ﰡ
مكيّة وهى اثنتان وأربعون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر البغوي ان ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بنى عامر ابن لوى اتى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو يناجى عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وابى وامية ابني خلف يدعوهم الى الله يرجوا إسلامهم فقال ابن أم مكتوم يا رسول الله اقرئنى وعلمنى مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدرى انه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية فى وجهه - ﷺ - لقطع كلامه وقال فى نفسه يقول هؤلاء الصناديد انما اتباعه العميان والعبيد والسفلة فعبس وجهه واعرض عنه واقبل على القوم الذين كان يكلمهم فانزل الله تعالى
عَبَسَ محمد اى كلح وَتَوَلَّى اعرض وجهه.
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ومحله النصب على انه مفعول لاحد الفعلين على التنازع او لان جاءه الأعمى وهو ابن أم مكتوم المذكور كذا اخرج الترمذي والحاكم عن عائشة وفيه قال ابن أم مكتوم أترى عما أقوله بأسا قال رسول الله - ﷺ - لا واخرج مثله عن انس وكذا روى ابن ابى حاتم عن ابن عباس وفيه فكان رسول الله - ﷺ - بعد ذلك إذا راه يكرمه ويقول مرحبا بمن عاتبتى فيه ربى ويقول له هل لك من حاجة وفيما روى الترمذي والحاكم عن عائشة ان النبي - ﷺ - استخلفه على المدينة مرتين فى غزوتين غزاهما وذكر الأعمى فى الاية اشعار بعذره فى الاقدام على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وَما يُدْرِيكَ ما نافية او استفهامية للانكار ومعناه النفي يعنى أنت ما أدريت بحاله واى شىء يجعلك داريا بحاله وفيه ايماء إلى العذر فى حق النبي - ﷺ - يعنى انك لو كنت عالما بحال الأعمى لم تعرض عنه مقبلا على غيره وفى الاية إجلال للنبى - ﷺ - بوجوه أحدها انه ذكر موجب الإنكار والاعراض عنه فى بدأ الكلام بلفظ الغيبة ولم يسند ذلك الفعل اليه بالتخاطب إيهاما بان من صدر ذلك الفعل كانه غيره وليس من شأنه ان يصدر منه مثله وتوجيه ذلك
أَوْ يَذَّكَّرُ أصله يتذكر اى يشتغل بما يذكر الله سبحانه ويزيد حضوره ويفيد خشيته من عذابه ورجاء ثوابه فَتَنْفَعَهُ قرأ عاصم بالنصب على جواب لعل والباقون بالرفع عطفا على يذكر الذِّكْرى فى الصحاح الذكرى كثرة الذكر وهو ابلغ من الذكر لقوله تعالى لعله يزكى اشعار الى غاية منازل الأبرار وقوله او يذكر اشارة الى بداية حال الأخيار ولم يذكر هاهنا حال المقربين الصديقين لان المقام مقام الانانية واما المقربون فملاك أمرهم على الاجتباء وذلك بالاصالة مختص بالأنبياء وبالوراثة والطفيل لمن شاء الله تعالى من الأصفياء وكلمة او بين لمنع الخلو دون الجمع كما فى قوله جالس الحسن او ابن سيرين والجملة معترضة لما ذكرنا من الفوائد والبيان صلوح الأعمى للخطاب وفيه تعريض بان صناديد قريش ليسوا بأهل للخطاب وفيه تعريض لا يرجى ما يقصد منهم كمن يقرا مسئلة لمن لا يفهمها وعنده اخر قابل لفهمها فيقال بل هذا يفهم ما تقول وقيل ضمير لعله راجع الى الكافر يعنى انك تطمع منه تزكى او تذكر وما يدريك ان ما تطمع فيه كاين وعلى هذا جملة لعله يزكى مفعول ثان ليدريك والله تعالى اعلم.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس استغنى عن الله وعن الايمان بماله من المال.
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى قرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد
وَما عَلَيْكَ بأس فى أَلَّا يَزَّكَّى ط حتى يبعثك الحرص على إسلامه الى الاعراض عمن اسلم انما عليك البلاغ ويحتمل ان يكون لا زائدة والا يزكى اسم ما عليك خبره والمعنى انه ليس الواجب عليك تزكية انما عليك البلاغ والجملة فاعل تصدى او معترضة.
