تفسير سورة الصف

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الصف من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
تفسير سورة الصف :

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد :
١- سورة " الصف " من السور المدنية الخالصة، وقد اشتهرت بهذا الاسم منذ عهد النبوة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن أحب الأعمال إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها( ١ ).
قال الآلوسي : وتسمى –أيضا- سورة الحواريين، وسورة عيسى –عليه السلام-.
وعدد آياتها أربع عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة " التغابن " وقبل سورة " الفتح ".
٢- وقد افتتحت بتسبيح الله –تعالى- عن كل ما لا يليق به، ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه أن يقولوا قولا لم تطابقه أفعالهم، فقال –تعالى- :﴿ يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ﴾.
وبعد أن ذكر –سبحانه- جانبا مما قاله موسى –عليه السلام- لقومه، وما قاله عيسى –عليه السلام- لقومه، أتبع ذلك ببيان ما جبل عليه الكافرون من كذب على الحق ومن كراهية لظهور نوره، فقال –تعالى- ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب. وهو يدعي الإسلام، والله لا يهدي القوم الظالمين، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾.
٣- ثم وجه –سبحانه- نداء إلى المؤمنين، دعاهم فيه –بأبلغ أسلوب- إلى الجهاد في سبيله، بالأنفس والأموال، وحضهم على أن يقتدوا بالحواريين فقال :﴿ يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم، فأصبحوا ظاهرين ﴾.
٤- وهكذا نجد السورة الكريمة تفتتح بتنزيه الله –تعالى- عن كل نقص، وتنهي عن أن تكون الأقوال مخالفة للأفعال، وتبشر الذين يجاهدون في سبيل الله –تعالى- بمحبته ورضوانه، وتذم الذين آذوا رسل الله –تعالى- وأنكروا نبوتهم بعد أن جاءوهم بالبينات، وترشد إلى التجارة الرابحة التي توصل إلى الفوز العظيم.
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا جميعا من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة – مدينة نصر
٢ من رمضان ١٤٠٦ ه ١٠/٥/١٩٨٦ م.
د. محمد سيد طنطاوي.
١ - تفسير ابن جرير ج ٨ ص ١٣١..

التفسير قال الله تعالى: -
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)
افتتحت سورة «الصف» - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به.
أى: نزه الله- تعالى- وقدسه، جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض من مخلوقات، وهو- عز وجل- الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب الْحَكِيمُ في كل أقواله وأفعاله.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما روى عن ابن عباس أنه قال: كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله- عز وجل- دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه، إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به.
فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فنزلت هذه الآيات.
353
وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنّا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك «١».
والاستفهام في قوله- تعالى-: لِمَ تَقُولُونَ للإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان قولا لا يؤيده فعله، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا، وإما أن يكون خلفا للوعد، وكلاهما يبغضه الله- تعالى-.
ولِمَ مركبة من اللام الجارة، وما الاستفهامية، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر، تخفيفا لكثرة استعمالها معا، كما في قولهم: بم، وفيم، وعمّ.
أى: يا من آمنتم بالله واليوم الآخر.. لماذا تقولون قولا، تخالفه أفعالكم، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه، فلما كلفتم به قصرتم فيه، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا، مع أنكم لم تفعلوا ذلك.
وناداهم بصفة الإيمان الحق، لتحريك حرارة الإيمان في قلوبهم، وللتعريض بهم، إذ من شأن الإيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله.
وقوله- سبحانه-: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بيان للآثار السيئة التي تترتب على القول الذي يخالفه الفعل.
وقوله: كَبُرَ بمعنى عظم، لأن الشيء الكبير، لا يوصف بهذا الوصف، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة في نوعه.
والمقت: البغض الشديد، ومنه قوله- تعالى- وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا، وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل: للإشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا.
أى: كبر وعظم المقت الناشئ عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم.
وقال- سبحانه-: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ للإشعار بشناعة هذا البغض من الله تعالى- لهم، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله، فعلى كل عاقل أن يجتنبها، ويبتعد عنها.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه. وقصد في «كبر» التعجب من غير لفظه... ومعنى التعجب: تعظيم
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٣٢. [.....]
354
الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على التمييز، للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت، لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه قيل: نكاح المقت- وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه-.
وإذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته، وانزاحت عنه الشكوك.. «١».
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد ذم الذين يقولون ما لا يفعلون ذما شديدا، ويندرج تحت هذا الذم، الكذب في القول، والخلف في الوعد، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء.
وبعد أن وبخ- سبحانه- الذين يقولون ما لا يفعلون، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله- تعالى- فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ.
ومحبة الله- تعالى- لشخص، معناها: رضاه عنه، وإكرامه له.
والصف يطلق على الأشياء التي تكون منتظمة في مظهرها، متناسقة في أماكنها، والمرصوص: هو المتلاصق الذي انضم بعضه إلى بعض. يقال: رصصت البناء، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة.
والمعنى: أن الله- تعالى- يحب الذين يقاتلون في سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا، حتى لكأنهم في ثباتهم، واجتماع كلمتهم، وصدق يقينهم.. بنيان قد التصق بعضه ببعض، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه.
فالمقصود بالآية الكريمة: الثناء على المجاهدين الصادقين، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل.
قال الإمام الرازي: أخبر الله- تعالى- أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه، كثبوت البناء المرصوص.
ويجوز أن يكون على أن يستوي أمرهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضا، كالبنيان المرصوص «٢».
(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٢٣.
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٣٩.
355
ثم ساق- سبحانه- جانبا مما قاله موسى- عليه السلام- لقومه. وكيف أنهم عند ما انصرفوا عن الحق، عاقبهم- سبحانه- بما يستحقون من عقاب فقال:
[سورة الصف (٦١) : آية ٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥)
وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران، وهو واحد من أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى إبراهيم- عليه السلام-.
وقد أرسله الله- تعالى- إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل، وقد لقى- عليه السلام- من الجميع أذى كثيرا.
ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر، وبأنه مهين، ولا يكاد يبين.
وأن بنى إسرائيل قالوا له عند ما أمرهم بطاعته: سمعنا وعصينا، وقالوا له: أرنا الله جهرة وقالوا له: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
وقالوا عنه: إنه مصاب في جسده بالأمراض، فبرأه الله- تعالى- مما قالوا.
قال ابن كثير: وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر».
وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوصلوا إليه أذى، كما قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً «١».
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا، وقت أن قال موسى- عليه السلام- لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم.
يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي: قال لهم: يا أهلى ويا عشيرتي لماذا تلحقون الأذى بي؟.
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٣٥.
356
«وقد» في قوله- تعالى-: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ للتحقيق، والجملة حالية، وجيء بالمضارع بعد «قد» للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات.
قال الجمل: قوله: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قد للتحقيق. أى: تحقيق علمهم. أى: لا للتقريب ولا للتقليل، وفائدة ذكرها التأكيد، والمضارع بمعنى الماضي.
أى: وقد علمتم، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال، وعلى أنها مقررة للإنكار.
فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه، ويمنع إيذاءه لأن من عرف الله- تعالى- وعظمته، عظّم رسوله «١».
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على إيثارهم الغي على الهدى، فقال: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.
والزيغ: هو الميل عن طريق الحق، يقال: زاغ يزيغ زيغا وزيغانا، إذا مال عن الجادة، وأزاغ فلان فلانا، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر.
أى:
فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به. واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ في قلوبهم أمال الله- تعالى- قلوبهم عن قبول الهدى. لإيثارهم الباطل على الحق، والضلالة على الهداية.
كما قال- تعالى-: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً «٢».
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل قصد به التقرير لما قبله، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية، وبيان سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن من استحب العمى على الهدى، وأصر على ذلك.. كانت عاقبته الخسران.
أى: وقد اقتضت حكمة الله- تعالى- أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق، إلى ما يسعدهم في حياتهم وبعد مماتهم، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء، وأصروا على سلوكها.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٣٦.
(٢) سورة النساء الآية ١١٥.
357
ثم ذكر- سبحانه- جانبا مما قاله عيسى- عليه السلام- لبنى إسرائيل، فقال- تعالى-:
[سورة الصف (٦١) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
أى: واذكر- أيضا- أيها الرسول الكريم- وذكّر الناس ليعتبروا ويتعظوا، وقت أن قال عيسى ابن مريم، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لكي أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإيمان والتوحيد.
