.
(٥) فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون: فرأته من مكان قريب دون أن يشعر بها.
(٦) وكزه: طعنه في صدره.
(٧) ظهيرا: مظاهرا وعونا.
(٨) يستصرخه: يستنصره.
(٩) غويّ مبين: ذو غواية أو شرير أو واضح الغواية والشر.
(١٠) يأتمرون بك: يتشاورون في أمرك.
(١١) يترقب: يترصد الأنباء وعواقب ما كان منه.
(١٢) أمة من الناس: جماعة.
310
(١٣) تذودان: تمنعان الغنم والإبل التي معهما من الانفلات وتزويانها.
(١٤) ما خطبكما: ما شأنكما.
(١٥) حتى يصدر الرعاء: حتى ينتهي الرعاة من السقي وينصرفون.
(١٦) حجج: جمع حجة بمعنى سنة.
كرر المفسرون ما قالوه في حروف الطاء والسين والميم وذكرناه في تفسير سورة الشعراء. ونحن نرجح كما رجحناه قبل أنها للتنبيه والاسترعاء، وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المبين الواضح الموضح، ثم أعقبتها آية فيها تنبيه إلى أن الله عز وجل سيتلو على النبي ﷺ شيئا من نبأ موسى وفرعون فيه الحق الذي تستنير به قلوب المؤمنين، ثم جاء بعد ذلك آيات فيها بيان إجمالي لما كانت عليه حالة بني إسرائيل قبل موسى وما كانوا يلقونه من ظلم فرعون، تكاد تكون أسبابا موجبة لرسالة موسى عليه السلام وأحداثها: ففرعون قد علا في الأرض وبطر واستشرى بغيه وفساده فيها، وجعل الناس طبقات وطوائف غير متساوية، واستضعف إحداهما- بني إسرائيل على ما يلهمه السياق- فاعتزم قطع نسلها بذبح ذكورها واستبقاء نسائها حذرا من مخاوف داخلته منها، واقتضت إرادة الله وحكمته أن يمنّ على هؤلاء المستضعفين وينجيهم من الظلم ويمكّن لهم ويجعلهم أئمة للناس وورثة أقوياء ظاهرين في الأرض وتتحقق مخاوف فرعون وجنوده منهم.
وقد تلا هذا الإجمال فصلان في قصة موسى وفرعون، أولهما الذي أوردناه آنفا، وقد احتوى نشأة موسى عليه السلام طفلا وشابّا، وخروجه من مصر إلى مدين وزواجه فيها، وخروجه منها عائدا إلى مصر. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، ومحتوياته جديدة لم ترد فيما سبق من السور باستثناء إشارة مقتضبة إلى بعضها في الآيات [٣٨- ٣٩] من سورة طه على سبيل تذكير موسى عليه السلام بفضل الله تعالى السابق عليه، وهذه المحتويات متطابقة إجمالا مع ما جاء في الإصحاحات الأول والثاني والثالث من سفر الخروج من أسفار العهد القديم، مع شيء من المباينة مثل كون الرجل الثاني الذي استصرخه عليه ابن شيعته في اليوم
311
الثاني عبرانيا ولم يكن مصريا من عدوهم. ومثل عدم ورود ذكر للرجل الذي جاء من أقصى المدينة لينذر موسى عليه السلام بتآمر الملأ عليه ليقتلوه ولينصحه بالخروج، ومثل عدد البنات اللاتي سقى لهن موسى، ففي السفر ذكر العدد سبعا، في حين أن الآيات ذكرت اثنتين، ومثل الذي التقط موسى من اليمّ وبحث له عن مرضعة حيث ذكر في السفر أنه بنت فرعون. وليس في السفر كذلك ما حكته الآيات من مفاوضة بين والد البنات وموسى على خدمته ثماني سنين أو عشرا مقابل تزويجه إحدى بناته إلخ، وقد يكون جزئيات أخرى. وكما قلنا في المناسبات السابقة المماثلة نقول هنا إننا نرجح أن ما ورد في القرآن هو الذي كان متداولا معروفا، ومما كان اليهود يروونه على هامش تاريخهم وواردا في قراطيس وأسفار كانت عندهم.
ولقد أورد المفسرون على هامش هذا الفصل بيانات كثيرة لما احتواه معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع الوارد في الأسفار المتداولة ومنها غير المتطابق. ومن جملة تلك اسم الرجل الذي نصح موسى بالخروج وحذره من القتل وهو حزقيل في قول وشمعون في قول وإنه هو نفسه مؤمن آل فرعون المذكور في سورة غافر حيث يدل هذا على أن ما جاء في الفصل مما كان متداولا في بيئة النبي وعصره. والمتبادر أن مصدر ذلك الكتابيون أو اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس.
وقد اكتفينا بالوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه. وعدم إيراد ما أورده المفسرون من زوائد لأنه غير متصل بأهداف الحلقة. ومما رواه بعضهم أن والد البنتين هو شعيب نبي الله، وروى بعضهم إلى هذا أنه كاهن مدين واسمه يثرو أو يثرون. وإنه ابن أخي شعيب وإن شعيبا كان قد توفي قبل قدوم موسى إلى مدين. وسفر الخروج يذكر أنه كاهن مدين. وإن اسم يثرو حيث يبدو من هذا أن الرواة تلقوا ذلك من اليهود وأسفارهم ونكتفي بهذا مع العطف على الإيضاحات الأخرى التي أوردناها في سياق التعريف بمدين وأصحاب الأيكة في سور سابقة.
312
تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون وما فيها من عبر وتلقين
وبدء السورة مباشرة بقصة موسى وفرعون قد يدل على أن بعض المسلمين أو غير المسلمين وإن كنا نرجح الأول سألوا النبي ﷺ عن نشأة موسى عليه السلام بعد ما عرفوا ما كان بينه وبين فرعون وما كان من أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من السور السابقة فاقتضت حكمة التنزيل بإيحاء هذا الفصل وإتباعه بالفصل الثاني الذي فيه قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون، وقد يسوّغ هذا القول أن ما جاء في هذه السورة من القصة قد قصد به القصة لذاتها، غير أن أسلوبها قد حافظ على الأسلوب القصصي القرآني العام من حيث احتواؤه التذكير والتنبيه والعظة والحكم الأخلاقية والاجتماعية العديدة ومواضع العبرة مما يمكن أن يسوغ القول أيضا إن القصة قد أريد بها الموعظة والمقارنة بين رسالة موسى عليه السلام ورسالة محمد ﷺ وظروفهما، وهذا واضح أكثر من الآيات الأخيرة التي أعقبت الفصل الثاني على ما سوف يأتي شرحه بعد.
ومن مواضع العبرة في الآيات التي أوردناها والبيان الإجمالي الذي سبق فصل القصة الأول التنديد بفرعون لجعله الناس طبقات متفاوتة واضطهاده الضعفاء منهم، والبشرى للمستضعفين بعناية الله ونصره وتمكينه، ففي هذا من جهة بشرى للمسلمين الذين استضعفهم الكفار وبخاصة زعماؤهم في مكة وآذوهم وبغوا عليهم وتثبيت لهم، وإنذار للكفار وزعمائهم بعاقبة مثل عاقبة فرعون وجنوده، وفيها بالإضافة إلى ذلك تلقين مستمر المدى بما في التفريق في الحقوق والرعاية بين طوائف الناس واضطهاد الضعفاء منهم من بغي وظلم وخاصة من أصحاب السلطان والجاه وعدم إقرار الله عز وجل لذلك.
ومن مواضع العبرة في الآيات كذلك:
١- حكاية استشعار موسى عليه السلام بالندم والذنب بسبب قتله الشخص مع أنه عدوه. وكان يقاتل شخصا من شيعته. حيث ينطوي في هذا تنبيه عام على
313
وجوب الاحتراز من عمل الشر والجريمة مهما كانت الأسباب وعدم مظاهرة أهلهما.
٢- اندفاع موسى إلى مساعدة الامرأتين على السقي لأنه رآهما عاجزتين إزاء قوة الرجال. حيث ينطوي في هذا تلقين عام بمثل ذلك.
٣- جملة إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ التي تنطوي على خير الأوصاف للرجل النافع الصالح وحثّ على التحلي بها.
٤- حكاية ما كان من حسن تساهل وتسامح متبادلين بين موسى ووالد البنتين. حيث ينطوي في ذلك حثّ على وجوب التحلي بذلك وملاحظته في التعامل مع الناس.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٤٦]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
314
(١) جذوة من النار: قطعة من النار.
(٢) شاطىء: جانب.
(٣) جيبك: عبّك.
(٤) اضمم يدك إلى جناحك من الرهب: ضمّ يدك إلى صدرك أو تحت إبطك كما تفعل وقت الخوف والرهبة، وقال المفسرون إن هذا بقصد تعليم كيفية إعادة اليد البيضاء إلى حالتها الأولى، وهذا مذكور في الإصحاح الرابع من سفر الخروج.
(٥) ردءا: معينا وسندا.
(٦) يصدقني: يؤيدني ويشهد بصدقي إذا كذبوني.
(٧) عضدك: ساعدك، وجملة سنشد عضدك بمعنى سنقويك ونؤيدك.
315
(٨) نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما: نجعل لكما هيبة وقوة بما نظهره على يدكما من الآيات فيمتنع فرعون وقومه من أذيتكما أو لا يقدرون على أذيتكما.
(٩) أوقد لي: أجج النار واشو الطين لصنع الآجر لبناء الصرح.
(١٠) الصرح: هنا بمعنى البناء المرتفع.
