ﰡ
وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كونها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر.
وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة، حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. والله أعلم.
ولقد ذكر المفسر الطبرسي أن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه السلام ولم يذكر لذلك سندا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤). عبارة الآيات واضحة. والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها.
والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان. وتنبيها إلى ما في هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه. أما الآية الرابعة فقد احتوت حثّا على القتال في سبيل الله بعزم وتراصّ وتضامن وإيذانا بأن الله يحبّ الذين يفعلون ذلك.
وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته.
منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله ﷺ من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه. ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجاهدوا كذبا. ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر. ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر فلما سمعوا ما أعدّ الله لشاهديها من أجر وما كان من ثناء النبي ﷺ عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب ثم انهزموا في واقعة أحد. ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة مع اختلاف في الصيغة. وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله بن سلام قال: «إن أناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله ﷺ نسأله عن أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف فقرأها علينا رسول الله ﷺ كلّها «٢». وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها «قال المؤمنون لو نعلم
(٢) هذا النصّ من ابن كثير وقد أورد هذا المفسّر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص. وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك حيث جاء فيه عن عبد الله بن سلام «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه فأنزل سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢). التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢٣٣.
والرواية الأخيرة عجيبة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية.
والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون. وهذا متسق مع بعض الروايات. ولقد حكت آيات عديدة في سور آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين.
وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (١٥) أن المقصود في الآيات منهم. وفي سورة النور آية صريحة أخرى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣).
وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط إما بتكرره وإما في ظروفه. وهذا لا يكون على الأرجح إلّا من المنافقين. ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي ﷺ وآذاه. وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف، قرينة على ذلك. والله أعلم.
وأسلوب الآيات عام. وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان. وقوة الآيات تهزّ النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدّة مقت الله للذين يقولون ما لا يفعلون، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص. وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها. ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم
وقد تكون جملة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن. ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه وبكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك. وفي القرآن آيات فيها هذا التوجه بصراحة. ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة [١٩٥] والنساء [٧٥ و ٧٦ و ١٠٤] والأنفال [٦٠] ومحمد [٣٨].
ولقد قال غير واحد من المفسرين «١» إن الآيتين الثانية والثالثة عامتا الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذر أو قول يكذبه الفعل. وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان. مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه. وقد قال ابن كثير إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم. مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه. ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها للتنديد الرباني المنطوي في الآيتين. فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين. في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها.
والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة.
وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٥ الى ٩]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
. تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله
لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون. وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين.
فجاءت هذه الآيات:
(٢) ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد ﷺ وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد ﷺ حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي ﷺ ورسالته ودعوته.
(٣) ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر.
(٤) ولتؤكّد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية حيث تقرر أولا: إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا: إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم ولكن الله تعالى سوف يتمّ نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا: إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة جاءَهُمْ إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول الطبري. وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله أعلم.
هذا، ويصح أن يكون المقصودون في جملة فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا الجزء الثامن من التفسير الحديث ٣٦
ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي ﷺ وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا. وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال المفسرون إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم له بالمطالب كقولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وهذا حكته آية البقرة [٦١] وقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وهذا حكته آية البقرة [٥٥].
وكقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «١» أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا إلخ. ولقد ورد في الآية [٦٩] من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب، وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي ﷺ وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكيد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف. والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر.
ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين
وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي ﷺ من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وهو القصد القريب المباشر والله أعلم، وبالإضافة إلى ما فيها من تحدّ مطلق للكافرين والمشركين، وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا ﷺ على الدين كله فإن جملة بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحقّ يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية (الأسرة) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص، واستغناءه وتنزّهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء على ما طرأ على الديانات السماوية وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر. وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمّها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم
النفس.
مع الأمر بالدعوة إلى سبل الله أي إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن وعدم الإكراه والإجبار في الدين. وسعة الصدر لمن أراد
ومع الأمر بمعاملة هؤلاء بالقسط والبرّ وحسن التعامل والتعايش وبعدم القتال إلا للدفاع ودفع العدوان والمقابلة بالمثل وتأمين حرية الدعوة وإرغام الظالمين.
وقد وصف معتنقو هذا الدين في القرآن بصفة الوسط التي تعني الخيرية والاعتدال في كل شيء وعدم الإفراط والتفريط وعدم الغلوّ والتقصير وعدم التزمت والاستهتار وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية مما فيه خير دين ودنيا.
والتمسك بكل ما هو الأفضل والأصلح والأنفع والأحسن من كلّ أمر وصفة وخلق وعمل وموقف. وقد اختصّ هذا الدين الأنثى بعناية خاصة فجعلها صنوا للذكر وقسيما له في الإنسانية والحقوق والواجبات والتكاليف والحياة العامة وبنيان الدولة والمجتمع سواء بسواء. كما أسبغ على الحياة الزوجية رعاية عظيمة كفل فيها حقّ المرأة من مختلف النواحي مما لم يكن له مثيل في سابق الإسلام وما لم يلحق به إلى الآن.
