ﰡ
مكية، وآيها: أربعون وآيتان (١)، وحروفها: خمس مئة وستة وثلاثون حرفًا، وكلمها: مئة وثلاث وثلاثون كلمة.
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)﴾.[١] روي أن ابن أم مكتوم -واسمه عبد الله بن شريح بن مالك الفهري من بني عامر بن لؤي، وكان أعمى- أتى رسولَ الله - ﷺ - وعنده صناديدُ قريش يدعوهم إلى الإسلام، فقال ابن أم مكتوم: "يا رسول الله! علِّمني مما علَّمك الله"، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله - ﷺ - قطعه لكلامه، وعبس وجهه، وأعرض عنه، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزل قوله تعالى: ﴿عَبَسَ﴾ (٢) كَلَح ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض بوجهه.
* * *
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٣٠/ ٥١)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (١٠/ ٣٣٩٩).
[٢] ﴿أَنْ جَاءَهُ﴾ أي: لأن جاءه ﴿الْأَعْمَى﴾ فكان رسول الله - ﷺ - بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: "مَرْحبًا بمن عاتبني فيه ربي"، وبسط له رداءه، ويقول: "هل لك من حاجة؟ "، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما، وفوض إليه أمر التأذين، قال أنس بن مالك: "رأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء" (١).
* * *
﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)﴾.
[٣] ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي: أي شيء يجعلك داريًا.
﴿لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ يتطهر من الذنوب بما يسمع منك.
* * *
﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤)﴾.
[٤] ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ يَتَّعظ ﴿فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ العظةُ التي سمعها منك. قرأ عاصم: (فَتَنْفَعَهُ) بنصب العين على جواب التمني؛ لأن قوله: (أَوْ يَذَّكَّرُ) في حكم قوله: (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)، وقرأ الباقون: بالرفع عطفًا على (يَذَّكَّرُ) (٢).
* * *
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٧٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٧٢ - ٧٣).
[٥] ثم أكد تعالى عتب نبيه محمد - ﷺ - بقوله: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ عن الله، وعن الإيمان؛ بما له من المال.
* * *
﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)﴾.
[٦] ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر: (تَصَّدَّى) بتشديد الصاد؛ أي: تتصدى، وقرأ الباقون: بالتخفيف على الحذف (١)؛ أي: تتعرض له، وتُقبِلُ عليه.
* * *
﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧)﴾.
[٧] ثم قال تعالى محقرًا لشأن الكفار: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ ألا يؤمنوا (٢)؛ أي: وما يضرك أن لا يفلح؟ إن عليك إلا البلاغ، وهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم.
* * *
﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨)﴾.
[٨] ثم قال مبالغًا في العتب: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ يسرع طالبًا للخير.
* * *
(٢) في "ت": "ألا يؤمن".
[٩] ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ اللهَ تعالى.
* * *
﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾.
[١٠] ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ تَشاغلُ وتُعرض عنه. قرأ البزي: (عَنْه تّلَهَّى) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (١)، وأمال رؤوس الآي من أول السورة إلى (تَلَهَّى): ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وقرأ الباقون: بالفتح (٢).
روي أن رسول الله - ﷺ - بعد نزولها ما عبس في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني (٣)، فحملة الشرع والعلم والحكام مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير، وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب النبي - ﷺ - في هذه السورة، وهذه الآيات ليس فيها إثبات ذنب له عليه السلام، بل إعلام الله أن ذلك المتصدَّى له ممن لا يتزكى، وفعل النبي - ﷺ - لما فعل وتصدِّيه لذلك الكافر كان طاعة لله، وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه الله، لا معصية ومخالفة له.
* * *
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٢٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٧٤).
(٣) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٧٠٢).
[١١] ﴿كَلَّا﴾ ردع على (١) المعاتبَ عليه، وعن معاودة مثله ﴿إِنَّهَا﴾ أي: آيات القرآن ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ موعظة.
* * *
﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ يتضمَّن وعدًا ووعيدًا على نحو قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [المزمل: ١٩] و ﴿مَآبًا﴾ [النبأ: ٣٩].
* * *
﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣)﴾.
[١٣] ثم أخبر عن جلالته عنده فقال: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ يعني: اللوح المحفوظ.