(١١) فنبذناهم: فألقيناهم بشدة أو بازدراء.
(١٢) أئمة: الغالب أن الكلمة جاءت في مقام التهكم.
(١٣) المقبوحين: المذمومين.
(١٤) القرون الأولى: الأقوام السابقة، والآية التي جاءت فيها الجملة تعني أن الله أرسل موسى بالكتاب بعد هلاك الأقوام الأولين ليكون داعيا ونذيرا من جديد.
(١٥) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر: الخطاب لمحمد ﷺ أي ما كنت مع موسى في جانب الجبل الغربي إذ أمرنا موسى بما أمرناه.
(١٦) الشاهدين: الحاضرين.
(١٧) ولكنّا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر: الضمير في «عليهم» راجع إلى أهل عصر النبي ﷺ وبيئته، ومعنى الجملة إنا أنشأنا بعد موسى قرونا كثيرة فبعد ما بين عهده وما بين أهل عصر النبي ﷺ وبيئته.
(١٨) ثاويا: مقيما.
(١٩) ولكنّا كنّا مرسلين: ولكنّا كنّا من قبلك نرسل الرسل.
(٢٠) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) : أي أنك لم تكن بجانب الطور إذ نادينا موسى. وكما نادينا موسى وأرسلناه أرسلناك رحمة منا لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.
316
تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون وما فيه من عبر وتلقين
الآيات هي الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون، وقد احتوت خبر مناداة الله تعالى لموسى عليه السلام في الطور ورسالته إلى فرعون وتكذيب هذا واستكباره وغرقه عقوبة له. وعبارتها واضحة هي الأخرى.
ومعظم ما جاء في هذا الفصل جاء في السور السابقة وبخاصة في الأعراف والشعراء وطه مع اختلاف في السرد والاقتضاب اقتضته حكمة التنزيل.
ومن الجديد في هذا الفصل مناداة الله تعالى لموسى من ناحية الشجرة، والصرح الذي أمر فرعون وزيره هامان بإنشائه للصعود عليه ليطلع إلى إله موسى عز وجل.
والأمر الأول وارد في الإصحاح الثالث من سفر الخروج. أما الأمر الثاني فلم يرد في الأسفار المتداولة، ونعتقد أنه كان متداولا بين اليهود وواردا في أسفار وقراطيس كانت في أيديهم. وإن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ ومما كان يرويه اليهود لأهل هذه البيئة. ولقد أورد المفسرون بيانات في صدد ذلك معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الأول مما فيه دلالة على ما نقول.
ولقد قال بعضهم إن الصرح المذكور في الآيات هو الهرم. وإن العرب لما رأوه في جاهليتهم حينما كانوا يعملون تجارا إلى مصر تناقلوا خبره مدهوشين.
ومن المحتمل أن يكونوا سألوا اليهود عنه فقال لهم هؤلاء إنه صرح أنشأه فرعون ليصعد عليه إلى السماء.
ولقد طعن بعضهم في ذكر هامان كوزير لفرعون، وقالوا إن هامان إنما كان وزيرا لا حشويريش ملك الفرس في القرآن الرابع قبل الميلاد. وهنا جاء اسم هامان كوزير لهذا الملك في سفر استير من أسفار العهد القديم. والذي نعتقده أن وزارة هامان لفرعون كانت هي المتداولة فذكر القرآن ما هو المتداول في معرض الوعظ
317
والتذكير. ولقد كان (آمون) اسما لإله رئيس من آلهة المصريين القدماء، وكان ملوكهم ووزراؤهم ورجال دولتهم وكهانهم يتسمون به أو ينسبون إليه على ما عرف من الآثار القديمة المصرية.
وكان ذلك ممتدا إلى الزمن المخمن أن موسى عليه السلام بعث فيه «١».
فليس من التجوز أن يقال إن هامان معدل أو معرب عنه. ولسنا نرى مانعا من احتمال التجانس بين الاسمين في بلاد الفرس ومصر بطريق الاقتباس والتقليد.
وهو أمر مألوف، بل إن هذا الاحتمال قوي جدا لأن الفرس قد سيطروا على مصر بين القرن الثالث والقرن الخامس قبل الميلاد المسيحي. وكان الملك أحشويريش الفارسي الذي يذكر سفر استير أن هامان وزيره من جملة من حكم باسمه في مصر من ملوك الفرس. وليس ما يمنع أن يكون اسم هامان مقتبسا من إحدى تسميات آمون المتداولة وفي مصر، فيكون وزير احشويريش مأخوذا عن اسم مصر وليس العكس «٢».
ولعله يقوم إشكال أو وهم إشكال في صدد الآيات [٤٤- ٤٦] فيما يمكن أن ينطوي فيها من احتمال كونها بسبيل تقرير عدم معرفة النبي ﷺ شيئا من تفاصيل وأخبار نشأة موسى عليه السلام وهجرته إلى مدين ومناداة الله له في جانب الطور.
والذي يتبادر لنا أنها ليست بسبيل تقرير ذلك وإنما هي كما تلهمه عبارتها بسبيل تقرير كون دعوة النبي ﷺ ليست تقليدا لموسى عليه السلام ومقتبسة من حياته التي لم يشهدها مشاهدة عيان، وإنما هي من الله تعالى لينذر قومه الذين لم يكن لهم عهد بالنذر رحمة بهم، وإن شأنه في ذلك شأن المرسلين الذين أرسلهم الله قبله.
(١) انظر كتاب مصر القديمة للدكتور مسلم حسن الأجزاء ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ وهذه أسماء بعض ملوك تسموا باسم آمون رعمسيس الثالث ولقبه رع مرئ أمون ورعمسيس الرابع ولقبه حتاماعت رع ستين أمون. ورعمسيس السادس ولقبه نب ماعت رع مري أمون.
انظر الجزئين ٧ و ٨ من الكتاب المذكور.
(٢) انظر تاريخ كلدو وأشور لأسقف سعود ج ١ ص ١٥٣- ١٦١ والعقد الثمين لأحمد كمال ص ١٩٧- ١٩٨.
318
هذا، ومما احتواه الفصل من الموعظة والعبرة ذكر ما كان من عاقبة فرعون وجنوده وإغراقهم بسبب بغيهم وفسادهم وظلمهم، وتوكيد خسرانهم يوم القيامة ولعنهم في الدنيا والآخرة، والتنويه بالكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى عليه السلام ليكون بصائر للناس وهدى ورحمة بعد أن طال عليهم الأمر وخلت من قبلهم القرون وكون الله تعالى جريا على عادته أرسل محمدا ﷺ بعد أن تتابعت القرون من بعد موسى رحمة بخلقه الذين طال عليهم العمر وفترة النذر لينذرهم لعلهم يهتدون.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
(١) لولا: الأولى إما بمعنى لئلا أو للاستدراك. والثانية والثالثة بمعنى هلا للتحدي.
(٢) سحران تظاهرا: قرئت أيضا ساحران تظاهرا، والجملة تعني محمدا وموسى عليهما السلام أو ما جاءا به من آيات ومعجزات، فهما ساحران أو سحران يؤيد أحدهما الآخر أو يماثل أحدهما الآخر.
(٣) الظالمين: هنا بمعنى المجرمين أو الباغين أو المنحرفين عن الحق.
(٤) ولقد وصلنا لهم القول: بمعنى أبلغنا إليهم القول بالدعوة والإنذار متصلا بعضه ببعض. والضمير عائد إلى سامعي القرآن الأولين كما هو المتبادر.
319
الآيات [٤٧- ٤٩] تتضمن تقرير كون الله تعالى إنما أرسل محمدا ﷺ لأن قومه لو أصابتهم مصيبة ربانية بسبب ضلالهم وكفرهم لتظلموا وقالوا إننا لا نعرف طريق الحق ولو جاءنا رسول من الله تعالى لاتبعناه وآمنا به ونجونا من المصيبة، فلما جاءهم الحق من عند الله تعالى على لسان النبي ﷺ كابروا وعاندوا وطلبوا أن يأتيهم بما أتى به موسى من قبل في حين أنهم قد كفروا بالمبادئ التي أتى بها موسى من قبل، ولما بهتوا بهذه الحجة الدامغة لم يكن منهم إلّا أن اشتدوا في اللجاج وقالوا إن ما جاء به موسى عليه السلام وما جاء به محمد ﷺ سحر يظاهر بعضه بعضا ويماثل بعضه بعضا وإنا كافرون بكل منها. وقد أمر النبي ﷺ بأن يتحداهم إزاء موقفهم المتناقض ومكابرتهم مع قيام الحجة والإلزام وعليهم بأن يأتوا بكتاب من عند الله أهدى مما جاء به هو وموسى عليه السلام قبله إن كانوا صادقين، وبأن يعلن استعداده للإيمان به إذا ما جاءوا به.
وقد تضمنت الآية [٥٠] خطابا للنبي ﷺ بأنهم إذا لم يستجيبوا إلى التحدي فيكون قد علم أنهم قد أقاموا الدليل على أنهم إنما يتبعون أهواءهم ويلقون بالقول جزافا بغير علم ولا سند، وإنه ليس من أحد أشد ضلالا ممن يتبع هواه، ويقول ما يقول بغير علم ولا هدى من الله، وإن هذا هو شأن الظالمين الباغين الذين لا يستحقون عطف الله وعنايته وتوفيقه، أو الذين لا يمكن أن يوفقهم الله ويمنحهم عنايته. ثم جاءت الآية [٥١] لتقرر أن الله إنما أنزل القرآن على نبيه ويسّر لهم سماعه وأوصله إليهم فصلا بعد فصل لعلهم يتذكرون فتنفعهم الذكرى ويهتدون.
