بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الانشقاقمقدمة وتمهيد
١- سورة " الانشقاق " وتسمى سورة " إذا السماء انشقت " من السور المكية، وكان نزولها بعد سورة " الانفطار "، وقبل سورة " الروم " وعدد آياتها خمس وعشرون آية في المصحف المكي والكوفي. وفي المصحف الشامي والبصري ثلاث وعشرون آية.
والسورة الكريمة ابتدأت بوصف أشراط الساعة. ثم فصلت الحديث عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة، وخلال ذلك حرضت المؤمنين على أن يزدادوا من الإيمان والعمل الصالح، وحذرت الكافرين من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم وفسوقهم.
ﰡ
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ٢٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
وقوله: انْشَقَّتْ من الانشقاق بمعنى الانفطار والتصدع، بحيث تتغير هيئتها، ويختل نظامها، كما قال- تعالى-: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ
«١».
وانشقاق السماء قد ورد في آيات متعددة منها قوله- تعالى-: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ.
وقوله- سبحانه-: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ.
ومعنى «أذنت» : استمعت. يقال: أذن له، بمعنى استمع له بإصغاء تام- وبابه طرب- وفي الحديث الصحيح: «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن»، وقال الشاعر:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به | وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا |
وجواب الشرط «إذا» وما عطف عليه محذوف، والتقدير: إذا السماء تصدعت واختل نظامها، واستمعت لأمر ربها استماعا تاما، وانقادت لحكمه انقياد العبد لسيده، وجعلت حقيقة وجديرة بالانقياد والاستماع والطاعة في جميع الأحوال.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أى: بسطت وتساوت بحيث صارت في مستوى واحد، بدون ارتفاع في جانب أو انخفاض في آخر، كما قال- تعالى-: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً.
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أى: وطرحت ما بداخلها من أجساد ومن كنوز، ومن غيرهما، وخلت من ذلك خلوا تاما.
وقوله وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ تأكيد لقدرته- تعالى- ونفاذ أمره. أى: واستمعت الأرض كما استمعت السماء لأمر ربها، وحق لها أن تستمع وأن تنقاد لحكمه- تعالى- لأنها خاضعة خضوعا تاما، لقضائه وأمره.
إذا حدث كل ذلك.. قامت الساعة، ووجد كل إنسان جزاءه عند ربه- سبحانه-.
قال صاحب الكشاف: حذف جواب «إذا» ليذهب المقدر كل مذهب. أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار. وقيل: جوابها ما دل عليه قوله: فَمُلاقِيهِ أى: إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه.
«وحقت» هو من قولك: هو محقوق بكذا وحقيق به، يعنى: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع.. «١».
وقال الجمل في حاشيته: وقوله وَحُقَّتْ الفاعل في الأصل هو الله- تعالى- أى:
حقّ وأوجب الله عليها سمعه وطاعته.. فعلم من ذلك أن الفاعل محذوف، وأن المفعول هو سمعها وطاعتها له- تعالى- «٢».
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء للإنسان، دعاه فيه إلى طاعته وإخلاص العبادة له، فقال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ والمراد بالإنسان هنا: جنسه.
وأصل الكدح في كلام العرب: السعى في سبيل الحصول على الشيء بجد واجتهاد وعناء.
مأخوذ من كدح فلان جلده، إذا خدشه، ومنه قول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما... أموت، وأخرى أبتغى العيش أكدح
وقول الآخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح... وبقيت أكدح للحياة وأنصب
أى: وبقيت أسعى سعيا حثيثا للحياة، وأتعب من أجل الحصول على مطالبي فيها.
والضمير في قوله: فَمُلاقِيهِ يعود إلى الله- تعالى-، ويصح أن يعود للكدح، بمعنى ملاق جزاء هذا الكدح.
والمعنى: يا أيها الإنسان إنك باذل في حياتك جهدا كبيرا من أجل مطالب نفسك.