* * *
﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ رفيعةِ القدر عند الله ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ من أيدي الشياطين.
* * *
﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ كَتبَةٍ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافِر.
[١٦] ثم أثنى عليهم فقال: ﴿كِرَامٍ﴾ أي: على الله ﴿بَرَرَةٍ﴾ مطيعين، جمع بارّ.
* * *
﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾ لُعن الكافرُ ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ بنعم الله تعالى مع إحسانه إليه على طريق التعجب، نزلت في عتبة بن أبي لهب (١).
* * *
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ لفظه استفهام، ومعناه التقرير.
* * *
﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾.
[١٩] ثم فسر فقال: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ أطوارًا: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه.
* * *
﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ﴾ نصب بمضمر يفسره ﴿يَسَّرَهُ﴾ بَيَّنَ له سبيلَ الخير والشر.
[٢١] ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ جعله في قبر يستره، قبرته: دفنته.
* * *
﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ﴾ بعدَ القبر ﴿أَنْشَرَهُ﴾ أحياه. واختلاف القراء في الهمزتين من (شَاءَ أَنْشَرَهُ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تقعَ) في سورة الحج [الآية: ٦٥].
* * *
﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿كَلَّا﴾ رد (١) لما عسى أن يكون للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ﴿لَمَّا﴾ أي: ﴿يَقْضِ﴾ الإنسان ﴿مَا أَمَرَهُ﴾ ما فرض عليه، نفي مؤكِّد لطاعة الإنسان لربه، وإثبات أنه تركَ حقَّ الله، ولم يقض أمره.
* * *
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ فليتفكر عُتْبَةُ في أول طعامه الذي يأكله كيف يصير في آخره من حال إلى حال، فكذلك يتفكر في حياته، ثم في آخرها كيف يصير من حال إلى حال.
[٢٥] ثم بين تحويله فقال: ﴿أَنَّا﴾ قرأ الكوفيون: (أَنَّا) بفتح الهمزة على نية تكرير الخافض، مجازه: فلينظر إلى أَنَّا، وافقهم رويس عن يعقوب وصلًا، وقرأ الباقون: بكسر الهمزة على الاستئناف، وافقهم رويس في الابتداء (١).
﴿صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ من السماء؛ يعني: المطر.
* * *
﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ بالنبات.
* * *
﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ كالحنطة والشعير مما يتغذى به.
* * *
﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ وهو القَتُّ الرطبُ؛ وسمي به؛ لأنه يُقضب مرة بعد مرة؛ أي: يقطع، واختلف في تفسير القت، فقيل: هو حب الغاسول، وهو
* * *
﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَزَيْتُونًا﴾ وهو ما يُعصر منه الزيت ﴿وَنَخْلًا﴾ جمع نخلة.
* * *
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَحَدَائِقَ﴾ بساتين ﴿غُلْبًا﴾ غلاظ الأشجار، واحدها أغلب.
* * *
﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَفَاكِهَةً﴾ يريد: ألوان الفواكه ﴿وَأَبًّا﴾ هو ما ترعاه البهائم.
* * *
﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿مَتَاعًا﴾ مصدر؛ أي: منفعة ﴿لَكُمْ﴾ يعني: الفاكهة.
﴿وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ يعني: العشب.
* * *
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ صيحة القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تصخ الأسماع؛ أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصِمُّها، وهي النفخة الثانية.
[٣٤] ثم بين وقتها فقال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾.
* * *
﴿وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾.
* * *
﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ لاشتغاله بنفسه، وعلمِه أنهم لا ينفعونه.
* * *
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ﴾ أي: حال.
﴿يُغنِيهِ﴾ يَشْغَلُه عن الاهتمام بشأن غيره.
* * *
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ مضيئة من أثر الوضوء.
* * *
﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿ضَاحِكَةٌ﴾ بالسرور ﴿مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل.
[٤٠] ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ غبار.
* * *
﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ تعلوها ظلمة كالدخان مع الغبرة.
* * *
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين يُصنع بهم هذا ﴿هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ الذين جمعوا إلى الكفر الفجور، وهو الفسق، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، ولا شيء أقبح من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، والله أعلم.
* * *