تعليق على آيات وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ وما بعدها
وقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن كفار قريش أرسلوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن أمر النبي ﷺ فأجابوهم بصفته وصدقه وأن ما يتلقاه هو من الله تعالى كما كان شأن نبيهم موسى عليه السلام. وأن الكفار مع ذلك كابروا وقالوا إن موسى ومحمدا عليهما السلام ساحران، وإن ما جاءا به سحر وإنا
320
كافرون بكليهما. ومن المفسرين من روى أن اليهود أوعزوا إلى كفار قريش بأن يطلبوا من النبي ﷺ أن يأتيهم بمثل ما أتي به موسى عليه السلام، بل منهم من روى أن جملة إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) هي كلام كفار قريش واليهود معا، وهو غريب «١».
ومهما يكن من أمر هذه الروايات واحتمال صحة شيء منها فالذي يتبادر لنا أن الآيات لم تنزل منفصلة عمّا سبقها وبسبب الروايات مباشرة وأن هذا الفصل وما سبقه بما في ذلك فصول القصة وما لحقها كل هذا كان بمثابة تعقيب على مشهد حجاجي وجاهي بين النبي ﷺ وبين فريق من الكفار، وأن رسالة موسى عليه السلام ومعجزاته مما كان من مواضيع الحجاج. وإذا صح هذا الذي تقويه نصوص الآيات بدا في هذا الفصل أسلوب من أساليب التنزيل والنظم القرآني. وإلا فإنه يكون حكاية حال فريق من كفار العرب أو حكاية ما يمكن أن يقولوه ويحاجوا به من مثل هذه الأقوال. وقد حكي مثل ذلك في سور أخرى منها سورة طه في آياتها الأخيرة.
وهذا لا يمنع أن يكون كفار قريش قد سألوا اليهود عن النبي ﷺ فشهدوا بصدقه وقالوا إنه يتلقى عن الله عز وجل كما كان يتلقى نبيهم موسى عليه السلام على ما جاء في الرواية الأولى. وفي القرآن المكي آيات عديدة فيها استشهاد بأهل الكتاب وشهادة بأن رسالة النبي عليه السلام حق، وصلته بالله تعالى صادقة مما أوردنا أمثلة منه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧] ومنه آية في سورة الأحقاف حكي فيها شهادة وإيمان أحد بني إسرائيل على سبيل تحدي الكفار وهي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) ومنه الآيات التالية لهذه الآيات والتي من المحتمل جدّا أن يكون فيها ترديد وتسجيل لهذا الجواب مع إيمان الذين آمنوا به. والإلزام والإفحام والتنديد في الآيات قوي نافذ. والآيتان الأوليان والآية
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري.
321
الأخيرة بسبيل الإعذار والإنذار، حتى لا يكون للناس على الله حجة. وقد انطوى في ذلك ما تكرر تقريره من حكمة إرسال الرسل وكون مهمتهم هي الإنذار. كذلك انطوى في التحدي الذي أمرت الآية [٤٩] النبي عليه السلام بتوجيهه إلى الكفار والتقرير الذي تبعه في الآية [٥٠] توقع العجز عن إجابة التحدي ولذلك حملت بقية الآية [٥٠] على الكفار حملة قوية مستحكمة.
وفي التنديد بالذين يتبعون أهواءهم غير مستندين إلى حق وعلم ويجحدون الحق عنادا ومكابرة تلقين قرآني مستمر المدى في تقبيح هذا الخلق والتحذير منه.
مما تكرر كثيرا في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة.
وفي تحدي الكفار النبي ﷺ بأن يأتي بما أتى به موسى دلالة على أنهم لم يكونوا يجهلون قصص موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون ومعجزاته. وهذا يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصص القرآنية لم تكن مجهولة من السامعين، وإنها من أجل ذلك جاءت في القرآن لتكون موضوع عظة وعبرة وتمثيل، ولم تأت للقصة ذاتها.
تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إن هذه الجملة تكررت في سور أخرى مكية ومدنية كما تكرر أمثالها مثل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المائدة [١٠٨] وإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
المائدة [٦٧] ووَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يوسف [٥٢] وإِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ يونس [٨١].
وقد أوّلنا الجملة الأولى هنا بما أوّلناها به في شرح الآيات لأنها تضمنت تقرير كون حرمان الله الظالمين من توفيقه وهداه وعطفه وعنايته قد ترتب على ما اقترفوه واتصفوا به وارتكسوا فيه من الظلم والانحراف عن جادة الحق والهدى عقوبة لهم. وهذا ينسحب على أمثال الجملة في السور الأخرى.
322
ولقد جاء في سورة آل عمران هذه الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) حيث انطوى فيها توضيح وتأييد لما ذكرناه.
وهذه الآية ومثالها المذكورة آنفا يصح أن تكون ضوابط لما جاء مطلقا في آيات أخرى من ضلال وهداية مثل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ إبراهيم [٢٧] ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة [٢٦] وكَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ غافر [٧٤] اختار الظالمون والفاسقون والخائنون والكافرون مواقفهم رغم إنذارات الله ودعوة رسله فلم يعودوا يستحقون عناية الله واستحقوا غضبه وعدم توفيقه ثم عذابه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
(١) يدرؤون: يدفعون ويتقون أو يقابلون السيئة بالحسنة.
(٢) اللغو: الكلام الباطل.
(٣) الجاهلين: هنا بمعنى السفهاء أو الضالين.
احتوت الآيات خبر مشهد واقعي لفريق من أهل الكتاب. أعلنوا إيمانهم وتصديقهم برسالة النبي ﷺ والقرآن حينما تلي عليهم وتنويها بهم وخبر ما لقوه من سفهاء الكفار وما كانوا يبذلونه من صدقات فلهم أجرهم مضاعف بما صبروا وقابلوا الحسنة بالسيئة وأنفقوا مما رزقهم الله، وبما كان منهم إزاء الجاهلين الذين كانوا يؤذونهم بأقوالهم السخيفة حيث كانوا يعرضون عنهم ولا يعبأون بهم
323
ويقولون إنما نريد السلام ولا نتأثر بالجاهلين وأساليبهم ولغوهم، أو لا شأن لنا معهم.
تعليق على آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وما بعدها
ولقد تعددت الروايات «١» في هذا الفريق. فقيل إنهم وفد نصارى نجران.
وقيل إنهم وفد نصارى الحبشة. وقيل إنهم وفد من نصارى الشام. وقيل إنهم خليط. وقد ذكرت الروايات أيضا أن هذه الآيات مدنية وأن المشهد من مشاهد المدينة. وسمت بعض أسماء الذين آمنوا وقالوا ما حكته الآيات وبعضهم يهود مثل عبد الله بن سلام وبعضهم نصارى مثل تميم الداري والجارود العبدي.
وذكر في من ذكر سلمان الفارسي، وبحيرا الراهب وأبرهة، والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع وتميم. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أيضا أن الآيات مدنية.
ونحن نشك في مدنية الآيات ومدنية المشهد. وقد يكون ما احتوته من أذى الجاهلين وسفاهتهم نحو المؤمنين من قرائن مكية الآيات بل من دلائلها. وهناك آيات عديدة لا اختلاف في مكيتها ذكرت مثل هذا الموقف منها آيات سورة الأنعام هذه أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وآيات سورة الإسراء هذه قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩). وبعض الأسماء التي ذكرها المفسرون ذكروها في سياق آيات مدنية احتوت تنويها بالذين أسلموا من علماء اليهود، منها آية النساء هذه لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ
(١) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن وابن كثير.
324
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) ونرجح بل نعتقد أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها موضوعا وسياقا، وأنها نزلت لتكون ردّا عمليّا على الكفار العرب في مكة الذين كانوا يكابرون ويصدرون في مواقفهم عن عناد وهوى، ويتحدون النبي ﷺ بالإتيان بمثل ما أتى به موسى فلما قيل لهم إنكم كفرتم بالمبادئ التي جاء بها موسى نكصوا على رؤوسهم وقالوا إنّا كافرون بها وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. فاحتوت الآيات ردّا مفاده أن كفار قريش إذا كانوا يقولون ما يقولون عنادا ومكابرة فالذين أوتوا العلم والكتاب يشهدون بصدق رسالة النبي ﷺ وصدق صدور القرآن عن الله تعالى، ويعلنون إيمانهم بهما تبعا لما كان من إسلامهم لله قبل ذلك، ولعل الآيات كما قلنا قبل قليل تسجيل لشهادة اليهود الذين سألهم كفار قريش وأجابوهم بما أجابوا على ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات السابق إيرادها في سياق الفصل السابق، واليهود لم يكونوا محصورين في المدينة. والاحتمال بوجود أفراد وجالية منهم في مكة قوي.
ومن الشواهد على ذلك آية الأحقاف [١٠] «١» التي أوردنا نصّها قبل قليل.
فإن لم يكن هذا الفريق يهوديا فيكون من النصارى الذين كان منهم جالية في مكة أيضا مما تواترت فيه الروايات وأشارت إليه بعض الآيات التي سقناها في سياق تفسير بعض آيات سورة الفرقان. وفحوى الآيات يلهم بقوة أن هذا الفريق كان من المقيمين في مكة المعروفين في أوساطها ومن ذوي اليسار أيضا. وقد ينفي هذا ما جاء في بعض الروايات من كونه وفدا حبشيا أو شاميا أو يمنيا «٢». ولا يمنع هذا من أن يكون قد وفد إلى مكة من نصارى هذه الأقطار وفود لاستطلاع النبأ العظيم، أي بعثة النبي ﷺ بطبيعة الحال.
