تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير
.
لمؤلفه
محمد نسيب الرفاعي
.
المتوفي سنة 1412 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
قد ذكرنا الحديث الوارد في ان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ﴿ الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾، و ﴿ الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ عند تفسير آية الكرسي، وقد تقدم الكلام على قوله :﴿ الم ﴾ في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وتقدم الكلام على قوله :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق، أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً. وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن العظيم عليه، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ التوراة ﴾ أي على موسى بن عمران، ﴿ والإنجيل ﴾ أي على عيسى بن مريم عليهما السلام، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ : أي في زمانهما، ﴿ وَأَنزَلَ الفرقان ﴾ : وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع : الفرقان هاهنا القرآن، واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ وهو القرآن. وأما ما روي عن أبي صالح : أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة، فضعيف أيضاً، لتقدم ذكر التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ : أي يوم القيامة، ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ أي منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انتقام ﴾ : أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.
وقوله تعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق، أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً. وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن العظيم عليه، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ التوراة ﴾ أي على موسى بن عمران، ﴿ والإنجيل ﴾ أي على عيسى بن مريم عليهما السلام، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ : أي في زمانهما، ﴿ وَأَنزَلَ الفرقان ﴾ : وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع : الفرقان هاهنا القرآن، واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ وهو القرآن. وأما ما روي عن أبي صالح : أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة، فضعيف أيضاً، لتقدم ذكر التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ : أي يوم القيامة، ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ أي منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انتقام ﴾ : أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك، ﴿ هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد، ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم ﴾ أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية، وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام، وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى بن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر، لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله!! وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال!؟ كما قال تعالى :﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ].
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات ﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى :﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظُ والتركيبُ لا من حيث المراد، وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فقال ابن عباس : المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به. وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام، وقال سعيد بن جبير :﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، وقال مقاتل : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن. وقيل في المتشابهات : المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، روي عن ابن عباس، وقيل : هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان، وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله :﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك، وأما ها هنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه ابن يسار رحمه الله حيث قال :﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، قال : والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
ولهذا قال الله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقول :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٥٩ ] وبقول :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾
ولهذا قال الله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقول :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٥٩ ] وبقول :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾
325
[ آل عمران : ٥٩ ]، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْقٌ من مخلوقات الله، وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى :﴿ وابتغاء تَأْوِيلِهِ ﴾ أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :« قرأ رسول الله ﷺ :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾. إلى قوله :﴿ أُوْلُواْ الألباب ﴾ فقال :» إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم « وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :» تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ قالت : قال رسول الله ﷺ :« فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم » «.
وروى أحمد عن أبي أمامة » عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ قال :« هم الخوارج »، وفي قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] قال :« هم الخوارج »، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي ﷺ ( غنائم حنين ) فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ( ذو الخويصرة ) - بقر الله خاصرته - إعدل فإنك لم تعدل، فقال رسول الله ﷺ :« لقد خبت وخسرت. إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني » ! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال :« دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم » ثم كان ظهورهم أيام ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ في قوله :« » وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة «، قالو : ومن يا رسول الله؟ قال :» من كان على ما أنا عليه وأصحابي «
وقوله تعالى :﴿ وابتغاء تَأْوِيلِهِ ﴾ أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :« قرأ رسول الله ﷺ :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾. إلى قوله :﴿ أُوْلُواْ الألباب ﴾ فقال :» إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم « وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :» تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ قالت : قال رسول الله ﷺ :« فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم » «.
وروى أحمد عن أبي أمامة » عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ قال :« هم الخوارج »، وفي قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] قال :« هم الخوارج »، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي ﷺ ( غنائم حنين ) فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ( ذو الخويصرة ) - بقر الله خاصرته - إعدل فإنك لم تعدل، فقال رسول الله ﷺ :« لقد خبت وخسرت. إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني » ! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال :« دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم » ثم كان ظهورهم أيام ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ في قوله :« » وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة «، قالو : ومن يا رسول الله؟ قال :» من كان على ما أنا عليه وأصحابي «
326
أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عن رسول الله ﷺ أنه ذكر :« إنّ في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل يتأولونه على غير تأويله ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله ﴾ اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، وقال رسول الله ﷺ :« إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به »، وقال عبد الرزاق : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به ﴾، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولن آمنا به ﴾ واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله تعالى :﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد. فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس فقال :« اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في لقرآن معنيان، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ؛ ويكون قوله ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ مبتدأ و ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ خبره.
وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عن رسول الله ﷺ أنه ذكر :« إنّ في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل يتأولونه على غير تأويله ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله ﴾ اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، وقال رسول الله ﷺ :« إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به »، وقال عبد الرزاق : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به ﴾، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولن آمنا به ﴾ واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله تعالى :﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد. فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس فقال :« اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في لقرآن معنيان، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ؛ ويكون قوله ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ مبتدأ و ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ خبره.
327
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر : وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله :﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ [ يوسف : ٣٦ ] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ حالاً منهم، وساغ هذا وإن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨ ] - إلى قوله - ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه ﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي ﷺ أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال :« من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم »، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله ﷺ قوماً يتدارؤون فقال :« إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾.
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه ﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي ﷺ أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال :« من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم »، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله ﷺ قوماً يتدارؤون فقال :« إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾.
328
عن أم سلمة أن النبي ﷺ كان يقول :« يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »، ثم قرأ :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ وعن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدِّث أن رسول الله ﷺ كان يكثر من دعائه :« » اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «، قالت : قلت يا رسول الله وإن القلب ليتقلب؟ قال :» نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه «. قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو به لنفسي، قال :» بلى، قولي : اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن « ».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ كثيراً ما يدعو :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «. قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال :» ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ « وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ كان إذا استيقظ من الليل قال :» لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب «.
وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ كثيراً ما يدعو :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «. قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال :» ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ « وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ كان إذا استيقظ من الليل قال :» لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب «.
وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
329
يخبر تعالى عن الكفّار بأنهم وقود النار :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ [ غافر : ٥٢ ]، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ].
وقال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ]، وقال هاهنا :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه :﴿ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار ﴾ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية. وعن أم الفضل :« أن رسول الله ﷺ قام ليلة بمكة، فقال :» هل بلغت «؟ يقولها ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاهاً - فقال : اللهم نعم، وحرصت وجهدت، ونصحت فاصبر، فقال النبي ﷺ :» ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير «. قالوا : يا رسول الله فمن أولئك؟ قال :» أولئك منكم، أولئك هم وقود النار « ».
وقوله تعالى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، قال ابن عباس : كصنيع آل فرعون، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وغير واحد، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة والدَّأب - بالتسكين والتحريك أيضاً كَنَهر ونَهْر - وهو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس :
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكتَ نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها! والمعنى في الآية : إنَّ الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد، بل يهلكون ويعذبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه :﴿ والله شَدِيدُ العقاب ﴾ أي شديد الأخذ، أليم العذاب، لا يمتنع منه أحد، ولا يفوته شيء، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه.
وقال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ]، وقال هاهنا :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه :﴿ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار ﴾ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية. وعن أم الفضل :« أن رسول الله ﷺ قام ليلة بمكة، فقال :» هل بلغت «؟ يقولها ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاهاً - فقال : اللهم نعم، وحرصت وجهدت، ونصحت فاصبر، فقال النبي ﷺ :» ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير «. قالوا : يا رسول الله فمن أولئك؟ قال :» أولئك منكم، أولئك هم وقود النار « ».
وقوله تعالى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، قال ابن عباس : كصنيع آل فرعون، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وغير واحد، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة والدَّأب - بالتسكين والتحريك أيضاً كَنَهر ونَهْر - وهو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس :
كدأبك من أم الحويرث قبلها | وجارتها أم الرباب بمأسل |
يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ أي في الدنيا، ﴿ وَتُحْشَرُونَ ﴾ أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد. وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله ﷺ لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق ( بني قينقاع ) وقال :« يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً » فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله في ذلك من قوله :﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد ﴾، إلى قوله :﴿ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار ﴾. ولهذا قال تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾ أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية، أي دلالة على أن الله معزّ دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته ومعلٍ أمره ﴿ فِي فِئَتَيْنِ ﴾ أي طائفتين ﴿ التقتا ﴾ أي للقتال، ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ ﴾ وهم مشركو قريش يوم بدر. وقوله :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾، قال بعض العلماء : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم. وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا ( عمر بن سعد ) يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسليمن، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وهكذا كان الأمر، كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾ أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة ﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم، والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم، لكن وجَّه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً، كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : في قصة بدر :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] فالجواب : أن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا ﴾ الآية. قال : هذا يوم بدر، قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا.
