ﰡ
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه.
وجاءه رجل من الأغنياء، وكان ﷺ حريصا على هداية الخلق، فمال ﷺ [وأصغى] إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاء لهداية ذلك الغني، وطمعا في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف، فقال: ﴿عَبَسَ﴾ [أي:] في وجهه ﴿وَتَوَلَّى﴾ في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له، ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ﴾ أي: الأعمى ﴿يَزَّكَّى﴾ أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟
﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ أي: يتذكر ما ينفعه، فيعمل (١) بتلك الذكرى.
-[٩١١]-
وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك (٢)، هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يتزك، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.
فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.
(٢) في ب: مفتقرا لذلك مقبلا.
يقول تعالى: ﴿كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ أي: حقا إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أي: عمل به، كقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ القدر والرتبة ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ [من الآفاق و] عن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها، بل هي ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ وهم الملائكة [الذين هم] السفراء بين الله وبين عباده، ﴿كِرَامٍ﴾ أي: كثيري الخير والبركة، ﴿بَرَرَةٍ﴾ قلوبهم وأعمالهم.
وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلا وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفورا، ولهذا قال تعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ لنعمة الله وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء، خلقه الله من ماء مهين، ثم قدر خلقه، وسواه بشرا سويا، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة.
﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، [وبينه] وامتحنه بالأمر والنهي، ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض، ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ أي: بعثه بعد موته للجزاء، فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف، لم يشاركه فيه مشارك، وهو -مع هذا- لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه، بل لا يزال مقصرا تحت الطلب.
ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة.
﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ﴾ للنبات ﴿شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية ﴿حبًّا﴾ وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها، ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ وهو القت، ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلا﴾ وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة، ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ الفاكهة: ما يتفكه فيه الإنسان، من تين وعنب وخوخ ورمان، وغير ذلك.
والأب: ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ﴾ التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره.
أي: إذا جاءت صيحة القيامة، التي تصخ لهولها الأسماع، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال.
﴿يَفِرُّ الْمَرْءُ﴾ من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، ﴿مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ﴾ أي: زوجته ﴿وَبَنِيهِ﴾ وذلك لأنه ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء، فوجوههم [يومئذ] ﴿مُسْفِرَةٌ﴾ أي: قد ظهر فيها السرور والبهجة، من ما عرفوا من نجاتهم، وفوزهم بالنعيم، ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ﴾ الأشقياء ﴿يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا﴾ أي: تغشاها ﴿قَتَرَةٌ﴾ فهي سوداء مظلمة مدلهمة، قد أيست من كل خير، وعرفت شقاءها وهلاكها.
﴿أُولَئِكَ﴾ الذين بهذا الوصف ﴿هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ أي: الذين كفروا بنعمة الله وكذبوا بآيات الله، وتجرأوا على محارمه. -[٩١٢]-
نسأل الله العفو والعافية إنه جواد كريم [والحمد لله رب العالمين].
[وهي] مكية