تفسير سورة آل عمران

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ إلى آخر القصة. قال الشيخ أبو بكر : قد بيّنا في صدر الكتاب معنى المُحْكَم والمتشابه، وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض ؛ قال الله تعالى :﴿ الر كتاب أحكمت آياته ﴾ [ هود : ١ ] وقال تعالى :﴿ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾ [ يونس : ١ ] فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ؛ وقال تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] فوصف جميعه بالمتشابه، ثم قال في موضع آخر :﴿ هُوَ الّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه ؛ والإحكام الذي عمَّ به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول. وأما موضع الخصوص في قوله تعالى :﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ ﴾ فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحداً، وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الإحكام المذكور في هذه الآية، وهو الذي جعل أُمّاً للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه. وأما المتشابه الذي عمّ به جميع القرآن في قوله تعالى :﴿ كتاباً متشابهاً ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] فهو التماثُلُ ونفيُ الاختلاف والتضاد عنه. وأما المتشابه المخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه ؛ وما رُوي عن ابن عباس " أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ " فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه ؛ لأنه لم يَنْفِ أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما. وجائز أن يسمَّى الناسخُ محكماً لأنه ثابت الحكم، والعرب تسمي البناء الوثيق محكماً، ويقولون في العقد الوثيق الذي لا يمكن حلّه محكماً، فجائز أن يسمَّى الناسخ محكماً، إذْ كانت صفته الثبات والبقاء، ويسمَّى المنسوخ متشابهاً من حيث أشبه في التلاوة المحكم وخالفه في ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه، فمن هذا الوجه جائز أن يسمَّى المنسوخ متشابهاً. وأما قول من قال : إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه ؛ فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع، وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه ؛ فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه. وما لا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل، فهذا أيضاً أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز. وأما ما رُوي عن جابر بن عبدالله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله، كقوله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وما جرى مجرى ذلك، فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغٌ فيه ؛ لأن ما عُلِمَ وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أُحكم بيانه، وما لا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمَّى بهذا الاسم. فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما رُوي فيه، ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأوّلوه عليه. وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً والمتشابه ما يحتمل معنيين، فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم ؛ لأن المحكم من هذا القسم سُمّي محكماً لإحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته، والمتشابه منه سُمّي بذلك لأنه أشْبَهَ المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسُمّي متشابهاً من هذا الوجه. فلما كان المحكم والمتشابه يَعْتَوِرُهُما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى :﴿ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأمّا الّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾، مع عِلْمِنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رَدِّ المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه، لقوله تعالى في صفة المحكمات :﴿ هُنَّ أمّ الكِتَابِ ﴾ والأمُّ هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه، فسمّاها أُمّاً، فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها وردّه إليها. ثم أكّد ذلك بقوله :﴿ فأمّا الّذين في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ فوصف متبع المتشابه من غير حَمْلِهِ له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه، وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة، وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى :﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] يعني والله أعلم : الكفر ؛ فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زَيْغٌ يعني الميل عن الحق يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر ؛ فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب ردّه إلى المحكم وحمله على معناه. ثم نَظَرْنا بعد ذلك في المعاني التي تَعْتَوِرُ هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قَدَّمْنا ذكره في أقسام المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال اللفظ، فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ، فإنه إن كان تاريخهما معلوماً فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقيناً أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم، فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحُكْمَيْن اللذين لا احتمال فيهما لغير النسخ. وإن اشتبه على السامع من حيث إنه لم يعلم التاريخ، فهذا ليس أحد اللفظين أوْلى بكونه محكماً من الآخر ولا بكونه متشابهاً منه، إذْ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخاً ويحتمل أن يكون منسوخاً ؛ فهذا لا مدخل له في قوله تعالى :﴿ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾.
وأما قول من قال :" إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه " فهذا أيضاً لا مدخل له في هذه الآية ؛ لأنه لا يحتاج إلى ردّه إلى المحكم، وإنما يحتاج إلى تدبُّرِه بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه.
وأما قول من قال :" إن المحكم ما عُلم وقته وتعيينه والمتشابه ما لا يُعلم تعيين تأويله، كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيَسَنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا " وإن هذا الضرْب أيضاً منها خارج عن حكم هذه الآية لأننا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم. فلم يَبْقَ من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحَمْلُه على معناه إلاّ الوجه الأخير الذي قلنا، وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني، فيجب حمله على المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات. وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها يتناولها الاسم على ما رُوي عنهم فيه لما بيّنا من وجوهها، ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ؛ ثم يكون قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها، فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم يَنْفِ بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] لأن في فَحْوَى الآية ما قد دلّ على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك، ويستحيل أن تدل الآية على وجوب ردّه إلى المحكم. وتدل أيضاً على أنّا لا نصل إلى علمه ومعرفته ؛ فإذاً ينبغي أن يكون قوله تعالى :﴿ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ ﴾ غير نافٍ لوقوع العلم ببعض المتشابه، فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر. ومن الناس من يُجَوِّزُ ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبيِّنُه أبداً، فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به.
وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾، فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى :﴿ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾، وجعل الواو التي في قوله :﴿ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ ﴾ للجمع، كقول القائل : لقيت زيداً وعمراً، وما جرى مجراه. ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله ﴾ وجعل الواو للاستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول. فمن قال بالقول الأول جعل الراسخين في العلم عالِمِينَ ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه ؛ وقد رُوي نحوه عن عائشة والحسن. وقال مجاهد فيما رواه ابن أبي نجيح في قوله تعالى :﴿ فأمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ يعني شَكّاً ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ : الشبهات بما هلكوا، لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنّا به. ورُوي عن ابن عباس : ويقول الراسخون في العلم ؛ وكذلك رُوي عن عمر بن عبدالعزيز. وقد رُوي عن ابن عباس أيضاً : وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنّا به ؛ وعن الربيع بن أنس مثله. والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره :" وما يعلم تأويله إلا الله " يعني تأويل جميع المتشابه على ما بَيَّنَّا، " والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنّا به كلّ من عند ربنا "، يعني ما نُصِبَ لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم وردّه إليه وما لم يجعل لهم سبيلاً إلى علمه من نحو ما وصفنا، فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنّا بالجميع كلٌّ من عند ربنا، وما أخْفَى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا، وما أعْلَمَنَا وما يُعْلِمنَاهُ إلا لمصلحتنا ونفعنا ؛ فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه وما لم يعلموه.
ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلاّ أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى :﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ ﴾ وأن " الواو " للاستقبال دون الجمع ؛ لأنها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر. وقال من ذهب إلى القول الأول : هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن، وهو قوله تعالى في بيان قَسْمِ الفيء :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ﴾ [ الحشر : ٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ شديد العقاب ﴾ [ الحشر : ٨ ] ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ [ الحشر : ١٠ ] وهم لا مح
قوله تعالى :﴿ قُلْ للَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ ﴾. رُوي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق : أنه لما هلكت قريش يوم بدر، جمع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بسوق قَيْنُقَاعَ فدعاهم إلى الإسلام وحذّرهم مثل ما نزل بقريش من الانتقام، فأبَوْا وقالوا : لسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال، لئن حَارَبْتَنَا لتعرفن أنّا الناس ! فأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ للَّذينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ﴾. وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيها من الإخبار عن غلبة المؤمنين المشركين، فكان على ما أخبر به. ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خُلْف، وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب، إذْ ليس في وسع أحد من الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة ثم يتفق مخبر إخباره على ما أخبر به من غير خلف لشيء منه.
قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ في فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ ﴾ الآية. رُوي عن ابن مسعود والحسن أن ذلك خطاب للمؤمنين وأن المؤمنين هي الفئة الرائية للمشركين مثليهم رَأْيَ العين، فرأوهم مثلي عدتهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ؛ لأن المشركين كانوا نحو ألف رجل والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر، فقلّلهم الله تعالى في أعْيُنِ المسلمين لتقوية قلوبهم. وقال آخرون : قوله :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ آيةٌ مخاطِبَةٌ للكفار الذين ابتدأ بذكرهم في قوله :﴿ قُلْ للَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ ﴾ ؛ وقوله :﴿ قَد كَانَ لَكُمْ ﴾ آيةٌ معطوفٌ عليه وتمام له، والمعنى فيه أن الكافرين رأوا المؤمنين مثليهم وأراهم الله تعالى كذلك في رأي العين ليجبن قلوبهم ويرهبهم فيكون أقوى للمؤمنين عليهم، وذلك أحد أبواب النصر للمسلمين والخذلان للكافرين. وفي هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما : غلبة الفئة القليلة العدد والعدة للكثيرة العدد والعدة، وذلك على خلاف مجرى العادة، لِمَا أَمَدَّهُمُ الله به من الملائكة. والثاني : أن الله تعالى قد كان وعدهم إحْدَى الطائفتين، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة وقال :" هذا مَصْرَعُ فُلانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فلانٍ " وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿ زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ﴾ قال الحسن :" زينها الشيطان لأنه لا أحد أشدّ ذمّاً لها من خالقها ". وقال بعضهم :" زينها الله بما جعل في الطباع من المنازعة إليها كما قال تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ﴾ [ الكهف : ٧ ] ". وقال آخرون :" زين الله ما يحسن منه وزين الشيطان ما يقبح منه ".
قوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الّذينَ يَأْمُرُونَ بالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾ الآية. رُوي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال :" رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً أو رَجُلاً أَمَرَ بمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، ثم قال :" يا أبا عُبَيْدَةَ، قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلاَثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيّاً من أوّل النَّهارِ في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَامَ مائةُ رَجُلٍ واثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبَّادِ بني إسْرَائِيلَ فأمروا مَنْ قَتَلَهُمْ بالمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعاً مِنْ آخِرِ النّهارِ في ذلك اليَوْمِ، وهو الّذي ذَكَرَ الله تَعالَى ".
وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل ؛ لأن الله مدح هؤلاء الذين قُتِلُوا حين أَمَرُوا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر. وَرَوَى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " وفي بعض الروايات :" يُقْتَلُ عَلَيْهِ ". وَرَوَى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الشّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِب وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ ". قال عمرو بن عبيد : لا نعلم عملاً من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يُقْتَلُ عليه.
وإنما قال الله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وإن كان الإخبار عن أسلافهم، مِنْ قِبَلِ أن المخاطَبِينَ من الكفار كانوا راضين بأفعالهم، فأُجْمِلُوا معهم في الإخبار بالوعيد لهم ؛ وهذا كقوله تعالى :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾ [ البقرة : ٩١ ] وقوله تعالى :﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ [ آل عمران : ١٨٣ ]، فنسب القَتْلَ إلى المخاطَبِينَ لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولّوهم عليها، فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إلى الّذينَ أوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يَدْعُونَ إلى كِتَابِ اللهِ ﴾ الآية. رُوي عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوَّته كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] فتولّى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذِكْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، ولولا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم، وفريقٌ منهم آمنوا وصدّقوا لعِلْمِهِمْ بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله مِنْ نَعْتِهِ وصفته. وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم لولا أنهم كانوا عالمين بما ادّعاه مما في كتبهم مِنْ نَعْتِهِ وصِفَتِهِ وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه، فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دلّ ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك. وهو نظير ما تحدَّى الله تعالى به العربَ من الإتيان بمثل سورة من القرآن فأعرضوا عن ذلك وعدلوا إلى القتال والمحاربة، لعلمهم بالعجز عن الإتيان بمثلها ؛ وكما دعاهم إلى المباهلة في قوله تعالى :﴿ فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ﴾ [ آل عمران : ٦١ ] إلى قوله تعالى :﴿ ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ [ آل عمران : ٦١ ] وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" لو حَضَرُوا وَباهَلُوا لأَضْرَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الوَادِي نَاراً ولم يَرْجِعُوا إلى أهْلٍ ولا وَلَدٍ " ؛ وهذه الأمور كلها من دلائل النبوة وصحة الرسالة. ورُوي عن الحسن وقتادة أنما أراد بقوله تعالى :﴿ يَدْعُونَ إلى كِتَابِ الله ﴾ إلى القرآن ؛ لأن ما فيه يوافق ما في التوراة في أصول الدين والشرع والصفات التي قد تقدمت بها البشارة في الكتب المتقدمة.
والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني : جائزٌ أن يكون نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بيّنا، ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حَدٍّ أو غيره، كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :" أنه ذهب إلى بعض مدارسهم، فسألهم عن حد الزاني، فذكروا الجلد والتَّحْمِيمَ وكتموا الرجْمَ، حتى وقفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على آية الرجم بحضرة عبدالله بن سلام ". وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك ؛ وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى، ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ﴾ [ النور : ٤٨ ].
قوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ قيل في قوله تعالى :﴿ مَالِكَ المُلْكِ ﴾ إنه صفة لا يستحقّها إلا الله تعالى من أنه مالك كل ملك، وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة، وقيل مالك العباد وما ملكوا، وقال مجاهد : أراد بالملك ههنا النبوة. وقوله :﴿ تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما مُلْك الأموال والعبيد، وذلك مما يجوز أن يؤتيه الله تعالى للمسلم والكافر. والآخر : أمر التدبير وسياسة الأمّة، فهذا مخصوص به المسلم العدل دون الكافر ودون الفاسق، وسياسةُ الأمّة وتدبيرُها متعلقةٌ بأوامر الله تعالى ونواهيه، وذلك لا يؤتمن الكافر عليه ولا الفاسق، ولا يجوز أن تُجعل إلى من هذه صفته سياسة المؤمنين لقوله تعالى :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ].
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] فأخبر أنه آتى الكافر الملك. قيل له : يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاءَ الكافر الملك ؛ وقد قيل إنه أراد به : آتى إبراهيم الملك، يعني النبوة وجواز الأمر والنهي في طريق الحكمة.
قوله تعالى :﴿ لا يَتّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ الآية. فيه نَهْيٌ عن اتّخاذ الكافرين أولياء ؛ لأنه جزم الفعل، فهو إذاً نهيٌ وليس بخبر. قال ابن عباس : نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يُلاطفوا الكفار ؛ ونظيرها من الآي قوله تعالى :﴿ لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ]، وقال تعالى :﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ﴾
[ المجادلة : ٢٢ ] الآية، وقال تعالى :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ]، وقال تعالى :﴿ فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ﴾ [ النساء : ١٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ [ هود : ١١٣ ]، وقال تعالى :
﴿ فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ [ النجم : ٢٩ ]، وقال تعالى :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ]، وقال تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغْلُظْ عليهم ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وقال تعالى :﴿ ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ﴾ [ طه : ١٣١ ]، فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا. ورُوي " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإِبلٍ لبني المصطلق وقد عَبِسَتْ بأبوالها من السمن، فتقنع بثوبه ومَضَى " لقوله تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ﴾ [ طه : ١٣١ ]. وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ﴾ [ الممتحنة : ١ ]. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْركٍ "، فقيل : لم يا رسول الله ؟ فقال :" لا تَرَاءَى نَارَاهُما ". وقال :" أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ ". فهذه الآي والآثار دالَّةٌ على أنه ينبغي أن يُعَامَلَ الكفارُ بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة، ما لم تكن حالٌ يخاف فيها على تَلَفِ نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضرراً كبيراً يلحقه في نفسه، فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد.
والولاء ينصرف على وجهين، أحدهما : مَنْ يَلي أمورَ مَنْ يرتضي فِعْلَهُ بالنصرة والمعونة والحياطة، وقد يسمَّى بذلك المعانُ المنصور، قال الله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] يعني أنه يتولَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ. والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم مُعَانُون بنصرة الله، قال الله تعالى :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ يونس : ٦٢ ].
قوله تعالى :﴿ إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ يعني أن تخافوا تَلَفَ النفس وبعض الأعضاء فتتّقُوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها. وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم ؛ وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ قال :" لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً وليّاً في دينه ". وقوله تعالى :﴿ إلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ : إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فَيَصِلُهُ لذلك ؛ فجعل التقية صلة لقرابة الكافر. وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ]. وإعطاء التّقِيَّةِ في مثل ذلك إنما هو رخصةٌ من الله تعالى وليس بواجب، بل تَرْكُ التقية أفضل، قال أصحابنا فيمن أُكْرِهَ على الكفر فلم يفعل حتى قُتل : إنه أفضل ممن أظهر. وقد أخذ المشركون خبيب بن عديّ فلم يُعْطِ التقية حتى قُتل، فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعْطَى التقية وأظهر الكُفْرَ فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :" كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ " ؟ قال : مطمئناً بالإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم :" وإنْ عَادُوا فَعُدْ ! " وكان ذلك على وجه الترخيص. ورُوي أن مُسَيْلِمَةَ الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم ! فخلاّه، ثم دعا بالآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : إني أصَمُّ، قالها ثلاثاً ؛ فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أَمَّا هَذَا المَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئاً لَهُ، وأمّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ الله فلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ ". وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصةٌ وأن الأفضل ترك إظهارها. وكذلك قال أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزازُ الدين، فالإقدام عليه حتى يُقْتَلَ أَفْضَلُ من الأخْذِ بالرخصة في العدول عنه، ألا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقُتل كان أفضلَ من انحاز ؟ وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين، فكذلك بَذْلُ النفس في إظهار دين الله تعالى وتَرْكُ إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه.
وفي هذه الآية ونظائرها دلالةٌ على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء، وأنه إذا كان له ابنٌ صغير مسلم بإسلام أمّه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره. ويدلّ على أن الذميّ لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ؛ لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة.
قوله تعالى :﴿ وآلَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ ﴾، رُوي عن ابن عباس والحسن أن آل إبراهيم هم المؤمنون الذين على دينه ؛ وقال الحسن :" وآل عمران المسيح عليه السلام لأنه ابن مريم بنت عمران " ؛ وقيل : آل عمران هم آل إبراهيم، كما قال :﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾ وهم موسى وهارون ابنا عمران. وجعل أصحابنا الآل وأهل البيت واحداً فيمن يوصي لآل فلان أنه بمنزلة قوله : لأهل بيت فلان، فيكون لمن يجمعه وإياه الجدّ الذي ينسبون إليه من قبل الآباء نحو قولهم : آل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، هما عبارتان عن معنى واحد ؛ قالوا : إلا أن يكون من نُسِبَ إليه الآلُ هو بيت ينسب إليه، مثل قولنا : آل العباس وآل علي، والمعنيّ فيه أولادُ العباس وأولاد عليّ الذين يُنسبون إليهما بالآباء ؛ وهذا محمول على المتعارف المعتاد
قوله عز وجل :﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾ رُوي عن الحسن وقتادة : بعضها من بعض في التناصر في الدين، كما قال تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] يعني في الاجتماع على الضلال، ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ [ التوبة : ٧١ ] في الاجتماع على الهدى. وقال بعضهم :﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾ في التناسل ؛ لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام.
مطلب : فيمن نذر أن ينشئ ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين
قوله عز وجل :﴿ إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ رُوي عن الشعبي أنه قال :" مُخْلَصاً للعبادة "، وقال مجاهد :
" خادماً للبيعة ". وقال محمد بن جعفر بن الزبير :" عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى ". والتحرير ينصرف على وجهين، أحدهما : العِتْقُ من الحرية. والآخر : تحرير الكتاب، وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب. وقولها :﴿ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً ﴾ إذا أرادت مُخْلَصاً للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها، وإذا أرادت به أنها تجعله خادماً للبيعة أو عتيقاً لطاعة الله تعالى، فإن معاني جميع ذلك متقاربة، كان نذراً مِنْ قِبَلِها نذرته لله تعالى بقولها :" نَذَرْتُ "، ثم قالت :﴿ فَتَقَبَّلْ مِنّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾. والنَّذْرُ في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضاً بأن ينذر الإنسان أن ينشىء ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين، وجميع ذلك نذور صحيحة ؛ لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى. وقولها :﴿ نَذَرْتُ لَكَ ﴾ يدلّ على أنه يقتضي الإيجابَ، وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها. ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة ؛ لأنه معلوم أن قولها :﴿ نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يُخْلَصَ لعبادة الله تعالى. ويدل أيضاً على جواز النذر بالمجهول ؛ لأنها نذرته وهي لا تدري ذكر هو أم أنثى.
ويدل على أن للأم ضَرْباً من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته، لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها. ويدل أيضاً على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإِنْ لم يُسَمِّهِ الأب، لأنها قالت :﴿ وإنّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ﴾ وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم.
قوله تعالى :﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّها بقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ المراد به والله أعلم : رضيها للعبادة في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس، ولم يَقبل قبلها أنثى في هذا المعنى.
قوله تعالى :﴿ وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ إذا قرىء بالتخفيف كان معناه أن تضمن مؤنتها، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ " وأشار بأصبعيه، يعني به من يضمن مؤنة اليتيم. وإذا قرىء بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفّله إياها وضمّنه مؤنتها وأمره بالقيام بها. والقراءتان صحيحتان، بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ الهبة تمليك الشيء من غير ثمن، ويقولون : قد تواهبوا الأمر بينهم. وسمَّى الله تعالى ذلك هِبَةً على وجه المجاز ؛ لأنه لم تكن هناك هبة على الحقيقة، إذ لم يكن تمليك شيء. وقد كان الولد حرّاً لا يقع فيه تمليك، ولكنه لما أراد أن يُخْلِصَ له الولد على ما أراد من عبادة الله تعالى ووراثته النبوة والعلم أطلق عليه لفظ الهِبَةِ، كما سمَّى الله تعالى بَذْلَ النفس للجهاد في الله شِرَاءً بقوله :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ [ التوبة : ١١١ ] وهو تعالى مالكٌ الجميع من الأَنفس والأموال قبل أن يجاهدوا وبعده، وسمَّى ذلك شراءً لما وعدهم عليه من الثواب الجزيل. وقد يقول القائل : هب لي جناية فلان ؛ ولا تمليك فيه، وإنما أراد إسقاط حكمها.
قوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ونَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ ﴾ يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يُسمَّى بهذا الاسم ؛ لأن الله تعالى سَمَّى يحيى سيداً، والسيد هو الذي تَجِبُ طاعته ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحُكْمِ بينه وبين بني قُرَيْظة :" قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ " ؛ وقال صلى الله عليه وسلم للحسن :" إنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ " ؛ وقال لبني سَلِمَةَ :" مَنْ سَيِّدُكُمْ يا بني سَلِمَةَ ؟ " قالوا : الحرّ بن قيس على بُخْلٍ فيه، قال :" وأيّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ ! ولَكِنْ سَيِّدُكُمْ الجَعْدُ الأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ ". فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمَّى سيداً. وليس السيد هو المالَك فحسب ؛ لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال " سيد الدابة " و " سيد الثوب " كما يقال " سيد العبد "، وقد رُوي أن وفد بني عامر قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنت سيدنا وذو الطَّوْلِ علينا ! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" السَّيِّدُ هو اللهُ تَكَلَّمُوا بكَلاَمِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ "، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل السادة من بني آدم، ولكنه رآهم متكلّفين لهذا القول، فأنكره عليهم، كما قال :" إنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهقُونَ "، فكره لهم تكلُّفَ الكلام على وجه التّصنّع. وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا تَقُولُوا للمُنَافِقِ سَيِّداً فإنّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ هَلِكْتُمْ "، فنهى أن يُسَمَّى المنافق سيداً، لأنه لا تجب طاعته.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] فسمّوهم ساداتٍ وهو ضُلاَّلٌ. قيل له : لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقّاً لها، فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم، كما قال تعالى :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم ﴾ [ هود : ١٠١ ] ولم يكونوا آلهة، ولكنهم سَمَّوْهُمْ آلهةً فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم.