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾ أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة ﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم، والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم، لكن وجَّه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً، كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : في قصة بدر :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] فالجواب : أن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا ﴾ الآية. قال : هذا يوم بدر، قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا.
331
ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] الآية. وقال أبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين! قال : أراهم مائة، قال : فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً، فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا، ويطلبوا الإعانة من ربهم عزّ وجلّ، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع. ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر :﴿ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعزّ المؤمنين ويذل الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ]، وقال هاهنا :﴿ والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار ﴾ أي : إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
332
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه ﷺ قال :« ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، وأن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء، وقوله ﷺ :« الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله » وقوله في الحديث الآخر :« حبّب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ».
وحبُّ البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد ﷺ ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث :« تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعاً، وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقول، وحاصلها : أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره، وقيل : ألف دينار، وقيل : ألف ومائتا دينار، وقيل : اثنا عشر ألفاً، وقيل : أربعون ألفاً، وقيل : ستون ألفاً، وقيل : غير ذلك.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزواً عليها، فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخراً ونِواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر، كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] الآية، وأما المسوّمة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل، وقيل : غير ذلك. وقوله تعالى :﴿ والأنعام ﴾ يعني الإبل والبقر والغنم، ﴿ والحرث ﴾ يعني الارض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة عن النبي ﷺ قال :« خير مال امرىء له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة » المأمورة الكثيرة النسل، والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة، ﴿ والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ أي حسن المرجع والثواب، قال عمر بن الخطاب : لما نزلت ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ﴾ قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا ﴾ الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم ﴾ أي قل : يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا، من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقال :﴿ لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً، ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله ﴾ أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة
وحبُّ البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد ﷺ ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث :« تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعاً، وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقول، وحاصلها : أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره، وقيل : ألف دينار، وقيل : ألف ومائتا دينار، وقيل : اثنا عشر ألفاً، وقيل : أربعون ألفاً، وقيل : ستون ألفاً، وقيل : غير ذلك.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزواً عليها، فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخراً ونِواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر، كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] الآية، وأما المسوّمة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل، وقيل : غير ذلك. وقوله تعالى :﴿ والأنعام ﴾ يعني الإبل والبقر والغنم، ﴿ والحرث ﴾ يعني الارض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة عن النبي ﷺ قال :« خير مال امرىء له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة » المأمورة الكثيرة النسل، والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة، ﴿ والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ أي حسن المرجع والثواب، قال عمر بن الخطاب : لما نزلت ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ﴾ قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا ﴾ الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم ﴾ أي قل : يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا، من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقال :﴿ لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً، ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله ﴾ أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة
333
﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، ثم قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بالعباد ﴾ أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.
334
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى :﴿ الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا ﴾ أي بك وبكتابك وبرسولك، ﴿ فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا بفضلك ورحمتك ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النار ﴾، ثم قال تعالى :﴿ الصابرين ﴾ أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات، ﴿ والصادقين ﴾ فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة، ﴿ والقانتين ﴾ والقنوت : الطاعة والخضوع، ﴿ والمنفقين ﴾ أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلاّت، ومواساة ذوي الحاجات، ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وقد قيل : إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ [ يوسف : ٩٨ ] إنه أخرهم إلى وقت السحر، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول : هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ».
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :« من كل الليل قد أوتر رسول الله ﷺ، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر » وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :« من كل الليل قد أوتر رسول الله ﷺ، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر » وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين ﴿ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى :﴿ لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] الآية، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم ﴾، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. ﴿ قَآئِمَاً بالقسط ﴾ منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك. ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ تأكيد لما سبق، ﴿ العزيز الحكيم ﴾ العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي ﷺ وهو بعرفة يقرأ هذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم ﴾، ثم قال : وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.
