ﰡ
مدنيةٌ آيها مئتا آيةٍ، وحروفُها أربعةَ عشرَ ألفًا، وخمسُ مئةٍ، وخمسةٌ وعشرون حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وثمانون كلمةً، وحكى النقاشُ أنَّ اسمَ هذهِ السورةِ في التوراة: طَيِّبَةٌ (١).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قدمَ وفدُ نجرانَ (٢) من النصارى على رسولِ - ﷺ -، وزعموا أن عيسى ابنُ الله، فكذَّبَهم رسولُ الله - ﷺ -، فخاصموا جميعًا في أمره، فقطعَ حُجَّتهم بالأدلَّةِ الواضحةِ، فأنزل الله صدرَ سورةِ آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آيةً منها (٣)، فقال -عز وجل-:﴿الم (١)﴾.
[١] ﴿الم﴾ تقدَّم تفسيرُه، ومذهبُ أبي جعفرٍ في تقطيعِ الحروف أولَ سورةِ البقرةِ.
(٢) جاء على هامش "ظ": "نجران" مدينة بالحجاز.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤).
[٢] ﴿اللَّهُ﴾ ابتداء.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبرٌ. قرأ أبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ، بخلافٍ عن الثاني: بسكون الميم، الله: بقطع الألف للابتداء على لغةِ من يقطعُ ألفَ الوصل (١)، وإذا قرئ (المالله) بالوصل على مذهب العامة، جاز لكلٍّ من القراء في الياء من (ميم) المدُّ والقصرُ، وفتح الميم وصلًا لالتقاء الساكِنينِ تخفيفًا (٢).
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ نعتٌ له، وتقدَّم تفسيرُهما في آية الكرسي.
...
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)﴾.
[٣] ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآنَ.
﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدقِ. قرأ أبو عمرٍو: (الْكِتَاب بالْحَقِّ) بإدغام الباء، في الباء واخُتِلف عن رُويس.
﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما قبلَه من الكتب.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٠)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٥)، و "الكشاف" للزمخشري (١/ ١٧٣)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤).
﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾ إِفْعيل من النَّجْل: الأصل، فهو أصلُ العلوم والحكم، وإنما قالَ في القرآن: (نَزَّلَ) لأنه نزلَ مفصَّلًا، والتنزيلُ للتكثير، وقال في التوراة والإنجيل: (أَنَزَلَ)؛ لأنهما أُنزلا جملة واحدة (٢).
...
﴿مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤)﴾.
[٤] ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ متعلق بـ "أنزلَ".
﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ أي: هادٍ لمن تبعه، والمرادُ بالناسِ: موسى وعيسى وأتباعُهما.
﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ القرآنَ المفرِّقَ بينَ الحقِّ والباطلِ، وكرَّرَه تفخيمًا له.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ من كتبِه المنزلةِ.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ بسببِ كفرهم.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ غالبٌ ذَلَّ له كلُّ شيء.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٢٠).
...
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)﴾.
[٥] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾ من الأشياءِ.
﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ عَبَّرَ عن إدراك جميعِ الأشياءِ بذكر الأرضِ والسمِاء؛ لأنهما محلٌّ لها.
...
﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)﴾.
[٦] ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ من الصُّورِ المختلفةِ من الذُّكورةِ والأُنوثة.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وهذا ردٌّ على وفدِ نجرانَ من النصارى حيثُ قالوا: عيسى ولدُ الله، أو اللهُ؛ لأنَّ من صُوِّرَ في الرحم يمتنعُ أن يكون إلهًا أو ولدًا للهِ؛ لكونه مُرَكَّبًا وحالًّا في مركَّبٍ، ولتعاقُبِ الفناءِ عليه، قال - ﷺ -: "يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ في الرَّحِم بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فيقولُ: يَا رَبِّ! أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتبَانِ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتبَانِ، ويَكْتُبُ عَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ، ثُمَّ يَطْوِي الصُّحُفَ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ" (١).
[٧] ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ متقَناتٌ (١) مفصَّلاتٌ، من الإحكام، فلم يدخلْ فيها شيءٌ من الاشتباه، والمُحْكَمُ: ما ازدادَ وُضوحًا على المفَسَّرِ.
﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: أصلُه الذي تُعْمَلُ عليه الأحكام، وقولُه: ﴿هُنَّ أُمُّ اَلْكتَبِ﴾ ولم يقلْ: أُمَّهات جمعًا؛ لأن الآياتِ في الحكمِ بها بمنزلةِ آيةٍ واحدةٍ.
﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ المتشابِهُ: ضدُّ المحكَمِ، وهو ما استأثر الله بعلمه؛ لأنه اشتبهَ مرادُ المتكلمِ على السامعِ، لاحتمالِ وجودهِ، وحكمُهُ التوقُّفُ فيه أبدًا، فإن قيل: كيف فرقَ ها هنا بين المحكمِ والمتشابهِ وقد جعلَ كلَّ القرآنِ محكَمًا في قوله: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١] وجعلَ كلَّه متشابهًا في قوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣]؟ فالجواب عن الأول: إن المرادَ أنه كلَّه حقٌّ ليس فيه عيبٌ، وعن الثاني: أنه يشبهُ بعضُه بعضًا في الحسنِ والصدقِ، وجعلَ بعضَه هنا محكَمًا وبعضَه متشابهًا أراد بالمحكَمِ: الذي يُعْمَلُ به، ولا يدخلُه تغيير كالناسخِ والمتشابِهِ المنسوخِ.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أي: ميلٌ عن الحق.
﴿ابْتِغَاءَ﴾ طلبَ.
﴿الْفِتْنَةِ﴾ الشِّرْكِ.
﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أي: تفسيرِه بما يشتهون.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ أي: المتشابهَ.
﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ والخلقُ متعبَّدُونَ في المتشابِه بالإيمانِ به، وفي المحكَمِ بالإيمانِ به والعملِ، ويحرُمُ تفسيرُهُ برأيٍ واجتهادٍ بلا أصلٍ. والوقفُ التامُّ على قوله: (إلا الله) عندَ الأكثرِ (٢).
﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ المتمَكِّنون.
﴿فِي الْعِلْمِ﴾ همُ الذين ثبتوا فيه، وتمكَّنوا منه؛ لأن أصلَ الرسوخِ الثبوتُ.
﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ معناه: الراسخون لا يعلمونَ تأويلَه، بل يؤمنون به.
﴿كُلٌّ مِنْ﴾ المحكمِ والمتشابهِ من.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٢٤).
﴿إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ذوو العقول.
...
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)﴾.
[٨] ﴿رَبَّنَا﴾ أي: ويقول الراسخوان: ربنا.
﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ أي: ثَبِّتْها على الإيمان، ولا تُمِلْنا عن الحقِّ.
﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ وَفَّقْتَنا.
﴿وَهَبْ لَنَا﴾ أَعْطِنا.
﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ من عندِكَ.
﴿رَحْمَةً﴾ توفيقًا.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ لكلِّ سُؤْل.
...
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)﴾.
[٩] ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ﴾ أي: في يوم.
﴿لَا رَيْبَ﴾ أي: لا شكَّ.
﴿فِيهِ﴾ وهو يومُ القيامة.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ الموعدَ، وحكى البغويُّ قولًا أن الراسخَ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ﴾ تنفعَ.
﴿عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أي: لن تدفعَ عنهم الأموالُ شيئًا من الله. يسكتُ حمزةُ في: (شَيْءٌ وشَيْءٍ وشَيْئًا) حيثُ وقعَ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ اسمٌ لما يُوقَدُ، والمرادُ: من كفرَ بالنبيِّ - ﷺ -.
تلخيصُه: لا مخلصَ للكفارِ منَ النار.
...
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)﴾.
[١١] ﴿كَدَأْبِ﴾ كعادة.
﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ والدَّأْبُ مصدرُ دَأَبَ في العمل: جَدَّ فيه، وأصلُه الملازمةُ والدوامُ. تلخيصُه: عادةُ أولاءِ كعادةِ أولئك.
﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من كفارِ الأممِ الماضية.
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: كلُّهم كفروا.
﴿فَأَخَذَهُمُ﴾ أي: فعاقَبَهم.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: كفارَ مكةَ.
﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالياء فيهما؛ أي: إنهم يُغلبون ويُحشرون، والباقونَ بالتاءِ على الخطاب؛ أي: قل لهم: إنكم ستُغلبون وتُحشرون (١)، والغَلَبَةُ: القهرُ، والحَشْرُ: السَّوْقُ. المعنى: إنهم يُقهرون في الدنيا يومَ بدرٍ، ويُساقون في الأخرى.
﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾ من الجَهَنَّامِ، وهي البئرُ العميقةُ.
﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراشُ.
فلما نزلت هذه الايةُ، قال لهم النبيُّ - ﷺ - يومَ بدرٍ: "إِنَّ اللهَ غَالِبُكُمْ وَحَاشِرُكُمْ إِلَى جَهَنَّمَ" (٢).
ثم خاطبَ كفارَ قريشٍ مشيرًا إلى وقعةِ بدرٍ فقالَ:
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٥١)، و"تفسير الطبري" (٣/ ١٩٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٢٧).
[١٣] ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ ولم يقل: كانتْ، والآيةُ مؤنثةٌ، لأنه ردَّها إلى البيان؛ أي: قد كان لكم بيانٌ، فذهبَ إلى المعنى؛ أي: قد ظهرَ لكمْ دلالةٌ على صدقِ قولي (١): أَنَّكم تُغْلبون.
﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ فِرْقَتين. قرأ أبو جعفرٍ: (فِيَتَيْنِ) و (فِيَةٌ) بفتح الياء بغير همز (٢).
﴿الْتَقَتَا﴾ يومَ بدرٍ، إحداهُما.
﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: في طاعته، وهم النبيُّ - ﷺ - وأصحابُه، وكانوا ثلاثَ مئةٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا، معهم فرسٌ للمقدادِ ابنِ عمرٍو، وفرسٌ لمرثدِ بنِ أبي مرثدٍ، وسبعون بعيرًا، وستةُ أدرع، وثمانيةُ سيوف، وأكثرهم رَجَّالَة.
﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ وهم كفارُ قريش، كانوا تسع مئةٍ وخمسين رجلًا من المقاتلة، وكانَ حربُ بدرٍ أولَ مشهدٍ شهدَه رسولُ الله - ﷺ -.
﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: بالتاء خطابًا لليهود؛ لأن منهم من حضرَ الوقعةَ ينظرُ لِمَنِ الكَرَّةُ، وَقرأ الباقون: بالغيب؛ أي: يرونهم المسلمون (٣).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٩).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٢)، =
﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ بارزًا ظاهرًا.
﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ﴾ يُقَوِّي.
﴿بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ: (يُوَيِّدُ) بفتح الواو وبغير همز، واختُلِف عن عيسى صاحبِ أبي جعفرٍ (٢).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكرتُ.
﴿لَعِبْرَةً﴾ لاعتبارًا.
﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ لذوي العقول والنظر، وتقدَّمَ اختلافُ القراء في حكم (٣) الهمزتين في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] وكذلك اختلافهم في قوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ إِنَّ﴾.
(١) ما بين معكوفتين ساقط من "ت".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٣)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١١).
(٣) "حكم": ساقطة من "ن".
[١٤] ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ جمع شهوة، وأصل الشهوة: نزوع النفس إلى ما تريده.
﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ بدأ بهنَّ؛ لأنهنَّ حَبائلُ الشيطانِ.
﴿وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ﴾ جمعُ القنطار (١)، وهو المالُ الكثيرُ، وسُمِّيَ قِنْطارًا مِنَ الإحْكامِ، يقال: قَنْطَرْتُ الشيءَ: إذا أَحْكَمْتُهُ، ومنهُ سُمِّيت القَنْطَرَةُ.
﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾ المضعَّفةُ.
﴿مِنَ الذَّهَبِ﴾ سمي ذهبًا؛ لأنه يذهبُ ولا يبقى.
﴿وَالْفِضَّةِ﴾ لأنها تنفضُّ؛ أي: تتفرَّقُ.
﴿وَالْخَيْل﴾ من الخُيَلاءِ، لا واحد له من لفظه، وواحدُها فَرَسٌ.
﴿الْمُسَوَّمَةِ﴾ المعلَّمةِ، والسِّيما: العلامةُ.
﴿وَالْأَنْعَامِ﴾ جمعُ النَّعَم؛ أي: الإبلِ والبقرِ والغنمِ.
﴿وَالْحَرْثِ﴾ الزرعِ.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكورُ.
﴿مَتَاعُ﴾ يتمتع به يسيرًا في.
﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ثم يزولُ.
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ أخبرُكم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ورُويسٌ: بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، وفصل بينهما بألف أبو جعفرٍ، واختُلِف عن أبي عمرٍو وقالونَ، وهشامٍ (٣).
﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من الأقذارِ.
﴿وَرِضْوَانٌ﴾ أي: رِضًا.
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَرُضْوانٌ وَرُضْوانًا) بضمِّ الراءِ
(٢) انظر: "الإتقان" للسيوطي (١/ ١١٣)، في النوع الحادي والثلاثين.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٤)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ٧٥)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٣٩٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٢).
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ فيثيبُ المحسنَ، ويعاقبُ المسيء.
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ صَدَّقنا.
﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ اسْتُرْها علينا، وتجاوزْ عَنَّا.
﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ صفةٌ للمتقين.
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿الصَّابِرِينَ﴾ عن ارتكابِ المعاصي والشهواتِ.
﴿وَالصَّادِقِينَ﴾ في السرِّ والعلانيةِ.
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ المطيعينَ.
﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ﴾ أي: المصلِّين.
﴿بِالْأَسْحَارِ﴾ جمعُ سَحَرٍ، وهو من ثُلُثِ الليلِ الآخِر إلى الفَجْرِ، وأصلُه: الخفاءُ؛ للطفهِ. المراد: الإعلامُ أن الجنة أُعِدِّت لجميعِ المذكورين.
ونزل في نصارى نجران:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ أي: بَيَّنَ وأَعْلَمَ.
﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي: وشهدَتِ الملائكةُ.
﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ هم الأنبياءُ والمؤمنونَ المثبتونَ التوحيدَ، شهدوا بذلك، وأَقَرُّوا به اعتقادًا، والعلمُ: هو إدراكُ الشيءِ على ما هوَ بِهِ.
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ أي: مُقيمًا بالعدلِ وتدبيرِ الخلق، ونصبُه حالٌ مؤكدةٌ من الله، ونظمُ الآيةِ: شهدَ اللهُ قائِمًا بالقسطِ، وتقدَّم الكلامُ على تغليظِ اللامِ منِ اسمِ الله في (شَهِدَ اللهُ) وشبِهه في أول سورة الفاتحة (١).
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فهو الموصوفُ بهما.
[١٩] ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ يعني: الدينَ المرضيَّ الصحيحَ، والإسلامُ هو الدخولُ في السِّلْمِ، والانقيادُ والطاعةُ. المعنى: الإسلامُ: العدلُ والتوحيدُ، وهما الدينُ عندَ الله لا غيرُ. قرأ الكسائيُّ: (أَنَّ الدِّينَ) بفتح الألف رَدًّا على أَنَّ الأولى، تقديرُه: شهدَ اللهُ أَنَّه لا إلهَ إلَّا هُوَ، وشهدَ أَنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلامُ، وقرأ الباقون: بكسر الألف على الابتداء (١).
ونزلَ (٢) في اليهودِ والنصارى حينَ تركوا الإسلامَ:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ في نبوةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ في التوراة أنه نبيٌّ حَقٌّ، فكذَّبوا، وأشركوا؛ بأن ثَلَّثَتِ (٣) النصارى، وقالتِ اليهودُ: عزير ابنُ اللهِ.
﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: طلبًا للمُلْكِ والرياسةِ، فسلَّط اللهُ عليهِمُ الجبايرهَّ.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وعيدٌ لمن كفرَ بسرعةِ
(٢) في "ت": "ونزلت".
(٣) في "ن": "وثلث".
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾ أي: خاصمَكَ يا محمدُ أهلُ الكتابِ في الدين.
﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ أي: أَخْلَصْتُ عبادتي.
﴿لِلَّهِ﴾ وانقدْتُ إليه بجميع جوارحي، وخُصَّ الوجهُ بالذكرِ؛ لأنه أكرمُ جوارحِ الإنسانِ، وفيه بَهاؤه، وإذا خضعَ وجهُه، خضعَ سائرُ جوارحه. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ: (وَجْهِيَ) بفتح الياء، والباقون: بالإسكان (٢).
﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ أي: أسلمَ كما أسلمتُ. أثبتَ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في قوله: (اتَّبَعِنَي) حالةَ الوصل، وأثبتها يعقوبُ وَصْلًا ووقفًا، وحذفَها الباقون في الحالين؛ لأن رسمَها في المصحفِ بغير ياء (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٦).
(٣) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٣)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٣٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات =
﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾ مشركي العربِ.
﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ استفهامٌ، ومعناه أَمْرٌ؛ أي: أَسْلِموا؛ كقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]، وتقدمَ اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمة في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، وكذلك اختلافُهم في قوله: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾.
﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ لخروجِهم من الضَّلالِ إلى الهدى.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الإيمانِ.
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ بتبليغ الرسالةِ دونَ الهداية.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ بِمَنْ يؤمنُ ومَنْ لا يؤمن، ثم نُسِخَتْ بآيةِ السيفِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ يَجْحَدون.
﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآنَ، وهم اليهود والنصارى.
﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ أخبرْهُمْ.
﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وَجيعٍ.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ﴾ بطلت.
﴿أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ بدفعِ العذابِ عنهم، فبطلانُ العملِ في الدنيا عدُم القبولِ، وفي الآخرةِ عدمُ المجازاةِ عليه. ونزلتْ في اليهودِ لما دعاهم النبي - ﷺ - إلى الإسلام، فأبوا:
(٢) "ضم" ساقطة من "ش".
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣١٧)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٣٨ - ٣٣٩)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٣٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٨ - ٢٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٨).
[٢٣] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ حَظًّا.
﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: التوراةِ.
﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (لِيُحْكَمَ بَيْنَهُمْ) بضمِّ الياء وفتحِ الكاف، والباقون: بفتح الياء وضمِّ الكاف (١)، وتقدم توجيهُ قراءتهم في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [الآية: ٢١٣].
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن قَبولِ الحقِّ.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾
[٢٤] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: التولِّي والإعراضُ.
﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ أي: بسببِ قولهم:
﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فَسَهَّلوا أمرَ العذابِ باعتقادِهِمُ الزائغِ (٢).
(٢) "فسهلوا... الزائغ" ساقط من "ش".
﴿فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ والافتراءُ: اختلاقُ الكذبِ.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿فَكَيْفَ﴾ يصنعونَ.
﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ وهو يومُ القيامةِ.
﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ من أهلِ الكتابِ وغيرِهم (١).
﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من خيرٍ أو شَرٍّ.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لا يُزادُ في سيئاتِهم، ولا يُنْقَص من حسناتِهم. قال ابنُ عباسٍ وأنسُ بنُ مالكٍ: "لما افتتحَ رسولُ الله - ﷺ - مكةَ، وعدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فارسَ والرومِ، فقالَ المنافقونَ واليهود: هَيْهاتَ هيهاتَ، منْ أينَ لمحمدٍ ملكٌ؟! فارسُ والرومُ أعزُّ وأمنعُ من ذلك، ألم يكفِ محمدًا مكةُ والمدينةُ حتى طمعَ في ملكِ فارسَ والرومِ؟! فأنزلَ الله (٢):
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)﴾.
(٢) انظر: "أسباب النزول "للواحدي" (ص: ٥٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٣٧).
﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي: مِالكَ العبادِ وما مَلَكوا.
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ أي: النبوَّةَ.
﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ من خلقِكَ.
﴿وَتَنْزِعُ﴾ أي: تُزيلُ وتقلَعُ.
﴿الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ منهم.
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بالملكِ.
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بنزعِهِ منهُ.
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي: والشرُّ، فاكتفى بذكرِ أحدِهما، ولأن الآيةَ في ذكرِ ما أعدَّ للمؤمنين.
﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثم أومأ إلى قدرته الباهرة بقوله:
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿تُولِجُ﴾ تُدْخِلُ.
﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ حتى يصيرَ خمسَ عَشْرَةَ ساعةً، والليلُ تسعَ ساعاتٍ.
﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ حتى يصيرَ خَمْسَ عَشْرَةَ ساعةً، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، فما نقصَ من هذا، زِيدَ في هذا.
﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ عكسُ الأول، وقيلَ: المؤمنُ من الكافرِ، وعكسُه، وقيل غير ذلك. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (مِنَ المَيِّتِ) (وتخرج الميت) بتشديدِ الياء حيثُ وقع (١).
﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ من غير تضييقٍ ولا تقتير.
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نزلَتْ نهيًا عن مباطَنَةِ من يُبْطِنُ الكفرَ ويُظْهِرُ الإيمانَ، وعن مُوالاتِهم. المعنى: اجتنبوا موالاةَ الكفارِ، فلكم غُنْيَةٌ عن موالاتهم بموالاةِ المؤمنين؛ لأنهم أعداءُ الله، ومن والاهم فقد دخلَ في عداوة الله، ثم تَهَدَّدَهم فقال:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: ولاءَ (٢) الكفار.
(٢) في "ن": "موالاة".
﴿فِي شَيْءٍ﴾ لأنه منسلخٌ عن ولايةِ اللهِ تعالى ودينِه. قرأ الليثُ عن الكسائيِّ: (يَفْعَل ذلِكَ) بإدغام اللام في الذال (١)، ثم استثنى فقال:
﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ المعنى: إلا لأجلِ خوفكم منهم أمرًا يجبُ الاحترازُ منه، فيداريهم المؤمنُ بلسانِهِ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان. قرأ يعقوبُ: (تَقِيَّةً) بفتح التاءِ وكسر القافِ وتشديد الياء بعدَها، والباقون: بضم التاء وفتح القاف وألف بعدها، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ يُميلون الألفَ على أصلهم (٢).
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي: يُخَوِّفُكم عقوبَتَهُ بأن يغضبَ عليكم بموالاةِ الكفِار.
﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ تحذير أيضًا.
﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)﴾.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٥٩)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٤٠)، و "تفسير القرطبي" (١/ ٥٧)، و"تفسير الرازي" (٢/ ٤٣٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٩ - ٢٠).
﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ من موالاتِهم.
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ ويجازيكم بهِ.
﴿وَيَعْلَمُ﴾ رَفْعٌ على الاستئناف.
﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فكيف يَخْفَى عليه موالاتُكم الكفارَ؟
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدِرُ على عقوبتكم.
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ أي: اذكروا واتَّقو ايومَ تجدُ.
﴿كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ لم تُبْخَسْ منه شيئًا.
﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ﴾ أي: وَدَّتْ.
﴿لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ﴾ يعني: وبين السوء.
﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾ مسافةً واسعةً.
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ إشارةٌ إلى أنه تعالى إِنَّما نهاهُم وحَذَّرَهُمْ رأفةً بهم، ومراعاةً لصلاحهم.
[٣١] ونزلَ في اليهودِ والنصارى حيثُ قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]: ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ:
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ فأنا رسولُه إليكم، فحبُّ المؤمنين للهِ اتِّباعُهم أمرَهُ، وابتغاء مرضاتَهُ، وحُبُّ اللهِ المؤمنينَ ثوابُهُ لهم، وعفوهُ عنهم، فذلكَ قولُه تعالى:
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تَحَبَّبَ إليه بطاعته.
فلما نزلت هذه الآيةُ، قال عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ لأصحابه: إنَّ محمدًا يجعلُ طاعتَهُ كطاعةِ الله، يأمرُنا أن نحبَّهُ كما أَحَبَّتِ النصارى المسيحَ، فنزل (١):
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عن طاعتِهما.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ لا يَرْضى فِعْلَهم، ولا يَغْفِرُ لهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ اختارَ.
﴿آدَمَ﴾ وهو أبو البشر.
﴿وَنُوحًا﴾ واسمُهُ عبدُ الغَفَّارِ بنُ لامخ بنِ متوشلح بنِ حنوخ -وهو إدريسُ- وُلد بعدَ مضيِّ ألفٍ وستِّ مئةٍ واثنتينِ وأربعينَ سنةً من هُبوط آدمَ -عليه السلام-، وسُمِّيَ نوحًا؛ لكثرةِ نَوْحِهِ على نفِسه، وهو أولُ نبيٍّ بُعث إلى كفارٍ، وهو أبونا الأصغرُ، عاشَ ألفًا وأربعَ مئةٍ وخمسينَ سنةً، وقبرُه بكركِ نوحٍ من أرضِ الشام.
﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ أي: إبراهيمَ وعمرانَ أنفسَهُما؛ كقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٨]، وقيل: آلُ إبراهيمَ: إسماعيلُ وإسحاقُ وأولادُهما، ومحمدٌ - ﷺ - من أولادِهما، وآلُ عمرانَ: موسى وهارونُ؛ لأنَّ موسى بنَ عمرانَ بنِ يصهرَ بنِ لاوي بنِ يعقوبَ، والآلُ في اللغة: الأهلُ والقرابةُ. المعنى: اختصَّ اللهُ آدمَ والأنبياءَ المذكورين والأنبياءَ من أولادِهم -عليهم الصلاة والسلام أجمعين- بالنبوَّةِ.
﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ قرأ ابنُ ذكوانَ بخلافٍ عنه (عِمْرَانَ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢).
[٣٤] ﴿ذُرِّيَّةً﴾ اشتقاقها من ذَرَأ بمعنى: خَلَقَ.
﴿بَعْضُهَا مِنْ﴾ ولد.
﴿بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بأقوالِ الناسِ وأعمالِهم.
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ العاملُ فعلٌ مُضْمَرٌ تقديره: اذكرْ إذ قالت، وامرأةُ عمران هي حَنَّةُ بنتُ فاقودَ، وعمرانُ بنُ ماثانَ، وكان زمنَ زكريا، فتزوَّجَ زكريا إيساعَ أختَ حَنَّةَ، فكان يحيى وعيسى ابني خالةٍ. و (امرأت) رُسِمَتْ بالتاء في سبعةِ مواضعَ، ووَقَفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو ويعقوب، والكسائيُّ (١)، وليس هذا بعمرانَ أبي موسى، كان بينهما ألفٌ وثمانُ مئةِ سنةٍ، فأحبَّتْ حَنَّةُ (٢) الولدَ بعدَ ما أَسَنَّتْ (٣)، فدعَتْ بذلك، فلما حملَتْ، قالت:
﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ أي: غلامًا محرَّرًا، ولم تقلْ: محرَّرَةً؛ لأنهم إنما كانوا يُحَرِّرونَ الغِلْمانَ، فنذرتْ إنْ رزقَها اللهُ ولدًا،
(٢) "حنة" سقطت من "ن".
(٣) في "ن": "أيست".
﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لِدُعائي (١).
﴿الْعَلِيمُ﴾ بِنِيَّتي، فماتَ عمرانُ وهي حاملٌ بمريمَ، وكانَ من رؤوسِ بني إسرائيل وأحبارهم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كَثيرٍ، ويعقوبُ (مِنِّي إِنَّكَ) (لِي آيَةً) بسكون الياء، والباقون: بفتحها (٢).
﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ﴾ معتذرةً وظنًّا أن نذَرها لا يُقبل؛ لأُنوثَتِهِ.
﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢).
﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ لخدمةِ بيتِ المقدسِ؛ لضعفِها ولِما يعتريها من الحيضِ والنِّفاسِ وغيرِهما مما يلحقُ النساءَ.
﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ ومعناهُ: العابدةُ، وكانت مريمُ أجملَ النساءِ في وقتِها، ولم يُذْكَرْ في القرآنِ امرأةٌ باسمِها سوى مريمَ، وبقيةُ النساءِ أُشير إليهنَّ؛ كأزواجِ النبيِّ - ﷺ -، وامرأةِ إبراهيمَ، وأُمِّ موسى وأختِه، وامرأةِ نوحٍ ولوطٍ وفرعونَ، وغيرِهِنَّ من نساءِ الأنبياءِ وغيرِهم.
﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ أُجيرها. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وإِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا﴾ أولادَها.
﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ وتقدَّمَ تفسيرهُ في الاستعاذة، قال - ﷺ -: "كُلُّ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢).
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ أي: قبلَ مريمَ من حَنَّةَ.
﴿بِقَبُولٍ﴾ أي: بأمرٍ ذي قَبولٍ.
﴿حَسَنٍ﴾ وأَصْلُ القَبول: الرِّضا؛ أي: سلكَ بها سبيلَ السُّعداء.
﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ سَوَّى خَلْقَها، فكانت تنبُتُ في اليوم ما ينبتُ المولود في عامٍ، ولما وضعَتْها أُمُّها حملَتْها وأَتَتْ بها إلى المسجدِ، ووضعَتها عندَ الأحبارِ وهُمْ يَلُونَ من بيتِ المقدس ما يلي الحَجَبَةُ من الكعبةِ، وقالَتْ: دونَكُم هذهِ المنذورةَ، فتنافَسوا فيها؛ لأن أباها كانَ من أَئِمَّتِهم، فقال زكريا: أنا أحقُّ بها؛ لأن خالتَها زوجتي، فقالوا: لا حتى نقترعَ، فَقَرَعَهم زكريَّا، وأخذها (٢)، فذلك قولُه تعالى:
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي: ضَمَّها إليه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (وَكَفَلَهَا) بتخفيف الفاء (زَكَرِيَّاءُ) بالرفعُ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٤٥).
﴿الْمِحْرَابَ﴾ أي: الغرفةَ، والمحرابُ: أشرفُ المجالسِ، فكأنها وُضِعَتْ في أشرفِ مكانٍ من المسجدِ، وكان زكريا إذا خرجَ يغلِقُ عليها سبعةَ أبوابٍ، فإذا دخل عليها.
﴿قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى﴾ أي: من أين.
﴿لَكِ هَذَا﴾ الرزقُ، والأبوابُ مغلقةٌ عليكِ.
﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ أي: من الجنة، تكلمت وهي صغيرةٌ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير محاسبة.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: عندَ ذلك.
﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ وكان قد شاخَ وأَيِسَ من الولد، فلما رأى قدرةَ الله، طمعَ في الولد، و ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي﴾ أي: أَعْطِني.
﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ أي: من عندِك.
﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ ولدًا صالحًا، والذريةُ تقعُ على الواحدِ والجمعِ.
﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ سامعُه.
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أجابَتْهُ، والمرادُ جبريلُ وحدَه، جُمِعَ تعظيمًا له. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَنَادَاهُ) بألفٍ مُمالة إرادةَ
﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ أي: في المسجد. قرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (المِحْرَابَ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ بالخفضِ، وعنهُ خلافٌ في غيرِ المخفوض (٢).
﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (إِنَّ الله) بكسرِ الهمزة (يُبَشِّرُكَ): بضمِّ أولِه وكسرِ الشين مشدَّدًا، وقرأ حمزةُ: (إِنَّ الله) كابنِ عامرٍ (يَبْشُرُكَ) بفتح الياء وضم الشين مخففًا، وقرأ الكسائي: (أَنَّ الله) بفتح الهمزة (يَبْشُرُكَ) كقراءة [حمزة، وقرأ الباقون: (أَنَّ اللهَ) بفتحِ الهمزةِ (يُبَشِّرُكَ) كقراءةِ] (٣) ابِن عامر، فالقراءةُ بكسر الألف على إضمار القول، تقديرُه: فنادته الملائكة فقالت: إن، وبالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال: فنادته الملائكة بأنَّ، والقراءةُ بضمِّ الياءِ وفتحِ الباءِ وكسر الشين مشددًا من بَشَّرَ، وهو الأفصحُ، وبفتح الياء وضَمِّ الشين مُخَفَّفًا من بَشَرَ، وهي لغةُ تهامةَ (٤).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٤٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٦ - ٢٧).
(٣) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٢٨)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: =
﴿مُصَدِّقًا﴾ نصبٌ على الحال؛ أي: مؤمنًا.
﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يعني: عيسى عليه السلام؛ أي: بكلمةٍ كائنةٍ منَ الله بأنْ قالَ له: كُنْ من غيرِ أبٍ، فكانَ، فوقعَ عليه اسمُ الكلمة، وكان يحيى أولَ مَنْ آمن بعيسى وصَدَّقه، وكان أَسَنَّ من عيسى بستةِ أشهرٍ، وقيلَ: صدَّقَهُ وهو في بطن أُمِّه، فكانَتْ أُمُّ يحيى تقولُ لمريمَ: إني أجد ما في بطني يسجُد لما في بطنِك تحيةً له، وكانا ابنا الخالة كما تقدَّم، ثم قُتل يحيى قبلَ رفعِ عيسى عليهما السلام بسنةٍ ونصفٍ، وله نيفٌ وثلاثون سنةً، ونُبِّئ صغيرًا، وكان عيسى قد حَرَّمَ نكاحَ بنتِ الأخ، وكان لهرودوس وهو الحاكمُ على بني إسرائيل بنتُ أخٍ، وأرادَ أن يتزوَّجَها كما هو جائزٌ في ملة اليهود، فنهاه يحيى عن ذلك، فأمر بذبحِ يحيى، فَذُبح ووُضع رأسُه بين يديه، فكان الرأسُ يتكلَّمُ ويقول: لا تَحِلُّ لكَ، واستمرَّ غَليانُ دمِه حتى بعثَ الله عليهم مَلِكًا من جهة المشرق يُقال له: حردوس، فقتلَ منهم على دمِ يحيى سبعينَ
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"تفسير الرازي" (١/ ٤٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٨٢).
﴿وَسَيِّدًا﴾ هو مَنْ سادَ قومَهُ، ويحيى سادَ قومَهُ والناسَ في أَنَّه لم يرتكبْ سيئةً قَطُّ.
﴿وَحَصُورًا﴾ ممتنِعًا من الوَطْءِ معَ القدرةِ عليه، وليسَ كما قالَ بعضهم: إنه كان هَيُوبًا، أو لا ذَكَرَ له؛ لأن هذه نقيصةٌ وعيبٌ لا تليقُ بالأنبياء، وإنما معناه: إنه معصومٌ من الذنوب لا يأتيها؛ كأنه حُصِر عنها.
﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠)﴾.
[٤٠] فلما بُشِّرَ بهِ ﴿قَالَ﴾ زكريّا:
﴿رَبِّ أَنَّى﴾ أي: كيفَ.
﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ﴾ أي: نالني، وأَثَّرَ فيَّ.
﴿الْكِبَرُ﴾ وكانَ ابنَ عشرينَ ومئةِ سنةٍ، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ عقيمٌ لا تَلِدُ، وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعينَ سنةً، وقولُ زكريا لم يكنْ شَكًّا في وعِد الله، إنما شَكَّ في كيفيته؛ أي: كيف ذلك؟ يجعلُني أنا وامرأتي شابَّيْنِ، أم يرزقُنا ولدًا على الكِبَرِ منَّا، أم يرزقُني من امرأةٍ أخرى؟ فقال مستفهِمًا لا شَكًّا.
﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الفاني والعاقر.
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿قَالَ﴾ زكريا:
﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ علامةً على وجودِ الحملِ؛ لأزيدَ في الشكر والعبادةِ، وتقدمَ اختلافُ (١) القراء في (لِي آيَةً).
﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ أي: تمتنعُ عن كلامِهم.
﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ إشارةً، اعتُقِلَ لسانُه عَمَّا سوى ذكرِ الله، وكانَتْ إشارتُه بالإصبعِ المُسَبِّحَةِ، وأصلُ الرمزِ: التَّحَرُّكُ.
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ﴾ وهو من زَوالِ الشمسِ إلى غُروبها.
﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ وهو من طلوعِ الفجرِ الثاني إلى الضُّحى؛ أي: في وَقْتَيهما.
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ يعني: جبريلَ عليه السلام.
﴿يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ اختارَكِ.
﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ عالَمِي زمانِها؛ لولادتها (١) بلا مَسٍّ.
﴿يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿يَامَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ أطيعي وأطيلي القيامَ ﴿لِرَبِّكِ﴾ في الصلاةِ، فقامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها وسالت قيحًا.
﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ إنما قدَّمَ السجودَ على الركوعِ؛ لأن الواوَ ليست للترتيب.
﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي: صَلِّي جماعةً، ولم يقل: الراكعات، لعمومِ الراكعينَ الرجال والنساءَ.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكورُ من أمرِ زكريا ويحيى ومريمَ وعيسى.
﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ نلقيه إليك.
﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمدُ.
﴿لَدَيْهِمْ﴾ أي: عندَهم. قرأ حمزةُ، ويعقوبُ: بضم الهاء، وقرأ ابنُ
﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ أي: سهامهم في الماء للاقتراع، وسُمِّي القلمَ؛ لأنه يُقْلَمُ كالظُّفْر.
﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ يَحْضنُها ويُرَبِّيها.
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون﴾ في كَفالَتِها.
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿إِذْ﴾ أي: واذكرْ إذ.
﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (يَبْشُرُكِ) بفتح الياء وضمِّ الشين مخففًا، والباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشدَّدًا (١).
﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وقولُه: ابنُ مريمَ إعلامٌ لها أنها تلدُ من غير أبٍ، فلا يُنْسَبُ إلا لأمه، والمسيحُ لقبٌ لعيسى، معناه: الصِّدِّيق، وقيل: معناه بالعبرانية: المبارَكُ، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿وَجِيهًا﴾ ذا جاهٍ وقَدْر.
﴿وَالْآخِرَةِ﴾ بالشفاعةِ وارتفاعِ درجتِه في الجنةِ.
﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ بارتفاعِه إلى السَّماء، وصحبتِه الملائكَةَ.
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ صغيرًا قبلَ وقتِ الكلامِ معجزةً.
﴿وَكَهْلًا﴾ بعدَ نزولِهِ من السماءِ بالوحي للرسالةِ كما سيأتي عندَ ذكرِ رفعِه إلى السماء، فالطفلُ: مَنْ لم يُمَيِّزْ، والمميِّزُ: مَنْ بلغَ (١) سبعًا، والصبيُّ والغلامُ واليافعُ واليتيمُ: من لم يبلُغْ، والمراهِق: من قاربَ البلوغَ، والشابُّ والفتى: منه إلى الثلاثين، والكَهْلُ من تجاوزَ الثلاثين إلى الخمسين، وقاربَ الشيبَ، من اكتهلَ النبتُ: قاربَ اليبسَ، وحالُ الكهولة التي يستحكم فيها العقلُ، ويستنبأ فيها الأنبياء، والشيخُ: من الخمسين إلى السبعين، ثم هَرِمٌ.
﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: هو من العباد الصالحين.
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ سيدي، تقوله لجبريل عليه السلام.
﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أرادَ كونَ شيءٍ.
﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ كما يريد. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، وروْحٌ عن يعقوبَ: (يَشَاءُ إِذَا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تبدلَ واوًا خالصةً مكسورةً (١)، وقرأ ابنُ عامرٍ: (فَيَكُونَ) بنصب النون، والباقون: بالرفع (٢)، وتقدَّمَ توجيهُ قراءتهم في سورة البقرة عندَ قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧].
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ أي: الخطَّ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء؛ لقوله تعالى: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٤٧] وقرأ الباقون: بالنون على التعظيم (٣)؛ لقوله تعالى:
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣١).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٣٤)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٦٣)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٤٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، =
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ العلمَ والفِقْهَ.
﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ علَّمَهُ اللهم لتوراةَ والإنجيلَ.
﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وكان أولُ أنبياءِ بني إسرائيل يوسفَ، وآخرُهم عيسى -عليهما السلام-، فلما بُعِثَ قال: ﴿أَنِّي﴾ أي: بأني.
﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ علامةٍ.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ على صِدْقي، فلما قال ذلك لبني إسرائيلَ، قالوا: وما هي؟ قال:
﴿أَنِّي﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بكسر الألف على الاستئناف؛ أي: قال: (إِنِّي أَخْلُقُ)، وقرأ الباقون: بالفتح على معنى بـ (أَنِّي أَخْلُقُ) (١)،
(١) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٦٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٦)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١٠٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٤٤ - ٣٤٥)، =
﴿أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ أي: أشكِّلُ شيئًا.
﴿مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ﴾ كصورةِ.
﴿الطَّيْرِ﴾ قرأ أبو جعفرٍ بخلافٍ عنه (كَهَيَةِ) بتسهيل الهمزة؛ وعنه وجهٌ آخَرُ (كَهَيَّةِ) بتشديدِ الياء بغيرِ همز (٢)، وقرأ أيضًا الطايرِ بألفٍ بعدَ الطاء.
﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي: في الشيء المُشَكَّلِ.
﴿فَيَكُونُ﴾ أي: فيصيرُ.
﴿طَيْرًا﴾ قرأ أبو جعفرٍ، ونافعٌ، ويعقوبُ (طَايِرًا) بالألف، وسَهَّلَ أبو جعفرٍ همزةَ الطايرِ و (طَايِرًا) بخلافٍ عنه (٣)، فمَنْ قرأ: (طَيْرًا) على
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٣٤).
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٣٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٥٣)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ٧٩)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٤٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٣٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٠٦)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٤٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٥٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٨)، و"النشر في =
﴿بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ﴾ أي: أشفي.