قوله تعالى :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ يقال : إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به ؛ فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء، يروى ذلك عن الحسن والربيع بن أنس وقتادة، وقال في هذه الآية " ثلاثة أيام " وفي موضع آخر في سورة مريم في هذه القصة بعينها " ثلاث ليال سويا " عبر تارة بذكر الأيام وتارة بذكر الليالي، وفي هذا دليل على أن أحد العددين من الجميع عند الإطلاق يعقل به مقداره من الوقت الآخر، فيعقل من ثلاثة أيام ثلاث ليال معها، ومن ثلاث ليال ثلاثة أيام، ألا ترى أنه لما أراد التفرقة بينهما أفرد كل واحد منهما بالذكر فقال سبع ليال وثمانية أيام حسوما ؛ لأنه لو اقتصر على العدد الأول عقل مثله من الوقت الآخر.
قوله تعالى :﴿ وإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ ﴾. قيل : في قوله :﴿ اصْطَفَاكِ ﴾ :" اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم " يُرْوَى ذلك عن الحسن وابن جريج. وقال غيرهما :" معناه أنه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح ". وقال الحسن ومجاهد :" وطهرك من الكفر بالإيمان ". قال أبو بكر : هذا سائغٌ، كما جاز إطلاق اسم النجاسة على الكافر لأجل الكفر في قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] والمراد نجاسة الكفر، فكذلك يكون ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ بطهارة الإيمان. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّ المُؤْمِنَ لَيْسَ بِنَجِسٍ "، يعني به نجاسة الكفر، وهو كقوله تعالى :﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أَهل البيت ويطهركم تطهيراً ﴾
[ الأحزاب : ٣٣ ] والمراد طهارة الإيمان والطاعات. وقيل : إن المراد " وطهّرك من سائر الأنجاس من الحَيْضِ والنّفاس وغيرهما ".
وقد اختُلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية، لأن الله تعالى قال :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] فقال قائل :" كان ذلك معجزةً لزكريا عليه السلام ". وقال آخرون :" على وجه إرهاص نبوة المسيح، كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ".
قوله تعالى :﴿ يا مَرْيَمُ اقْنُتي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، قال سعيد :" أخلصي لربك ". وقال قتادة :" أديمي الطاعة ". وقال مجاهد :
" أطيلي القيام في الصلاة ". وأصل القنوت الدوامُ على الشيء ؛ وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمْرُ بإطالة القيام في الصلاة. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَفْضَلُ الصّلاةِ طُولُ القُنُوتِ " يعني طول القيام. ويدلُّ عليه قوله عطفاً على ذلك :﴿ واسْجُدِي وارْكَعِي ﴾ فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة، ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأَجْلِ ذكر السجود فيها ؛ لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع، فكان أمراً بالصلاة ؛ وفي هذا دلالة على أن " الواو " لا توجب الترتيب ؛ لأن الركوع مقدَّم على السجود في المعنى، وقدَّم السجود ههنا في اللفظ.
قوله تعالى :﴿ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾. قال أبو بكر : حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ ﴾ قال :" تَسَاهَمُوا على مريم أيهم يَكْفُلُها فَقَرَعَهُمْ زكريا ". ويقال إن الأقلام ههنا القداح التي يُتَسَاهم عليها، وإنهم ألقوها في جِرْيَةِ الماء، فاستقبل قلم زكريا عليه السلام جِرْيَةَ الماء مُصَعِّداً وانحدرت أقلامُ الآخرين معجزةً لزكريا عليه السلام فقرعهم ؛ يروى ذلك عن الربيع بن أنس. ففي هذا التأويل أنهم تساهموا عليها حِرْصاً على كفالتها. ومن الناس من يقول : إنهم تدافعوا كفالتها لشدة الأزمة والقَحْطِ في زمانها حتى وُفِّقَ لها زكريا خير الكفلاء. والتأويل الأول أصحّ ؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه كَفَّلها زكريا، وهذا يدل على أنه كان حريصاً على كفالتها. ومن الناس من يحتجّ بذلك على جواز القرعة في العبيد يُعْتِقُهُمْ في مَرَضه ثم يموت ولا مال له غيرهم. وليس هذا مِنْ عِتْقِ العبيد في شيء ؛ لأن الرضا بكفالة الواحد منهم بعينه جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية، وقد كان عتق الميت نافذاً في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم، وهو نظير ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه " ؛ وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة، وكذلك كان حكم كفالة مريم عليها السلام، وغيرُ جَائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
قوله تعالى :﴿ إذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ﴾.
البشارة هي خَبَرٌ على وَصْفٍ، وهو في الأصل لما يُسِرُّ لظهور السرور في بَشَرَةِ وجهه إذ بُشِّرَ، والبَشَرَةُ هي ظاهر الجلد، فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى، وكان الله هو مبشرها وإن كانت الملائكة خاطبوها. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" إن بشرت فلاناً بقدوم فلان فعبدي حرّ " فَقَدِمَ وأرسل إليه رسولاً يخبره بقدومه، فقال له الرسول :" إن فلاناً يقول لك قد قدم فلان " أنه يحنث في يمينه ؛ لأن المرسل هو المبشر دون الرسول. ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا :" إن المبشِّر هو المخبر الأول، وإن الثاني ليس بمبشِّر لأنه لا يَحدثُ بخبره سرورٌ " ؛ وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب، كقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ].
قوله تعالى :﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾ قد قيل فيه ثلاثة أوجه، أحدها : أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فلما كان خَلْقُه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازاً كما قال :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾ [ النساء : ١٧١ ]. والوجه الثاني : أنه لما بَشَّرَ به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم. والوجه الثالث : أن الله يَهْدِي به كما يَهْدِي بكلمته.
قوله تعالى :﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وأنْفُسَنَا وأنْفُسَكُمْ ﴾ الاحتجاج المتقدم لهذه الآية على النصارى في قولهم إن المسيح هو ابن الله، وهم وفد نجران وفيهم السيد والعاقب قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ ؛ رُوي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقال قبل ذلك فيما حَكَى عن المسيح :﴿ ولأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾ وهذا موجود في الإنجيل، لأن فيه :" إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " ؛ والأب السيد في تلك اللغة، ألا تراه قال : وأبي وأبيكم ؟ فعلمت أنه لم يرد به الأبُوَّة المقتضية للبنوّة، فلما قامت الحجة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم إنه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السلام، دعاهم حينئذ إلى المباهلة فقال تعالى :﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ﴾ الآية ؛ فَنَقْلُ رُوَاةِ السِّيَرِ وَنَقَلَةِ الأثر لم يختلفوا فيه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم، ثم دعا النصارى الذين حاجُّوه إلى المباهلة، فأحْجَمُوا عنها وقال بعضهم لبعض : إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يَبْقَ نصرانيٌّ ولا نصرانية إلى يوم القيامة ".
وفي هذه الآيات دَحْضُ شُبَهِ النصارى في أنه إله أو ابن الإله ؛ وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم لولا أنهم عرفوا يقيناً أنه نبيّ ما الذي كان يمنعهم من المباهلة ؟ فلما أحجموا وامتنعوا عنها دلّ على أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نَعْتِهِ في كتب الأنبياء المتقدمين. وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال :﴿ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ﴾ ولم يكن هناك للنبي صلى الله عليه وسلم بَنُونَ غيرهما ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسن رضي الله عنه :" إنّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ " وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير :" ولا تُزْرِمُوا ابْنِي " وهما من ذريته أيضاً، كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى :﴿ ومن ذريته داود وسليمان ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] إلى قوله تعالى :﴿ وزكريا ويحيى وعيسى ﴾ [ الأنعام : ٨٥ ] وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له.
ومن الناس من يقول إن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أن يُسَمَّيا ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما، وقد رُوي في ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدلّ على خصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس ؛ لأنه رُوي عنه أنه قال :" كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاّ سَبَبِي وَنَسَبِي " ؛ وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة :" إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ".
وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن ولد الابنة يدخلون فيه. وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مخصوصٌ به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر، وأن غيرهما من الناس إنما يُنْسَبُون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم، ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جاريةً روميةً أو حبشية أن ابنه يكون هاشميّاً منسوباً إلى قوم أبيه دون أمه ؟ وكذلك قال الشاعر :
* بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنا وبَنَاتِنَا * بَنُوهُنَّ أبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ *
فنسبةُ الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوَّة على الإطلاق مخصوصٌ بهما لا يدخل فيه غيرهما ؛ هذا هو الظاهر المتعالَمُ من كلام الناس فيمن سواهما، لأنهم يُنْسبون إلى الأب وقومه دون قوم الأمّ.
قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ألاّ نَعْبُدَ إلاّ الله ﴾ الآية. قوله تعالى :﴿ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ يعني والله أعلم : كلمة عَدْلٍ بيننا وبينكم نتساوى جميعاً فيها إذ كنّا جميعاً عباد الله، ثم فسرها بقوله تعالى :﴿ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ وهذه هي الكلمة التي تشهد العقول بصحتها، إذْ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحقّ بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلاّ فيما كان طاعة لله تعالى. وقد شَرَطَ الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان منها معروفاً، وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلاّ بالمعروف ؛ لئلاَّ يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى، كما قال الله تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في قصة المبايعات :﴿ ولا يعصينك في معروف فبايعهن ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] فشَرَطَ عليهنَّ تَرْكَ عصيان النبي صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي يأمرهن به تأكيداً، لئلا يلزم أحداً طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلاّ فيما حلّله الله أو حرَّمه، وهو نظير قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ﴾ [ التوبة : ٣١ ]. وقد رَوَى عبد السلام بن حرب عن غُطَيْف بن أعْيَن عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال :" أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ " ثم قرأ :
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ]، قلت : يا رسول الله ما كنّا نعبدهم ! قال :" أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ ما أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ ؟ ". قال :" فتلك عبادتهم " ؛ وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أرباباً لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلّله، ولا يستحق أحدٌ أن يُطاع بمثله إلاّ الله تعالى الذي هو خالقهم، والمكَلَّفُون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتّباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره.
قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إبْرَاهِيمَ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾. رُوي عن ابن عباس والحسن والسُّدِّيِّ أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود : ما كان إلا يهوديّاً، وقالت النصارى : ما كان إلاّ نصرانيّاً ؛ فأبطل الله دعواهم بقوله تعالى :﴿ يا أهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ والإنْجِيلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾، فاليهودية والنصرانية حادثتان بعد إبراهيم، فكيف يكون يهوديّاً أو نصرانيّاً ! وقد قيل إنهم سُمُّوا بذلك لأنهم من ولد يَهُودا، والنصارى سُمُّوا بذلك لأن أصلهم من ناصرة قرية بالشام ؛ ومع ذلك فإن اليهودية مِلَّةٌ مُحَرَّفَةٌ عن مِلّة موسى عليه السلام، والنصرانية مِلَّةٌ محرَّفة عن شريعة عيسى عليه السلام ؛ فلذلك قال تعالى :﴿ وما أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ والإنْجِيلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ ﴾، فكيف يكون إبراهيم منسوباً إلى ملّة حادثة بعده ؟ !.
فإن قيل : فينبغي أن لا يكون حنيفاً مسلماً ؛ لأن القرآن نزل بعده. قيل له : لما كان معنى الحَنِيفِ الدِّين المستقيم، لأن الحَنَفَ في اللغة هو الاستقامة، والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره، وكل أحد من أهل الحقّ يصحّ وَصْفُهُ بذلك ؛ فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قَبْلَهُ قد كانوا بهذه الصفة، فلذلك جاز أن يُسمَّى إبراهيم حنيفاً مسلماً وإن كان القرآن نزل بعده ؛ لأن هذا الاسم ليس بمختصٍّ بنزول القرآن دون غيره، بل يصح صفة جميع المؤمنين به، واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن كان على ملّة حَرَّفَها مُنْتَحِلُوها من شريعة التوراة والإنجيل، فغير جائز أن يُنْسَبَ إليها من كان قبلها.
وفي هذه الآيات دليل على وجوب المُحَاجَّةِ في الدين وإقامة الحُجَّة على المبطلين، كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شُبْهَتَهُمْ وَشَغَبَهُمْ.