وعن غالب القطان : قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ قالها مراراً. قلت : لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية، قال : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني! قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة؛ فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة، قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عزّ وجلّ : عبدي عهد إليّ، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليه الحجة بإرسلا الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال :﴿ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ أي بغي بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي من جحد ما أنزل الله في كتابه ﴿ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.
وعن غالب القطان : قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ قالها مراراً. قلت : لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية، قال : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني! قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة؛ فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة، قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عزّ وجلّ : عبدي عهد إليّ، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليه الحجة بإرسلا الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال :﴿ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ أي بغي بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي من جحد ما أنزل الله في كتابه ﴿ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.
336
ثم قال تعالى :﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ ﴾ أي جادلوك في التوحيد، ﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن ﴾ أي فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا ولد له ولا صاحبة له. ﴿ وَمَنِ اتبعن ﴾ أي على ديني، يقول كمقالتي كما قال تعالى :﴿ قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] الآية، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد ﷺ أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به إلى الكتابيين من المليين والأميين من المشركين، فقال تعالى :﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾ أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. ولهذا قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بالعباد ﴾ أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وما ذلك إلا لحكمته ورحمته.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنَّة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » وقال ﷺ :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وقال :« كان النبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ».
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنَّة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » وقال ﷺ :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وقال :« كان النبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ».
337
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه :« أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي ﷺ وضوءه ويناوله نعليه، فمرض فأتاه النبي ﷺ فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي ﷺ :» يا فلان قل لا إله إلا الله «، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه. فأعاد عليه النبي ﷺ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه : أطع أبا القاسم، فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي ﷺ وهو يقول :» الحمد لله الذي أخرجه بي من النار « ».
338
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب. بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديماً وحديثاً، التي بلَّغتهم إياها الرسل استكباراً عليهم، وعناداً لهم وتعاظماً على الحق واستنكافاً عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق ﴿ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس ﴾ وهذا هو غاية الكبر. عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال :« قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال :» رجل قتل نبياً، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر «، ثم قرأ رسول الله :﴿ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ الآية. ثم قال رسول الله :» يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عزّ وجلّ « وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره، ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فقال تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي موجع مهين ﴿ أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾.
ينكر الله تعالى على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما ( التوراة والإنجيل ) إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله، فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد ﷺ، تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم التنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد، ثم قال تعالى :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم، أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة، ثم قال تعالى :﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم، من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم، واختلقوه ولم ينزل الله به سلطاناً، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾، أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر!! والله تعالى سأئلهم عن ذلك كله وحاكم عليهم ومجازيهم به، ولهذا قال تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؟ أي : لا شك في وقوعه وكونه، ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
يقول تبارك وتعالى :﴿ قُلِ ﴾ يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه ﴿ اللهم مَالِكَ الملك ﴾ أي لك الملك كله، ﴿ تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ : أي أنت المعطي وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى، على رسوله ﷺ وهذه الأمة، لأن الله تعالى حوّل النبوّة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصَّه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل، من العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك ﴾ الآية، أي : أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد، كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، قال الله رداً عليهم :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] ؟ الآية، أي : نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد، كما قال تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] وقال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.
وقوله تعالى :﴿ وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال :« اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران ﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ».
وقوله تعالى :﴿ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.
وقوله تعالى :﴿ وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال :« اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران ﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ».
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ ﴾ أي ومن يرتكب نهي الله من هذا فقد برىء من الله، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة ﴾ [ الممتحنة : ١ ] - إلى أن قال - ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ٥١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال :« إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم ». وقال الثوري، قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قول الله تعالى :﴿ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] الآية. ثم قال تعالى :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه والى أعداءه وعادى أولياءه، ثم قال تعالى :﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله.
