بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة عبسمقدمة وتمهيد
١- سورة " عبس " من السور المكية، وتسمى سورة " الصاخة " وسورة " السفرة " لوقوع هذه الألفاظ فيها.
٢- وعدد آياتها : اثنتان وأربعون آية في المصحف الكوفي، وإحدى وأربعون في البصري، وأربعون في الشامي.. وكان نزولها بعد سورة " النجم " وقبل سورة " القدر ". فهي تعتبر السورة الثالثة والعشرون في ترتيب النزول، أما في ترتيب المصحف فهي السورة الثمانون.
وقد افتتحت بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه نحو ضعفاء المسلمين، وبإرساء القاعدة التي يجب على المسلمين أن يتبعوها عند معاملتهم للناس، والثناء على المؤمنين الصادقين مهما كان عجزهم وضعفهم والتحذير من إهمال شأنهم.
ثم تذكير المؤمنين بجانب من نعمه –تعالى- عليهم، لكي يزدادوا شكرا له –تعالى- على شكرهم، ثم تذكيرهم أيضا بأهوال يوم القيامة، وبأحوال الناس فيه.
ﰡ
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات ملخصها: أن النبي ﷺ كان جالسا في أحد الأيام، مع جماعة من زعماء قريش يدعوهم إلى الإسلام، ويشرح لهم تعاليمه، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم- وكان كفيف البصر- فقال: أقرئنى وعلمني مما علمك الله، يا رسول الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم أن الرسول ﷺ مشغول بدعوة هؤلاء الزعماء إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بسبب إسلامهم خلق كثير...
فلما أكثر عبد الله من طلبه، أعرض عنه الرسول ﷺ فنزلت هذه الآيات التي عاتب الله- تعالى- فيها نبيه ﷺ على هذا الإعراض... فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك يكرمه، إذا رآه، ويقول له: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويبسط له رداءه... «١».
قال الآلوسى: وعبد الله بن أم مكتوم، هو ابن خال السيدة خديجة، واسمه عمرو بن قيس. وأم مكتوم كنية أمه، واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية، واستخلفه صلى الله عليه وسلم
ولفظ «عبس» - من باب ضرب- مأخوذ من العبوس، وهو تقطيب الوجه، وتغير هيئته مما يدل على الغضب.
وقوله وَتَوَلَّى مأخوذ من التولي وأصله تحول الإنسان عن مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر. والمراد به هنا الإعراض عن السائل وعدم الإقبال عليه.
وحذف متعلق التولي، لمعرفة ذلك من سياق الآيات، إذ من المعروف أن إعراضه ﷺ كان عن عبد الله ابن أم مكتوم الذي قاطعه خلال حديثه مع بعض زعماء قريش.
وأل في قوله- تعالى-: الْأَعْمى للعهد. والمقصود بهذا الوصف: التعريف وليس التنقيص من قدر عبد الله بن أم مكتوم- رضى الله عنه- وكذلك في هذا الوصف إيماء إلى أن له عذرا في مقاطعة الرسول ﷺ عند حديثه مع زعماء قريش، فهو لم يكن يراه وهو يحادثهم ويدعوهم إلى الإسلام.
وجاء الحديث عن هذه القصة بصيغة الحكاية، وبضمير الغيبة، للإشعار بأن هذه القصة، من الأمور التي لا يحب الله- تعالى- أن يواجه بها نبيه ﷺ على سبيل التكريم له، والعطف عليه، والرحمة به.
وجملة وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى في موضع الحال، وفيها التفات من الغيبة إلى الخطاب، و «ما» استفهامية مبتدأ، وجملة «يدريك» خبره. والكاف مفعول أول، وجملة الترجي سادة مسد المفعول الثاني. والضمير في لَعَلَّهُ يعود إلى عبد الله ابن أم مكتوم المعبر عنه بالأعمى.
والمعنى: عبس ﷺ وضاق صدره، وأعرض بوجهه، لأن جاءه الرجل الأعمى، وجعل يخاطبه وهو مشغول بالحديث مع غيره.