ولم يقل لهم يا قوم- كما قال لهم- موسى- عليه السلام- بل قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه لا أب له فيهم، وإن كانت أمه منهم، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء، لا من جهة الأمهات.
وفي قوله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ إخبار صريح منه لهم، بأنه ليس إلها وليس ابن إله- كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله.
وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به.
أى: إنى رسول الله- تعالى- إليكم بالكتاب الذي أنزله الله علىّ وهو الإنجيل، حال كوني مصدقا للكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على نبيه موسى- عليه السلام- وهذا الكتاب هو التوراة، وما دام الأمر كذلك فمن حقي عليكم، أن تؤمنوا به، وأن تتبعوني، لأنى لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على ما يدل على صدقى، فكيف تعرضون عن دعوتي.
وقوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ فيه نوع مجاز، لأن ما بين يدي الإنسان هو ما أمامه، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره. واللام في «لما» لتقوية العامل، نحوه قوله- تعالى- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وقوله- سبحانه-: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ معطوف على ما قبله.
358
والتبشير: الإخبار بما يسر النفس ويبهجها، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه أحمد تبشيرا، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم، ويرفع الأغلال عنهم، كما قال- تعالى-: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
ولفظ أَحْمَدُ اسم من أسماء نبينا ﷺ وهو علم منقول من الصفة، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل. فيكون معناها: أنه ﷺ أكثر حمدا لله- تعالى- من غيره.
ويصح أن تكون من المفعول، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير، أكثر مما يحمدون غيره.
قال الآلوسى: وهذا الاسم الجليل، علم لنبينا محمد ﷺ وصح من رواية مالك، والبخاري، ومسلم.. عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب» «١».
وبشارة عيسى- عليه السلام- بنبينا محمد ﷺ ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب.
ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة في بعض الأناجيل، كإنجيل يوحنا، في الباب الرابع عشر، قال الإمام الرازي: في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: وأنا أطلب لكم إلى أبى، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد.
والفارقليط هو روح الحق واليقين «٢».
ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية: أحمد أو محمد «٣».
ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول ﷺ موجودة في التوراة والإنجيل، قوله- تعالى- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «٤».
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٨٦.
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٣٩.
(٣) راجع تفسير القاسمى- ١٦ ص ٥٧٨٨.
(٤) راجع تفسيرنا لسورة الأعراف الآية ١٥٧ ص ٣٩٠.
359
وقوله- سبحانه-: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله- تعالى-.
والضمير في قوله جاءَهُمْ يرى بعضهم أنه يعود لعيسى، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد ﷺ أى: فلما جاء عيسى- عليه السلام- أو محمد ﷺ إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات الدالة على صدقه، قالوا على سبيل العناد والجحود: هذا سحر واضح في بابه. لا يخفى على أى ناظر أو متأمل.
ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى- عليه السلام- وكفروا به، ونسبوا إلى أمه الطاهرة، ما هي بريئة منه، ومنزهة عنه.
كما كذبوا محمدا ﷺ وكفروا به، وصدق الله إذ يقول: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكن ما جبلوا عليه من جحود وعناد، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين هم أشد الناس ظلما للحق، وأنه- سبحانه- سيظهره لا محالة، رضوا بذلك أم كرهوا وأن هذا الدين سيظهره الله- تعالى- على بقية الأديان، مهما كره الكافرون. فقال- تعالى-:
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٧ الى ٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
والاستفهام في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ للإنكار والنفي.
والافتراء: اختلاق الكذب واختراعه من جهة الشخص دون أن يكون له أساس من الصحة، وقوله: وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ جملة حالية.
360
أى: ولا أحد أشد ظلما من إنسان يختلق الكذب من عند نفسه على دين الله- تعالى- وشريعته، والحال أن هذا الإنسان يدعوه الداعي إلى الدخول في دين الإسلام الذي لا يرتضى الله- تعالى- سواه دينا.
وَاللَّهُ- تعالى- لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه فلاحهم، لسوء استعدادهم، وإيثارهم الباطل على الحق.
ثم بين- سبحانه- ما يهدف إليه هؤلاء الظالمون من وراء افترائهم الكذب على الدين الحق، فقال- تعالى-: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ.
والمراد بنور الله: دين الإسلام الذي ارتضاه- سبحانه- لعباده دينا، وبعث به رسوله ﷺ وقيل المراد به: حججه الدالة على وحدانيته- تعالى- وقيل المراد به: القرآن..