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان، والأيام واللحظات وجميع الأوقات، وجميع ما في الأرض والسماوات، لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار، والجبال، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي وقدرته نافذة في جميع ذلك. وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أَنظَرَ من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾ الآية، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ] فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصَّه، وودَّ لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء :﴿ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ]، ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ أي يخوفكم عقابه، ثم قال : جلّ جلاله مرجياً لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه :﴿ والله رَؤُوفٌ بالعباد ﴾ قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذّرهم نفسه وقال غيره : أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم.
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »، ولهذا قال :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ﴾ أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحَب، وقال الحسن البصري : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ﴾. عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ :« هل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني ﴾ ».
ثم قال تعالى :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي باتباعكم الرسول ﷺ، يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تخالفوا عن أمره، ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه، حتى يبايع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية، إن شاء الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي باتباعكم الرسول ﷺ، يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تخالفوا عن أمره، ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه، حتى يبايع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية، إن شاء الله تعالى.
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى ﴿ ءَادَمَ ﴾ عليه السلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة؛ واصطفى ﴿ وَنُوحاً ﴾ عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً، فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم، لم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى ﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد ﷺ، ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾ والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى بن مريم عليه السلام، فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي ( حنة بنت فاقوذ )، قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوماً طائراً يزق فرخه، فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً، فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محرراً، أي خالصاً مفرغاً للعبادة لخدمة بيت المقدس، فقالت : يا رب ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ أي السميع لدعائي العليم بنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى ﴾ أي في القوة. والجلد في العبادة، وخدمة المسجد الأقصى. ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا، وقد حكي مقرراً وبذلك ثبتت السنّة عن رسول الله ﷺ حيث قال :« ولد لي الليلة ولد سميته بامس أبي إبراهيم » أخرجاه، وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله ﷺ فحنكه وسماه ( عبد الله ). وفي صحيح البخاري :« أن رجلاً قال : يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال :» سم ابنك عبد الرحمن « فأما حديث قتادة عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب : أن رسول الله ﷺ قال :» كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه « فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي.
وقوله تعالى إخباراً عن أم مريم أنها قالت :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ أي عوذتها بالله عزّ وجلّ من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك. عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها «، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم « ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾.
وقوله تعالى إخباراً عن أم مريم أنها قالت :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ أي عوذتها بالله عزّ وجلّ من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك. عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها «، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم « ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾.
يخبر ربنا تعالى أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه أنبتها نباتاً حسناً أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده، تتعلم منهم العلم والخير والدين، فلهذا قال :﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أي جعله كافلاً لها، قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة، وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم، وإنما قدر الله كون زكريا كفلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً وعملاً صالحاً، ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل : زوج أختها كما ورد في الصحيح :« فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة » وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قضى في ( عمارة بنت حمزة ) أن تكون في حضانة خالتها امرأة ( جعفر بن أبي طالب ) وقال :« الخالة بمنزلة الأم ». ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها فقال :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾، قال مجاهد وعكرمة والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وعن مجاهد :﴿ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾ أي علماً، والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء، وفي السنة لهذا نظائر كثيرة، فإذا رأى زكريا هذا عندها ﴿ قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا ﴾ أي يقول : من أين لك هذا؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
عن جابر « أن رسول الله ﷺ أقام أياماً لم يطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال :» يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ « قالت : لا والله - بأبي أنت وأمي - فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله ﷺ على نفسي ومن عندي، وكانوا جمعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً - أو حسيناً - إلى رسول الله ﷺ، فرجع إليها فقالت : بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك، قال :» هلمي يا بنية «، قالت : فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهتُ وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصليت على نبيّه، وقدمته إلى رسول الله ﷺ فلما رآه حمد الله، وقال :» من أين لك هذا يا بنية «؟ قالت : يا أبت ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فحمد الله، وقال :» الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه قالت : هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب «
عن جابر « أن رسول الله ﷺ أقام أياماً لم يطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال :» يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ « قالت : لا والله - بأبي أنت وأمي - فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله ﷺ على نفسي ومن عندي، وكانوا جمعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً - أو حسيناً - إلى رسول الله ﷺ، فرجع إليها فقالت : بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك، قال :» هلمي يا بنية «، قالت : فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهتُ وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصليت على نبيّه، وقدمته إلى رسول الله ﷺ فلما رآه حمد الله، وقال :» من أين لك هذا يا بنية «؟ قالت : يا أبت ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فحمد الله، وقال :» الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه قالت : هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب «
347
، فبعث رسول الله ﷺ إلى علي ثم أكل رسول الله ﷺ، وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين، وجميع أزواج النبي ﷺ، وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً قالت : وبقيت الجفنة كما هي. قالت : فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً.