﴿الْأَكْمَهَ﴾ هو الذي يولَدُ أعمى.
﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ هو الذي بِهِ وَضَحٌ، وخُصَّ بالذكرِ؛ لأنهما داءُ أعَياءٍ؛ لأنه بُعث زمنَ الطبِّ، وكان يداويهم بالدعاء بشرطِ بالإيمان، قالوا: أبرأ في يوم واحدٍ خمسينَ ألفًا.
﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى﴾ أحيا أربعةَ أنفسٍ عازَرَ، وابنَ العجوزِ، وابنةَ العَشَّارِ، وسامَ بنَ نوحِ، فأمَّا عازَرُ، فكان صَدِيقًا له، فانطلقَ إلى قبره، فدعا اللهَ، فخرجَ من قبرِه، وبقيَ، ووُلِدَ له، وأمَّا ابنُ العجوزِ مَرَّتْ به مَيْتًا على عيسى على سريرٍ يُحْمَلُ، فدعا اللهَ، فجلسَ على سريره، ونزلَ عن أعناقِ الرجالِ، ولبسَ ثيابَهُ، وحملَ سريرَهُ على عنقِه، ورجعَ إلى أهله، وبقيَ، ووُلِدَ له، وأما ابنةُ العَشَّارِ، كانَ رجلًا يأخذ العُشورَ، ماتت له بنتٌ بالأمس، فدعا الله عز وجل، فأحياها، فبقيت وولد لها، وأما سامُ بنُ نوحٍ، فإنَّ عيسى أتى قبرَهُ، فدعا باسمِ اللهِ الأعظمِ، فخرجَ من قبره وقد شابَ نصفُ رأسِه خوفًا
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٣٦).
﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ كَرَّرَها لنفيِ توهُّمِ الألوهيَّةِ فيه.
﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أخبرُكم.
﴿بِمَا تَأْكُلُونَ﴾ مما لم أُعايِنْهُ.
﴿وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ أي: تُخَبئون.
﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ كان يخبرُ الشخصَ بما أكلَ قبلُ، وبما يأكل بعدُ، ويخبرُ الصبيانَ وهو في المكتبِ بما يصنعُ أهلُهم، وبما يأكلون.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكرتُ.
﴿لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مُوَفَّقين للإيمان.
﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ حالٌ معطوفٌ على ﴿بِآيَةٍ﴾ أي: جئتكُم بآية، وجئتُكم مصدِّقًا.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ لما تقدَّمَني.
﴿مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ من الُّلحوم والشُّحوم.
﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كَرَّرها تأكيدًا.
﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما أدعوكم إليه. قرأ يعقوبُ: (وَأَطِيعُوني) بإثباتِ الياء بعد النون (٢).
﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ هذهِ الجملةُ هي الآيةُ التي جاءهم بها.
﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة.
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾ أي: علم.
﴿عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وأرادوا قتلَه، فاستنصرَ عليهم.
و ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي﴾ جمعُ نصير. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنْصَارِيَ) بفتح الياء، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (أَنْصَارِي) بإمالةِ فتحةِ الصاد.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٧٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦ - ١٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٣٧).
﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ أي: الراجعونَ إلى الله، وهم صفوةُ الأنبياءِ، وحَواريُّ الرجُلِ: خالِصَتُه (١) وقال - ﷺ -: "إِنَ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ" (٢)، سُمُّوا بذلك لبياضِ ثيابِهم، وكانوا اثني عشرَ رَجُلًا، وهم: شمعونُ الصفا، وبطرسُ وأخوهُ أندراوسُ، ويعقوبُ بن زَبَدة، وفيلبس، وبرطولوماوس، وأندريوس، ومرقُص، ويوحَنَّا، ولوقا، وتوما، ومَتَّى.
﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ أي: أعوانُ ديِنهِ.
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ﴾ يا عيسى.
﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ لتشهدَ لنا يومَ القيامة.
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾ من كتابِكَ.
﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ عيسى.
﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ لأنبيائِكَ بالصِّدْقِ.
(٢) رواه البخاري (٦٨٣٣)، كتاب: التمني، باب: بعث النبي - ﷺ - الزبير طليعة وحده، ومسلم (٢٤١٥)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
[٥٤] ﴿وَمَكَرُوا﴾ أي: كفارُ بني إسرائيل الذين أحسَّ عيسى منهُمُ الكفرَ، والمكرُ: إخفاءُ الكيدِ، ومكرُهم بهِ: إرادةُ قتلِه.
﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ بهم؛ أي (١): بأن ألقى شبهَهُ على من أرادَ اغتيالَه وقَتْلَه.
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أقدرُهم وأقواهم.
ولمَّا أعلمَ الله المسيحَ أنه خارجٌ من الدنيا، جمعَ الحواريين تلكَ الليلةَ، وأوصاهم، ثم قال: ليكفرَنَّ بي أحدُكم قبلَ أن يصيحَ الديكُ، ويبيعُني بدراهمَ يسيرةٍ، وكان اليهودُ قد جَدُّوا في طلبه، فحضرَ بعضُ الحواريين إلى الحاكمِ على اليهود، واسمُه فيلاطوس، ولقبه هرودوس إلى جماعةٍ من اليهود، وقال: ما تجعلونَ لي إذا دَلَلْتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثينَ درهمًا، فأخذها، ودلَّهم عليه، فرفعَ اللهُ المسيحَ إليه، وألقى شبهَهُ على الذي دَلَّهم عليه، فإنَّ اليهودَ لما قصدوه أظلمت الدنيا حتى صارَتْ كالليل، وأظلمتِ الشمسُ، وظهرتِ النجوم (٢) الكواكبُ، وانشقَّتِ الصخورُ، فلذلك لم يحققوا المشبهَ من شدةِ الظلمة، وحصولِ الإرجافِ، فقتلوه وصلبوه على الخشب، وهم يظنون أنه عيسى، وأنزل اللهُ المسيحَ منَ السماءِ إلى أمه مريمَ وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفَعني إليه، ولم يُصبني إلا الخيرُ، وأمرَها فجمعَتْ له الحواريين، فَبَثَّهُمْ في الأرض دُعاة،
(٢) "النجوم" زيادة من "ن".
وتفرَّقَ الحواريون حيثُ أمرهم، وكسا اللهُ عيسى الريشَ، وألبسَهُ النورَ، وقطعَ عنه لذةَ المطعمِ والمشربِ، وطارَ مع الملائكة، فهو معهم حولَ العرش.
وكان رفعُ المسيحِ ليلةَ القدرِ من شهرِ رمضانَ بعدَ نبوته بثلاثِ سنينَ؛ فإنه (١) نُبِّيَ على رأس ثلاثينَ سنةً، ورفعهُ الله إليه وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً، وكان رفعُه لمضيِّ ثلاثِ مئةٍ وستٍّ وثلاثينَ سنةً من غلبةِ الإسكندرِ اليونانيِّ على أرضِ بابلَ، وبينَ رفعِهِ ومولدِ النبيِّ - ﷺ - خمسُ مئةٍ وخمسٌ وأربعون سنةً، فيكونُ بينَ رفعِه والهجرةِ الشريفةِ النبويةِ المحمديةِ خمسُ مئةٍ وثمانٍ وتسعون سنةً.
أما أمُّه مريمُ عليها السلام فإنها عاشَتْ نحو ثلاثٍ وخمسين سنةً؛ لأنها حملَتْ به لما صار لها من العمر ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، وولدته ببيتِ لحم من أرضِ بيتِ المقدسِ، وعاشتْ مجتمعةً معهُ ثلاثًا وثلاثين سنةً وكسرًا، وبقيت بعدَ رفعِه ستَّ سنينَ، وللمؤرخين في ذلك خلاف، والله أعلم.
وكان رفعهُ من طور زيتا جبلٍ شرقيَّ بيتِ المقدس.
وروي أنه دعا وقتَ رفعِه اللهَ بهذا الدعاءِ، وهو دعاء مُستجابٌ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ القَرِيبُ في عُلُوِّكَ، المتُعَالي في دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ أَنْتَ الَّذِي نَفَذَ بَصَرُكَ في خَلْقِكَ، وحُسِرَتِ الأَبْصارُ دُونَ النَّظَرِ إِلَيْكَ، وغُشِّيَتْ دُونَكَ، وسَبَّحَ لَكَ الفَلَقُ في النُّورِ (٢)، أَنْتَ الَّذِي جَلَيْتَ الظُّلَمَ
(٢) "في النور" سقطت من "ت".
[٥٥] ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ ظرفٌ لـ (مَكَرَ الله).
﴿يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي: مُنِيمُكَ، من: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠]، وكان عيسى قد نامَ، فرفعَهُ اللهُ نائِمًا إلى السماء.
﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ إلى سمائي، ومَقَرِّ ملائكتي، قال جماعة: في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ، معناه: إني رافعُك إليَّ.
﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ومتوفِّيكَ بعدَ إنزالِكَ من السماء، وقيل: بل توفاه اللهُ ثلاثَ ساعاتٍ من النهار، ثم رفَعَهُ إليه.
﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾ مُنَجِّيك.
﴿مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مُخْرِجُكَ من بينِهم.
﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ هُمْ أهلُ الإسلامِ الذين صدَّقوه واتّبَعوا دينَه في التوحيدِ من أمةِ محمدٍ - ﷺ -، فهم ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظاهرينَ عليهم يغلبونهم بالسيفِ والبرهان ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لأنه لا شريعةَ بعدَ شريعةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ في الآخرةِ.
﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الدنيا منَ الدينِ، وأمرِ عيسى عليه السلام.
[٥٦] ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتلِ والسبيِ والجزيةِ.
﴿وَالْآخِرَةِ﴾ بالنارِ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي: جزاءَ أجورهم؛ لأنهم عملوا خيرًا، فأعطاهم الجنةَ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (فَيُوَفِّيهِمْ) بالياء، والباقون: بالنون (١).
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لا يرحمُ الكافرين، ولا يُثني عليهم بالجميل.
[٥٨] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: هذا الذي ذكرتُه لكَ من خبرِ عيسى ومريمَ والحواريينَ.
﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ نخبرُكَ بهِ بتلاوةِ جبريلِ عليه السلام.
﴿مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ القرآنِ المحكَمِ الممنوعِ من كُلِّ خَلَلٍ.
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ في كونِه خَلْقًا من غيرِ أبٍ.
﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ في كونِه خَلْقًا من غيرِ أبٍ وأُمٍّ، وتم الكلامُ على قوله: ﴿آدَمَ﴾ ثم قال: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ قَدَّرَهُ جَسَدًا من طينٍ. نزلَتْ لما قالَ وفدُ نجرانَ للنبيِّ - ﷺ -: تشتمُ صاحِبَنا تقولُ إنَّه عبدٌ؟! قالَ: "أَجَلْ إنَّهُ عَبْدُ اللهِ ورَسُولُه" قالوا: هل رأيتَ وَلَدًا من غيرِ أبٍ؟! فنزلَتِ الآيةُ (١)، فَشُبِّهَ عيسى بآدمَ من حيثُ إن آدمَ خُلقَ بغيرِ أبٍ ولا أمٍّ، وهذا من تشبيهِ الغريبِ بالأغربِ؛ لأن خلقَ آدمَ أغربُ من خَلْق عيسى؛ ليكونَ أقطعَ للخَصْم، وأوقَعَ في النفس، والمعنى: خلقَ قالَبَهُ من التراب (٢).
﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يعني: فكان؛ أي: أنشأه بشرًا؛ كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤].
(٢) في "ت": "بالتراب"، وفي "ن": "على التراب".
[٦٠] ﴿الْحَقُّ﴾ أي: هو الحقُّ.
﴿مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي: الشاكِّينَ، الخطابُ مع النبيِّ - ﷺ -، والمرادُ منه غيرُه.
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ أي: جادَلَكَ من النصارى في عيسى.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي: الدلالات الموجبةِ للعلم.
﴿فَقُلْ تَعَالَوْا﴾ هَلُمُّوا.
﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾ حَسَنًا وحُسَيْنًا ﴿وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمةَ.
﴿وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا﴾ النبيَّ - ﷺ - وعليًّا رضي الله عنه.
﴿وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ نتضرَّعْ في الدعاء.
﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ﴾ تلخيصُه: لنجتمعْ نحن وأنتم جميعًا، ثم نتضرَّعْ في اللعنِ والدعاء.
﴿عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ منَّا ومنكم في شأنِ عيسى، فلما قرأها النبيُّ - ﷺ - على وفدِ نجرانَ، قالوا: حتى ننظرَ في أمرنا، ونأتيكَ غدًا، فقالَ عبدُ المسيحِ منهم، وكان ذا رأيِهم: لقد عرفتُمْ أن محمدًا نبيٌّ حَقٌّ، وأنه واللهِ ما لاعَنَ قومٌ قَطُّ نبيَّهُم فعاشَ كبيرُهُم، ولا نبتَ صغيرُهم، فوادِعُوا الرجلَ،
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي: المذكورَ من خبرِ عيسى.
﴿لَهُوَ الْقَصَصُ﴾ أي: الخبرُ.
(٢) في "ش": "الحسن".
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٥٥)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٦٢ - ٣٦٣)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (٢/ ٦٨٢).
﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ﴾ (من) زائدة؛ أي: وما إلهٌ.
﴿إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ لا أحدَ يُساويه في القدرةِ والحِكمة.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عن الإيمان.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ الذينَ يعبدونَ غيرَ الله.
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ولما قدمَ وفدُ نجرانَ المدينةَ، والتَقوْا معَ اليهودِ، اختصموا في إبراهيمَ عليه السلام، فزعمتِ النصارى أنه كانَ نصرانيًّا، وهم على دينه، وقالت اليهودُ: بل كانَ يهوديًّا، ونحن على دينه، فقال لهم رسولُ الله - ﷺ -: "كِلاَ الفَرِيقَيْنِ مِنْهُ بَرِيءٌ، بَلْ كَان حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَأَنا عَلَى دِيِنهِ" فنزل:
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ (١) هم أهلُ الكتابَيْنِ.
﴿تَعَالَوْا﴾ هَلُمُّوا.
﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ المعنى: هَلُمُّوا إلى كلمةٍ يستوي طرفاها، تنصفُ بيننا وبينكم، ليعطي كُلٌّ النَّصَفَةَ من نفِسه، وهي:
﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: لا نسجدُ لغيرِ الله.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عن التوحيد.
﴿فَقُولُوا﴾ أنتم لهم:
﴿اشْهَدُوا﴾ أي: اعلموا ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ تزعُمون أنه على دينِكم، وقد حدثَتِ اليهوديةُ بعدَ نزولِ التوراة، والنصرانيةُ بعدَ نزولِ الإنجيل.
﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ لأن بين إبراهيمَ وموسى ألفَ سنةٍ، وبين موسى وعيسى ألفي سنةٍ، قاله البغويُّ وغيرُه، وبين المؤرخين في ذلك خلافٌ.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ بطلانَ ما تقولون؟!
[٦٦] ﴿هَاأَنْتُمْ﴾. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ونافعٌ: بتسهيل الهمزة بينَ بينَ، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: بتحقيقِ الهمزةِ بعدَ الألف (١)، وروي عن وَرْشٍ (هآنْتُمْ) مَدًّا بلا همزةٍ، وعنهُ وجهٌ ثانٍ: (هَأَنْتُمْ) بهمزةٍ مقصورةٍ بين الهاء والنون، مثل سألتم (٢)، وروي عن قنبلٍ كالوجه الثاني عن ورشٍ، أصلها: (أأنتم) قلبت الهمزةُ الأولى هاءً؛ كقولهم: هَرَقْتَ وأَرَقْتَ (٣).
﴿هَؤُلَاءِ﴾ أصلهُ: أُولاء، دخلتْ عليه هاءُ التنبيه، وهو في موضعِ النداء، يعني: يا هؤلاء! أنتم.
﴿حَاجَجْتُمْ﴾ جادَلْتم.
﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي: فيما علمتموه من التوراة والإنجيل من أمرِ موسى وعيسى.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٦)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٤٨٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠).
(٣) انظر: مصادر التعليق رقم (١).
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وأنتم جاهلون به.
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ثم بَرَّأَ تعالى إبراهيمَ فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾ أي: مائلًا عن الأديان كلِّها إلى الدينِ المستقيمِ.
﴿مُسْلِمًا﴾ ثم وَبَّخَهُم مؤكِّدًا براءته فقال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ثم أومأَ إلى بُعدِهم عنه فقال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾ أي: أقربَهم وأحقَّهم.
﴿بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في زمانِه وبعدَه.
﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ من هذهِ الأمةِ.
﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ينصرُهم.
[٦٩] ونزلَ في معاذِ بنِ جَبَلٍ وحُذيفةَ بنِ اليمَانِ وعَمَّارِ بنِ ياسرٍ حينَ دعاهُمُ اليهودُ إلى دينِهم:
﴿وَدَّتْ﴾ (١) تمنَّتْ.
﴿طَائِفَةٌ﴾ جماعةٌ.
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: اليهود.
﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ عن دينكم.
﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: وما يضلُّون إلا أمثالهم.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ بذلك.
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآنَ، وبيانَ نعتِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أنَّ نعتَه في التوراة والإنجيل.
[٧١] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ تَخْلِطون.
﴿الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الإسلامَ باليهوديةِ والنصرانيةِ.
﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي: نعتَ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه حقّ؟!
﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ فيما بينهم، وهم اليهود.
﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو القرآنُ.
﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أولَهُ.
﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ﴾ أي: لعلَّ المسلمين يقولون: ما رجعَ هؤلاءِ عن الإسلام وهمْ أهلُ علمٍ ودرايةٍ إلا أنهم علموا بُطلانه، فيشكُّون فيه، ثم ﴿يَرْجِعُونَ﴾ عنه بعدَما دخلوا فيه.
﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ هذا متَّصِلٌ بالأول؛ أي: وقالت: لا تؤمنوا.
﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ يهدي من يشاءُ إلى الإيمان.
﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ (أاَنْ يُؤْتى) بهمزتين على الاستفهام، والثانية منهما مسهَّلة (١)؛ أي: ولا تصدِّقوا بأن يؤتى أحدٌ.
﴿مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ إلَّا من تبعَ دينَكم.
﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ عطفٌ على ﴿يُؤْتَى﴾ أي: يومَ القيامة تكونُ لهم الحجةُ عليكم، والغلبةُ. تلخيصُه: ما يؤتون مثلَه، ولا يحاجونكم، والكلامُ (٢) كلُّه من قولِ الطائفةِ لأتباعهم، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ اعتراضٌ بين الكلامين.
﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ﴾ الهدايةَ والتوفيقَ.
﴿بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ غنيٌّ.
﴿عَلِيمٌ﴾ بالنيَّاتِ.
﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ أي: بنبوَّتهِ.
(٢) "الكلام" ساقطة من "ش".
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ هو المالُ الكثيرُ.
﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ هو عبدُ اللهِ بنُ سلام، استودَعَهُ (١) رجلٌ ألفًا ومئتي أوقيةٍ ذهبًا، فأداه إليه.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾ هو القليل.
﴿لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ هو كعبُ بنُ الأشرفِ (٢)، وقيل: فنحاص بن عازوراء، استودعه قرشيٌّ دينارًا، فلم يردَّه إليه، وجحده. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، وأبو بكر: (يُؤَدِّهْ) (لا يُؤَدِّهْ) بإسكانِ الهاء، وكذلك (نُؤْتهِ) و (نُوَلِّهْ) و (نُصْلِهْ)، واختلِفَ عن أبي جعفرٍ، وهشامٍ، وقرأ يعقوبُ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عنه: بالاختلاس كسرًا، والباقون: بالإشباع كسرًا، فمن سكَّن الهاء، قال: لأنها وضُعت في موضعِ الجزمِ، وهو الياء الذاهب، ومن اختلسَ، اكتفى بالكسر عن الياء، ومن أشبعَ، فعلى الأصل؛ لأن الأصلَ في الهاء الإشباعُ.
(٢) انظر "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (٢/ ٦٩٥).
﴿ذَلِكَ﴾ أي: تركُهم أداءَ الحقِّ.
﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي: بسببِ أنهم.
﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ أي: العرب.
﴿سَبِيلٌ﴾ أي: إثم؛ لأن اليهود كانوا يستحلُّون أموالَ العرب ومن خالفَ دينَهم.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ لادعائهم أن ذلك في كتابهم.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ بكذبهم.
﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿بَلَى﴾ إثباتٌ لما نَفَوْهُ من السبيل عليهم في الأميين؛ أي: بلى عليهم سبيلٌ، وتَمَّ الوقفُ هنا.
﴿مَنْ﴾ شرطٌ مبتدأٌ، خبرهُ:
﴿أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ أي: بعهد الله الذي عُهِدَ إليه في التوراة من الإيمانِ بمحمدٍ - ﷺ - وأداءِ الأمانة.