وإنك بعد هذا الكدح والعناء... مصيرك في النهاية إلى لقاء ربك، حيث يحاسبك على عملك وكدحك.. فقدم في دنياك الكدح المشروع، والعمل الصالح.
والسعى الحثيث في طاعته- تعالى-، لكي تنال ثواب ربك ورضاه.
قال ابن كثير: وقوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أى: ساع إلى ربك سعيا، وعامل عملا فَمُلاقِيهِ ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٠٨.
«قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه».
ومن الناس من يعيد الضمير على قوله رَبِّكَ أى: فملاق ربك فيجازيك بعملك، ويكافئك على سعيك، وعلى هذا فكلا القولين متلازم. «١».
ثم فصل- سبحانه- بعد ذلك عاقبة هذا الكدح، والسعى المتواصل..
فقال- تعالى-: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً.
والمراد بالكتاب هنا: صحيفة العمل التي سجلت فيها حسنات الإنسان وسيئاته.
والمراد بالحساب اليسير: عرض الأعمال، مع التجاوز عن الهفوات، بفضل الله- تعالى-: أى: الناس جميعا يكدحون في هذه الحياة، ثم يعودون إلى خالقهم للحساب والجزاء، فأما من أعطى كتابه بيمينه، وهم المؤمنون الصادقون، فسوف يحاسب من ربه- تعالى- حسابا يسيرا سهلا، بأن تعرض أعماله على خالقه- تعالى- ثم يكون التجاوز عن المعاصي والثواب على الطاعة، بدون مناقشة أو مطالبة بعذر أو حجة.
ثم ينقلب هذا الإنسان بعد ذلك إلى أهله وعشيرته، مبتهجا مسرورا، بسبب فضل الله- تعالى- عليه، ورحمته به.
وعبر- سبحانه- عن فوز هذا الإنسان، بأنه يؤتى كتابه بيمينه، للإشعار بأنه من أهل السعادة والتقوى، فقد جرت العادة أن اليد اليمنى إنما تتناول بها الأشياء الزكية الحسنة.
والباء في قوله بِيَمِينِهِ للملابسة أو المصاحبة، أو بمعنى في.
قال الآلوسى: والحساب اليسير: هو السهل الذي لا مناقشة فيه. وفسره ﷺ بالعرض وبالنظر في الكتاب، مع التجاوز، أخرج الشيخان عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «ليس أحد يحاسب إلا هلك». قلت يا رسول الله، جعلني الله فداك، أليس الله- تعالى- يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، قال:
ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك».
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة- أيضا- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف قلت له: يا رسول الله،
ثم بين- سبحانه- حال الأشقياء، بعد بيانه لحال السعداء فقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً. أى: وأما من أعطى صحيفة أعماله- لسوادها وقبح أعمالها- بشماله من وراء ظهره وهو الكافر- والعياذ بالله- قيل تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، على سبيل الإهانة والإذلال له.
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أى: فسوف يطلب الهلاك، بأن ينادى عليه بحسرة وندامة ويقول: أيها الموت أقبل فهذا أوانك، لتنقذنى مما أنا فيه من سوء.
وفي طلبه للهلاك، وتفضيله على ما هو فيه، دليل على أن هذا الشقي- والعياذ بالله- قد وصل به الحال السيئ إلى أقصى مداه، حتى لقد أصبح الهلاك نهاية أمانيه، كما قال الشاعر:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
يا ثبوراه أقبل فهذا أوان إقبالك.
وقوله- تعالى- وَيَصْلى سَعِيراً بيان للعذاب الذي يحل به. أى: ويدخل النار الشديدة الاشتعال فيتقلب فيها، ويقاسى حرها.
وقوله- سبحانه- إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تعليل لما أصابه من سوء. أى: إن هذا الشقي كان في الدنيا فرحا بطرا بين أهله، لا يفكر في عاقبة، ولا يعمل حسابا لغير ملذاته وشهواته. وإنه فوق ذلك ظَنَّ أى: أيقن أنه لن يرجع إلى ربه يوم القيامة، ليحاسبه على أعماله، ويجازيه بما يستحقه من جزاء.