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى حال اى ساعيا طالبا لما عندك من الخير.
وَهُوَ يَخْشى الله عز وجل حال مرادف يسعى او متداخل.
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ج امال حمزة والكسائي او اخر الآيات من أول السورة الى هاهنا وورش بين بين الا ذكرى فاما لها والباقون بالفتح اى تتشاغل الى غيره الجملتين تفصيل لما أجمل فى عبس وتولى وبيان لما عليه العتاب وهو إهمال الطالب وبذل الجهد فى الغافل مع ان الاولى عكس ذلك.
كَلَّا ردع عما فعل اى لا نفعل مثل ذلك ابدا إِنَّها اى القرآن انث الضمير لتأنيث خبره او بتأويل الآيات تَذْكِرَةٌ ج عظة وموجب لذكر الله سبحانه.
فَمَنْ شاءَ الاتعاظ وذكره تعالى ذَكَرَهُ حفظه اى القرآن والجملة معترضة تعليق الذكر بالمشية تخيير صيغة وتوبيخ للمعرضين عنه وثناء للمشتغلين به معنى.
فِي صُحُفٍ اى مثبة مكتوبة فيها صفة لتذكرة او خبر ثان لان او خبر مبتداء محذوف اى هى فى صحف والمراد بالصحف اللوح المحفوظ او صحف ينسخها الملائكة من اللوح او صحف الأنبياء بدليل قوله تعالى وانه لفى الزبر الأولين ان هذا لفى الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى او المصاحف التي كتبها الصحابة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم مُكَرَّمَةٍ عند الله.
مَرْفُوعَةٍ القدر عند الله سبحانه وقيل مرفوعة فى السماء السابعة مُطَهَّرَةٍ منزهة عن مس الجنب والحائض والنفساء والمحدث.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ جمع سافر بمعنى كاتب ومنه يقال الكتاب سفر وجمعه اسفار كذا قال ابن عباس ومجاهد فالمراد بهم الملائكة الكرام الكاتبون او الأنبياء او كتبة الوحى وقال الآخرون هم الرسل جمع سفير بمعنى الرسل يقال سفير القوم للذى يسعى بينهم للصلح فالمراد هم الرسل من الملائكة ومن المبشر قلت وكذا اكتبه الوحى وعلماء الامة فان كل منهم سفير بين الرسول وبين الامة قال رسول الله - ﷺ - الذي يقرؤن القران وهو ماهر به مع السفرة الكرام الأبرار والذي يقرأه وينتفع فيه وهو عليه شاق له اجر ان رواه الشيخان عن عائشة رضى الله عنها
كِرامٍ على الله منعطفين على المؤمنين يكملونهم ويستغفرون لهم بَرَرَةٍ ط أتقياء صفة بعد صفة لسفرة هكذا ينبغى شان العلماء.
قُتِلَ الْإِنْسانُ اى لعن ما أَكْفَرَهُ دعاء عليه باشنع الدعوات وتعجب من افراطه فى الكفر بعد هجوم الدواعي على التشكر والايمان وهذا الكلام مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ اخرج ابن المنذر عن عكرمة وكذا قال مقاتل انها نزلت فى عتبة بن ابى لهب قال كفرت برب النجم قلت وقصة ذلك على ما فى السير انه كان النبي صلى الله عليه واله وسلم زوّجه ابنة أم كلثوم وزوّج أخيه عتبة أختها عليهما السلام فلما نزلت تبّت يدا ابى لهب وتبّ قال ابو لهب راسى من راسكما حرام ان لم تطلقا ابنتي محمد فطلقا لهما ولم يبنيا بهما وجاء عتبة حين فارق أم كلثوم عند النبي - ﷺ - وقال كفرت بدينك وفارقتك ابنتك وسطا عليه وشق قميص النبي صلى الله عليه واله وسلم قال النبي ﷺ اما انى أسأل الله ان يسلط عليك كلبا من كلابه وكان خارجا الى الشام تاجرا مع نفر من قريش حتى نزّلوا مكانا من الشام (يقال له الزوراء) ليلا فطاف بهم الأسد تلك الليلة عتبة يقول يا ويل فانى أخاف دعوة محمد فجمعوا حمالهم فعرشوا العتبة فى أعلاها وناموا حوله فقيل ان الأسد انصرف عنهم حتى ناموا وعتبة فى وسطهم ثم اقبل الأسد يتخطاهم ويتفشمهم حتى أخذ برأس عتبة فقدعه قلت واما عتبة ومعيتيب ابني ابى لهب فقد اسلم بعد ذلك وكان من التائبين مع النبي صلى الله عليه واله وسلم يوم حنين.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ط بيان لموجبات الايمان والشكر وذكر مبدأ خلقه لكونها اسبق النعم وضمير الفاعل راجعا الى مذكور تقديرا يعنى من اى شىء خلقه الله الاستفهام للتقرير الى حمل المخاطب على الإقرار بانه خلقه الله من نطفة بيان لما وهذا الوجه أوقع فى الذهن وفيه تحقير ينافى التكبر.