وَما يُدْرِيكَ أى: وأى شيء يجعلك- أيها الرسول الكريم- داريا بحال هذا الأعمى الذي عبست في وجهه لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أى: لعله بسبب ما يتعلمه منك يتطهر ويتزكى، ويزداد نقاء وخشوعا لله رب العالمين أَوْ لعله يَذَّكَّرُ أى: يتذكر ما كان في غفلة عنه فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أى: فتنفعه الموعظة التي سمعها منك.
ثم فصل- سبحانه- ما كان منه ﷺ بالنسبة لهذه القصة فقال: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. أى: أما من استغنى عن الإيمان، وعن إرشادك- أيها الرسول الكريم- واعتبر نفسه في غنى عن هديك... فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أى: فأنت تتعرض له بالقبول، وبالإصغاء لكلامه، رجاء أن يسلم، فيسلم بعده غيره.
يقال: تصدّى فلان لكذا، إذا تعرّض له، وأصله تصدّد من الصّدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك...
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أى: وأى شيء عليك في أن يبقى على كفره، بدون تطهر؟ إنه لا حرج عليك في ذلك، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب وإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.....
و «ما» نافية و «عليك» خبر مقدم، وقوله: أَلَّا يَزَّكَّى مبتدأ مؤخر.
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أى: من جاءك مسرعا في طلب الخير والهداية والعلم، وهو هذا الأعمى، الذي لم يمنعه فقدانه لبصره من الحرص على التفقه في الدين.
وَهُوَ يَخْشى أى: وهو يخشى الله، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه.
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أى: فأنت عنه تتشاغل، وتفرغ جهدك مع هؤلاء الزعماء، طمعا في إيمانهم.
ويلاحظ أن هذه الآيات الكريمة، أكثر حدة في العتاب من سابقتها، حيث ساق- سبحانه- هذه الآيات في صورة أشبه ما تكون بالتعجيب ممن يفعل ذلك...
ثم ساق- سبحانه- ما هو أشد في العتاب وفي التحذير فقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ.
أى: كلا- أيها الرسول الكريم- ليس الأمر كما فعلت، من إقبالك على زعماء قريش طمعا في إسلامهم، ومن تشاغلك وإعراضك عمن جاء يسعى وهو يخشى...
الضمير في قوله إِنَّها يعود إلى آيات القرآن الكريم، أى: إن آيات القرآن الكريم
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أى: فمن شاء أن يتعظ ويعتبر وينتفع بهذا التذكير فاز وربح، ومن شاء غير ذلك خسر وضاع، فالجملة الكريمة لتهديد الذين يعرضون عن الموعظة، وليست للتخبير كما يتبادر من فعل المشيئة.
وهي معترضة للترغيب في حفظ هذه الآيات، وفي العمل بما اشتملت عليه من هدايات.
وجاء الضمير مذكرا في قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ لأن التذكرة هنا بمعنى التذكير والاتعاظ.
أى: فمن شاء التذكير والاعتبار، تذكر واعتبر وحفظ ذلك دون أن ينساه...
وقوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ خبر ثان لقوله إِنَّها تَذْكِرَةٌ وما بينهما اعتراض...
أى: إن آيات القرآن تذكرة، مثبتة أو كائنة في صحف عظيمة مُكَرَّمَةٍ عند الله تعالى- لأنها تحمل آياته.
هذه الصحف- أيضا- مَرْفُوعَةٍ أى: ذات منزلة رفيعة مُطَهَّرَةٍ أى: منزهة عن أن يمسها ما يدنسها.
وهي كائنة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ وهم الملائكة الذين جعلهم الله- تعالى- سفراء بينه وبين رسله: جمع سافر بمعنى سفير. أى: رسول وواسطة، أو هم الملائكة الذين ينسخون ويكتبون هذه الآيات بأمره- تعالى- جمع سافر بمعنى كاتب، يقال: سفر فلان يسفره، إذا كتبه.
كِرامٍ بَرَرَةٍ أى: هذه الآيات بأيدى سفرة من صفاتهم أنهم مكرمون ومعظمون عنده- تعالى-، وأنهم أتقياء مطيعون لله- تعالى- كل الطاعة، جمع برّ، وهو من كان كثير الطاعة والخشوع لله- عز وجل-...