قال القرطبي: قوله إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أى: لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب. ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار فلان يحور إذا رجع، ومنه قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه | يحور رمادا بعد إذ هو ساطع |
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٢٧٣.
أى: ليس الأمر كما زعم من أنه لن يبعث ولن يرجع إلى ربه... بل الحق الذي لا يشوبه باطل، أن هذا الشقي سيرجع إلى ربه يوم البعث والنشور، ليجازيه على أعماله، لأنه- سبحانه- كان- وما زال- عليما بأحوال هذا الشقي وغيره، إذ لا يخفى عليه- سبحانه- شيء في الأرض ولا في السماء.
فالمراد بالبصر هنا: العلم التام بأحوال الخلق.
ثم أقسم- سبحانه- ببعض مخلوقاته، على أن مشيئته نافذة، وقضاءه لا يرد، وحكمه لا يتخلف. فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ.
والفاء في قوله فَلا أُقْسِمُ واقعة في جواب شرط مقدر، وهي التي يعبر عنها بالفصيحة، و «لا» مزيدة لتأكيد القسم، وجوابه «لتركبن».
والشفق: الحمرة التي تظهر في الأفق الغربي بعد غروب الشمس، وهو ضياء من شعاعها، وسمى شفقا لرقته، ومنه الشفقة لرقة القلب.
والوسق: جمع الأشياء، وضم بعضها إلى بعض. يقال: وسق الشيء يسقه- كضرب- إذا جمعه فاجتمع، ومنه قولهم: إبل مستوسقة، أى: مجتمعة، وأمر متسق. أى: مجتمع على ما يسر صاحبه ويرضيه.
واتساق القمر: اجتماع ضيائه ونوره، وهو افتعال من الوسق. وهو الجمع والضم، وذلك يكون في الليلة الرابعة عشرة من الشهر.
أى: أقسم بالحمرة التي تظهر في الأفق الغربي، بعد غروب الشمس، وبالليل وما يضمه تحت جناحه من مخلوقات وعجائب لا يعلمها إلا الله- تعالى- وبالقمر إذا ما اجتمع نوره، واكتمل ضياؤه، وصار بدرا متلألئا.
وفي القسم بهذه الأشياء، دليل واضح على قدرة الله- تعالى- الباهرة، لأن هذه الأشياء تتغير من حال إلى حال، ومن هيئة إلى هيئة.. فالشفق حالة تأتى في أعقاب غروب الشمس، والليل يأتى بعد النهار، والقمر يكتمل بعد نقصان... وكل هذه الحالات الطارئة، دلائل على قدرة الله- تعالى-.
وقوله- سبحانه- لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ جواب القسم- كما سبق أن أشرنا-.
أى: وحق الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق.. لتلاقن- أيها الناس- أحوالا بعد أحوال، هي طبقات ومراتب في الشدة، بعضها أصعب من بعض، وهي الموت، وما يكون بعده من حساب وجزاء يوم القيامة.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا، باعتبار شموله لأفراده، والمراد بالركوب: الملاقاة، والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا. وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها.. و «عن» للمجاوزة، أو بمعنى «بعد». والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة أو حالا من فاعل لتركبن، والظاهر أن «طبقا» منصوب على المفعولية. أى: لتلاقن حالا كائنة بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول.. منها ما هو في الدنيا، ومنها ما هو في الآخرة.
وقرأ الأخوان- حمزة والكسائي- وابن كثير لَتَرْكَبُنَّ- بفتح الباء- على أنه خطاب للإنسان- أيضا-، لكن باعتبار اللفظ، لا باعتبار الشمول.
وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أى: لتركبن- أيها الرسول الكريم- أحوالا شريفة بعد أخرى من مراتب القرب. أو مراتب من الشدة بعد مراتب من الشدة، ثم تكون العاقبة لك.. «١».
