تفسير سورة الصف

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الصف من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الصف مدنية وهي أربع عشرة آية.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢)
﴿يا أيها الذين آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ لم هي لام الإِضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولكم بم وفيهم ومم وعم وإلام وعلام وإنما حذفت الألف لأنما واللام أو غيراه كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال على ما قام يشتمني جرير والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلا جرائه مجرى الوقف والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)
﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله غلت ناب كليب بواؤها
474
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز وفيه دلالة على أن قولهم ملا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه والمعنى كبر قولكم مالا تفعلون مقتاً عند الله واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وعن بعض السلف أنه قيل له حدثنا فقال أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال
475
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤)
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً﴾ أي صافين أنفسهم
مصدر وقع موقع الحال ﴿كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ﴾ لاصق بعضه ببعض وقيل أريد به استواء نياتهمفي حرب عدوهم حتى يكونوا على في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رض بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥)
﴿وإذ﴾ منصوب باذكر ﴿قال موسى لقومه يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِى﴾ بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ﴾ في موضع الحال أي تؤذوني عالمن علما يقينا ﴿أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ من الهداية أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم او فلما اختاروا الزيغ زاغ الله قلوبهم أي اخذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق ﴿والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين﴾ أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
﴿وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل﴾ ولم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه {إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ
475
يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} أي أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني ان دين اتصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر بَعْدِى حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختبار الخليل وسيبويه وانتصب مصدقا ومبشرا بما في الرسول من معنى الإِرسال ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ﴾ عيسى أو محمد عليهما السلام ﴿بالبينات﴾ بالمعجزات ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ساحر حمزة وعلى
476
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ واي الناس اشد ظلماممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعاة الدارين فيجعل مكان كذب وتمويه
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨)
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم﴾ هذا تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر مثلت حالهم بحل من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل والتقدير يريدون الكذب ليطفؤا نور الله بأفواههم أي بكلامهم ﴿والله مُتِمُّ نوره﴾ وحمزة وعلي وحفص مُتِمٌّ نُورِهِ غيرهم أي متم الحق ومبلغه غايته ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق﴾
أي الملة الحنيفية ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ليعليه ﴿عَلَى الدين كُلّهِ﴾ على جميع الأديان المخالفة له ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام وعن مجهاد إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠)
﴿يا أيها الذين آمنوا هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ تُنجّيكُم شامي
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)
﴿تُؤْمِنُونَ﴾ استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل فقال تؤمنون وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا اجيب بقوله يغفر لكم ويدل على هـ قراءة ابن مسعود آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا وانما جئ به على لفظ الخير للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ﴿بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ﴾ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من أموالكم وأنفكسم ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتهم ذلك واعتقد تموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل ﴿ذلك الفوز العظيم﴾
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
﴿وأخرى تُحِبُّونَهَا﴾ ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ثم فسرها بقوله ﴿نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ أي عاجل وهو فتح مكة والنصر على قريش أو فتح فارس والروم وفي تُحِبُّونَهَا شيء من التوبيخ على محبة العاجل وقال صاحب الكشف معناه هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها ثم قال نصر أي هي نصر
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (١٤)
﴿وَبَشّرِ المؤمنين﴾ عطف على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الامر كانه قيل آمنوا وجاهدوا يثبتكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك وقيل هو عطف على قل مرادا قبل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله﴾ أي أنصار دينه أنصار الله حجازي وأبو عمرو ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله﴾
ظاهره تشبيه
477
كونهم أنصاراً بقول عيسى مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله ولكنه محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله ومعناه من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً وحواري الرجل صفيه وخالصه من الحور وهو البياض الخالص وقيل كانوا قصارين يحورون الثايب أي يبيضونها ﴿فآمنت طائفة من بني إسرائيل﴾ بعيسى ﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾ به ﴿فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ﴾ فقوينا مؤمنيهم على كفارهم ﴿فَأَصْبَحُواْ ظاهرين﴾ فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم
478
سورة الجمعة مدنية وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

479
Icon