وهي معان متقاربة.
والمراد بإطفاء نور الله: محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه، وكتحريضهم لمن كان على شاكلتهم في الضلال على محاربته.
والمراد بأفواههم: أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له من الكلام.
والمعنى: يريد هؤلاء الكافرون بالحق، أن يقضوا على دين الإسلام، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها النبي ﷺ عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم، من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه، أو أصل تستند إليه، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة.
قال صاحب الكشاف: مثّل حالهم في طلبهم إبطال نبوة النبي ﷺ بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثق في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه «١».
والجملة الكريمة فيها ما فيها من التهكم والاستهزاء بهؤلاء الكافرين، حيث شبههم- سبحانه- في جهالاتهم وغفلتهم، بحال من يريد إطفاء نور الشمس الوهاج، بنفخة من فمه الذي لا يستطيع إطفاء ما هو دون ذلك بما لا يحصى من المرات.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٥.
361
وقوله- تعالى-: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بشارة للمؤمنين بأن ما هم عليه من حق، لا بد أن يعم الآفاق.
أى: والله- تعالى- بقدرته التي لا يعجزها شيء، متم نوره، ومظهر دينه ومؤيد نبيه ﷺ ولو كره الكافرون ذلك فإن كراهيتهم لظهور دين الله- تعالى- لا أثر لها ولا قيمة. فالآية الكريمة وعد من الله- تعالى- للمؤمنين، بإظهار دينهم، وإعلاء كلمتهم، لكي يزيدهم ذلك ثباتا على ثباتهم، وقوة على قوتهم.
ثم أكد- سبحانه- وعده بإتمام نوره، وبين كيفية هذا الإتمام فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ....
والمراد بالهدى: القرآن الكريم: المشتمل على الإرشادات السامية، والتوجيهات القويمة، والأخبار الصادقة، والتشريعات الحكيمة.
والمراد بدين الحق: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.
وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان، والسيادة والسلطان.
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.
والضمير في «ليظهره» يعود على الدين الحق، أو على الرسول ﷺ أى: هو الله- سبحانه- الذي أرسل رسوله محمدا ﷺ بالقرآن الهادي للتي هي أقوم. وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك، فإن كراهيتهم لا أثر لها في ظهوره، وفي إعلائه على جميع الأديان.
ولقد أنجز الله- تعالى- وعده، حيث جعل دين الإسلام، هو الدين الغالب على جميع الأديان، بحججه وبراهينه الدالة على أنه الدين الحق الذي لا يحوم حوله باطل.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك، ومنها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها» «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٩.
362
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، أرشدهم فيه إلى ما يسعدهم، وينجيهم من كل سوء، فقال- تعالى-:
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
وهذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها، كما سبق. أن ذكرنا في سبب قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
فكأنه- سبحانه- بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا، تخالفه أفعالهم، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى- عليهما السلام- وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان.
بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه- سبحانه- فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.
والتجارة في الأصل معناها: التصرف في رأس المال، وتقليبه في وجوه المعاملات المختلفة، طلبا للربح.
والمراد بها هنا: العقيدة السليمة، والأعمال الصالحة، التي فسرت بها بعد ذلك في قوله- تعالى- تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
والاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ أَدُلُّكُمْ للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن
363
أدلكم على تجارة رابحة، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها، من عذاب شديد الألم؟ إن كنتم تريدون ذلك، فهاكم الطريق إليها، وهي: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.
فقوله- سبحانه-: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ استئناف مفسر وموضح لقوله هَلْ أَدُلُّكُمْ؟ فكأن سائلا قال: وما هذه التجارة؟ دلنا عليها، فكان الجواب: تؤمنون بالله ورسوله.
أى: تداومون مداومة تامة على الإيمان بالله- تعالى- وبرسوله ﷺ وتجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم.
قالوا: وقوله تُؤْمِنُونَ خبر في معنى الأمر، ويدل عليه قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيله.
وفائدة العدول إلى الخبر: الإشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه، فكأنه- سبحانه- يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم.
وجاء التعبير بقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى من يهدى إليها، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله- تعالى-.