قوله تعالى :﴿ ها أَنْتُمْ هؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أوْضَحُ دليل على صحة الاحتجاج للحقّ ؛ لأنه لو كان الحِجَاجُ كله محظوراً لما فرّق بين المحاجّة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم. وقيل في قوله تعالى :﴿ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ : فيما وجدوه في كتبهم، وأما ما ليس لهم به عِلْمٌ فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديّاً أو نصرانيّاً.
قوله تعالى :﴿ ومِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ ﴾ معناه : تأمنه على قنطار ؛ لأن " الباء " و " على " تتعاقبان في هذا الموضع، كقولك : مررت بفلان ومررت عليه. وقال الحسن في القنطار :" هو ألف مثقال ومائتا مثقال ". وقال أبو نَضْرَة :" مِلْءُ مسك ثور ذهباً ". وقال مجاهد :
" سبعون ألفاً ". وقال أبو صالح :" مائة رطل ". فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع، ويقال إنه أراد به النصارى. ومن الناس من يحتجّ بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض ؛ لأن الشهادة ضَرْبٌ من الأمانة، كما أن بعض المسلمين لما كان مأموناً جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفاً بالأمانة دلّ على جواز قبول شهادته على الكفار.
فإن قيل : فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين ؛ لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها. قيل له : كذلك يقتضي ظاهر الآية، إلا أنّا خصصناه بالإنفاق. وأيضاً فإنما دلّت على جواز شهادتهم للمسلمين، لأن أداء أمانتهم حقٌّ لهم، فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه.
وقوله تعالى :﴿ ومِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بدِينَارٍ لا يؤده إلَيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ﴾ قال مجاهد وقتادة :" إلا ما دُمْتَ عليه قائماً بالتَّقَاضي ". وقال السدي :" إلا ما دمت قائماً على رأسه بالملازمة له ". واللفظ محتمل للأمرين من التَّقَاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعاً ؛ وقوله تعالى :﴿ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ﴾ بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة. وقد دلت الآية على أن للطالب ملازمة المطلوب بالدَّيْنِ.
وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ علَيْنَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ رُوي عن قتادة والسدي أن اليهود قالت : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون، وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وقيل : إنهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلّون أموالهم ؛ لأنه يَزْعُمون أن على الناس جميعاً اتّباعهم، وادّعوا ذلك على الله أنه أنزله عليهم ؛ فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أَنَّهُ كَذِبٌ.
قوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾. رَوَى الأَعمش عن سفيان عن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بها مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ وهُوَ فَاجِرٌ فيها لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وقال الأشعث بن قيس : فيَّ نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ " قلت : لا، قال :" فَيَمِينُهُ " قلت : إذًا يَحْلِفُ ؛ فذكر مثل قول عبدالله، فنزلت :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بعَهْدِ الله ﴾ الآية. ورَوَى مالك عن العلاء بن عبدالرحمن عن معبد بن كعب عن أخيه عبدالله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ "، قالوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال :" وإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ ". وروى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ ليَقْتَطِعَ بها مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ الله وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ".
وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالاً هو في الظاهر لغيره، وكل من في يده شيءٌ يدّعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقّه غيره. وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالاً هو لغيره في الظاهر ولولا يمينه لم يستحقه ؛ لأنه معلوم أنه لم يُرِدْ به مالاً هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر، إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة ؛ وفي ذلك دليلٌ على بطلان قول القائلين برَدِّ اليمين، لأنه يستحق بيمينه ما كان مُلْكاً لغيره في الظاهر. وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست موضوعة للاستحقاق، وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة ؛ وروى العوّام بن حوشب قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبي أوفى يقول : أقام رجل سِلْعَةً فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعْطِيتُ بها ثمناً لم يُعْطَ بها ليوقع فيها مسلماً، فنزلت :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ﴾ الآية. ورُوي عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتاباً بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله، ممن ادّعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل.
قوله تعالى :﴿ وإنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ﴾ يدلّ على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فِعْلِهِ ؛ لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده، وقد نفى الله نفياً عامّاً كَوْنَ المعاصي من عنده، ولو كانت من فعله لكانت من عنده من آكد الوجوه، فكان لا يجوز إطلاق النفي بأنه ليس من عنده.
فإن قيل : فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه، كذلك الكفر والمعاصي. قيل له : لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات، ألا ترى أنك لو قلت :" ما عند زيد طعام " كان نفياً لقليله وكثيره، ولو قلت :" عنده طعام " ما كان عموماً في كون جميع الطعام عنده ؟.
قوله تعالى :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ قيل في معنى البِرِّ ههنا وجهان، أحدهما :" الجنة " ورُوي ذلك عن عمرو بن ميمون والسدي. وقيل فيه : البِرّ بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر، والنفقة ههُنا إخراج ما يحبه في سبيل الله من صدقة أو غيرها. ورَوَى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال : لما نزلت :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ و ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] قال أبو طلحة : يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى، ولو استطعت أن أُسِرَّهُ ما أَعْلَنْتُه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجْعَلْهُ في قَرَابَتِكَ أو في أقْرِبَائِكَ ". وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي عمر وابن حماس عن حمزة بن عبدالله عن عبدالله بن عمر قال : خَطَرَتْ هذه الآية :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ فتذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أَحَبّ إليَّ من جاريتي أميمة، فقلت : هي حرة لوجه الله ؛ فلولا أن أعودَ في شيء فعلتُه لله لنكحتها، فأنكحتها نافعاً وهي أم ولده. حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : حدثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب وغيره، أنها حين نزلت :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ! فحمل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها أسامة بن زيد فكأن زيد أوْجَدَ في نفسه، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال :" أمَّا اللهُ تَعَالَى فَقَدْ قَبِلَهَا ". ورُوي عن الحسن أنه قال :" هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال ".
قال أبو بكر : عِتْقُ ابن عمر للجارية على تأويل الآية يدلّ على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القُرْبَة إلى الله فهو من النفقة المراد بالآية، ويدل أيضاً على أن ذلك كان عنده عامّاً في الفروض والنوافل ؛ وكذلك فِعْلُ أبي طلحة وزيد بن حارثة يدلّ على أنهم لم يَرَوْا ذلك مقصوراً على الفرض دون النفل، ويكون حينئذ معنى قوله تعالى :﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ ﴾ على أنكم لن تنالوا البِرَّ الذي هو في أعلى منازل القُرَبِ ﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ على وَجْهِ المبالغة في الترغيب فيه ؛ لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته، كما قال تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ﴾ [ الحج : ٣٧ ]. وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يُرِدْ به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ المِسْكِينُ الّذِي تَرُدُّهُ اللّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتَانِ، ولكِن الْمِسْكِينُ الّذِي لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ ولا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّق عَلَيْهِ "، فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة.
قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾. قال أبو بكر : هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مُباحاً لبني إسرائيل إلى أن حرَّم إسرائيل ما حرَّمه على نفسه. ورُوي عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا فحرَّم أحبّ الطعام إليه إن شفاه الله على وجه النذر، وهو لحوم الإبل. وقال قتادة :" حرَّم العروق ". ورُوي أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام نذر إن برِىءَ مِنْ عِرْقِ النّسا أن يحرم أحبّ الطعام والشراب إليه، وهو لحوم الإبل وألبانها. وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبيّ صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل ؛ لأنهم لا يَرَوْن النسخ جائزاً، فأنزل الله هذه الآية وبيّن أنها كانت مُبَاحَةً لإبراهيم وولده إلى أن حرّمها إسرائيل على نفسه، وحاجَّهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضارها لعِلْمِهِمْ بصدق ما أخبر أنه فيها ؛ وبيَّن بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ، إذْ ما جاز أن يكون مباحاً في وقت ثم حُظر جازت إباحته بعد حظره. وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أميّاً لا يقرأ الكتب ولم يجالس أهل الكتاب، فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين إلا بإعلام الله إياه.
وهذا الطعام الذي حرّمه إسرائيل على نفسه صار محظوراً عليه وعلى بني إسرائيل، يدل عليه قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لبَني إسْرَائِيلَ إلاَّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ فاستثنى ذلك مما أحَلَّهُ تعالى لبني إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه، فدل على أنه صار محظوراً عليه وعليهم.
فإن قيل : كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئاً وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر والإباحة، إذْ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده. قيل : هذا جائز بأن يأذن الله له فيه، كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدي إليه الاجتهاد حُكْماً لله تعالى. وأيضاً فجائز للإنسان أن يحرّم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام، إما من جهة النص أو الاجتهاد. وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توفيقاً من الله له في إباحة التحريم له إن شاء، وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه، ولو كان ذلك عن توقيف لقال :" إلا ما حرم الله على بني إسرائيل " فلما أضاف التحريم إليه دلّ ذلك على أنه قد كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد. وهذا يدلّ على أنه جائز أن يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أوْلى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي ؛ وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه.
قال أبو بكر : قد دلّت الآية على أن تحريم إسرائيل لِمَا حرّمه من الطعام على نفسه قد كان واقعاً ولم يكن موجب لفظه شيئاً غير التحريم، وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مارية على نفسه، وقيل إنه حرم العسل ؛ فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ﴾ [ التحريم : ١ ] إلى قوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ [ التحريم : ٢ ]، فجعل في التحريم كفّارة يمين إذا استباح ما حرَّم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه. وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئاً من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفّارة يمين، بمنزلة من حَلَفَ أن لا يأكل هذا الطعام ؛ إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه، وهو أن القائل :" والله لا أكلتُ هذا الطعام " لا يحنث إلا بأكل جميعه، ولو قال :" قد حرمت هذا الطعام على نفسي " حنث بأكل جزء منه ؛ لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحِنْثِ بأكْلِ الجزء منه، بمنزلة قوله :" والله لا آكل شيئاً منه " لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء فتحريمه شامل لقليله وكثيره، وكذلك المحرِّم له على نفسه عاقدٌ لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل.
قوله عز وجل :﴿ إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى للعَالَمِينَ ﴾ قال مجاهد وقتادة :" لم يُوضع قبله بيت على الأرض ". ورُوي عن عليّ والحسن أنهما قالا :" هو أول بيت وُضع للعبادة ". وقد اختُلف في بَكَّةَ، فقال الزهري :" بكة المسجد ومكة الحرم كله "، وقال مجاهد :" بكة هي مكة ". ومن قال هذا القول يقول : قد تبدل الباء من الميم، كقوله سَبَدَ رأسَهُ وَسَمَدَهُ إذا حلقه. وقال أبو عبيدة :" بكة هي بطن مكة ". وقيل إن البَكَّ الزحم، من قولك : بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكّاً إذا زاحمه، وتَبَاكَّ الناس بالموضع إذا ازدحموا ؛ فيجوز أن يسمَّى بها البيت لازدحام الناس فيه للتبرك بالصلاة، ويجوز أن يسمَّى به ما حول البيت من المسجد لازدحام الناس فيه للطواف.
قوله تعالى :﴿ وهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ يعني بياناً ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، وهو أمْنُ الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه ؛ وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته. وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم ؛ لأن ذلك موجود في جميع الحرم. وقوله :﴿ مُبَارَكاً ﴾ يعني أنه ثابت الخير والبركة ؛ لأن البركة هي ثبوت الخير ونُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ، والبَرْكُ هو الثبوت، يقال : بَرَكَ بَرْكاً وَبُرُوكاً إذا ثبت على حاله. وفي هذه الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونموّ الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة.
قوله تعالى :﴿ فِيهِ آياتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ ﴾ قال أبو بكر : الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حَجَرٍ صَلْدٍ بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام. ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمْنِ لوحش وأُنْسِهِ فيه مع السباع الضارية المتعادية، وأمْنِ الخائف في الجاهلية فيه ويُتَخَطَّف الناس من حولهم، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي من لَدُنْ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حَصَى الجِمَارِ إِنما تنقل إلى موضع الرّمْي من غيره، وامتناع الطير من العُلُوِّ عليه وإنما يطير حوله لا فوقه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية، ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابه بالطير الأبابيل. فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها، وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحَرَمُ كله ؛ لأن هذه الآيات موجودة في الحرم، ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت ؛ والله أعلم.

باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه


قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾. قال أبو بكر : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله :﴿ إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ ﴾ موجودة في جميع الحرم، ثم قال :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وقوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ يقتضي أمْنَهُ على نفسه سواء كان جانياً قبل دخوله أو جَنَى بعد دخوله، إلاّ أن الفقهاء متّفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها، ومعلوم أن قوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ وإنْ كان في صورة الخبر، كأنه قال : هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به، كما نقول : هذا مباح وهذا محظور ؛ والمراد أنه كذلك في حكم الله وما أمر به عباده، وليس المراد أن مبيحاً يستبيحه ولا أن معتقداً للحَظْرِ يحظره، وإنما هو بمنزلة قوله في المباح :" افْعَلْهُ على أن لا تَبِعَةَ عليك فيه ولا ثواب " وفي المحظور :" لا تفعله فإنك تستحق العقاب به " ؛ وكذلك قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ لنا بإيمانه وحَظْرِ دمه، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا ؟ ولو كان قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ خبراً لما جاز أن لا يوجد مخبره، فثبت بذلك أن قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ هو أمرٌ لنا بإيمانه ونَهْيُ لنا عن قتله. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمراً لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن نؤمنه من قَتْلٍ قد استحقه بجنايته، فلما كان حمله على الإيمان من قَتْلٍ غير مستحَقٍّ عليه بل على وجه الظلم، تسقط فائدة تخصيص الحرم به ؛ لأن الحرم وغيره في ذلك سواء، إذْ كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قِبَلِنَا أو من قِبَلِ غيرنا إذا أمكننا ذلك، علمنا أن المراد الأمر بالإيمان مِنْ قِبَلِ مُسْتَحقٍّ، فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحَقّ من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره، إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قَتَل في الحرم قُتِلَ، قال الله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه.
وقد اختلف الفقهاء فيمن جَنَى في غير الحرم ثم لاذ إليه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد :" إذا قَتَلَ من غير الحرم ثم دخل الحرم لم يُقْتَصَّ منه ما دام فيه، ولكنه لا يُبَايَعُ ولا يُؤَاكَل إلى أن يخرج من الحرم فيقتصّ منه، وإن قَتَلَ في الحرم قُتِلَ، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقْتُصَّ منه ". وقال مالك والشافعي :" يُقْتَصُّ منه في الحرم ذلك كله ". قال أبو بكر : رُوي عن ابن عباس وابن عمر وعبيدالله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قَتَلَ ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل، قال ابن عباس :" ولكنه لا يُجَالَسُ ولا يُؤْوَى ولا يُبَايَعُ حتى يخرج من الحرم فيُقْتَل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه ". ورَوَى قتادة عن الحسن أنه قال :" لا يمْنَعُ الحرمُ مَنْ أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه "، قال : وكان الحسن يقول :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ :" كان هذا في الجاهلية، لو أن رجلاً جَرَّ كل جَرِيرَةً ثم لجأ إلى الحرم لم يُتَعَرَّضْ له حتى يخرج من الحرم، فأما الإسلام فلم يَزِدْهُ إلاّ شدّةً، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أُقيم عليه الحد ". ورَوَى هشام عن الحسن وعطاء قالا :" إذا أصاب حدّاً في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أُخرج عن الحرم حتى يُقام عليه "، وعن مجاهد مثله. وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته ؛ وقد رُوي ذلك عن عطاء مفسَّراً، فجائز أن يكون ما رُوي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه. و قد ذكرنا دلالة قوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] على مثل ما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ في موضعه، وبَيَّنَّا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قَتْلَ من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم. وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه، يدلّ على أنه اتفاق منهم على حَظْرِ قَتْلِ من قَتَلَ في غير الحرم ثم لجأ إليه ؛ لأن الحسن رُوي عنه فيه قولان متضادان، أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل، والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يُخرج منه فيُقتل ؛ وقد بينا أنه يحتمل قوله :" يخرج فيُقتل " أنه يُضَيَّقُ عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج، فلم يحصل للحسن في هذا قولٌ لتضادِّ الروايتين، وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في مَنْعِ القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم. ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، وقوله :﴿ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، وقوله :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] يوجب عمومه القصاص في الحرم على من جَنَى فيه أو في غيره. قيل له : قد دللنا على أن قوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قد اقتضى وقوعَ الأمْنِ من القتل بجناية كانت منه في غيره، وقوله :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] وسائر الآي الموجبة للقصاص مرتَّبٌ على ما ذكرنا من الأمْنِ بدخول الحرم، ويكون ذلك مخصوصاً من آي القصاص ؛ وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] واردٌ في إيجاب القصاص لا في حكم الحرم، وقوله :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ واردٌ في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه، فيُجْرَى كل واحد منهما على بابه ويُستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم. ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم ؛ لأنه لو لم يكن القصاص واجباً قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يَجْنِ ولم يستحقّ عليه، فدل ذلك على أن الحكم بأمْنِهِ بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص. ومن جهة الأثر حديثُ ابن عباس وأبي شريح الكعبي، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولا أَحَدٍ بَعْدِي وإنّما أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ "، فظاهر ذلك يقتضي حَظْرَ قتل اللاجىء إليه والجاني فيه ؛ إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته، فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه.
وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنَّ أَعْتَى النّاسِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ في الحَرَمِ أَوْ قَتَلَ بذَحْلِ الجَاهِلِيَّةِ "، وهذا أَيضاً يحظر عمومُه قَتْلَ كل من كان فيه، فلا يخص منه شيء إلا بدلالة.
وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به ؛ لأنه لو كان عليه دَيْنٌ فلجأ إلى الحرم حُبس به، لقوله صلى الله عليه وسلم :" لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ "، والحبس في الدين عقوبة، فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس، فكل حقّ وجب فيما دون النفس أُخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياساً على الحَبس في الدين. وأيضاً لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما يجب عليه فيما دون النفس، وكذَلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها، ولا خلاف أيضاً أنه إذا جَنَى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يُشَارَى ولا يُؤْوَى حتى يخرج ؛ ولما ثبت عندنا أنه لا يُقتل وَجَبَ استعمال الحكم الآخر فيه في تَرْكِ مشاراته ومبايعته وإيوائه. فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها، وإنما الخلاف فيمن جَنَى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم، وقد دللنا عليه ؛ وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق.
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال : حدثنا يعقوب بن حميد قال : حدثنا عبدالله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَسْكُنُ مَكَّةَ سَافِكُ دَمٍ ولا آكِلُ رِباً ولا مَشَّاءٌ بنَميمَةٍ "، وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يُؤْوَ ولم يُجالس ولم يُبَايَعْ ولم يُشَارَ ولم يُطْعَمْ ولم يُسْقَ حتَّى يخرج، لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يسكنها سافك دم ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار قال : حدثنا داود بن عمرو قال : حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال :" إذا دخل القاتل الحرم لم يُجالسْ ولم يُبايعْ ولم يُؤْوَ واتّبعه طالبه يقول له : اتّق الله في دم فلان واخرج من الحرم ".
ونظير قوله تعالى :﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قوله عز وجل :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ]، وقوله :﴿ أولم نمكن لهم حرماً آمناً ﴾ [ القصص : ٥٧ ]، وقوله :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حَظْرِ قَتْلِ من لجأ إليه وإن كان مستحقّاً للقتل قبل دخوله. ولمّا عبّر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دلّ على أن الحرم في حُكْمِ البيت في باب الأمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ من لجأ إليه. ولما لم يختلفوا أنه لا يُقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه.
فإن قيل : من قَتَلَ في البيت لم يُقْتَلْ فيه ومن قَتَلَ في الحرم قُتِلَ فيه، فليس الحرم كالبيت. قيل له
قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وأنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾. قال زيد بن أسلم :" نزلت في قوم من اليهود كانوا يُغْرُونَ بين الأوس والخزرج بذِكْرِهِمُ الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحَمِيَّةِ الجاهلية ". وعن الحسن :" أنها نزلت في اليهود والنصارى جميعاً في كتمانهم صِفَتَهُ في كتبهم ".
فإن قيل : قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم، فلا يصح لكم الاحتجاج بقوله :﴿ لتكونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] في صحة إجماع الأمّة وثبوت حجته. قيل له : إنه جَلّ وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم، وقال هناك :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] كما قال :﴿ ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم ؛ وقال في هذه الآية :﴿ وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ ومعناه غير معنى قوله :﴿ شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وقد قيل في معناه وجهان، أحدهما :﴿ وأنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ أنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى ؛ وذلك في أهل الكتاب منهم. والثاني : أن يريد بقوله :﴿ شُهَدَاءُ ﴾ عقلاء، كما قال الله تعالى :﴿ أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ [ ق : ٣٧ ] يعني : وهو عاقل ؛ لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل.
قوله تعالى :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾. رُوي عن عبدالله والحسن وقتادة في قوله :﴿ حق تقاته ﴾ :" هو أن يُطاع فلا يُعْصَى ويُشكر فلا يُكفر ويُذكر فلا يُنْسى ". وقيل إن معناه اتقاء جميع معاصيه. وقد اختلف في نسخه، فرُوي عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة، وعن قتادة والربيع بن أنس والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ [ التغابن : ١٦ ] ؛ فقال بعض أهل العلم : لا يجوز أن تكون منسوخةً لأن معناه اتقاء جميع معاصيه، وعلى جميع المكلفين اتقاءُ جميع المعاصي، ولو كان منسوخاً لكان فيه إباحةُ بعض المعاصي، وذلك لا يجوز. وقيل : إنه جائز أن يكون منسوخاً بأن يكون معنى قوله :﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التَّقِيَّةِ فيها، ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه، ويكون قوله تعالى :﴿ ما استطعتم ﴾ [ الأنفال : ٦٠، والتغابن : ١٦ ] فيما لا تخافون فيه على أنفسكم، يريد : فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل، لأنه قد يُطلق نفي الاستطاعة فيما يشقّ على الإنسان فعله كما قال تعالى :﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعاً ﴾ [ الكهف : ١٠١ ] ومراده مشقّة ذلك عليهم.
قوله تعالى :﴿ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا ﴾. رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في معنى الحَبْلِ ههنا :" أنه القرآن "، وكذلك رُوي عن عبدالله وقتادة والسدي. وقيل : إن المراد به دِينَ الله. وقيل : بعهد الله ؛ لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسلك به للنجاة من غرق أو نحوه. ويسمَّى الأمانُ الحَبْلَ لأنه سبب النجاة، وذلك في قوله تعالى :﴿ إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ يعني به الأمان. إلا أن قوله :﴿ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ﴾ هو أمرٌ بالاجتماع ونَهيٌ عن الفرقة، وأكّده بقوله :﴿ ولا تَفَرَّقُوا ﴾ معناه التفرق عن دين الله الذي أُمروا جميعاً بلزومه والاجتماع عليه. ورُوي نحو ذلك عن عبدالله وقتادة. وقال الحسن :" ولا تفرَّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقد يحتج به فريقان من الناس : أحدهما نُفَاةُ القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث، مثل النَّظَّامِ وأمثاله من الرافضة ؛ والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد، ويقول مع ذلك إن الحَقّ واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد، ويخطىء من لم يُصِبِ الحقَّ عنده لقوله تعالى :﴿ ولا تَفَرَّقُوا ﴾ ؛ فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً لله تعالى مع نَهْي الله تعالى عنه. وليس هذا عندنا كما قالوا ؛ لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء : منها ما لا يجوز الخلاف فيه، وهو الذي دلت العقول على حَظْرِهِ في كل حال أو على إيجابه في كل حال ؛ فأما ما جاز أن يكون تارة واجباً وتارة محظوراً وتارة مباحاً، فإن الاختلاف في ذلك سائغ يجوز ورود العبادة به، كاختلاف حكم الطّاهر والحائض في الصوم والصلاة واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام وما جرى مجرى ذلك ؛ فمِنْ حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه فيكون بعضهم متعبَّداً بخلاف ما تُعُبِّدَ به الآخر، لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدّي إلى الخلاف الذي يجوز ورود النصّ بمثله ؛ ولو كان جميع الاختلاف مذموماً لوجب أن لا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النصّ والتوقيف، فما جاز مثله في النصّ جاز في الاجتهاد، وقد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقِيَمِ المتلفات وأُرُوشِ كثير من الجنايات فلا يلحق واحداً منهما لَوْمٌ ولا تعنيف ؛ وهذا حكم مسائل الاجتهاد. ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموماً لكان للصحابة في ذلك الحظّ الأوْفَرُ، ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متواصلون يُسَوِّغُ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لَوْمٍ ولا تعنيف، فقد حصل منهم الاتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف ؛ وقد حكم الله تعالى بصحة إجماعهم وثبوت حجته في مواضع كثيرة من كتابه. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اخْتِلافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ " وقال :" لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على ضَلالٍ " ؛ فثبت بذلك أن الله تعالى لم يَنْهنا بقوله :﴿ ولا تَفَرَّقُوا ﴾ عن هذا الضرب من الاختلاف، وأن النهي منصرف إلى أحد وجهين : إما في النصوص أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي أو سمعي لا يحتمل إلا معنى واحداً ؛ وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف والتفرق في أصول الدين لا في فروعه، وما يجوز ورود العبادة بالاختلاف فيه، وهو قوله تعالى :﴿ واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾ يعني بالإسلام ؛ وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهيّ عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه، والله أعلم.

باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


قال الله تعالى :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ﴾ قال أبو بكر : قد حوت هذه الآية معنيين، أحدهما : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر : أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره، لقوله تعالى :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ ﴾، وحقيقته تقتضي البعض دون البعض، فدلّ على أنه فرض الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام الخصوص في قوله :﴿ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ مجازاً، كقوله تعالى :﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] ومعناه :" ذُنُوبَكُمْ ". والذي يدل على صحة هذا القول إنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، ولولا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به. وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أُخَرَ من كتابه، فقال عز وجل :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، وقال فيما حكى عن لقمان :﴿ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ﴾ [ لقمان : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]، وقال عز وجل :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ [ المائدة : ٧٨ و ٧٩ ]. فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وهي على منازل : أولها تغييره باليد إذا أمكن، فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفاً على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه، فإن تعذر ذلك لما وَصَفْنا فعليه إنكاره بقلبه، كما حدثنا عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا شعبة قال : أخبرني قيس بن مسلم قال : سمعت طارق بن شهاب قال : قدَّمَ مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال : خَالَفْتَ السنَّةَ، كانت الخطبة بعد الصلاة ؛ قال : تُرِكَ ذلك يا أبو فلان قال شعبة : وكان لحاناً فقام أبو سعيد الخدري فقال : من هذا المتكلم ؟ فقد قَضَى ما عليه، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكرْهُ بِلِسَانِهِ فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكرْهُ بقَلْبِهِ وذاك أَضْعَفُ الإيمانِ ". وحدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَاكَ أَضْعَفُ الإيمانِ ". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه، ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه. وحدثنا عبدالله بن جعفر قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عبدالله بن جرير البجلي عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" ما مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بالمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ وأَعَزُّ ممَّنْ يَعْمَلُهُ ثمَّ لم يُغَيِّرُوا إلاّ عَمَّهُمُ الله مِنْهُ بِعقَابٍ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أوّلَ ما دَخَلَ النَّقْصُ على بَني إسْرائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فيقُولُ يا هذا اتَّق الله ودَعْ ما تَصْنَعُ فإنّه لا يَحلّ لكَ، ثم يَلْقَاهُ مِنَ الغَدِ فلا يَمْنَعُهُ ذلك أنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فلمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ الله تعالى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ ببَعْضٍ " ثم قال :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ [ المائدة : ٧٨ ] إلى قوله :﴿ فاسقون ﴾ [ المائدة : ٨٠ ] ثم قال :" كلاَّ والله ! لتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ولتَأْخُذُنَّ على يَدَي الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ على الحَقِّ أَطْراً وتَقْصُرُنَّهُ على الحَقِّ قَصْراً ". قال أبو داود : حدثنا خلف بن هشام قال : حدثنا أبو شهاب الحنّاط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه :" أو لَيَضْرِبَنَّ الله بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ على بَعْضٍ ثمّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كما لَعَنَهُمْ ". فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من شرط النهي عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيمَ على المعصية ولا يؤاكله ولا يشاربه. وكان ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك بياناً لقوله تعالى :﴿ ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا ﴾ [ المائدة : ٨٠ ] فكانوا بمؤاكلتهم إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهي عن المنكر لقوله تعالى :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ [ المائدة : ٧٩ ] مع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه. وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا وهب بن بقية قال : أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال : قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثْنَى عليه : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] وإنّا سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :" إنّ النَّاسَ إذا رَأَوُا الظَّالِمَ فلم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ الله بعِقَابٍ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال : حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثني أبو أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] ؟ فقال : أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتَّى إذا رَأَيْتَ شُحّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً ودُنْيا مُؤثِرَةٌ وإعْجَابَ كُلِّ ذي رَأْي برَأْيِهِ فَعَلَيْكَ يعني بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ، فإنّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فيه كَقَبْضٍ على الجَمْرِ، للعامِلِ فيهم مِثْلُ أجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ "، قال : وزادني غيره : قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال :" أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ". وفي هذه الأخبار دلالةٌ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها حالان : حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله. وإزالَتُه باليد تكون على وجوه : منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك، كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ " فإذا لم يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه ؛ وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يَجُزْ له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله.
وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل :" وَسِعَكَ قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه "، وكذلك قال أبو حنيفة في السارق إذا أخذ المتاع :" وَسِعَكَ أن تتبعه حتى تقتله إن لم يردّ المتاع ". قال محمد : وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت :" يَسَعُكَ قتله "، وقال في رجل يريد قلع سِنّك، قال :" فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه " وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى :﴿ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]، فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وتَرْكِ ما هم عليه من البغي والمنكر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده " يوجب ذلك أيضاً ؛ لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله. وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس : إن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول ؛ لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مُقْدِمِينَ على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يُريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر، فجائز قتل من كان منهم مقيماً على ذلك، وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يُقتل ؛ إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم، وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مُصِرّاً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يَرْجُ ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكرٌ عليهم وَسِعَهُ السكوت عنهم بعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه "، وقوله صلى الله عليه وسلم :" فإن لم يستطع " قد فُهِمَ منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن ؛ لأن قوله :" إن لم يستطع " معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال. وقد رُوي عن ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ [ ا
قوله تعالى :﴿ ومَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً للعِبَادِ ﴾ ؛ قد اقتضى ذلك نفي إرادة الظلم من كل وجه، فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضاً ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح، ولو جاز أن يريد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم، ألا ترى أنه لا فرق في العقول بين من أراد ظلم نفسه لغيره وبين من أراد ظلم إنسان لغيره وأنهما سواء في القبح ؟ فكذلك ينبغي أن تكون إرادته للظلم منتفية منه ومن غيره.
قوله عز وجل :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ﴾ ؛ قيل في معنى قوله :﴿ كُنْتُمْ ﴾ وجوهٌ : رُوي عن الحسن أنه يعني فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة، قال الحسن : نحن آخرها وأكرمها على الله. وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ ﴾ قال :" أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُها عَلَى الله تعالى "، فكان معناه : كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه. وقيل : إن دخول " كان " وخروجها بمنزلة " إلا " بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة، إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى :﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ [ النساء : ٩٦ ] ﴿ وكان الله عليماً حكيماً ﴾ [ النساء : ١٧ ]، والمعنى الحقيقي وقوع ذلك. وقيل : كنتم خير أمة، بمعنى حَدَثْتم خير أمة، فيكون " خير أمة " بمعنى الحال. وقيل : كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ. وقيل : كنتم منذ أنتم، ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم.
وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه، أحدها : كنتم خير أمة، ولا يستحقون من الله صفة مدح إلاّ وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين. والثاني : إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أُمروا به فهو أمر الله تعالى ؛ لأن المعروف هو أمر الله. والثالث : أنهم ينكرون المنكر، والمُنْكَرُ هو ما نهى الله عنه ؛ ولا يستحقّون هذه الصفة إلاّ وهم لله رِضى ؛ فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمّة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى، وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال، ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ﴾ الآية، فيه الدلالة على صحة نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالي المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر، فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرّونهم إلا أذًى من جهة القول، وأنهم متى قاتلوهم ولّوا الأدبار ؛ فكان كما أخبر، وذلك من علم الغيب.
قوله تعالى :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أيْنَما ثُقِفُوا إلاَّ بحبْلٍ مِنَ اللهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ وهو يعني به اليهود المتقدم ذكرهم. فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذّلّة والمَسْكَنَةِ إلاّ أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذِمَّته، لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان.
قوله تعالى :﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾. قال ابن عباس وقتادة وابن جريج :" لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود : ما آمن بمحمد إلا شِرَارُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ". قال الحسن :" قوله :﴿ قَائِمَةٌ ﴾ يعني عادلة "، وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس :" ثابتة على أمر الله تعالى "، وقال السدي :" قائمة بطاعة الله تعالى ". وقوله :﴿ وهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ قيل فيه إنه السجود المعروف في الصلاة، وقال بعضهم :" معناه يصلّون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع " فجعلوا الواو حالاً، وهو قول الفرّاء. وقال الأوّلون : الواو ههنا للعطف، كأنه قال : يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون.
قوله تعالى :﴿ يُؤْمِنُونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بالمَعْرُوف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ﴾، صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإنكار على من خالفه، فكانوا ممن قال الله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ ﴾ في الآية المتقدمة ؛ وقد بينا ما دلّ عليه القرآن من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن قيل : فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال ؟ قيل له : هذا على وجهين : فمن كان منهم داعياً إلى مقالته فيضلّ الناس بشُبْهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن، ومن كان منهم معتقداً ذلك في نفسه غير داعٍ إليها فإنما يُدْعَى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته ما لم يخرج على أهل الحق بسيفه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام، فإن خرج داعياً إلى مقالته مقاتلاً عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله تعالى.
وقد رُوي عن عليّ كرم الله وجهه أنه كان قائماً على المنبر بالكوفة يخطب فقال الخوارج من ناحية المسجد : لا حُكْمَ إلا لله، فقطع خطبته وقال :" كلمة حَقٍّ يُراد بها باطل، أما إنّ لهم عندنا ثلاثاً : أن لا نمنعهم حقَّهم من الفيء ما كانت أيديهم مع أيدينا، ولا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا " ؛ فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا ؛ وكان ابتدأهم عليّ كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حَرُورَاءَ وحَاجَّهم حتى رجع بعضهم. وذلك أصل في سائر المتأولين من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا دَاعِينَ إلى مذاهبهم لم يُقَاتَلُوا وأُقِرُّوا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفراً، فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجِزْية، وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتدّ لإعطائه بدياً جملة التوحيد والإيمان بالرسول، فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدّاً.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب، كذلك كان يقول أبو الحسن، فتجوز عنده مناكحاتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوّجوهم وتُؤْكَل ذبائحهم لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به، كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكاً بسائر شرائعهم ؛ وقال تعالى :﴿ ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وقال محمد في الزيادات :" لو أن رجلاً دخل في بعض الأهواء التي يُكَفَّرُ أهلها، كان في وصاياه بمنزلة المسلمين، يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم "، وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه.
ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأُقِرُّوا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم.
ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ؛ ومن أَبَى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نُقِرَّهم عليه ولم نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أُقِرُّوا بالجزية، وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يُقَرّوا بغير جزية، فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأُجْرِي عليه أحكام المرتدين، ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره، فحينئذٍ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلاّ قتل ؛ والله أعلم.