(١) ذكرت بعض الروايات أن هذه الآية مدنية مع أنها موجهة إلى كفار مكة على سبيل التحدي مما يجعل هذه الرواية موضع شك كبير.
(٢) حياة محمد تأليف محمد حسين هيكل.
325
مشهد يسجل فيه أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب ودلالته
والآيات تنطوي في حدّ ذاتها على مشهد من مشاهد الدعوة النبوية وأثرها في الكتابين الذين سمعوا القرآن من النبي محمد ﷺ مباشرة والذين لا بدّ من أنهم جادلوه وسبروا أمره ثم لم يسعهم إلّا التسليم والإيمان حينما شاهدوا أعلام نبوته الصادقة وسمعوا من تقريرات القرآن ما هو متطابق في جوهره مع جوهر الكتب التي عندهم دون مبالاة بتعنيف المشركين الأقوياء وتنديدهم. وتنطوي بالتالي على شهادة خالدة بأن الكتابيين حينما يكونون في معزل عن المؤثرات أو في قدرة على عدم المبالاة بها، متجردين من الأنانية والهوى والمآرب وعلى شيء من حسن الإدراك وسعة الأفق وصفاء الطوية لا يسعهم إلّا الإقرار بما في الرسالة المحمدية من حق وبما في القرآن من صدق وبما في الدين الإسلامي من صفاء وجلاء وشفاء للنفوس الطيبة الصالحة، ثم من حلول للمشكلات والإشكالات والتعقيدات الدينية والعقائدية والنفسية والدنيوية والأخروية، ومن استجابة إلى الرغبات المشروعة ومن هدى ورحمة للناس أجمعين في كل مكان وزمان.
وإذا لوحظ أن هذا المشهد كان في مكة وهو ما نرجحه على ضوء الآيات المكية المماثلة على ما ذكرناه وأن النبي ﷺ في قلة وضعف أمام أكثرية ساحقة كافرة مناوئة ازداد مغزاه ومداه قوة وروعة وإفحاما لكل مكابرة.
ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات حديثا عن أبي موسى الأشعري قال «قال رسول الله ﷺ ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين. رجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن تأديبها ثمّ أعتقها وتزوّجها. ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمّد. وعبد أحسن عبادة الله ونصح لسيّده» «١» حيث ينطوي في الحديث توضيح لحكمة إيتاء المؤمنين من أهل الكتاب أجرهم مرتين ولقد علل هذا المفسر جملة
(١) أورد هذا الحديث ابن كثير أيضا وقال إنه ورد في الصحيح.
326
بِما صَبَرُوا بأنهم صبروا على دينهم الأول إلى أن بعث محمد فآمنوا به. وقد تبادر لنا تعليل أوجه على ضوء ما احتوته الآيات، فقد كانوا يسمعون من جاهلي المشركين أي سفهائهم ما يؤذيهم بسبب إيمانهم فكانوا يصبرون ويقولون سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٦]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
تعليق على آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلخ
عبارة الآية واضحة، وجمهور المفسرين يروون أن الآية نزلت في أبي طالب عمّ النبي ﷺ ويوردون روايات عديدة في صدد ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة نكتفي به عن الروايات قال «إنّ النبي ﷺ قال لعمّه أبي طالب قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة، قال لولا أن تعيّرني قريش يقولون إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك فأنزل الله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» «١» ومقتضى الحديث أن يكون ذلك عند حضور الموت أبا طالب.
(١) التاج ج ٤ ص ١٧٦- ١٧٧ وننبه على أن الشيعة يروون أن أبا طالب قد أسلم قبل موته.
وقال الطبرسي في سياق تفسيره الآية (٢٦) من سورة الأنعام إن آل البيت مجمعون على إيمان أبي طالب وإجماعهم حجة. وروي عن ابن عمر أن أبا بكر أتى بأبيه يوم الفتح إلى النبي فأسلم على يديه فقال له ألا تركت الشيخ فآتيه، وكان أعمى، فقال أبو بكر أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينيك قال صدقت. ونحن نتمنى أن يكون ذلك صحيحا لما كان من مواقف أبي طالب من نصرة النبي، ولكن الحديث الصحيح الذي أوردناه ينتقص هذا الخبر غير الموثق، وجملة (إجماع أهل البيت) لا يمكن أخذها مسلمة. والله أعلم.
327
ومما يتبادر لنا من سياق الآيات وفحواها أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق أولا. وأن وفاة أبي طالب التي تذكر الروايات أن الآية نزلت في ظرفها، إنما كانت في أواخر العهد المكي في حين أن هذه السورة نزلت في أواخر النصف الأول من هذا العهد على ما يمكن تخمينه من ترتيبها. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة جميعها، وبقصد تسلية النبي ﷺ والتهوين عليه بسبب حزنه وحسرته من مواقف العرب العنيدة وجحودهم وتعجيزاتهم على شدة رغبته في هدايتهم وبخاصة بعد أن أنذرهم وأقام الحجة عليهم. وأبو هريرة الذي يروي الشيخان عنه الحديث قد أسلم في أواخر العهد المكي، وحديث الذي يذكر فيه أن الآية نزلت في مناسبة الموقف الذي حكاه ليس خبرا عن رسول الله أخبره به كما هو ظاهر من صيغته، ونرجح أن اجتهادي منه، والله أعلم.
ومع ذلك فليس من المستبعد أن يكون تمسك أبي طالب بدينه منذ البدء بالرغم من رغبة النبي في إسلامه وإلحاحه عليه في ذلك. وهذا أمر لا بد من أنه كان واقعا لا يتحمل شكا مما كان يؤلم نفسه فنزلت الآية على سبيل التسلية، كما أنه ليس من المستبعد أن يكون هناك زعماء أو أشخاص آخرون كانوا محبين للنبي ﷺ أولم يظهروا له جفاء شديدا وكان النبي ﷺ يحرص على هدايتهم ويحزنه عدم استجابتهم إليه في العهد المكي ومنهم ذوو قرباه الأدنون مثل عمه العباس وأبنائه وابن عمه عقيل وغيرهم وغيرهم الذين كانوا نصراء له عصبيّة. وقد يكون في الآية التالية لهذه الآية قرينة ما على شيء من ذلك على ما سوف نشرحه بعد.
ومهما يكن من أمر فليس من شأن ذلك أن يجعل الصلة بين الآية وسياقها السابق واللاحق منقطعة كما هو المتبادر.
هذا، وتعبير وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يزيل ما يمكن أن يرد من توهم من جملة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ويفسره. وقد انطوى في هذه الجملة معنى التسلية للنبي ﷺ فالله تعالى هو أعلم بالذين يرغبون في الهدى
328
فيوفقهم إلى ما رغبوا فيه ويشرح صدرهم له فلا ينبغي له أن يحزن ويغتمّ من عدم إيمان من لا يؤمن أو من يحب هو أن يؤمن، وهكذا يتسق المعنى مع المعاني المماثلة في مواضع القرآن الأخرى ومع المبادئ التي يقررها القرآن كما هو واضح، وليس من محل والحال هذه للجدل الكلامي حول كون إيمان المؤمن وكفر الكافر يقعان بمشيئة الله وإرادته الأزليتين أو بدونهما، فالآية لا تتحمل ذلك ولا تقصده، ومع ذلك فإنه لما كان في القرآن آيات صريحة بأن إيمان المؤمن وكفر الكافر ينسبان إلى صاحبيهما ويقعان باختيارهما ويترتب عليهما العذاب والنعيم بسبب ذلك، مما مرّ منه أمثلة كثيرة ومنه آيات سورة الكهف هذه وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) فإن الأولى تأويل هذه الآية وأمثالها بأن الإنسان إنما يشاء بمشيئة الله أو أن كسبه لأعماله هو نتيجة ما اقتضته حكمة الله وإرادته من إقداره على التمييز والاختيار على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، لأن ذلك هو المنسجم المتسق مع الآيات القرآنية وروحها عامة ومع حكمة إرسال الرسل والتبشير والإنذار.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٧]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
(١) نتخطف من أرضنا: بمعنى نصبح عرضة للعدوان ونهبا للناهبين.
(٢) حرما آمنا: الحرم هو المكان المحمي من العدوان، أو المحرم فيه العدوان أو المكان الواجب الحرمة وعدم البغي فيه على اختلاف أقوال أهل
329
التأويل، والجملة عبارة عن منطقة مكة التي كانت قبل الإسلام حرما آمنا يحرم فيه سفك الدم والظلم، وذلك بسبب وجود الكعبة التي كان يحج إليها العرب ويقدسونها.
في هذه الآية صورة أخرى من صور الحجاج بين النبي ﷺ والكفار، وأسلوب آخر من أساليب الدعوة. فشقها الأول يحكي قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم إن اتبعوا الهدى الذي يدعو إليه لن يلبثوا أن يصبحوا عرضة للمعتدين ونهبا للناهبين، وشقها الثاني يرد عليهم متسائلا عما إذا لم يكن الله قد جعلهم آمنين من العدوان بالحرم الذي أحلّهم فيه ومكّنه لهم وآمنين كذلك من العوز بما يأتي إليه من ثمرات كل شيء من كل مكان، ثم تنتهي الآية بتقرير أن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله ولا يقدرون تدبيراته.