والفاء في قوله- تعالى- بعد ذلك: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ. لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها، و «ما» للاستفهام الإنكارى. أى: إذا كان الأمر كما وضحنا لك- أيها الرسول الكريم- من أن البعث حق، ومن أن المستحق للعبادة هو الله- تعالى- وحده.. فأى شيء يمنع هؤلاء الكافرين من الإيمان، مع أن كل الدلائل والبراهين تدعوهم إلى الإيمان.
وأى: مانع منعهم من السجود والخضوع لله- تعالى- عند ما يقرأ عليهم القرآن الكريم، الذي أنزلناه عليك لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فالمقصود من الآيتين الكريمتين تعجيب الناس من حال هؤلاء الكافرين الذين قامت أمامهم
قال الآلوسى: وقد صح عنه ﷺ أنه سجد عند قراءة هذه الآية، فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي.. عن أبى هريرة قال: سجدنا مع رسول الله ﷺ في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وفي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.. وهي سنة عند الشافعى، وواجبة عند أبى حنيفة.. «١».
أما الإمام مالك فالرواية الراجحة في مذهبه، أن هذه الآية ليست من آيات سجود التلاوة.
وقوله- سبحانه-: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ إضراب انتقالي، من التعجيب من عدم إيمانهم مع ظهور كل الأدلة على وجوب الإيمان، إلى الإخبار عنهم بأنهم مستمرون على كفرهم، أى: ليس هناك أى مانع يمنع الكافرين من الإيمان، بعد أن قامت جميع الشواهد على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل الحق أن هؤلاء الكافرين إنما استمروا على كفرهم بسبب عنادهم وحسدهم للرسول ﷺ على ما آتاه الله- تعالى- من فضله، وتكذيبهم للحق عنادا وجحودا.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ كلام معترض بين سابقه ولا حقه، والمقصود به التهديد والوعيد.
ومعنى «يوعون» يضمرون ويخفون ويسرون، وأصل الإيعاء حفظ الأمتعة في الوعاء، يقال: أوعى فلان الزاد والمتاع، إذا جعله في الوعاء، والمراد به هنا: الإضمار والإخفاء، كما في قول الشاعر: والشر أخبث ما أوعيت من زاد.
أى: والله- تعالى- أعلم من كل أحد، بما يضمره هؤلاء الكافرون، وبما يخفونه في صدورهم من تكذيب للحق، ومن جحود للقرآن الكريم، ومن معاداة للمؤمنين.
وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تفريع على قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ.
والتبشير: الإخبار بما يسر، والمراد به هنا التهكم بهم، بدليل توعدهم بالعذاب الأليم.
أى: فبشر- أيها الرسول الكريم- هؤلاء الكافرين المكذبين للحق، بالعذاب الأليم.
والاستثناء في قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
إذا قطع يقال: مننت الحبل إذا قطعته، أو لهم أجر خالص من شوائب الامتنان، وهو أن يعطى الإنسان غيره عطاء، ثم يتباهى عليه به.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة البروجمقدمة وتمهيد
١- سورة «البروج» من السور المكية الخالصة، وتسمى سورة «السماء ذات البروج» فقد أخرج الإمام أحمد عن أبى هريرة، أن رسول الله ﷺ كان يقرأ في العشاء الآخرة، بالسماء ذات البروج.
وعدد آياتها: اثنتان وعشرون آية. وكان نزولها بعد سورة «والشمس وضحاها» وقبل سورة «والتين والزيتون».
٢- والسورة الكريمة من أهم مقاصدها: تثبيت المؤمنين، وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم، عن طريق ذكر جانب مما تحمله المجاهدون من قبلهم، فكأن الله- تعالى- يقول للنبي ﷺ ولأصحابه: اصبروا كما صبر المؤمنون السابقون، واثبتوا كما ثبتوا، فإن العاقبة ستكون لكم.
كما أن السورة الكريمة ساقت الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، ونفاذ أمره.