هذا والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها قد اشتملت على كثير من الآداب والأحكام، ومن ذلك: أن شريعة الله- تعالى- تجعل التفاضل بين الناس، أساسه الإيمان والتقوى، فمع أن عبد الله ابن أم مكتوم، كان قد قاطع الرسول ﷺ خلال حديثه مع بعض زعماء قريش.... ومع أن الرسول ﷺ لم يتشاغل عنه إلا لحرصه على جذب هؤلاء الزعماء إلى الإسلام.
مع كل ذلك، وجدنا الآيات الكريمة، تعاتب النبي ﷺ عتابا تارة فيه رقة. وتارة فيه شدة. وذلك لأن الميزان الذي أنزله الله- تعالى- للناس مع الرسل، لكي يبنوا عليه
ولقد استجاب الرسول الكريم لهذا التوجيه الحكيم، فبنى حياته كلها بعد ذلك على هذا الميزان العادل، ومن مظاهر ذلك: إكرامه لابن أم مكتوم، وقوله له كلما رآه: «أهلا بمن عاتبني فيه ربي».
وفعل ﷺ ما يشبه ذلك، مع جميع المؤمنين الصادقين الذين كانوا من فقراء المسلمين، ولم يكونوا أصحاب جاه أو نفوذ أو عشيرة قوية.
لقد جعل زيد بن حارثة- وهو الغريب عن مكة والمدينة- أميرا على الجيش الإسلامى في غزوة مؤتة، وكان في هذا الجيش عدد كبير من كبار الصحابة.
وقال ﷺ في شأن سلمان الفارسي: «سلمان منا أهل البيت».
وقال ﷺ في شأن عمار بن ياسر، عند ما استأذن عليه في الدخول: «ائذنوا له.
مرحبا بالطيب المطيب».
وكان من مظاهر تكريمه لعبد الله بن مسعود، أن جعله كأنه واحد من أهل بيته.
فعن أبى موسى الأشعرى قال: قدمت أنا وأخى من اليمن، فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله ﷺ من كثرة دخولهم على رسول الله، ولزومهم له...
وقال ﷺ لأبى بكر الصديق عند ما حدث كلام بينه وبين سلمان وصهيب وبلال في شأن أبى سفيان: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه... أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟.
فأتى النبي ﷺ فأخبره فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك» فأتاهم فقال: يا إخوتاه أأغضبتكم؟ قالوا: لا. ويغفر الله لك يا أخى... «١».
ولقد سار خلفاؤه ﷺ على هذه السنة، فكانوا يكرمون الفقراء، فأبو بكر- رضى الله عنه- أذن لصهيب وبلال في الدخول عليه، قبل أن يأذن لأبى سفيان وسهيل بن عمرو...
قال صاحب الكشاف عند تفسيره، لهذه الآيات: ولقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا، فقد روى عن سفيان الثوري- رحمه الله-، أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء... «١».
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك، إلى الحديث عن جانب من نعم الله- تعالى- على خلقه، وموقفهم من هذه النعم، فقال- تعالى-:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٣٢]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل: وأى سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أن أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وفيما بين الوقتين حمال عذرة.
فلا عجب أن ذكر الله- تعالى- ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم، فإن خلقة الإنسان يستدل بها على وجود الصانع، وعلى القول بالبعث والحشر والنشر... «٢».
والمراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر الجاحد لنعم ربه. ومعنى «قتل» : لعن وطرد من
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٣٣٤.
أى: لعن وطرد من رحمة الله- تعالى- ذلك الإنسان الذي ما أشد كفره وجحوده لنعم الله- تعالى-.
والدعاء عليه باللعن من الله- تعالى-، المقصود به: التهديد والتحقير من شأن هذا الإنسان الجاحد، إذ من المعلوم أن الله- سبحانه- هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء، وليس هو- سبحانه- الذي يدعو على غيره، إذ الدعاء في العادة إنما يكون من العاجز، وجل شأن الله- تعالى- عن العجز.
وجملة «ما أكفره» تعليل لاستحقاق هذا الإنسان الجاحد التحقير والتهديد.