348
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم، واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، ولكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً، وقال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ﴾ أي من عندك ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ أي ولداً صالحاً ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء ﴾. قال تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب ﴾ أي خاطبته الملائكة شفاها خطاباً أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته، ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى ﴾ أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله ﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾. روى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية :﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾ أي بعيسى بن مريم، وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى بن مريم، وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضاً.
وقوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً ﴾ قال أبو العالية حليماً وقال قتادة : سيداً في العلم والعبادة، وقال ابن عباس : السيد الحليم التقي، وقال ابن المسيب : هو الفقيه العالم، وقال عطية : السيد في خُلُقه ودينه، وقال ابن زيد : هو الشريف، وقال مجاهد : هو الكريم على الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى :﴿ وَحَصُوراً ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد ﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ﴾، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا.
وقد قال « القاضي عياض » في كتابه « الشفاء » : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ﴿ حَصُوراً ﴾ ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا : هذه نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل : ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا ﷺ الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوط دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال :« حبب إليّ من دنياكم ».
وقوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً ﴾ قال أبو العالية حليماً وقال قتادة : سيداً في العلم والعبادة، وقال ابن عباس : السيد الحليم التقي، وقال ابن المسيب : هو الفقيه العالم، وقال عطية : السيد في خُلُقه ودينه، وقال ابن زيد : هو الشريف، وقال مجاهد : هو الكريم على الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى :﴿ وَحَصُوراً ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد ﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ﴾، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا.
وقد قال « القاضي عياض » في كتابه « الشفاء » : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ﴿ حَصُوراً ﴾ ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا : هذه نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل : ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا ﷺ الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوط دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال :« حبب إليّ من دنياكم ».
349
هذا لفظه، والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال :﴿ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى :﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين ﴾ [ القصص : ٧ ]. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، ﴿ قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ ﴾ : أي الملك، ﴿ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر، ﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ﴾ أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني، ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾، ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحا، فقال تعالى :﴿ واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى :﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين ﴾ [ القصص : ٧ ]. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، ﴿ قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ ﴾ : أي الملك، ﴿ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر، ﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ﴾ أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني، ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾، ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحا، فقال تعالى :﴿ واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار ﴾.
350
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام، عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها، أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها، وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط » وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد » وعن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال :« خير نساء العالمين أربع، مريم بن عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت رسول الله ».
وفي البخاري :« كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود، والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدراين، بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ الروم : ٢٦ ] وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ ﴾ قال الحسن : يعني اعبدي لربك ﴿ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أي كوني منهم : ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر :﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ ﴾ أي نقصه عليك، ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك، كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم، حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها، يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها. وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال : إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيّهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
وفي البخاري :« كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود، والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدراين، بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ الروم : ٢٦ ] وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ ﴾ قال الحسن : يعني اعبدي لربك ﴿ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أي كوني منهم : ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر :﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ ﴾ أي نقصه عليك، ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك، كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم، حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها، يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها. وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال : إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيّهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام، بأنه سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير، قال الله تعالى :﴿ إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له كن فيكون، وهذا تفسير قوله :﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه، ﴿ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ أي يكون هذا مشهوراً في الدنيا يعرفه المؤمنون بذلك، وسمي المسيح - قال بعض السلف - : لكثرة سياحته، وقيل : لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل : لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برىء بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ نسبة إلى أمه حيث لا أب له، ﴿ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين ﴾ أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه :﴿ وَمِنَ الصالحين ﴾ أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح. وقال ابن ابي حاتم : عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« لم يتكلم في المهد إلا ثلاث، عيسى وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر » فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزّ وجلّ، قالت في مناجاتها :﴿ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ ؟ تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً حاشا لله! فقال لها الملك عن الله عزّ وجلّ في جواب ذلك السؤال ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمرُ الله عظيم لا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي فلا يتأخر شيئاً، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : و ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.