باب الاستعانة بأهل الذمة


قال الله تعالى :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ الآية. قال أبو بكر : بِطَانَةُ الرجل خاصّته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره ؛ فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بِطَانَةً من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خواصّ أمورهم، وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال :﴿ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ يعني : لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم ؛ لأن الخَبَالَ هو الفساد. ثم قال :﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُمْ ﴾، قال السدي :" ودّوا ضلالكم عن دينكم "، وقال ابن جريج :" ودُّوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه " ؛ لأن أصل العَنَتِ المشقّة، فكأنه أخبر عن محبتهم لما يشقّ عليكم، وقال الله تعالى :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]. وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمّة في أمور المسلمين من العمالات والكَتَبَةِ ؛ وقد رُوي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وتلا :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾، أي لا تردّوهم إلى العزّ بعد أن أذلّهم الله تعالى. وروى أبو حيان التيمي عن فرقد بن صالح عن أبي دهقانة قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن ها هُنا رجلاً من أهل الحيرة لم نَرَ رجلاً أحْفَظَ منه ولا أخَطَّ منه بقلم، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً ‍‍ قال : قد اتخذتُ إذاً بطانةً من دون المؤمنين. وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال : كنت مملوكاً لعمر فكان يقول لي : أسْلِمْ فإنك إن أسْلَمْتَ استعنتُ بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم ؛ فأَبَيْتُ، فقال : لا إكراه في الدين ؛ فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال : اذهب حيث شئت.
وقوله تعالى :﴿ لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضْعَافاً مُضَاعَفَةً ﴾ ؛ قيل في معنى ﴿ أضْعَافاً مُضَاعَفَةً ﴾ وجهان : أحدهما المضاعفة بالتأجيل أجلاً بعد أَجَلٍ ولكل أجَلٍ قسط من زيادة على المال، والثاني : ما يضاعفون به أموالهم. وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدلّ على أن ما عداه بخلافه ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافاً مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، فلما كان الربا محظوراً بهذه الصفة وبعدمها دلّ ذلك على فساد قولهم في ذلك، ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله تعالى :﴿ وحرم الربا ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] إذا لم يبق لها حكم في الاستعمال.
قوله تعالى :﴿ وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَاواتُ وَالأَرْضُ ﴾، قيل : كعرض السموات والأرض ؛ وقال في آية أخرى :﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كعرض السماء والأرض ﴾ [ الحديد : ٢١ ]، وكما قال :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ [ لقمان : ٢٨ ] أي إلا كبعث نفس واحدة. ويقال إنما خصّ العرض بالذكر دونِ الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم، ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العِظَمِ ؛ وهذا يحتج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم :" ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّةِ :" معناه : كذكاة أمه.
وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ والكَاظِمِينَ الغَيْظَ والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ ؛ قال ابن عباس :﴿ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ ﴾ في العسر واليسر ؛ يعني في حال قلته وكثرته. وقيل : في حال السرور والغم لا يقطعه شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البرّ ؛ فمدح المنفقين في هاتين الحالتين ثم عطف عليه الكاظمين الغيظ والعَافِينَ عن الناس، فمدح من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه. وقال عمر بن الخطاب :" من خاف الله لم يَشْفِ غيظه ومن اتّقى الله لم يصنعْ ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون ". وكظمُ الغيظ والعفوُ مندوب إليهما موعود بالثواب عليهما من الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ ومَا كَانَ لنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ﴾، فيه حضّ على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى، وفيه التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بإذن الله تعالى، لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ ومَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾، قيل فيه :" من عمل للدنيا وفّرَ حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظّ في الآخرة "، رُوي ذلك عن ابن إسحاق. وقيل إن معناه :" من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يُحْرَمْ حظه من الغنيمة ". وقيل :" من تقرّب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جُوزِيَ بها في الدنيا من غير أن يكون له حظٌّ في الآخرة " ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨ ].
قوله تعالى :﴿ وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾. قال ابن عباس والحسن :" علماء وفقهاء "، وقال مجاهد وقتادة :" جموع كثيرة ".
وقوله تعالى :﴿ فما وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم في سَبِيلِ اللَّهِ وما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ﴾ ؛ فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه، والضعف نقصان القوة. وقيل في الاستكانة إنها إظهار الضعف، وقيل فيه إنه الخضوع ؛ فبيَّن تعالى أنهم لم يَهِنُوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع ؛ وقال ابن إسحاق :" فما وَهَنُوا بقتل نبيهم ولا ضَعُفُوا عن عدوّهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم ". وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحضّ على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد.
قوله تعالى :﴿ ومَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ الآية. فيه حكاية دعاء الرِّبِّيِّين من أتباع المتقدمين وتعليمٌ لنا لأن نقول مثل قولهم عند حضور القتال، فينبغي للمسلمين أن يَدْعُوا بمثله عند معاينة العدو ؛ لأن الله تعالى حكى ذلك عنهم على وجه المدح لهم والرضا بقولهم لنفعل مثل فعلهم ونستحق من المدح كاستحقاقهم.
قوله تعالى :﴿ فآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾. قال قتادة والربيع بن أنس وابن جريج :" ثواب الدنيا الذي أُوتوه هو النصر على عدوهم حتى قهروهم وظفروا بهم، وثواب الآخرة الجنة ". وهذا دليل على أنه يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد ؛ رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال :" من عمل لدنياه أضَرَّ بآخرته، ومن عمل لآخرته أضَرَّ بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام ".
قوله تعالى :﴿ سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ ؛ فيه دليل على بطلان التقليد ؛ لأن الله تعالى حكم ببطلان قولهم إذ لم يكن معهم برهان عليه. والسلطان ههنا هو البرهان، ويقال إن أصل السلطان القوة ؛ فسلطان المَلِكِ قوته. والسلطان الحجة لقوّتها على قمع الباطل وقهر المبطل بها، والتسليطُ على الشيء التقوية عليه مع الإغراء به، وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر به من إلقاء الرعب في قلوب المشركين فكان كما أخبر به ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ حَتَّى إِنّ العَدُوَّ لَيُرْعَبُ مِنِّي وهُوَ عَلَى مَسِيرَة شَهْرٍ ".
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بإِذْنِهِ ﴾، فيه إخبار بتقدم وعد الله تعالى لهم بالنصر على عدوهم ما لم يتنازعوا ويختلفوا، فكان كما أخبر به يوم أُحُدٍ ظهروا على عدوهم وهزموهم وقتلوا منهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة بالمقام في موضع وأن لا يبرحوا، فعَصَوْا وخَلّوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين، وظنّوا أنه لم يَبْقَ لهم باقية واختلفوا وتنازعوا، فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيانهم. وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم وجدوا موعود الله كما وَعَد قبل العصيان، فلما عَصَوْا وُكِلُوا إلى أنفسهم. وفيه دليل على أن النصر من الله في جهاد العدوّ مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته، وعلى هذا جرت عادة الله تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم. وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدِّين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ؛ ولذلك قال الله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ببَعْضِ ما كَسَبُوا ﴾. فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإخلال بمراكزهم التي رُتّبوا فيها.
وقال تعالى :﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾. وإنما أُتوا من قِبَلِ من كان يريد الدنيا منهم ؛ قال عبدالله بن مسعود : ما ظننت أن أحداً ممن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾. وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يَفِرّوا من مائتين بقوله تعالى :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] ؛ لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً رَجَّالَةً قليلي العدة والسلاح وعدوّهم ألفٌ فرسانٌ ورجالةٌ بالسلاح الشاكّ، فمنحهم الله أكتافهم ونَصَرَهم عليهم حتى قتلوا كيف شاؤوا وأسروا كيف شاؤوا، ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفّف الله تعالى عن الجميع فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ]، ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح ؛ لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوْفَر ؛ وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأوّلين ؛ فالمراد بالضعف ههنا ضعف النية ؛ وأجْرَى الجيمع مجرًى واحداً في التخفيف، إذ لم يكن من المصلحة تمييز ذوي البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة، ولذلك قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوم اليمامة حين انهزم الناس :" أخلصونا أخلصونا " يعنون المهاجرين والأنصار.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾. قال طلحة وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس : كان ذلك يوم أُحُدٍ بعد هزيمة من انهزم من المسلمين وتوعَّدهم بالمشركون بالرجوع، فكان من ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال، فأنزل الله تعالى الأَمَنَةَ على المؤمنين، فناموا دون المنافقين الذين أرعبهم الخوف لسوء الظنّ ؛ قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فنمنا حتى اصطفقت الحجف من النعاس، ولم يُصِبِ المنافقين ذلك بل أهَمّتهم أنفسهم، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : سمعت وأنا بين النائم واليقظان معتّب بن قشير وناساً من المنافقين يقولون هل لنا من الأمر من شيء ؛ وهذا من لطف الله تعالى للمؤمنين وإظهار أعلام النبوة في مثل تلك الحال التي العدوّ فيها مُطِلٌّ عليهم وقد انهزم عنهم كثير من أعوانهم وقد قَتَلُوا من قتلوا من المسلمين فينامون وهم مواجهون العدوّ في الوقت الذي يطير فيه النعاس عمن شاهده ممن لا يقاتل فكيف بمن حضر القتال والعدو قد أشرعوا فيهم الأسنة وشهروا سيوفهم لقتلهم واستيصالهم. وفي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أحدها : وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مَدَدٍ أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم، فينزل الله تعالى على قلوبهم الأَمَنَةَ، وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة. والثاني : وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الانصراف والرجوع، فكيف في حال المشاهدة وقصد العدوّ نحوهم لاستيصالهم وقتلهم !‍. والثالث : تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خَصَّ المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين، فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهَلَع والخوف والقلق والاضطراب ؛ فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين.
قوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ ؛ قيل : إن " ما " ههنا صلة، معناه : فبرحمة من الله، رُوي ذلك عن قتادة ؛ كما قال :﴿ عما قليل ليصبحن نادمين ﴾ [ المؤمنون : ٤٠ ] وقوله تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم ﴾ [ النساء : ١٥٥ ]. واتفق أهل اللغة على ذلك، وقالوا : معناها التأكيد وحسن النظم، كما قال الأعشى :
* فَاذْهَبِي مَا إلَيْكِ أدْرَكَني الحلْ * م عَدَاني عَنْ هَيْجِكُمْ إِشْفَاقي *
وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز، لأن ذكر " ما " ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى.
قوله تعالى :﴿ ولَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغِلْظة في الدعاء إلى الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله تعالى لموسى وهارون :﴿ فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ].