وكل ما تقدم من مقتضيات كتاب الله الكريم وسنن رسوله الشريفة. وليس من شأن حالة المسلمين الحاضرة أن يطمس سناء (الهدى والحق) اللذين أرسل الله رسوله بهما والمتمثلين في كتاب الله وسنن رسوله. ويظل كل ذلك أقوى أسباب الجذب والاستقطاب لمختلف أنواع وفئات البشر في كل زمان ومكان. ويصدق وعد الله تعالى بإظهار الدين الذي جاء به محمد ﷺ على الدين كله.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة المماثلة لنص آيات الصف التي نحن في صددها وفي سياق آية سورة النور [٥٥] التي وعد الله فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بعض الأحاديث النبوية التي تذكر توقعات أو تنبؤات النبي ﷺ بما سوف يكون لدين الله من انتشار وانتصار. منها حديث رواه الإمام أحمد أورده ابن كثير عن تميم الداري قال «سمعت رسول الله ﷺ يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله من مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين. يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا. عزّا يعز الله به الإسلام. وذلا يذلّ به الكفر. وكان تميم يقول قد عرفت ذلك
والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة». ومنها حديث رواه مسلم عن عقبة قال «سمع رسول الله ﷺ يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله».
والإيمان بتحقيق وعد الله وإظهار الإسلام على الدين كله وتمكينه واجب على كلّ مسلم. لأن الله لن يخلف ما وعده للمؤمنين الصالحين. وفيما أمر الله ورسوله ورسماه في الكتاب الكريم والسنة الشريفة عظيم بواعث الثقة والاعتزاز وحوافز العزيمة والإقدام والاندفاع في المسلمين الصادقين للعمل على تحقيق وعد الله ونشر دينه. وهذا واجب لازم عليهم ويأثم المقصرون فيه.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظل ينشر ويتسع بعد زوال السلطان العربي الذي استمر في القرون الثلاثة الأولى. لما فيه من قوة عناصر الجذب والاستجابة والاستقطاب حتى كان عدد المنضوين إليه بعد زوال ذلك السلطان أكثر من المنضوين إليه في عهده. ويكاد يكون الدين الوحيد الذي لا يتركه معتنقوه، والذي يزداد معتنقوه من الخارج مجددا وليس فقط بالنمو الذاتي ومن كل نحلة وفئة وجنس وفي كل مكان ولو تيسّر له دعوة قوية التنظيم والتمويل ودعاة مرشدون صالحون كثير والعدد لازداد اتساع انتشاره وانجذاب الناس له.
والآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها أي الآية [٦] قد حكت أقوال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل التي منها أنه مبشّر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهذا الاسم مرادف في المعنى والاشتقاق لاسم محمد الوارد في القرآن والذي كان يتسمى به النبي ﷺ منذ طفولته على ما هو متواتر يقيني. وأحمد صيغة تفضيل من الحمد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه البخاري أيضا عن جبير بن مطعم قال «قال النبيّ ﷺ إنّ لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب».
وحديثا آخر رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «كان رسول الله ﷺ يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّي، والحاشر ونبي الرحمة ونبي التوبة».
وفي سورة الإسراء هذه الآيات قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) حيث أريد القول والله أعلم أنهم رأوا في بعثة النبي محمد ﷺ تحقيقا لوعد الله الذي بشر به عيسى فما كان منهم إلا أن آمنوا وخشعوا.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [١٥٧] أن اليهود والنصارى كانوا يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأن منهم من آمن برسالته واتبعوه نتيجة لذلك. وقد حكت آيات أخرى أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة «١» إيمان
وعلى أنه لم يأت فيه في مناسبة موقف جدلي أو تقرير مسألة جدلية وإنما جاء بسبيل تقرير واقع معروف. ويصح أن نكرر هنا من قبيل المساجلة ما قلناه في سياق آية الأعراف من أن الآية التي نحن في صددها قد نزلت في وسط فيه يهود ونصارى وفيه مسلمون من اليهود والنصارى وفيه أعداء للنبي من العرب واليهود والنصارى يتربصون به ويعدّون عليه أنفاسه ليجادلوه ويكذّبوه. فلا يمكن أن تكون نزلت جزافا ولا بدّ من أن تكون الحقيقة التي تضمنتها معروفة غير منكورة في هذا الوسط. ولقد ذكرت البشارة والاسم بصراحة في إنجيل برنابا «١». وإذا كان النصارى ينكرون هذا الإنجيل ففي الأسفار المتداولة المعترف بها كثير من الإشارات والدلالات والتعبيرات التي يمكن صرفها إلى تأييد ذلك مما أورد السيد رشيد رضا عليه الشواهد الكثيرة بأسلوب فيه من قوة الحجة ما فيه المقنع لغير المكابرين المتعنتين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية الأعراف لأن السيد أورد ما أورده في سياق تفسيرها.
وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا عبارات فيها تصديق لآية الصف بخاصة التي تحكي عن عيسى تبشيره برسول من بعده اسمه أحمد حيث جاء فيه (إن في انطلاقي خيرا لكم، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكّت الناس على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. وإن عندي كثيرا أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات التي نحن في صددها بضعة أحاديث تفيد أن بشارة عيسى عليه السلام بالنبي ﷺ مما كان متداولا على الألسنة في زمن النبي ﷺ وبيئته منها حديث عن كعب الأحبار رواه ابن أبي حاتم جاء فيه «أن الله يقول لعيسى عن محمد ﷺ هو عبدي المتوكل المختار ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام. وأمته الحمادون. يحمدون الله على كل حال. وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يعرضون أطرافهم.
ويأتزرون على أنصافهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. رعاة الشمس يصلون حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة» «٢» ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد جاء فيه فيما جاء «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا من قريش للوشاية بالمهاجرين الأولين واسترجاعهم إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم فقال لهم ما تقولون قال نقول كما قال الله عزّ وجلّ هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولد فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ثم قال لهم مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم. والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه
(٢) تفسير ابن كثير.
أما ما جاء في الآية من حكاية قول عيسى عليه السلام عن رسالته من قبل الله تعالى ففي الأناجيل المتداولة كثير من العبارات ما يؤيد ذلك. وقد أوردنا بعض النصوص في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة الزخرف.
ونكتفي هنا بإيراد نبذة جاءت في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا (إن تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يصنع مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أنا أتكلم من عندي. إن من يتكلم من عنده إنما يطلب مجد نفسه. فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق ولا جور عنده) «٣».
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين وردّ على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد
عبارة الآيات واضحة. ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر
(٢) الخازن والزمخشري.
(٣) العبارة منقولة من الطبعة الكاثوليكية.
وأسلوب الحثّ والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب: أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسّره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها بفتح الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلّا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا: على أن حثّ المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. بل
وثانيا: على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة. وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤) [١٤].
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ إلخ وما فيها من تلقين
وهذه الآية متصلة بالموضوع نفسه بأسلوب آخر فيه تمثيل وتذكير وحثّ ودعوة إلى التأسي:
(١) فالمؤمنون مدعوون إلى أن يكونوا أنصار الله.
(٣) وكان نتيجة لذلك أن آمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ورسالته وكفرت طائفة فأيّد الله المؤمنين على أعدائهم الكافرين فظهروا عليهم وانتصروا.
والفقرة الأخيرة من الآية تنطوي على بشارة ضمنية أخرى للمسلمين إذا ما استجابوا إلى دعوة الجهاد يكون الله مؤيدهم على الذين كفروا ومظهرهم عليهم.
والفقرة تنطوي كذلك على بيان أسباب ما سجله التاريخ قبل نزولها وإلى حين نزولها من حقيقة وهي انتصار الذين آمنوا بعيسى عليه السلام على الذين كفروا به من بني إسرائيل.
والآية وثيقة الصلة بما قبلها، والمرجح أنها نزلت معها ومع ما قبلها معا.
والحواريون يذكرون هنا للمرة الثانية. وقد ذكروا في المرة الأولى في الآية [٥٢] من سورة آل عمران التي ذكر فيها ما ذكر في هذه الآية من أنهم قالوا نحن أنصار الله حينما هتف عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله. ثم ذكروا للمرة الثالثة في أواخر سورة المائدة بأسلوب آخر حيث جاء في آية أنهم آمنوا نتيجة لوحي الله لهم بذلك ثم طلبوا من عيسى استنزال مائدة من السماء كوسيلة إلى ازدياد إيمانهم بصدق عيسى ورسالته، فدعا عيسى ربه فاستجاب له وأنزل المائدة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وقد شرحنا ماذا تعني الكلمة في سياق آية آل عمران المذكورة وأوردنا أسماء الحواريين فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. وواضح أن العبارة القرآنية لا تفيد أن الحواريين هم فقط الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام عليه السلام من بني إسرائيل في حياته. بل تفيد أن جماعة أخرى قد آمنوا أيضا وهو ما كان حقا.
وجملة فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قد تفيد أن الانتصار الذي تمّ للمؤمنين برسالة عيسى عليه السلام على الكافرين بها قد وقع بعد وقت ما. وهو ما كان حقا أيضا.
في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسّره الله للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد الله بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي ﷺ وما كانوا عليه من ورع وتقوى.
وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوّغ القول بوحدة نزولها ونزول فصولها متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي ﷺ من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال «كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ، فقلت في نفسي: ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب ألححت على رسول الله ثلاث مرّات فلم يردّ عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري وتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء فإذا أنا بمناد يا عمر فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل فيّ شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نزل عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «١» ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن
ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود جاء فيه «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلّا والشمس قد طلعت. فاستيقظنا ورسول الله ﷺ نائم قال فقلنا أيقظوه فاستيقظ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول الله فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي اشتدّ عليه فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) » «٢». وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل بن حنيف جاء فيه «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي ﷺ والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر فقال ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا.
فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيّعه أبدا، فنزلت سورة الفتح» «٣».
وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث «٤» على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق
(٢) المصدر نفسه.
(٣) التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٢١٢- ٢١٣ وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردنا: انظر أيضا كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن.
(٤) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٥ و ٣٧٨ وابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ و ١٥٢.