تعليق على آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لنعلم أن الذي تقول هو الحق ولكنا إن تبعناك نخشى أن يخرجنا العرب من أرض مكة ولسنا أكثر من أكلة رأس «١»، وهذا متسق إجمالا مع روح الآية، غير أن عطفها على ما سبقها يلهم أنها لم تنزل بسبب هذا القول مباشرة أو فورا ومنقطعة عن السياق السابق كما أن صيغة الجمع فيها قد تدل على أن هذا القول لم يصدر من شخص واحد أو على الأقل أنه معبر عن رأي فريق من الكفار، فذكر في الآية في سياق ذكر مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بها والردّ عليها وإقامة الحجة على أصحابها.
ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد الذي أتى به محمد ﷺ سيقضي فيما يقضي عليه على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة التي كان جوفها وفناؤها مستقرا لأوثانهم التي كان النبي ﷺ يشن عليها حربا
(١) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.
330
شديدة، وحينئذ تزول هيبة مكة وأهلها وزعامتها الدينية وأسباب اليسر والرزق والتجارة التي يتمتعون بها نتيجة لذلك ويصبحون نهبا للقبائل، ولعلهم كانوا كذلك يتخوفون من جبل عداء العرب لهم وغدوّهم في عزلة وانفراد يسهل بهما العدوان عليهم.
وهكذا يمكن أن يقال إن مسألة تقاليد مكة وحجها وكعبتها وأمنها وأشهرها الحرم وامتيازاتها ومنافعها مما شغل أفكار زعماء مكة ودفعهم إلى الموقف الذي وقفوه من الدعوة النبوية.
وقد احتوت الآية تطمينا ببقاء واستمرار أمن الحرم وما ييسره من أمن وأسباب رزق ورغد مما يمكن أن يعد براعة استهلال لما أقر بقاءه القرآن فيما بعد من تلك التقاليد بعد تجريدها من شوائب الشرك والوثنية ولا سيما أنها كانت شديدة الرسوخ، ونواة وحدة عربية عامة لأن العرب كانوا مندمجين فيها على اختلاف بيئاتهم ونحلهم وكانت هذه الوحدة من الأهداف التي استهدفتها الدعوة المحمدية.
وأسلوب الآية يمكن أن يدل على أن ما حكته صادر من زعماء معتدلين لا يكابرون فيما جاء النبي ﷺ من حق وهدى ولكنهم كانوا يعتذرون بأعذار يرونها معقولة متصلة بمصالحهم الخاصة والعامة، وعلى هذا يمكن أن يقال إن كفار مكة أو زعماء كفارها كانوا فريقين، واحدا معاندا مكابرا متكبرا ماكرا مؤذيا للأسباب التي أوردناها في سياق تفسير آية سورة فاطر [٤٣]، وآخر معتدلا يرى فيما جاء به النبي ﷺ حقّا ولكنه لا يجد الجرأة على متابعته خوفا على نفسه أو مصالحه أو لاعتبارات يراها مشروعة وصائبة، ومن هنا يتميز الرعيل الأول من المؤمنين من أبناء الأسر البارزة من قريش مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن وحمزة وجعفر وأبي عبيدة وأبي سلمة وعمرو بن سعيد بن العاص وأخيه خالد وعامر بن أبي وقاص وفراس بن النضر ومصعب بن عمير وعثمان بن مظعون وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص وأبي حذيفة عتبة بن ربيعة ورملة بنت أبي سفيان وفاطمة بنت الخطاب وفاطمة المخزومية وأم
331
سلمة وسهلة بنت أبي سهيل بن عمرو وريطة بنت الحارث وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم الذين رأوا الهدى والنور فاتبعوهما غير مبالين بآبائهم وأعمامهم وأخوالهم مضحين بما كانوا فيه من نعيم ومال وجاه، معرّضين أنفسهم للسخط والأذى والقطيعة والحرمان مستعيضين من كل ذلك بلذة الإيمان الذي ملأ قلوبهم والذي رأوا فيه الغناء عن غيره فاستحقوا ثناء الله تعالى ورضوانه حيث قال فيهم وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ سورة التوبة: [١٠٠]، ولعل شبابهم هو الذي جعلهم ينضوون إلى لواء الدعوة الجديدة الذي حمله النبي ﷺ بوحي الله وهو في أواخر عهد شبابه والتي كانت حربا على عقيدة الشرك السخيفة وكثير من تقاليد الجاهلية البعيدة عن الحق والمنطق وعلى الآثام والفواحش داعية إلى الله وحده ومكارم الأخلاق والتضامن في بناء مجتمع إنساني جديد يقوم على أسس العقل والحق والعدل والبرّ والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتسابق إليه وحل كل ما هو طيب وتحريم كل ما هو خبيث لأنهم لم يغدوا بعد أسرى التقاليد الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في بيئتهم كما كان شأن كبار أسرهم وزعمائها، وفي هذا ما فيه من مدى ومغزى.
ولقد شرحنا مسألة أمن الحرم في سياق تفسير سورة قريش فلا محل للإعادة بمناسبة ما احتوته الآية. وإن كان من شيء نزيده هو أن الجملة في مقامها وجملة نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا بخاصة قد تفيد أن الحرم ليس فقط الكعبة ومكة بل هو منطقة مكة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس يوجب على القادم من خارج مكة أن يحرم أي يلبس ثياب الإحرام من حدود معينة قبل مكة، وهذا نصه «إنّ النّبيّ ﷺ وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشّام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال هنّ لهم ولكلّ آت أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّة» «١»
(١) التاج ج ٢ ص ١٠٤. [.....]
332
حيث يمكن أن يفيد هذا أن هذه الحدود هي حدود حرم مكة أو منطقتها المحرمة التي عنتها جملة حَرَماً آمِناً والله تعالى أعلم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٦١]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
(١) قرية: بمعنى مدينة أيضا. وقد أتت بمعنى أمة أو قوم بقصد أهل القرية أو أهل المدينة.
(٢) بطرت: كفرت النعمة وتكبرت واغترت.
(٣) أمّها: عاصمتها، وأم القرى عاصمة القرى ومركزها، والاكتفاء بذكر إرسال الرسل إلى أم القرى يعلل بأن القرى مرتبطة بمركزها ارتباطا وثيقا وبأن هذا المركز هو قدوتها وإمامها.
(٤) متاع الحياة الدنيا: قصارى أمره أنه متعة في الحياة الدنيا وحسب.
(٥) من المحضرين: من المبعوثين والمحشورين إلى الجزاء والنار.
المتبادر أن الآيات متصلة بالسياق وأنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآية السابقة لها مباشرة وفيها إنذار وتبكيت قويان: فكثير من القرى كانت متمتعة بالنعيم ووسائل العيش الناعم فغرّها ما هي فيه وأعماها فاستكبرت وجحدت فأهلكها الله، ومساكن كثير منهم ما تزال أطلالا خربة ماثلة للعيان، والله لا يهلك القرى إلّا بعد أن يبعث إلى عاصمتها التي هي بمثابة أمها رسولا ينذرهم ويبين لهم طريق الحق والهدى، فإذا أصروا على الجحود والبغي أهلكهم وما
333
تيسّر للسامعين- والمقصود بهم الكفار وزعماؤهم الذين هم موضوع الكلام- من أسباب العيش والأمن التي يتمسكون بها ويفضلونها على اتباع هدى الله ليست إلّا زينة ومتعة دنيويتين محدودتي الأمد والأفق، ومن الواجب عليهم والأحجى بهم أن يدركوا ويعقلوا بأن ما عند الله هو خير لهم وأبقى ولا يتساوى ما وعده الله من وعود حسنة للمؤمنين سوف تتحقق لهم مع أولئك الذين تيسر لهم ما يتمتعون به في الحياة الدنيا القصيرة ثم يحشرون يوم القيامة ويساقون نحو مصيرهم الرهيب.
تعليق على الآية وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وما بعدها وما فيها من تلقين وحكم
وأسلوب الآيات حجاجي هادئ قوي الإحكام، ويلهم أنه موجه إلى ذوي عقل وإذعان أدّاهم اجتهاد خاطئ إلى موقف خاطئ، وأريد به البرهنة على ما في هذا الاجتهاد والموقف من خطأ، وهذا الأسلوب يتسق مع الأسلوب الذي حكى عن الكفار في الشق الأول من الآية السابقة والذي رجحنا أنه صادر من الفريق المعتدل من الزعماء، ولذلك نرجح أن الآيات موجهة إليهم أيضا تعقيبا على تلك الآية، ومع ذلك فإطلاق الكلام يفيد أنه موجه إلى جميع الكفار وزعمائهم أيضا.
وفي الآيتين الأولى والثانية حكمة قرآنية اجتماعية بالغة ومستمرة التلقين، فالأمم إنما يهلكها بطرها واستكبارها وغفلتها عن الحق واستغراقها في شهواتها الدنيوية دون تدبر وتروّ، وإنما يصلحها تدبرها وبصيرتها واعتدالها وسلوكها طريق الحق وتفكيرها في العواقب وعدم إسرافها في متع الحياة وشهواتها.
وليس من محل لتوهم التناقض بين ما جاء في الآيات وبين الخطة القرآنية في إباحة متع الحياة الدنيا وزينتها والطيبات من الرزق واستنكار تحريمها وحظرها التي احتوتها آيات سورة الأعراف [٣١- ٣٣] فإن هذه الخطة مقيدة بالقصد والاعتدال
334
وخلوها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي والإشراك بالله، وعدم حيلولتها بين الإنسان وواجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في مناسبتها السابقة.