وهذه الآية الكريمة المتأمل فيها يراها- مع بلوغها نهاية الإيجاز- قد بلغت- أيضا- نهاية الإعجاز في أسلوبها، حيث جمعت أشد ألوان الذم والتحقير بأبلغ أسلوب وأوجزه.
ولذا قال صاحب الكشاف: قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها ما أَكْفَرَهُ تعجيب من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن متنا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة، على قصر متنه... «١».
ثم فصل- سبحانه- جانبا من نعمه، التي تستحق من هذا الإنسان الشكر لا الكفر فقال: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أى: من أى شيء خلق الله- تعالى- هذا الإنسان الكافر الجحود، حتى يتكبر ويتعظم عن طاعته، وعن الإقرار بتوحيده، وعن الاعتراف بأن هناك بعثا وحسابا وجزاء... ؟.
ثم وضح- سبحانه- كيفية خلق الإنسان فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أى: خلق الله- تعالى- الإنسان من نطفة، أى: من ماء قليل يخرج من الرجل إلى رحم المرأة- فَقَدَّرَهُ أى: فأوجد الله- تعالى- الإنسان بعد ذلك إيجادا متقنا محكما، حيث صير بقدرته النطفة علقة فمضغة... ثم أنشأه خلقا آخر فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أى: ثم بعد أن خلقه في أحسن تقويم، ومنحه العقل الذي يتمكن معه من التفكير السليم. يسر- سبحانه- له طريق النظر القويم، الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال.
وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أى:
بيناه له ووضحناه وسهلنا عليه علمه... وهذا هو الأرجح... «١».
وجاء العطف «بثم» هنا، للإشعار بالتراخى الرتبى، لأن تيسير معرفة طريق الخير والشر، أعجب وأدل على قدرة الله- تعالى- وبديع صنعه من أى شيء آخر.
ولفظ «السبيل» منصوب على الاشتغال بفعل مقدر، أى: ثم يسر السبيل يسره، فالضمير في يسره يعود إلى السبيل. أى: سهل- سبحانه- الطريق للإنسان.
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أى: ثم أمات- سبحانه- هذا الإنسان، بأن سلبه الحياة فَأَقْبَرَهُ. أى: فجعله ذا قبر يوارى فيه جسده تكريما له، ولم يتركه مطروحا على وجه الأرض، بحيث يستقذره الناس، ويكون عرضة لاعتداء الطيور والحيوانات عليه.
يقال: قبر فلان الميت يقبره- بكسر الباء وضمها-، إذا دفنه بيده فهو قابر. ويقال:
أقبره، إذا أمر بدفنه، أو مكن غيره من دفنه.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن مواراة الأجساد في القبور من سنن الإسلام، أما تركها بدون دفن، أو حرقها... فيتنافى مع تكريم هذه الأجساد.
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أى: ثم بعد أن خلق الله هذا الخلق البديع، وهداه النجدين، وأمر بستر جسده في القبر بعد موته... بعد كل ذلك إذا شاء أحياه بعد الموت، للحساب والجزاء. يقال: أنشر الله- تعالى- الموتى ونشرهم، إذا بعثهم من قبورهم.
وقال- سبحانه- إِذا شاءَ للإشعار بأن هذا البعث إنما هو بإرادته ومشيئته، وفي الوقت الذي يختاره ويريده، مهما تعجله المتعجلون.
ثم زجر- سبحانه- هذا الإنسان زجرا شديدا لتقصيره في أداء حق خالقه، فقال- تعالى-: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أى: كلا إن هذا الإنسان الجاحد المغرور... لم يقض ولم يؤد ما أمره الله- تعالى- به من تكاليف ومن شكر لخالقه، ومن تأمل في آياته، ومن طاعة لرسله... بل استمر في طغيانه وعناده.
فالمقصود بهذه الآية الكريمة: ردع هذا الإنسان الجاحد وزجره، وبيان أن هذا الردع سببه
ثم ساقت الآيات بعد ذلك ألوانا من نعمه- تعالى- على خلقه فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ والفاء هنا للتفريع على ما تقدم، مع إفادتها معنى الفصيحة.