قوله تعالى :﴿ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ ﴾. اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرّف صواب الرأي من الصحابة، فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق :" إنما أمره بها تطييباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم، إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه ". وقال سفيان بن عيينة :" أمره بالمشاورة لتقتدي به أمّته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شُورَى بينهم ". وقال الحسن والضحاك :" جمع لهم بذلك الأمرين جميعاً، في المشاورة ليكون لإجلال الصحابة ولتقتدي الأمّة به في المشاورة ". وقال بعض أهل العلم :" إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينصّ له فيه على شيء بعينه " فمن القائلين بذلك من يقول : إنما هو في أمور الدنيا خاصة، وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئاً من أمور الدين من طريق الاجتهاد، وإنما هو في أمور الدنيا خاصة، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبّه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة ؛ وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهم، وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا. وقال آخرون : كان مأموراً بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى، وفي أمور الدنيا أيضاً مما طريقه الرأي وغالب الظن ؛ وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أدّاه إليه اجتهاده، وكان في ذلك ضروب من الفوائد : أحدها إعلام الناس أن ما لا نَصَّ فيه من الحوادث فسبيلُ استدراك حُكْمِه الاجتهادُ وغالبُ الظنّ ؛ والثاني : إشعارهم بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتّباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم ويرضى اجتهادهم وتحرّيهم لموافقة النصوص من أحكام الله تعالى ؛ والثالث : أن باطن ضمائرهم مرضيّ عند الله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم، فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده صلى الله عليه وسلم في مثله. وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمّة به في مثله ؛ لأنه لو كان معلوماً عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شُووِرُوا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه، ثم لم يكن ذلك معمولاً عليه ولا متلقًّى منه بالقبول بوجه، لم يكن في ذلك تطييبُ نفوسهم ولا رفعٌ لأقدارهم بل فيه إيحاشُهم وإعلامُهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها. فهذا تأويل ساقط لا معنى له، فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع عِلْمِ الأمّة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئاً ولم يعمل فيها بشيء أشاروا به ! فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضاً أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأياً صحيحاً ولا قولاً معمولاً ؛ لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه، فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأياً صحيحاً وقولاً معمولاً عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وإذْ قد بطل هذا فلا بد من أن يكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضَرْبٌ من الارتئاء والاجتهاد، فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأي النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يوافق رأي بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأي جميعهم فيعمل صلى الله عليه وسلم حينئذ برأيه، ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنّفين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أُمروا به، ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتّباع رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا بدّ من أن تكون مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فيما لا نصَّ فيه، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات، ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ؟ ولما لم يخصّ الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلى الله عليه وسلم بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعاً ؛ ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومُكَايَدَةِ العدو، وإن لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم تدبير في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره صلى الله عليه وسلم من الدنيا على القُوت والكَفَافِ الذي لا فضل فيه، وإذا كانت مشاورته لهم في محاربة العدوّ ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين، ولا فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها ؛ وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجتهد رأيه فيما لا نَصَّ فيه. ويدلّ على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نصَّ فيه قولُه تعالى في نسق ذكر المشاورة :﴿ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ ولو كان فيما شاور فيه شيء منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة، إذ كان ورود النصّ موجباً لصحة العزيمة قبل المشاورة، وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالةٌ على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نصٌّ قبلها.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾. قرىء :" يُغَلَّ " برفع الياء، ومعناه يُخان. وخُصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإن كانت خيانة سائر الناس محظورة، تعظيماً لأمر خيانته على خيانة غيره، كما قال تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ﴾ [ الحج : ٣٠ ] وإن كان الرجس كله محظوراً ونحن مأمورون باجتنابه ؛ ورُوي هذا التأويل عن الحسن. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى :" يُغَلَّ " برفع الياء :" إن معناه يُخَوّن فيُنسب إلى الخيانة " وقال :" نزلت في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله هذه الآية ".
ومن قرأ :﴿ يَغُلَّ ﴾ بنصب الياء، معناه : يخون، والغلول الخيانة في الجملة، إلا أنه قد صار الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم.
وقد عظّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغلول حتى أجراه مجرَى الكبائر، وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" مَنْ فَارَقَت الرُّوحُ جَسَدَهُ وهو بَرِيءٌ مِنْ ثَلاثٍ دَخَلَ الجَنَّةَ : الكِبَرِ والغُلُولِ والدَّيْنِ ". وروى عبدالله بن عمر : أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هُوَ في النَّارِ " فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلَّها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أدّوا الخَيْطَ والمَخِيطَ فإنّه عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ". والأخبار في أمر تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي في إباحة أكل الطعام وأخْذِ علف الدوابّ عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أخبارٌ مستفيضة، قال عبدالله بن أبي أَوْفَى :" أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف ". وعن سلمان :" أنه أصاب يوم المدائن أرْغِفة حُوَّارَى وجبناً وسكيناً، فجعل يقطع من الجبنة ويقول : كلوا بسم الله ". وقد رَوَى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يَحِلُّ لأَحَدٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أعْجَفَها رَدَّها فيهِ، ولا يحلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَلْبِسَ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حتَّى إذا أخْلَقَهُ رَدَّهُ فيه " ؛ وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنياً عنه، فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء ؛ وقد رُوي عن البراء بن مالك :" أنه ضرب رجلاً من المشركين يوم اليمامة، فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به ".
قوله تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ قال السدي وابن جريج في قوله :﴿ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ :" إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا "، وقال أبو عون الأنصاري :" معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا ". قال أبو بكر : وفي هذا دلالة على أن فَرْضَ الحضور لازمٌ لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم.
وقوله تعالى :﴿ يَقُولُونَ بأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ قيل فيه وجهان، أحدهما : تأكيدٌ لكون القول منهم، إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضياً به على وجه المجاز، كما قال تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] وإنما قَتَلَ غَيْرُهم ورضوا به، وقوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾ [ البقرة : ٩١ ] ونحو ذلك. والثاني : أنه فرّق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾. زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة، قالوا : لأنه لو جاز أن تُرَدَّ عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرَّجْعَةِ وَمَذْهَبِ أهل التناسخ. قال أبو بكر : وقال الجمهور :" إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فيُنِيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق، ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة " لأنه أخبر أنهم أحياء، وذلك يقتضي أنهم أحياء في هذا الوقت، ولأن تأويل من تأوّله على أنهم أحياء في الجنة يؤدّي إلى إبطال فائدته، لأن أحداً من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة، إذ الجنة لا يكون فيها ميتٌ. ويدل عليه أيضاً وَصْفُه تعالى لهم بأنهم فَرِحُون على الحال بقوله تعالى :﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾. ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ وهم في الآخرة قد لحقوا بهم. ورَوَى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لما أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بأُحُدٍ جَعَلَ الله أرْوَاحَهُمْ في حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَحْتَ العَرْشِ تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ العَرْشِ " ؛ وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبي حذيفة وواصل بن عطاء، وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شيء ؛ لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خِلَقٍ مختلفة، وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ]، وأخبر أن إحياء الموتى معجزةٌ لعيسى عليه السلام، فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء.
وقوله تعالى :﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، معناه : حيث لا يقدر لهم أحد على ضرٍّ ولا نفع إلا ربهم عز وجل. وليس يعني به قرب المسافة ؛ لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة، إذ هو من صفة الأجسام. وقيل : عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ الآية. رُوي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق :" إن الذين قالوا كانوا رَكْباً وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم ". وقال السدي :" هو أعرابي ضمن له جُعْلاً على ذلك " ؛ فأطلق الله تعالى اسم الناس على الواحد على قول من تأوّله على أنه كان رجلاً واحداً، فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص. قال أبو بكر : لما كان الناس اسماً للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك، تناول ذلك أَقَلَّهُمْ وهو الواحد منهم ؛ لأنه لفظ الجنس، وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حرّ : إنه على كلام الواحد منهم ؛ لأنه لفظ الجنس، ومعلوم أنه لم يرد به استغراق الجنس فيتناول الواحد منهم.
وقوله تعالى :﴿ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً ﴾، فيه إخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة، إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقيناً وبصيرة في دينهم، وهو كما قال تعالى في الأحزاب :﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ﴾ [ الأحزاب : ٢٢ ] فازدادوا عند معاينة العدو إيماناً وتسليماً لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم. وفي ذلك أتمُّ ثناءٍ على الصحابة رضي الله عنهم وأكمل فضيلة، وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتّكال عليه، وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا متى فعلنا ذلك أعْقَبَنا ذلك من الله النصر والتأييد وصَرْف كَيْدِ العدوّ وشرّهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى :﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ إلى قوله :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ ﴾ ؛ قال السدي :" بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله وأن يؤدوا الزكاة "، وقال ابن عباس : هو في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس ". وهو بالزكاة أولى، كقوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] إلى قوله :﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم ﴾ [ التوبة : ٣٥ ] ؛ وقوله تعالى :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ ﴾ يدل على ذلك أيضاً.
وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلاّ جِيءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبكَنْزِهِ فيُحْمَى بها جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ ". وقال مسروق :" يجعل الحق الذي منعه حيّة فيُطوَّقها فيقول مالي وما لك ؟ فتقول الحية أنا مالك ". وقال عبدالله :" يُطَوَّقُ ثعباناً في عنقه له أسنان فيقول أنا مالُكَ الذي بخلت به ".
قوله تعالى :﴿ وإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ ﴾، قد تقدّم نظيرها في سورة البقرة، وقد رُوي في ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي :" أن المراد به كل من أُوتي عِلْماً فكتمه "، قال أبو هريرة : لولا آية من كتاب الله تعالى ما حدثتكم به، ثم تلا قوله :﴿ وإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ﴾. فيعود الضمير في قوله :﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ ﴾ في قول الأولين على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كتموا صفته وأمره، وفي قوله الآخرين على الكتاب، فيدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما في كتب الله عز وجل.
قوله تعالى :﴿ إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآياتٍ لأُولي الأَلْبَابِ ﴾. الآياتُ التي فيها من جهات : أحدها تعاقب الأعراض المتضادّة عليها مع استحالة وجودها عارية منها، والأعراض محدثة، وما لم يسبق المُحْدَث فهو مُحْدَث. وقد دلّت أيضاً على أن خالق الأجسام لا يشبهها، لأن الفاعل لا يشبه فعله. وفيه الدلالة على أن خالقها قادر لا يعجزه شيء، إذ كان خالِقَها وخالِقَ الأعراض المضمَّنةِ بها وهو قادر على أضدادها، إذ ما ليس بقادر يستحيل منه الفعل. ويدل على أن فاعلها قديم لم يزل ؛ لأن صحة وجودها متعلقة بصانع قديم، لولا ذلك لاحتاج الفاعل إلى فاعل آخر إلى ما لا نهاية له. ويدل على أن صانعها عالِمٌ من حيث استحال وجود الفِعْلِ المتْقَنِ المحكَمِ إلا من عالم به قبل أن يفعله. ويدل على أنه حكيم عدل ؛ لأنه مُسْتَغْنٍ عن فعل القبيح عالم بقبحه فلا تكون أفعاله إلا عدلاً وصواباً. ويدل على أنه لا يشبهها ؛ لأنه لو أشبهها لم يَخْلُ من أن يشبهها من جميع الوجوه أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الوجوه فهو محدث مثلها، وإن أشبهها من بعض الوجوه فواجب أن يكون محدثاً من ذلك الوجه، لأن حكم المشبهين واحد من حيث اشتبها فوجب أن يتساويا في حكم الحدوث من ذلك الوجه. ويدل وقوف السموات والأرض من غير عَمَدٍ أن ممسكها لا يشبهها، لاستحالة وقوفها من غير عمد من جسم مثلها. إلى غير ذلك من الدلائل المضمنة بها. ودلالة الليل والنهار على الله تعالى أن الليل والنهار مُحْدَثَان لوجود كل واحد منهما بعد أن لم يكن موجوداً، ومعلوم أن الأجسام لا تقدر على إيجادها ولا على الزيادة والنقصان فيها، وقد اقتضيا مُحْدِثاً من حيث كانا مُحْدَثَيْنِ لاستحالة وجود حادِثٍ لا مُحْدِثَ له، فوجب أن يكون مُحْدِثهما ليس بجسم ولا مشبه للأجسام لوجهين، أحدهما : أن الأجسام لا تقدر على إحداث مثلها، والثاني : أن المُشْبِهَ للجسم يجري عليه ما يجري عليه من حكم الحدوث، فلو كان فاعلهما حادثاً لاحتاج إلى مُحْدِثٍ، ثم كذلك يحتاج الثاني إلى الثالث إلى ما لا نهاية له، وذلك محال، فلا بد من إثبات صانع قديم لا يشبه الأجسام ؛ والله أعلم.

باب فضل الرباط في سبيل الله تعالى


قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾ قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك :" اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله ". وقال محمد بن كعب القرظي :" اصبروا على دينكم وصابروا وَعْدي إياكم ورابطوا أعداءكم ". وقال زيد بن أسلم :" اصبروا على الجهاد وصابروا العدوَّ ورابطوا الخيل عليه ". وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن :" ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" في انْتِظَارِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ ". وقال تعالى :﴿ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ]. وروى سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ ومِنْ قِيَامِهِ، ومَنْ مَاتَ فِيهِ وُقِيَ فِتْنَةَ القَبْرِ وَنَمَا له عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ". وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حَرْسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ الله أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيلَةٍ قِيَامٌ لَيْلُها وصِيَامٌ نَهَارُها ". والله الموفق.
Icon