والمتبادر أن تخصيص الرسل بأم القرى ينطوي على حكمة اجتماعية بليغة، فقاعدة البلاد هي الإمام والقدوة لسائرها، فإذا قنعت بأمر وسارت في طريق تابعها الناس، وينطوي في هذا تقرير ما يكون على قاعدة البلاد من تبعة وما تلعبه من دور عظيم في حياة البلاد أخيرا كان أم شرّا أو صلاحا أم فسادا.
ولقد كان هذا هو الواقع في الدعوة الإسلامية فعلا، فقد ظلت الدعوة ضيقة النطاق ومحل مناوأة وأذى في الحجاز لأن أهل مكة أم القرى لم يستجيبوا إليها، فلما توارى معظم الزعماء المكابرين الذين قادوا حركة المناوأة وفتح الله تعالى مكة لنبيه ﷺ ودان أهلها بالإسلام زال السد ودخل الناس في دين الله أفواجا، وإذا كانت المدينة المنورة استجابت إلى الدعوة وغدت مركزها الذي استمدت منه القوة فإنها كانت خارجة نوعا ما عن نفوذ مكة المادي والمعنوي من جهة، ولأن مكة ظلت في نظر معظم العرب القائد والإمام، وظلت تقود حركة المقاومة والمناوأة للدعوة بقوة وعناد، وتحول ماديّا ومعنويّا دون انضواء العرب إليها.
وقد روى بعض المفسرين «١» أن الآية الأخيرة نزلت في رسول الله ﷺ وأبي جهل أو في علي وحمزة رضي الله عنهما وفي أبي جهل أو في عمار والوليد بن المغيرة. والآية معطوفة ومعقبة على ما قبلها ومرتبطة بها، والكلام فيها عام بالنسبة للفريقين، وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزولها لحدتها. ولقد قال ابن كثير الذي كان من جملة من روى ذلك من المفسرين (والظاهر أنها عامة) وهو الصواب. والله تعالى أعلم.
(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي.
335

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
(١) قال الذين حق عليهم القول: قال المفسرون إنهم الشياطين وأئمة الكفر والرؤساء أو شياطين الإنس والجن.
(٢) ادعوا شركاءكم: من الدعاء أي ادعوهم لينصروكم ويخلصوكم.
(٣) فعميت عليهم الأنباء: بمعنى التبست عليهم الأمور فلم يعرفوا ما يقولون، أو فقدوا الحجة.
(٤) لا يتساءلون: لا يستطيعون سؤال بعضهم بعضا أو لا يستطيعون التناصر والتضامن والتعاون.
الآيات معقبة كذلك على ما سبقها واستمرار للسياق. فقد انتهت الآيات السابقة بذكر يوم القيامة وجاءت هذه الآيات تحكي حالة الكفار فيه: فلسوف يناديهم الله تعالى ويسألهم في ذلك اليوم عن شركائهم الذين كانوا يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم فيعترف الذين حق عليهم القول أنهم كانوا غاوين وأنهم أغووا الذين غووا كما غووا، ثم يعلنون براءتهم منهم وكونهم لم يكونوا يعبدونهم، ويؤمر الكفار بدعاء شركائهم ليأتوا وينصروهم فيدعونهم فلا يستجيبون إلى دعائهم ويرون مصيرهم من العذاب فتأخذهم الحسرة ويتمنون أن لو كانوا مهتدين.
ولسوف يناديهم الله ثانية فيسألهم عن موقفهم من رسله فيبهتون ويلتبس عليهم الأمر فلا يدرون ما يقولون، ولا يستطيع أحد منهم أن يستنصر بأحد أو يستمد قوة من نسب وحسب أو يسأل أحدا، فلكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ويلهيه. وقد
جاءت الآية الأخيرة كخاتمة تعقيبية للصورة التي احتوتها الآيات: فالذي يتوب إلى الله ويؤمن ويعمل صالحا فهو الذي يمكن أن ينجو من هذا الموقف العسير.
والمتبادر أن الآيات في جملتها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والفزع في نفوس الكفار من المصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه، والحرج الشديد الذي سوف يواجهونه يوم القيامة، وحملهم على الارعواء والتوبة إلى الله تعالى، وهم في متسع من الوقت حتى يضمنوا لأنفسهم النجاح والفلاح في ذلك اليوم، وهذا مما ظل يتكرر في مختلف المواقف والمناسبات على اعتبار أنه الهدف الجوهري من الرسالة النبوية.
ولقد قال بعض المفسرين «١» إن المقصود من جملة حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هم الشياطين الذين وسوسوا للناس وأغووهم حتى أشركوهم مع الله تعالى في العبادة والدعاء. كما قال بعضهم «٢» إنهم أئمة الكفر ورؤوس الضلالة الذين حرّضوا العامة على الكفر فأطاعوهم. والجملة تتحمل كلا التأويلين. ونحن نرجح الثاني استئناسا بآية في البقرة تحكي براءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة كما تحكيها هذه الآيات وهي إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) بل إن في سورة الصافات آيات تؤيد ترجيحنا بقوة وهي وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣).
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري.
(٢) المصدر نفسه.
337
(١) الخيرة: بمعنى الاختيار. وتكون بمعنى المختار من الأشخاص والأشياء.
في الآيات تقريرات ربانية وجّه الخطاب فيها للنبي ﷺ من قبيل الالتفات الانتقالي، والضمير في «لهم» عائد إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام السابق.
وهي والحالة هذه معطوفة على ما قبلها واستمرار للسياق. فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء وليس للكفار أن يختاروا ويطلبوا ما يرغبون. وهو يعلم ما تخفي صدورهم وما يعلنون. وهو الذي لا إله إلّا هو المستحق للحمد في كل وقت وله الحكم في كل شيء وإليه يرجع الناس جميعا.
تعليق على جملة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
وقد قال بعض المفسرين «١» إن الآية الأولى بسبيل تقرير حصر الخلق والاختيار لله بصورة مطلقة ونفي قدرة الاختيار عن غيره.
وقال بعضهم «٢» إنها بسبيل تقرير أن الله تعالى يختار لعباده ما هو الأصلح ويختار لرسالته من هو الأصلح، وإنه ليس للكفار أن يرغبوا ويختاروا شيئا أو شخصا فيفعل الله ما يرغبون فيه ويختارونه، وإن في الآية ردّا على الكفار الذين كانوا يعترضون على اختيار محمد ﷺ ويقولون إنه كان الأولى أن يختار واحدا من العظماء وينزل عليه القرآن وهو ما حكته عنهم آية سورة الزخرف هذه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١).
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير.
(٢) انظر تفسير البغوي والزمخشري.
338
والضمائر في الآيتين الأولى والثانية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في الآيات السابقة كما هو واضح. وهذا يجعل القول الأول في تأويل الآية الأولى غير مستقيم لأنه يشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم. ويجعل للقول الثاني وجاهة ورجحانا. ومع أنه ليس في الآيات حكاية لاعتراض الكفار على اختيار محمد ﷺ حتى تكون الآية ردّا على هذه النقطة بالذات مما جاء في القول الثاني فإننا نرجح على كل حال أن الآية بسبيل ردّ على شيء من مثل ذلك صدر من الكفار في ظروف نزول الآية.
وفي الآيات تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم: فكل ما يفعله الكفار ويسرّونه محصيّ عليهم، والناس جميعهم راجعون إلى الله وله وحده الحكم والقضاء فليكن مطمئنّا...
وقد يبدو أن هناك تناقضا بين ما احتوته الآية الأولى من تقرير المشيئة المطلقة والاختيار المطلق لله تعالى ونفي الاختيار عن غيره وبين آيات عديدة مرّت أمثلة منها قررت للإنسان مشيئة واختيارا ورتبت على ما يكسبه نتيجة لذلك ثوابا وعقابا. ولقد كان هذا من المسائل التي دار الجدل حولها بين علماء الكلام.
والمتبادر لنا استلهاما من فحوى الآية أنها ليست بسبيل تقرير عام وإنما هي بسبيل الردّ على اعتراض الكفار على اختيار الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجدل حولها في غير محله، وأنه لا يصح أن يستنبط منها ما يتناقض مع التقريرات القرآنية الأخرى.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)
. (١) سرمدا: دائما أبدا.
في الآيات أمر للنبي ﷺ بسؤال الناس عما إذا كان هناك إله غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يأتيهم بالضياء إذا شاء الله جعل الليل عليهم سرمديا، أو يستطيع أن يأتيهم بليل يسكنون فيه إذا شاء جعل النهار عليهم سرمديا وتقرير رباني بما في تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي دبره الله من رحمة ربانية في الراحة والسكون في الليل والضرب في الأرض ابتغاء فضل الله في النهار مما يستحق عليه الحمد والشكر.
وأسلوب الآيات يدل على أن السؤال موجه إلى الكفار على سبيل التبكيت والتقريع والتذكير وأنها ليست منقطعة الصلة بالسياق السابق. والمتبادر أنها جاءت لتبرهن بأسلوب آخر على ما قررته الآيات السابقة من قدرة الله ومطلق تصرفه وحكمه وقضائه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
(١) نزعنا: هنا بمعنى أخرجنا أو انتزعنا.
(٢) ضلّ: هنا بمعنى غاب عنهم.
الآية الأولى تكرار للآية [٦٢] والمقصود بها الكفار الذين حكت الآيات مواقفهم وأقوالهم. وتكرارها يدل على أن السياق متصل بعضه ببعض.