﴿وَاتَّقَى﴾ الشركَ والخيانة، وجوابُ الشرطِ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ قالَ - ﷺ -: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنهن كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النفاق حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" (١).
[٧٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ يستبدِلون.
﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ إليهم في أداءِ الأمانة.
﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾ الكاذبةِ.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من حُطامِ الدنيا، قيل: نزلتْ لما بدَّلَ اليهودُ نعتَ محمدٍ - ﷺ -، وعَهْدَ اللهِ الذي عهدَه إليهم في التوراة، وكتبوا غيرهما (١)، وقيل: أرادَ بعضُ الصحابةِ أخذَ مالٍ بيمينٍ كاذبةٍ، أو باع رجلٌ سلعةً في السوق، فحلفَ بالله لقد (٢) أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ ليوقعَ فيها مسلمًا، فنزلَتْ (٣).
﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ﴾ لا نصيبَ.
﴿لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ ونعيمِها.
﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ غَضبًا عليهم.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ لا يطهِّرُهم من الذنوب.
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٦٠).
(٢) في "ن": "لو".
(٣) رواه البخاري (١٩٨٢)، كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الحلف في البيع، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ أي: اليهودِ.
﴿لَفَرِيقًا﴾ أي: طائفةً، منهم: كعبُ بنُ الأشرفِ، وحُيَيُّ بنُ أخطبَ، ومالكُ بنُ الصَّيْفِ، وغيرهم.
﴿يَلْوُونَ﴾ أي: يعطِفُون.
﴿أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ والمرادُ: تحريفُهم، كآيةِ الرجمِ، وصفةِ محمدٍ - ﷺ - وغيرِهما ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ أي: لتظنوا ما حَرَّفوا.
﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ الذي أنزل الله.
﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ثم نَفَى ذلكَ، فقال:
﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ثم أكَّدَ كذبَهم بقوله:
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم كاذبون، وعنِ ابنِ عباس: "إنَّ الآيةَ نزلَتْ في اليهودِ والنصارى جميعًا، وذلك أنهم حَرَّفوا التوراةَ والإنجيلَ، وألحقوا بكتابِ اللهِ ما ليسَ منه" (١).
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿وَالْحُكْمَ﴾ الفهمَ والعلمَ.
﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ المنزلَةَ الرفيعةَ (٢) بالإنباء (٣).
﴿ثُمَّ يَقُولَ﴾ نَصْبًا عطفًا على ﴿يُؤْتِيَهُ﴾.
﴿لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ نزلَتْ لما قال أبو رافعٍ القُرَظِيُّ من اليهود، والرئيسُ من نصارى أهل نجرانَ للنبي - ﷺ -: يا محمدُ! تريدُ أن
(٢) في"ن": "المرتفعة".
(٣) في "ت" و"ن": "بالأنبياء".
﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ علماءَ بالله فقهاءَ.
﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ أي: بما أنتم؛ كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: ٢٩]؛ أي: مَنْ هو في المهدِ.
﴿تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصِمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُعَلِّمُونَ) بضمِّ التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة؛ أي: تعلِّمون غيرَكم، وقرأ الباقون: بالتخفيفِ مع فتح التاء واللام وإسكان العين، من العلم؛ لقوله:
﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ تقرؤون (٢).
﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ:
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٣٤٦)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٦٧)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٣)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥١)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٦).
﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ﴾ كقريشٍ والصابئين حينَ قالوا: الملائكةُ بناتُ الله.
﴿وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ كاليهود والنصارى، وقولهم في العُزير والمسيح.
المعنى: ما ينبغي لمن أُعطي النبوَّةَ أن يأمرَ بعبادةِ غيرِ الله، بل يأمرُهم بمعرفتِهِ ومعرفةِ أحكامِه وعبادتِه.
﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ تعجُّبٌ وإنكارٌ بمعنى: لا يقولُ هذا.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
(٢) في "ت": "الاختلاف".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٧).
[٨١] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكُرْ يا محمدُ حين.
﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ وأُمَمِهم بما تقدَّمَ، وبما يأتي.
﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ قرأ حمزةُ: (لِمَا) بكسر اللام للجرِّ، وهي متعلقة بأخذ؛ أي: أخذنا الميثاق لذلك فتكون (ما) بمعنى الذي، وقرأ الباقون: بفتحها (١)، فتكون (ما) بمعنى الذي، واللام للابتداء، ودخلتْ لتؤكِّدَ معنى القسم؛ لأن أخذَ الميثاق قسمٌ في المعنى، والعائد محذوف؛ أي: الذي آتيتكموهُ، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (آتينَاكُمْ) بالنون على التعظيم، وقرأ الباقون: بالتاء؛ لموافقة الخط، ولقوله: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ﴾، وخبر المبتدأ ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، ثم عطف على (آتيتكم):
﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ من العلم، وجوابُ القسم.
﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ أي: بالرسولِ.
﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ عطفٌ على (الرسول)، والمرادُ: محمدٌ - ﷺ -، والذين
﴿قَالَ﴾ الله تعالى للأنبياء حين استخرجَ الذريَّةَ من صُلْبِ آدَم عليه السلام والأنبياءُ فيه كالمصابيح والسُّرُجِ، وأخذَ عليهم الميثاقَ في أمرِ محمدٍ - ﷺ -:
﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ بذلك؟ وتقدَّم التنبيهُ على اختلاف القراء في الهمزتين من كلمةٍ عند قوله تعالى: ﴿ءَأَسْلَمْتُمْ﴾ وكذلك اختلافهم في قوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾.
﴿وَأَخَذْتُمْ﴾ أي: قبلتم. قرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ ورويسٌ (وَأَخَذْتُمْ) بإظهار الذال عندَ التاء، والباقون: بالإدغام (١).
﴿عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ عَهْدي.
﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ﴾ اللهُ تعالى:
﴿فَاشْهَدُوا﴾ على أنفسِكم وأتباعِكم.
﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكُم وعليهِم.
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "لم يبعَثِ الله نبيًّا من لَدُنْ آدمَ فَمَنْ بعدَهُ إلا أُخِذَ عليه العهدُ في محمدٍ - ﷺ -: لَئِنْ بُعِثَ وهو حَيٌّ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّهُ، ويأخذ العهدَ بذلكَ على قومِه" (٢).
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٣/ ٣٣٢).
[٨٢] ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الإقرارِ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ العاصونَ الخارجونَ عن الإيمان.
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
[٨٣] اختلف أهلُ الكتابَيْن، فادعى كلُّ واحد أنه على دين إبراهيم، فاختصموا إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: "كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنَ دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ"، فغضبوا، وقالوا: لا نرضى بقضائِكَ، ولا نأخذُ بدينِك، فأنزل الله تعالى:
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ (١) دخلتِ الهمزةُ على الفاء العاطفة على محذوفٍ تقديرُه: أيتولَّونَ فغيرَ دين الله يبغون. قرأ أبو عمرٍو، وحفصٌ عن عاصمٍ، ويعقوبُ (يَبْغُونَ) بالغيب؛ لقوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وقرأ الباقون: بالخطاب؛ لقوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ (٢).
﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ خضعَ وانقادَ.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ١٧٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢١٤)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: ١١٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٥٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ١٨٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٧٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٨٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٥١).
﴿وَكَرْهًا﴾ بمشقة، فأهلُ السمواتِ يسجدون طَوْعًا، وأهلُ الأرض يسجدُ بعضهم طَوْعًا، وبعضُهم كَرْهًا؛ كالمنافقين.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ قرأ حفصٌ، ويعقوبُ: بالغيب، فحفصٌ: بضمِّ الياء ونصبِ الجيم، ويعقوبُ على أصلِه في فتح الياءِ وكسر الجيم، والباقون: بالخطاب مع ضمِّ الياء ونصب الجيم (٢).
﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿قُلْ﴾ الخطابُ للنبيِّ - ﷺ -.
﴿آمَنَّا﴾ أي: أنا والمؤمنون.
﴿بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ مُنْقادونَ، ذكرَ المللَ والأديانَ، واضطرابَ الناسِ فيها، ثم أمرَ رسولَ الله - ﷺ - أن يقولَ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٧٨)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٥١٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٧٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٥٢). وانظر تتمة المصادر في التعليق السابق.
[٨٥] ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾ أي: التوحيدِ.
﴿دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ نزلتْ في جماعة ارتدُّوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة إلى مكةَ كفارًا، منهم الحارثُ بنُ سُويدٍ الأنصاريُّ.
﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هذه الآية قطعتْ عمل كلَّ عاملٍ على غيرِ ملَّة الإسلام.
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿كَيْفَ﴾ استفهامُ إنكار.
﴿يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ أي: كيف يهديهم بعدَ اجتماعِ الأمرين.
﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ على صدقِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ بوضعِ الكفرِ موضعَ الإيمان، فكيفَ بمَنْ عرفَ الحقَّ ثم أعرضَ (١) عنه؟
[٨٧] ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ.
﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ مبتدأ ثانٍ، خبرُه:
﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ﴾ أي: عذابَه.
﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ والمرادُ بالناسِ: المؤمنون.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في اللعنة.
﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: يؤخَّرون، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير، فهما مرتفعان عنهم.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)﴾.
[٨٩] وكان الحارثُ بنُ سويد لما لحقَ بالكفار، ندمَ، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسولَ الله هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك، فأنزل الله:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لما كان منهم، فحملها إليه رجلٌ من قومه، وقرأها عليه، فقال (١) الحارث: "واللهِ ما علمتُكَ إلا صَدوقًا، وإنَّ رسول اللهِ - ﷺ - لأصدقُ منكَ، وإنَّ اللهَ لأصدقُ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ونزلَ في اليهود: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بعيسى.
﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ بموسى.
﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمدٍ - ﷺ -.
﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ إذا وقعوا في الحشرجَةِ؛ أي: النَّزْعِ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ الثابتون على الضلالِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ، (مِلْءُ الأَرْضِ) بالنقل (٢)؛ أي: ما يملؤها من شرقِها إلى غربها.
(٢) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٢/ ٢٥٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٥٣).
﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ المعنى: لن يُقبل من أَحدهم فديةٌ، ولو افتدى بملءِ الأرضِ ذهبًا.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ في رفع العذاب، قال - ﷺ -: "يَقُولُ اللهُ لِأقَلِّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَلَّا تشرِكْ بِي، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تشرِكَ" (١).