مِنْ نُطْفَةٍ ط متعلق بمحذوف اى خلق الله من نطفة بيان لما أبهم ثم بين ما اعترض عليه من الأحوال من مبدأ خلقه الى منتهاه فقال خَلَقَهُ أوجده فى الرحم من نطفة تاما فَقَدَّرَهُ اى كتب باذنه ملك الموكل اربع كلمات مقدرة مقادير عمله واجله ورزقه وسعادته او شقاوته كما ذكرنا فى سورة المرسلات حديث ابن مسعود المتفق عليه وهذا التأويل اولى مما ذكره المفسرون بان معناه هاهنا لا يصلح من الأعضاء والاشكال او قدره أطوارا
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ إضمار على شريطة التفسير معطوف على قدر يعنى سهل طريق خروجه من بطن امه كذا قال السدى والمقاتل او المعنى سهل له طريق الحق وسبيل الوصول الى الله تعالى ببعث الرسل وإنزال الكتاب ليتم عليه الحجة نظيره قوله تعالى امّا من اعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى واما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى او المعنى سهل له الحيوة الدنيا وما يتوقف عليه فان الدنيا سبيل اما الى الجنة واما الى النار وليست بدار القرار قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كن فى الدنيا كانك غريب او عابر سبيل رواه البخاري من حديث ابن عمرو رواه احمد والترمذي وابن ماجة ورادوا وعد نفسك من اصحاب القبور ويناسب هذا التأويل قوله.
ثُمَّ أَماتَهُ عد الاماتة من النعم لكونها موصلة الى دار القرار قال رسول الله - ﷺ - تحفة المؤمن الموت رواه الطبراني والحاكم والبيهقي فى الشعب وابو نعيم فى الحلية من حديث ابن عمرو اما كونه سبيلا الى النار فلفساد اختياره ولا جبر بالكلية قال رسول الله - ﷺ - قيل لى سيد بنى دار او وضع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد فقال فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة رواه الدارمي من حديث ربيعة الجرسى والبخاري عن جابر نحوه فَأَقْبَرَهُ اى امر الناس بجعل الميت فى القبر صيانة عن السباع وهذا نعمة اخرى صبت أكرم الإنسان ولم يجعله كساير الحيوانات جيفة ملقاة.
ثُمَّ إِذا شاءَ الله بعثه من القبر أَنْشَرَهُ أحياه بعد الموتة فان من هو قادر على خلقه قادر على نشره من القبر وقد اخبر بذلك على لسان رسله ولولا البعث والجزاء لصار الشاكر كالكافر وذلك قبيح.
كَلَّا ردع عما عليه الكافر من الإنكار والكفران مع تلك الدلائل الموجبة للايمان والنعماء المستوجبة للشكر لَمَّا يَقْضِ اى بعد ما علم تلك النعم الجليلة والدلائل الواضحة لم يقض الى الان ما أَمَرَهُ الله من الايمان والنعماء المستوجبة لشكر المنعم.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ عطف على مفهوم ما سبق اى لينظر اولا الى نفسه من مبدأ خلقه الى منتهاه وما أنعم عليه وفيه فينظر إِلى طَعامِهِ كيف خلقناه ومتعناه به.