وأسلوب الآية هنا كما هو هناك أسلوب تحدّ وتقريع. أما الآية الثانية ففيها تقرير تعقيبي انطوى فيه صورة من صور الآخرة كما انطوى فيه تقريع وإنذار للكفار. فبعد أن يطلب منهم دعوة شركائهم الذين كانوا يزعمون أنهم شفعاء وناصرون لهم أو دعاؤهم لنصرتهم ويعجزن أو لا يستجاب لهم دعوة ودعاء يأتي
الله تعالى بشهيد من كل أمة ثم يقال للمشركين الكافرين هاتوا برهانكم على صواب ما كنتم عليه فتلزمهم الحجة ويتحققون أن الحق لله تعالى ويغيب عنهم ما كانوا يقولونه ويفترونه.
وكلمة الشهيد في الآية الثانية تعني نبيّ كل أمة ورسولها على ما اتفق عليه المفسرون وما هو المتبادر منها. والآية تصور موقفا شبيها بالموقف القضائي زيادة في الإفحام والإلزام وقوة الحجة. وقد تكرر هذا مرارا في آيات مكية ومدنية منها آية سورة الزمر هذه وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وآية سورة النساء هذه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١).
والمتبادر أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إثارة الفزع والخوف في قلوب الكفار المشركين وحملهم على الارعواء كما هو شأن الآيات المماثلة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٨٤]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
341
(١) بغى عليهم: ظلمهم، وقد تكون بمعنى استكبر عليهم أو تسلط عليهم.
(٢) لتنوء بالعصبة أولي القوة: إن الجماعة القوية لا تكاد تطيق حملها أو تكاد ترزح تحتها. والقصد من الجملة تصوير عظمة الثروة والكنوز.
تعليق على قصة قارون وما فيها من عبر وتلقينات
احتوت الآيات قصة قارون وعاقبته. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
ولم نطلع على رواية تذكر مناسبة خاصة لنزول هذا الفصل عقب الآيات السابقة. ويبدو لنا أن المناسبة قائمة بينه وبين موضوع الآيات السابقة وخاصة الآيات [٥٧- ٦١]. ففي هذه الآيات ذكر ما كان يهمّ أهل مكة من أسباب الرزق والأمن، وخوفهم من فقدها إذا اتبعوا الهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأشير فيها إلى ما كان من اغترار أمم كثيرة بما تيسّر لها من وسائل الرزق وسعة العيش وبطرها وهلاكها، وذكر فيها كذلك أن ما عند الله خير وأبقى من متاع الحياة الدنيا وزينتها، فجاء هذا الفصل استطراديّا ليقصّ قصة فيها من المثل والعبرة ما يتسق مع فحوى تلك الآيات وهدفها.
ونرجح أن سامعي القرآن أو بعضهم كانوا يعرفون قصة قارون. وأسلوب الآيات التقريري وحكمة إيراد القصة المتناسبة في موضوعها مع الآيات السابقة يقويان هذا الترجيح. وآيات القصة في حدّ ذاتها تحتوي مواعظ وعبرا عديدة.
بحيث يبدو من كل ذلك أن الفصل متصل بالسياق وغير غريب عنه، وأن هدف
342
القصة التي احتواها هو العبرة والتذكير وضرب المثل كسائر القصص القرآنية.
والآيتان الأخيرتان جاءتا معقبتين على القصة على ما هو المتبادر، فالنجاة في الآخرة والعاقبة السعيدة إنما هما للذين لا يريدون فسادا وعلوّا في الأرض، والذين يتقون غضب الله ونقمته ومن يقدم بين يديه الحسنات والأعمال الصالحة يكافأ عليها بما هو خير منها ومن يقدم السيئات فلا يكافأ إلّا بما كان يعمل. وهذا التعقيب متسق مع الأهداف التي تستهدفها القصص القرآنية ومع التعقيبات التي تعقبها على ما مرّت أمثلة عديدة منها.
واسم قارون يرد هنا لأول مرة. ويرد بصراحة أنه من قوم موسى. وذكر مرتين أخريين في سياق ذكر فرعون وهامان وليس لقارون ذكر في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة عن قارون وثروته ومعرفته سرّ تحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب. ودسائسه على موسى عليه السلام وكفره وبغيه. وجنسيته وهويته، وكيفية الخسف الذي حلّ به، منه ما هو معزوّ إلى صحابة وتابعين بأسمائهم ومنه ما ليس معزوا إلى أحد. وفيها كثير من الإغراب كما هو ملموح «١». ولم نر طائلا في إيرادها لأنها غير متصلة بهدف القصة. وتدل مع ذلك على أن قصة قارون وشخصيته وثروته لم تكن مجهولة في أوساط العرب في عصر النبي ﷺ وبيئته. وما دام القرآن يذكر أنه من قوم موسى فالذي نعتقده أن قصصه على النحو الوارد موجزا في القرآن مما كان متداولا عند اليهود وواردا في بعض أسفارهم وقراطيسهم التي لم تصل إلينا. وقد تسرب ذلك إلى العرب من هذا الطريق. ولقد قصد بما ورد من القصة في القرآن التمثيل والموعظة وهذا إنما يتحقق إذا كان السامعون يعرفون ما يسمعون من القصص كليا أو جزئيا على ما شرحناه في المسائل المماثلة. ولقد قيل إن اسم قارون هو اسم معروف لملك أو أمير غني من ملوك آسيا الصغرى (الأناضول) أو (بلاد الروم) كما كانت تدعى سابقا وهو قيروس أو قيرسوس أو ما يشبه ذلك. ولسنا نرى في هذا ما
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
343
ينقض ما قررناه فقد يكون اسم قارون معربا لاسم قريب منه كان في زمن موسى ومن قومه. وكان ذا غنى وفساد. والأسماء تتجانس تقليدا واقتباسا. وقد يكون ذلك الملك الآسيوي متأخرا عن عهد موسى ويكون اسمه هو المقتبس. وإطلاق الاسم على هذا للتشابه بين صفاته وثروته وبين قارون موسى والله تعالى أعلم.
أما ما احتوته آيات القصة من الموعظة والعبرة والحكم الأخلاقية فهو:
١- إن الله لا يحب الفرحين المغترين بأموالهم.
٢- إن من واجب الذين أنعم الله عليهم بالثراء ألّا يجحدوا يد الله عليهم ويبطروا وأن يذكروا دائما أن الله قد أهلك من هم أكثر قوة ومالا منهم حينما جحدوا وبطروا.
٣- إن من واجبهم أيضا أن يسلكوا سبيل القصد، وأن يذكروا أنه إذا كان لهم أن يتمتعوا بما تيسّر لهم من أسباب العيش والدعة فإن من واجبهم أن يساعدوا الآخرين ويحسنوا إليهم كما أحسن الله إليهم وأنه ليس لهم أن يستعملوا ما يسّره الله لهم في الفساد والبغي، وأن يذكروا مفاجآت الأحداث وغضب الله وأن يشكروا الله شكرا عمليّا بالاعتراف بفضله وربوبيته والتقرب إليه بصالح الأعمال، وألّا ينسوا يوم الجزاء الأخروي الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما فعل.
٤- إنه لا ينبغي لمن لم يتيسر لهم الثراء ألّا تشرد أعينهم إليه ليحصلوا عليه بأي طريق كان ولو بالبغي والفساد، وعليهم أن يتحلوا بالقناعة والصبر ولا ينحرفوا عن الطريق القويم المشروع، وأن يتيقنوا أن ثواب الإيمان والعمل الصالح خير وأبقى وأنه لا يصل إلى هذه الغاية المثلى إلا الصابرون.
٥- إن الذين أوتوا العلم قاموا بواجبهم فنبهوا الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون إلى ما هو خير من ذلك وهو ابتغاء ثواب الله بالإيمان والعمل الصالح.
٦- إن الله قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده، وأدرك الذين
344
كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيرا دائما وأن فيها محكّا لأخلاق الناس وامتحانا لنوازعهم وكثيرا ما تكون عليهم نقمة وشرّا وأن الكافرين لا يفلحون قط.
٧- إن الله قد ضمن للمتقين الذين يتحاشون الفساد والتجبر في الأرض أحسن العواقب في الآخرة.
وطبيعي أن هذه الحكم مستمرة المدى والشمول. وفيها من التشجيع على الفضيلة والبرّ وتقبيح الرذيلة والبغي والبطر والجحود وبثّ الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين والارتفاع بهم إلى الأفق الأعلى من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ما هو جليل رائع.
وجملة لِلْمُتَّقِينَ في آخر الآية [٨٣] في مقامها مناسبة جديدة لتكرار ما نبهنا عليه من مغزى التقوى التي هي أهم مظاهر الإيمان.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث التي تندد بالتعالي والبطر والتجبر في مناسبة آيات قصة قارون. ونكتفي من ذلك بما ورد في كتب الصحاح، منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال «قال رسول الله ﷺ بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» «١». وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله ﷺ قال «إنّ الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطرا» «٢» حيث ينطوي في الأحاديث صور من التعليق والتطبيق النبوي للآيات القرآنية على سبيل الموعظة والتعليم والتحذير.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
(١) التاج ج ٣ ص ١٤٧.
(٢) المصدر نفسه.
345
(١) فرض عليك القرآن: أنزله عليك وأوجب عليك إبلاغه والسير وفقه.