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الجنَّةَ.
﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي: من أحبِّ أموالِكم إليكُم.
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعلمُه ويُجازي عليه.
﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)﴾.
﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ نزلتْ لما قالَ اليهودُ للنبيِّ - ﷺ -: تزعُم أنك على ملةِ إبراهيمَ، وأنت تأكلُ لحومَ الإِبِل، وتشربُ ألبانَها، وإبراهيمُ ما كانَ كذلكَ! فنزلَتِ الآية ردًّا عليهم، وتكذيبًا لهم (١).
﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ وهو يعقوبُ عليه السلام.
﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ وهو لحومُ الإبل وألبانُها؛ فإنهما كانا أحبَّ الطعام إليه، فنذرَ تحريمَهُما إن شفاهُ اللهُ من مرضٍ أصابَهُ، وهو عِرْق النسا، ولم يأكلْهُ ولدهُ اتبِّاعًا له.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ المعنى: إن المحرَّمَ عليكم إنما حُرِّمَ بعدَ إبراهيمَ قبلَ نزولِ التوراة، فلمَّا أضافوا تحريمَه إلى الله، كذبهم الله، فقال عز وجل:
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ:
﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ ليتبين صدقُكُم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تزعمونَ، فبُهِتوا، ولم يأتوا بها.
﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)﴾.
[٩٤] فقال الله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ بعد لزوم الحجَّةِ.
﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ تعريضٌ بكذِبهم.
﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ التي أنا عليها، وهي ملَّةُ الإسلام.
﴿حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ باللهِ.
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ أي: مسجدٍ.
﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ سببُ نزولِها أن اليهودَ قالوا للمسلمين: بيتُ المقدسِ قبلَتُنا، وهو أفضلُ من الكعبةِ وأقدمُ، فأنزل الله الآية (١):
﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ هي مكةَ، والباء والميم يتعاقبان، وسميت بَكَّة؛ لبكِّها؛ أي: دَقِّها أعناقَ الرجال، وسميت مكةَ؛ لقلة مائها؛ لقول العرب: مَكَّ الفَصيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ، وامْتكَّهُ: إذا امتصَّ كلَّ ما فيه من اللبنِ، وأهلُ مكة كانوا يمتكُّون الماءَ فيها؛ أي: يستخرجونه.
﴿مُبَارَكًا﴾ كثيرَ البركةِ.
﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ لأنه قبلَتُهم.
[٩٧] ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ ثم بَيَّنَ الآياتِ فقالَ:
﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ هو الحجرُ الذي يصلَّى خلفَه ركعتا الطواف، وهو الذي قام عليه إبراهيمُ وقتَ رفعهِ القواعدَ من البيت لما طالَ البناءُ، فكان كلما علا الجدارُ، ارتفعَ به الحجرُ في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه، وإسماعيلُ يناولُه الحجارةَ والطينَ حتى أكملَ الجدارَ، وكان أثرُ قدميه فيه، فاندرسَ من كثرة المسحِ بالأيدي، ومن تلك الآياتِ الحجرُ الأسودُ، والحطيمُ، وزمزمُ، والمشاعرُ كلُّها، ومنها أن الطيرَ يطيرُ فلا يعلو فوقَهُ، وقد شاهدتُ ذلك عيانًا.
﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ من أن يُهاجَ فيه؛ لدعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥]، والضميرُ في قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ﴾ عائدٌ على البيت في قولِ الجمهور، ويفهم من معناه أن من دخلَ الحرم، فهو في الأمن؛ لأنه جزءٌ من البيت إذ هو لسببه ولحرمته.
واختلفَ الأئمةُ رضي الله عنهم في الجاني الملتجئ للحرم، فقال مالكٌ والشافعيُّ: يُقْتَصُّ منه في الحرم، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: إن جنى في الحرم، اقْتُصَّ منه، وإن جنى خارجَ الحرم، ثم لجأ إليه، لم يُقْتصَّ منه، لكن يُضَيَّقُ عليه بتركِ البيعِ والشراءِ حتى يخرجَ إلى الحِلِّ، فيقام حينئذ.
وأما الكلام في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ فقد روى المحدِّثون عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: قُلْتُ يا رسولَ الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أَوَّلُ؟ قَالَ: "المَسْجِدُ الحرامُ"، قالَ: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قالَ:
وقد رُوي أن الملائكةَ بنوا المسجدَ الحرامَ قبلَ خلقِ آدمَ بألفي عامٍ، فكانوا يحجُّونه.
قال الإمامُ أبو العباسِ القرطبيُّ: يجوزُ أن يكونَ بناهُ يعني: مسجدَ بيتِ المقدسِ الملائكةُ بعدَ بنائها البيتَ بإذنِ الله تعالى (٢).
وقد رُوي أن أولَ من بنى مسجدَ بيتِ المقدس وأُرِيَ موضعَه يعقوبُ بنُ إِسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السلام، روي أن أباه إسحاقَ أمرَه ألَّا ينكحَ امرأةً من الكنعانيين، وأمره أن ينكحَ من بناتِ خاله، وكان مسكنُ يعقوبَ بالقدس، فلما توجَّه إلى خاله لينكحَ ابنتَهُ، أدركه الليلُ في بعض الطريق، فبات متوسِّدًا حجرًا، فرأى فيما يرى النائمُ أن سُلَّمًا منصوبًا إلى بابٍ من أبوابِ السماء، والملائكةُ تعرُجُ فيه وتنزلُ، فأُوحى الله تعالى إليه: إني إلهكَ وإلهُ أبيكَ (٣) إبراهيمَ، وقد وَرَّثتكَ هذه الأرضَ المقدسةَ لكَ ولذريَّتِكَ من بعدِك، وباركتُ فيكَ وفيهم، وجعلتُ لكم الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم أنا معكَ أحفظُك حتى أردَّكَ إلى هذا المكان، فاجعلْه بيتًا تعبدُني فيه أنتَ وذريتُكَ (٤).
وقد تأولَ بعضُ العلماءِ معنى الحديثِ الشريفِ الواردِ أن بناءَ المسجدِ
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٤/ ١٣٨).
(٣) في جميع النسخ "آبائك"، والمثبت هو الصواب.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٣٨٤).
وأما بناءُ داودَ وسليمانَ عليهما السلام لمسجدِ بيتِ المقدس، فإنه بعدَ ذلك بأزمنةٍ متطاولةٍ على أساسٍ قديم، فهما مجدِّدان لا مؤسِّسان.
﴿وَلِلَّهِ﴾ فرضٌ واجب.
﴿عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (حِجُّ) بكسر الحاء، والباقون: بالفتح، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان معناهما واحد (١).
والحجُّ أحدُ أركانِ الإسلام، قال - ﷺ -: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحج، وصَوْمِ رَمَضَانَ" (٢).
﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ والاستطاعةُ: القدرةُ بالمالِ والبدنِ، فمن وجدَ الزادَ والراحلةَ ونفقَة العيال قدرَ الذهابِ والرجوع، مع التمكُّن، وجبَ
(٢) رواه البخاري (٨)، كتاب: الإيمان، باب: الإيمان وقول النبي - ﷺ -: "بني الإسلام على خمس"، ومسلم (١٦)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ جحدَ فرضَ الحجِّ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ في الحديث (٢): "مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا" (٣).
(٢) "الحديث" ساقطة من "ت".
(٣) رواه الترمذي (٨١٢)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في التغليظ في ترك الحج، عن علي -رضي الله عنه-. وقال: حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث. ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٥/ ٧٢)، والروياني في "مسنده" (١٢٤٦)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٤/ ٣٣٤) وضعفه، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم-، وانظر: "الدراية" لابن حجر (٢/ ٢٩٢).
[٩٨] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالَّةِ على صدقِ محمدٍ.
﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ فتجازَوْنَ به؟!
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن دينِ الإسلام.
﴿مَنْ آمَنَ﴾ بتغييركم صفةَ النبيِّ - ﷺ - ليرتابوا، وذكرِكُم وقائعَ الجاهلية ليقتتلوا.
﴿تَبْغُونَهَا﴾ تطلُبونها.
﴿عِوَجًا﴾ ميلًا عن الاستقامة.
﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ بما في التوراة من صدق محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيدٌ لهم. يسكتُ حمزةُ قبلَ الهمز إذا كانَ الساكنُ آخرَ كلمةٍ والهمزةُ أولَ كلمةٍ أخرى، نحو (مَنْ آمَنَ) و (قُلْ إِنَّني) وشبهِه حيثُ وقعَ، ويسهل بالنقل إذا وقفَ بخلافٍ عنه (١).
[١٠٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الذين يريدون كفركم.
﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ نزلتْ في نفرٍ من الأوس والخزرج، وكانوا جلوسًا يتحدثون، فمر بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ، فغاظَه تألُّفُهُم واجتماعُهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فأمر شابًّا من اليهود أن يجلسَ إليهم، ويذكِّرهم يومَ بعاث، وينشدَهم بعضَ ما قيلَ فيه من الأشعار، وكان يومًا اقتتلتْ فيه الأوسُ والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس، ففعلَ، فتنازعَ القومُ وتغاضبوا، وقالوا: السلاحَ السلاحَ، فبلغَ النبيَّ - ﷺ -، فخرج إليهم فيمن معهُ من المهاجرينَ والأنصار، فقال: "أَتَدَّعُونَ الجاهِلِيَّةَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ بِالإِسْلامِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الجاهِلِيَّةِ وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ؟! " فعلموا أنها نزغةٌ من الشيطان، وكيدٌ من عدوِّهم فألقَوا السلاحَ، واستغفروا، وعانقَ بعضُهم بعضًا، وانصرفوا مع رسولِ الله - ﷺ -، فما كان (١) يومٌ أقبحَ أولًا وأحسنَ آخرًا من ذلكَ اليوم (٢).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٤/ ٢٣)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ٦٢ - ٦٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٣٩٠)، و"العجاب" لابن حجر (٢/ ٧٢١)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٢٧٨).
تَأليف
الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ
المولود سنة (٨٦٠ هـ) - والمتوفى سنة (٩٢٧ هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى
المُجَلَّد الثاني
اعتَنَى بِهِ
تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا
نُوْرُ الدِّيْن طَالب
إصدَارات
وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة
إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ
دولة قطر
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطَبعَة الأولى، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة
دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب
سوريا - دمَشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦
لبنان - بَيروت - ص. ب: ٥١٨/ ١٤
هَاتف: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠١١
www.daralnawader.com