وتنكير لفظ التجارة، للتهويل والتعظيم، أى: هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن... ؟
وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان في أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم، والسعى من أجل الحصول على المنافع.
وقدم- سبحانه- هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس، لأن المقام مقام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد في سبيل الله، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال، وهذه الأموال هي عصب الجهاد، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التي لا غنى للمجاهدين عنها، وفي الحديث الشريف «من جهز غازيا فقد غزا».
وقدم- سبحانه- في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. «١» قدم الأنفس على الأموال، لأن الحديث هناك، كان في معرض الاستبدال والعرض والطلب، والأخذ والعطاء... فقدم- سبحانه- الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإنسان، وجعل في مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس.
(١) سورة التوبة الآية ١١١.
364
واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد. أى: ذلكم الذي أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد في سبيل الله، هو خير لكم من كل شيء إن كنتم من أهل العلم والفهم.
فقوله تَعْلَمُونَ منزل منزلة الفعل اللازم، للإشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم، ولا من أهل الإدراك.
وجعله بعضهم فعلا متعديا، ومفعوله محذوف، والتقدير: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه، ولا تتقاعسوا عن ذلك.
وقوله- سبحانه-: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر، أى:
إن تمتثلوا أمره- تعالى- يغفر لكم ذنوبكم.
ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر في قوله- تعالى- قبل ذلك تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ. لأنهما- كما قلنا- وإن جاءا بلفظ الخبر، إلا أنهما في معنى الأمر، أى: آمنوا وجاهدوا.
أى: آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم، يغفر لكم- سبحانه- ذنوبكم، بأن يزيلها عنكم، ويسترها عليكم.
وَيُدْخِلْكُمْ فضلا عن ذلك جَنَّاتٍ عاليات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى:
تجرى من تحت مساكنها وبساتينها الأنهار.
ويعطيكم مَساكِنَ طَيِّبَةً أى: قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع.
وخصت المساكن الطيبة بالذكر، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم، ومنهم من استشهد بعيدا عنها، وفيها أهله وماله... فوعدهم- سبحانه- بما هو خير منها.
وقوله فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أى: هذه المساكن الطيبة كائنة في جنات باقية خالدة، لا تزول ولا تنتهي، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة، يقال: عدن فلان بالمكان، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة.
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى: ذلك الذي منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم، ومن خلودكم في الجنة... هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز، ولا يدانيه ظفر.
وقوله- سبحانه-: وَأُخْرى تُحِبُّونَها بيان لنعمة أخرى يعطيهم- سبحانه- إياها، سوى ما تقدم من نعم عظمى.
365
ولفظ «أخرى» مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم، وقوله: تُحِبُّونَها صفة للمبتدأ.
أى: ولكم- فضلا عن كل ما تقدم- نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها.
وهذه النعمة هي: نَصْرٌ عظيم كائن مِنَ اللَّهِ- تعالى- لكم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أى: عاجل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أى: وبشر- أيها الرسول الكريم- المؤمنين بذلك، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا.
ويدخل في هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا: فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم. الراجعة إلى الإخبار بالغيب، حيث أخبر- سبحانه- بالنصر والفتح، فتم ذلك للنبي ﷺ ولأصحابه، في أكمل صورة، وأقرب زمن.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال:
[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
والحواريون: جمع حوارى. وهم أنصار عيسى- عليه السلام- الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه، وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق، وكانوا اثنى عشر رجلا.
يقال: فلان حوارى فلان، أى: هو من خاصة أصحابه، ومنه قول النبي ﷺ في الزبير بن العوام: «لكل نبي حوارى، وحواريي الزبير».
وأصل الحور: شدة البياض والصفاء، ومنه قولهم في خالص لباب الدقيق: الحوارى، وفي النساء البيض الحسان: الحواريات والحوريات.
366
وسمى الله- تعالى- أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص.
والأنصار: جمع نصير، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا.
والمراد بنصر الله- تعالى-: نصر دينه وشريعته ونبيه الذي أرسله بالهدى، ودين الحق.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: كونوا أنصارا لله.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصارا لدين الله في كل حال، كما كان الحواريون كذلك، عند ما دعاهم عيسى- عليه السلام- إلى نصرته والوقوف إلى جانبه.