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ المطر من السماء
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا بإخراج شطأ الزرع من الأرض او بالكراب وحينئذ اسناد الفعل الى الله اسناد الى السبب.
فَأَنْبَتْنا فِيها اى فى الأرض حَبًّا كالحنطة والشعير وغير ذلك.
وَعِنَباً وَقَضْباً يعنى الرطبة سميت بمصدر قضبه او اقطعه لانها يقضب مرة بعد اخرى وفى الصحاح القضب يستعمل فى البقل وفى القاموس القضب كل شجرة طالت وبسطت أغصانها.
وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وهى الحديقة المتكاثفة أشجارها كذا فى القاموس.
وَفاكِهَةً ما يراد بها التفكه فقط من الثمار ومن ثم قال الفقهاء من حلف لا يأكل فاكهة لا يحنث بأكل التمر والعنب والزيتون ولان العطف دليل المغايرة وكذا أكل ما يراد به الغذاء والدواء كالرمان وَأَبًّا اى كلاء ومرعى كذا فى القاموس.
مَتاعاً مفعول له لانبتنا لَكُمْ كالحب من الحنطة وغيرها وَلِأَنْعامِكُمْ كالاب.
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ فى القاموس الصاخة صيحة بضم شدتها والمراد بها نفخة الصور وفى الصحاح الصاخة الشدة الصوت ذى نطق وعلى هذا وصفت نفخة الصور بها مجازا لان الناس يصيحون بها وهذا الشرط محذوف الجزاء والجملة متصل لقوله تعالى انها تذكرة او بقوله قتل الإنسان ما اكفره فعلى الاول تقديره انها تذكرة وعظته فاذا جاءت الصاخة يختلف حال المتعظين بها وغير المتعظين وبيانه وجوه يومئذ إلخ ويحتمل حينئذ ان يكون جزاءه وجوه يومئذ إلخ وعلى الثاني تقديره قتل الإنسان ما اكفره فاذا جاءت الصاخة يرى جزاء كفرانه.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ط لاشتغاله بشان نفسه وعلمه بانهم لا ينفعونهم او لبغضهم وكراهتهم لاجل كفرهم وسوء حالهم عن على رضى الله تعالى عنه قال سالت خديجة ولدين ماتا لها فى الجاهلية فقال رسول الله - ﷺ - هما فى النار فلما راى الكراهة فى وجهها قال لو رايت مكانهما لا بغضتهما الحديث رواه احمد وتأخير الأحب للمبالغة كانه قيل يفر المرء من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه والظرف اعنى يوم يفر بدل من إذا.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من الناس يَوْمَئِذٍ متعلق بالظرف المستقر شَأْنٌ فاعل للظرف المستقر
وُجُوهٌ المؤمنين او وجوه كثيرة او وجوه منهم اى من الناس المفهوم من كل امرئ يَوْمَئِذٍ متعلق بما بعده مُسْفِرَةٌ اى مضية من اسفار الصبح.
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ج وصفت الوجوه بصفة أصحابها مجازا.
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ متعلق بظرف مستقر بعده عَلَيْها ظرف مستقر غَبَرَةٌ فاعل الظرف او مبتداء اى استقر عليها غبار او كدورة والجملة خبر لوجوه.
تَرْهَقُها تعلوها وتغشاها قَتَرَةٌ اى سواد وظلمة قال ابن عباس تغشاها ذلة قال ابن زيد فرق بين الغبرة والقترة ان القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالماء والغبرة ما كان أسفل فى الأرض وجملة ترهقها صفة بغبرة او خبر بعد خبر بوجوه.
أُولئِكَ مبتداء يعنى الذين وجوههم عليها غبرة هُمُ ضمير الفصل الْكَفَرَةُ جمع كفر خبر الْفَجَرَةُ ع جمع فاجر صفة لكفرة او خبر والجملة مستانفة كانها جواب من اصحاب تلك الوجوه والفجور شق شر الدين والديانة وكماله فى الكفر- والله اعلم بالصواب.