أى: إذا أراد أن يقضى ويؤدى ما أمره الله- تعالى- من تكاليف، فلينظر هذا الإنسان إلى طعامه، وكيف أوجده- سبحانه- له، ورزقه إياه، ومكنه منه... فإن في هذا النظر والتدبر والتفكر، ما يعينه على طاعة خالقه، وإخلاص العبادة له.
ثم بين- سبحانه- مظاهر تهيئة هذا الطعام للإنسان... فقال: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا.
قال الجمل: قرأ الكوفيون أَنَّا بالفتح. على البدل من طعامه، فيكون في محل جر بدل اشتمال، بمعنى أن صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه.
وقرأ غيرهم بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام... «١».
والصب: إنزال الماء بقوة وكثرة. أى: إنا أنزلنا المطر من السماء إنزالا مصحوبا بالقوة والكثرة، لحاجتكم الشديدة إليه في حياتكم.
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أى: ثم شققنا الأرض بالنبات شقا بديعا حكيما، بحيث تخرج النباتات من باطنها خروجا يبهج النفوس، وتقر به العيون.
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا أى: فأنبتنا في الأرض حبا كثيرا، تقتاتون منه، وتدخرونه لحين حاجتكم إليه، والحب: يشمل الحنطة والشعير والذرة.
وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا أى: وأنبتنا في الأرض- أيضا- بقدرتنا ورحمتنا عِنَباً وهو ثمر الكرم المعروف بلذة طعمه.
وَقَضْباً وهو كل ما يؤكل من النبات رطبا، كالقثاء والخيار ونحوهما، وقيل: هو العلف الرطب الذي تأكله الدواب، وسمى قضبا، لأنه يقضب- أى يقطع- بعد ظهوره مرة بعد أخرى.
وأنبتنا فيها كذلك زَيْتُوناً وَنَخْلًا وهما شجرتان معروفتان بمنافعهما الجمة، وبثمارهما المفيدة.
وَحَدائِقَ غُلْباً والحدائق جمع حديقة وهي البستان المليء بالزروع والثمار.
وغُلْباً جمع غلباء. أى: وأنبتنا في الأرض حدائق عظيمة، ذات أشجار ضخمة، قد
وأنبتنا فيها- أيضا- بقدرتنا وفضلنا فاكِهَةً وَأَبًّا... والفاكهة: اسم للثمار التي يتناولها الإنسان على سبيل التفكه والتلذذ، مثل الرطب والعنب والتفاح.
والأب: اسم للكلأ الذي ترعاه الأنعام، مأخوذ من أبّ فلان الشيء، إذا قصده واتجه نحوه، لحاجته إليه... والكلأ والعشب يتجه إليه الإنسان بدوابه للرعي.
قال صاحب الكشاف: والأب: المرعى، لأنه يؤب، أى: يؤم وينتجع.... وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أنه سئل عن الأب فقال: أى سماء تظلني، وأى أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله مالا علم لي به...
وعن عمر- رضى الله عنه- أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية، أن الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم، من النهوض بالشكر لله- تعالى- على ما تبين لك أو لم يشكل، مما عدد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب، ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية، إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت... «١».
وقال بعض العلماء: والذي يتبين لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول لفظ الأب، وهما من خلص العرب لأحد سببين:
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسى من استعمالهم، فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة، فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج. فقد قال أنس بن مالك: ما كنا نقول إلا المدية، حتى سمعت قول
وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة، منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبى بكر وعمر عن بيان معناه، لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله مَتاعاً لَكُمْ أو إلى قوله وَلِأَنْعامِكُمْ «١».
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، أى:
أنبت لكم تلك الزروع والثمار | لتكون موضع انتفاع لكم ولأنعامكم إلى حين من الزمان. |
أو قوله مَتاعاً لَكُمْ حال من الألفاظ السابقة: العنب والقضب والزيتون والنخل.
أى: حالة كون هذه المذكورات موضع انتفاع لكم ولأنعامكم.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن أحوال الناس في يوم القيامة.