فالكلام محمول على المعنى، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول ﷺ وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه، كما فعل الحواريون مع عيسى، حيث ثبتوا على دينهم، وصدقوا مع نبيهم، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه- وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
قلت التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح، والمراد كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم: من أنصارى إلى الله.
فإن قلت: فما معنى قوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة دين الله «١».
والاستفهام في قوله- تعالى-: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه.
وأضافهم- عليه السلام- إليه، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه.
وقوله: إِلَى اللَّهِ متعلق بأنصارى، ومعنى «إلى» الانتهاء المجازى.
أى: قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم: من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله- تعالى- في نصرة دينه، وفي التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته... ؟
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٢٨.
367
فأجابوه بقولهم: نحن أنصار دين الله- تعالى- ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته- عز وجل- ومن أجل إعلاء كلمته.
وقوله- تعالى-: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ مفرع على ما قبله، لبيان موقف قومه منه.
أى: قال الحواريون لعيسى عند ما دعاهم إلى اتباع الحق: نحن أنصار دين الله، ونحن الذين سنثبت على العهد.. أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين: فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله- تعالى-، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته.
وقوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بيان للنتائج التي تحققت لكل طائفة من الطائفتين: المؤمنين والكافرين.
وقوله: ظاهِرِينَ من الظهور بمعنى الغلبة، يقال: ظهر فلان على فلان، إذا تغلب عليه وقهره.
أى: كان من قوم عيسى من آمن به، ومنهم من كفر به، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به، على الذين كفروا به، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله- تعالى- ومشيئته.
والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنين في كل زمان ومكان، على الإيمان والعمل الصالح، لأن سنة الله- تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين، على أعدائهم الكافرين.
قال بعض العلماء: وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين: إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى- عليه السلام-، هم المسيحيون إطلاقا، من استقام، ومن دخلت في عقيدته الانحرافات، وقد أيدهم الله- تعالى- على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا، كما حدث في التاريخ.
وإما أن الذين آمنوا: هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى، والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد.
ومعنى: أنهم أصبحوا ظاهرين، أى: بالحجة والبرهان، أو أن التوحيد الذي هم عليه، هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير- أى: دين الإسلام- وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض. كما وقع في التاريخ.
368
هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب في هذا السياق «١».
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الصف» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة: مدينة نصر مساء الخميس ٧ من رمضان سنة ١٤٠٦ هـ الموافق ١٥/ ٥/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
(١) تفسير في ظلال القرآن ج ٢٨ ص ٨٩. [.....]
369
تفسير سورة الجمعة
371

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة «الجمعة» من السور المدنية الخالصة.
قال الآلوسى: هي مدنية، كما روى عن ابن عباس وابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وإليه ذهب الجمهور.
وقال ابن يسار: هي مكية، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد: والأول هو الصحيح. لما رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي ﷺ حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ... قال له رجل: يا رسول الله- من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع ﷺ يده على سلمان الفارسي، وقال:
«والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء... ».
ومن المعروف أن إسلام أبى هريرة كان بعد الهجرة بمدة بالاتفاق.. «١».
٢- وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة «التحريم»، وقبل سورة «التغابن».
وقد كان النبي ﷺ كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة «الجمعة والمنافقون».
وأخرج ابن حيان والبيهقي عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله ﷺ يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بسورة «الكافرون» وبسورة «قل هو الله أحد... »، وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة، بسورة «الجمعة»، وبسورة «المنافقون»..
وسميت بهذا الاسم لحديثها عن يوم الجمعة، وعن وجوب السعى إلى صلاتها.
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٩٢.
373
٣- وقد اشتملت السورة الكريمة، على الثناء على الله- عز وجل-، وعلى مظاهر نعمه على عباده، حيث أرسل فيهم رسولا كريما، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة..
كما اشتملت على توبيخ اليهود وذمهم، لعدم عملهم بالكتاب الذي أنزله- سبحانه- لهدايتهم وإصلاح حالهم..
كما اشتملت على دعوة المؤمنين، إلى المحافظة على صلاة الجمعة، وعلى المبادرة إليها دون أن يشغلهم عنها شاغل.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من المحافظين على فرائضه وتكاليفه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة ٥ من شوال ١٤٠٦ هـ ١١/ ٦/ ١٩٨٦ م د. محمد سيد طنطاوى
374
Icon