(٢) لا يصدّنك: لا تدعهم يصرفونك.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالذي أنزل عليه القرآن وأوجب عليه إبلاغه والسير وفقه رادّه ومعيده، وعليه أن يعلن للناس أن ربّه هو الأعلم والحكم بينه وبين الكفار في من هو على الحق والهدى ومن هو على الضلال الشديد، وأنه ما كان ليأمل أن ينزل عليه الكتاب، وأن الله تعالى لم يختره وينزله عليه إلّا رحمة منه وفضلا، وأن عليه ألّا يكون نصيرا للكافرين على نفسه، وألّا يدعهم يصرفونه عن أوامر ربّه وآياته بعد أن أنزلت عليه متأثرا بمواقف اللجاج التي يقفونها إزاءه، وأن يدعو إلى ربه وحده ولا يسلك سبيل المشركين وألا يدعو مع الله إلها آخر، فليس من إله غيره قط، وكل شيء هالك إلّا وجهه، وله الحكم والقضاء على خلقه، وهو مرجعهم أولا وآخرا.
تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره لجملة لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ منها أنها بمعنى رادك إلى الجنة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى الموت. ومنها أنها بمعنى رادك إلى يوم القيامة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى مكة، وقد رويت رواية تفيد أن الآية التي فيها الجملة نزلت على النبي ﷺ وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة في منزل يقال له الجحفة حيث حزّ في نفسه أن يخرج من وطنه على الوجه الذي خرج به فأنزل الله عليه الآية لتطمينه وتسليته وتوكيد كون الله عز وجل راده إلى مكة ثانية. وهذه الرواية قد تقوي إن صحت التأويل الأخير.
346
وتنبه على أن هذه الرواية رويت عن ابن عباس الذي روي عنه أيضا كون الجملة بمعنى «رادك إلى يوم القيامة» «١».
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث. ويلحظ أن الشطر التالي من الآية التي فيها الجملة يأمر النبي ﷺ بأن يعلن بأن ربه هو الأعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال. وهذا يعني أن النبي كان في موقف حجاجي مع الكفار. وبين الآية والآيات التالية لها ترابط، ولهذا نشك في نزول الآية لحدتها أو نزولها في طريق الجحفة والنبي خارج إلى المدينة مهاجرا، ونرجح أن الآيات جميعها في صدد الموقف الحجاجي وأن الجملة تعني أن الله تعالى باعثه هو والكفار يوم القيامة وأنه سيحكم حينئذ بينه وبينهم وهو الأعلم بالمهتدي والضال منهم. وقد انطوى فيها هدف التطمين والتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الجملة ورد في آيات عديدة في مواقف الحجاج بين النبي ﷺ والكفار مثل سورة الأنعام [١١٧] والنحل [١٢٥] والقلم [٧].
ولم يرو المفسرون روايات في سبب نزول الآيات التالية لآية الأولى، وقد رووا عن ابن عباس أن الخطاب فيها وإن كان موجها إلى النبي ﷺ فهو لأمته، ومع أن هذا وارد ووجيه من ناحية ما احتوته الآيات من أوامر عليها طابع الشمول والتلقين المستمر، وهذا هو المقصود من قول ابن عباس المروي كما هو المتبادر.
فإن الذي يتبادر لنا من روح الآيات وفحواها أنها موجهة إلى النبي في مناسبة الموقف الذي بينه وبين الكفار الذي كان في صدد مبادئ الدعوة. وكان الكفار فيه أحيانا يحاولون مساومته وزحزحته عن شىء ما منها، وأنه بدا منه شىء ما من المسايرة رغبة في هدايتهم التي كان شديد الحرص عليها وبخاصة زعمائهم وإزالة العقبات القائمة في سبيل الدعوة. فنزلت الآيات لتنبهه إلى ما كان من فضل الله عليه ورحمته به في إنزال الكتاب عليه واختصاصه برسالة الله وتثبّته وتلقّنه خطورة
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي. ورواية نزول الآية في الجحفة رواها المصحف الذي اعتمدناه أيضا.
347
المهمة التي انتدب إليها، وما توجبه من الثبات والصبر وعدم المسايرة في أي عمل أو قول يمكن أن يكون فيه أي تساهل في أساس الدعوة إلى الله وحده وفي الأسس المحكمة التي انطوت عليها الآيات القرآنية، وتهيب به ألا يكون منه فتور في الدعوة بسبب مواقف اللجاج أو المساومة التي يقفها الكفار.
ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف بين النبي ﷺ وبعض الزعماء المعتدلين الذين كانوا يعتقدون بصدق دعوته ويخافون عواقب اتّباعه، على ما حكته الآية [٥٧] ولعل ما كان من أخذ ورد بينهم وبينهم وبنيه هو في صدد الكعبة وتقاليدها حيث يرجّح هذا ما حكته عنهم الآية نفسها من مخاوف.
وهذا الذي نخمّن انطواءه في الآيات قد ذكر صراحة في آيات سورة الإسراء هذه وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (٧٤) ومن الجدير بالتنبيه أن سورة الإسراء هذه قد نزلت بعد سورة القصص حيث ينطوي في هذا صحة تخميننا وصوابه إن شاء الله. ومحاولات الكفار زحزحة النبي ﷺ ليست جديدة بل بدأت من أوائل عهد الدعوة، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة القلم.
على أن من الواجب أن ننبه إلى أنه لا ينبغي التوهم من ذلك بأن النبي ﷺ قد مرّ عليه دور كان فيه مترددا في إيمانه بالله وحده أو ميّالا إلى مسايرة الكفار في زحزحته عن مبادئ الدعوة وأسسها. فهذا يناقض العصمة النبوية في هذا الصدد الذي يجب الإيمان بها، والتقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها تجعله من هذه النواحي فوق كل مظنة ووهم وتصف استغراقه في الله والمهمة التي انتدب إليها بأروع الصفات وأقواها، وكل ما كان من أمر أن رغبته الشديدة في هدايتهم وحرصه القوي على نجاح الدعوة وانتشارها وشدة العقبات التي كانت تقوم في طريقها بسبب موقف كفار قريش، وبخاصة زعمائهم كان يجعله يفكر في مسايرتهم في أمور شكلية وثانوية مما كان غير الأولى في علم الله سبحانه، فكان وحي الله
348
ينزل مبينا ما هو الأولى في علمه، على ما شرحناه في سياق سورة عبس وغيرها.
وعلى هذا فالآيات ليست منقطعة عن مواضيع السورة كما هو واضح، وبالإضافة إلى ذلك فإنها متصلة بالآيتين السابقتين لها مباشرة حيث يبدو أنها جاءت معقّبة عليهما، ولقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة ومنهية إنهاء حاسما للمواقف التي كانت بين النبي ﷺ وزعماء الكفار والتي حكتها آيات عديدة منها.
دلالة قرآنية
على أن النبي ﷺ لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه.
هذا وفي ما احتوته الآية الثانية صراحة قطعية بأن النبي ﷺ لم يكن يدري من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه، وفي ذلك نفي قرآني صريح لما يتزيده المتزيدون في هذا الصدد، ويتوسعون فيه من ذكر الأعلام والإشارات ويوردونه من الروايات ويخمنونه من التخمينات. سواء أكان ذلك في ظروف ولادته ونشأته أم قبل ذلك بآماد بعيدة أو قبل نزول الوحي عليه. وفي سورة يونس آية صريحة أخرى في ذلك جاءت جوابا على تحدي الكفار بالإتيان بقرآن غير القرآن الذي يتلوه عليهم وهي قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦).
هذا، وفي مناسبة ورود كلمة وَجْهَهُ بالنسبة لله تعالى نذكر القارئ بتعليقنا على ما في القرآن من صفات وأعضاء وحركات منسوبة إلى الله عزّ وجل في سياق سورة الفجر حيث نبهنا إلى ما في ذلك من مقاصد. والموقف الذي يجب أن يقفه المسلم وقارئ القرآن من مثل هذه الألفاظ. ونكتفي بهذه الإشارة عن الإعادة.
وتعبير وَجْهَهُ لله سبحانه من المواضيع الجدلية بين علماء الكلام من حيث ماهيته وكيفية تأويله، وهذا يقع بالنسبة إلى سائر الألفاظ والصفات والحركات التي تنسب إلى الله سبحانه الأعضاء والجوارح والحواس مثل يد الله
349
وقبضته ويمينه ونفسه وسمعه وأبصاره وروحه ونزوله واستوائه إلخ.
وروح التعبير هنا يفيد أن المقصود به ذات الله تعالى، ولا يحمل جدلا فيما نعتقد، والمتبادر أنه أريد بكل ما ذكر في القرآن من كل ذلك وصف الله سبحانه بكل صفة على أكمل ما يكون مما يقتضي أن يكون الله سميع لكل ما من طبيعته أن يسمع، ويبصر لكل ما من طبيعته أن يبصر، وعليم بكل شيء ومدرك لكل شيء ومحيط بكل شيء وقادر على كل شيء وموجود في كل مكان.. إلخ وقد استعملت الألفاظ في معرض الدلالة على ذلك لأن القرآن يخاطب الناس بلغتهم والمعاني التي يفهمون ماهيتها ومداها. ومع ذلك فإن هناك مذهبا سليما ووجيها يرى أصحابه التسليم بكل ما جاء من ذلك وعدم حمله على غير ظاهره وعدم البحث في الوقت نفسه في الماهيات والكيفيات وتفويض الأمر لله تعالى فيما أراد منه مع تنزيهه سبحانه عن الجسمانية والجهة والحدود والحاجة إلى أي شيء والمماثلة لخلقه في أي شيء عملا بضابط قرآني محكم جاء في آية سورة الشورى هذه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) والله تعالى أعلم.
350
Icon