فقال- تعالى-:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
والفاء في قوله- سبحانه- فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النعم. وجواب فَإِذا محذوف يدل عليه قوله- تعالى- بعد ذلك:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، ويصح أن يكون جوابه قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ.
والصاخة: الصيحة الشديدة التي تصخّ الآذان، أى تزلزلها لشدة صوتها، وأصل الصخ:
الصك الشديد، والمراد بها هنا: النفخة الثانية التي بعدها يبعث الناس من قبورهم...
وقوله- سبحانه-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ بدل مما قبله وهو قوله فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ والفرار: الهروب من أجل التخلص من شيء مخيف.
والمعنى: يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب والجزاء يكونون في كرب عظيم، يجعل الواحد منهم، يهرب من أخيه الذي هو من ألصق الناس به، ويهرب كذلك من أمه وأبيه، ومن صاحبته- وهي زوجه- وبنيه الذين هم فرع عنه.
والمراد بفراره منهم: عدم اشتغاله بشيء يتعلق بهم، وعدم التفكير فيهم وفي الالتقاء بهم، لاشتغاله بحال نفسه اشتغالا ينسيه كل شيء سوى التفكير في مصيره... وذلك لشدة الهول، وعظم الخطب.
وخص- سبحانه- هؤلاء النفر بالذكر، لأنهم أخص القرابات، وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا في أشد حالات الخوف والفزع.
قال صاحب الكشاف: «يفر» منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا: وبدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين، لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه... «١».
وجملة: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مستأنفة. واردة لبيان سبب الفرار.
وللمبالغة في تهويل شأن هذا اليوم.
أى: لكل واحد منهم في هذا اليوم العظيم، شأن وأمر يغنيه ويكفيه عن الاشتغال بأى أمر آخر سواه. يقال: فلان أغنى فلانا عن كذا، إذا جعله في غنية عنه.
وقد ساق ابن كثير- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث، منها ما رواه النسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون حفاة عراة غرلا» - بضم فسكون- جمع أغرل، وهو الأقلف غير المختون- قال ابن عباس: فقالت زوجته: يا رسول الله، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه». أو قال: «ما أشغله عن النظر» «٢».
ثم بين- سبحانه أقسام الناس في هذا اليوم فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٤٩.
وقوله: وُجُوهٌ مبتدأ وإن كان نكرة، إلا أنه صح الابتداء به لكونه في حيز التنويع ومُسْفِرَةٌ خبره، وقوله يَوْمَئِذٍ متعلق به، والإسفار: النور والضياء.
والمراد أن هذه الوجوه متهللة فرحا، وعليها أثر النعيم.
أما القسم المقابل لهذا القسم، فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أى: عليها غبار، من شدة الهم والكرب والغم الذي يعلوها.
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أى: تغشاها وتعلوها ظلمة وسواد، وذلة وهوان، من شدة ما أصابها من خزي وخسران. يقال: فلان رهقه الكرب، إذا اعتراه وغشيه.
أُولئِكَ يعنى أصحاب تلك الوجوه التي يعلوها الغبار والسواد هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أى: الجامعون بين الكفر الذي هو فساد الاعتقاد، وبين الفجور الذي هو فساد القول والفعل.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من أصحاب الوجوه المسفرة، الضاحكة المستبشرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة التكويرمقدمة وتمهيد
١- سورة «التكوير»، وتسمى- أيضا- بسورة: «إذا الشمس كورت»، وهي من السور المكية بلا خلاف، وعدد آياتها: تسع وعشرون آية.
وتعتبر من أوائل السور القرآنية نزولا، فهي السورة السادسة أو السابعة في ترتيب النزول، فقد كان نزولها بعد سورة الفاتحة. وقبل سورة «الأعلى».
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى العين، فليقرأ «إذا الشمس كورت»، «وإذا السماء انفطرت» «وإذا السماء انشقت».
٢- والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يراها في نصفها الأول، تسوق أمارات يوم القيامة وعلاماته، بأسلوب مؤثر يبعث في القلوب الخوف والوجل.
ويراها في نصفها الثاني تؤكد أن هذا القرآن الكريم من عند الله- تعالى-، وليس من كلام البشر، وأن جبريل الأمين قد نزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.