وقوله تعالى :﴿ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ نسبة إلى أمه حيث لا أب له، ﴿ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين ﴾ أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه :﴿ وَمِنَ الصالحين ﴾ أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح. وقال ابن ابي حاتم : عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« لم يتكلم في المهد إلا ثلاث، عيسى وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر » فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزّ وجلّ، قالت في مناجاتها :﴿ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ ؟ تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً حاشا لله! فقال لها الملك عن الله عزّ وجلّ في جواب ذلك السؤال ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمرُ الله عظيم لا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي فلا يتأخر شيئاً، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : و ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام : إن الله يعلِّمه الكتاب والحكمة، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة، والتوراة والإنجيل. فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليهما السلام؛ وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا. وقوله :﴿ وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ ﴾ قائلاً لهم :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله ﴾ وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عزّ وجلّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، ﴿ وَأُبْرِىءُ الأكمه ﴾، قيل : الأعشى، وقيل : الأعمش، وقيل : هو الذي يولد أعمى، وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي ﴿ والأبرص ﴾ معروف، ﴿ وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله ﴾. قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه اسلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحَّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار، انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل أحد إليه أن أن يكون مؤيداً من الذي شرَّع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعثِ من هو في قبره رهينٌ إلى يوم التناد؟ وكذلك محمد ﷺ بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عزّ وجلّ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وما ذاك إلا أن كلام الرب عزّ وجلّ لا يشبه كلام الخلق أبداً.
وقوله تعالى :﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغد، ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ أي في ذلك كله، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ أي على صدقي فيما جئتكم به، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ﴾ أي مقرراً لها ومثبتاً، ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ [ الزخرف : ٦٣ ] والله أعلم. ثم قال :﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغد، ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ أي في ذلك كله، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ أي على صدقي فيما جئتكم به، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ﴾ أي مقرراً لها ومثبتاً، ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ [ الزخرف : ٦٣ ] والله أعلم. ثم قال :﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
يقول تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى ﴾ أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال، قال :﴿ مَنْ أنصاري إِلَى الله ﴾ ؟ قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله، وقال سفيان الثوري : أي من أنصاري مع الله، وقول مجاهد أقرب، والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله، كما كان النبي ﷺ يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر :« من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي » حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى بن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم :﴿ قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾، الحواريون قيل : كانوا قصّارين، وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل : صيادين، والصحيح أن الحواري : الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي ﷺ :« لكل نبي حواريّ، وحواريّ الزبير ».
عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ قال : مع أمة محمد ﷺ، وهذا إسناد جيد، ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام، وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان - وكان كافراً - أن هنا رجلاً يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك، مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك بعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به تجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل ﴿ عيسى ﴾ فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾.
عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ قال : مع أمة محمد ﷺ، وهذا إسناد جيد، ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام، وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان - وكان كافراً - أن هنا رجلاً يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك، مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك بعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به تجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل ﴿ عيسى ﴾ فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾.
اختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾، فقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إليّ ومتوفيك، يعني بعد ذلك. وقال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك، وقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه، قال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية وقال تعالى :﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] الآية، وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم :« الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا » الحديث. وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه. وقوله تعالى :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي برفعي إياك إلى السماء، ﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾، وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء، تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا : هو الله، وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة.
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له :( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل : جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ). إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه طائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له :( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل : جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ). إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه طائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :
355
﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية. فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤهم إلى الروم فلجأوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة.
وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق ﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، ﴿ وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات ﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم ﴾ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك، ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم :﴿ ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ الآية : ٣٤-٣٥ ] وهاهنا قال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ... ﴾.
وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق ﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، ﴿ وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات ﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم ﴾ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك، ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم :﴿ ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ الآية : ٣٤-٣٥ ] وهاهنا قال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ... ﴾.
356
يقول جلّ وعلا :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله ﴾ في قدرة الله حيث خلقه من غير أب ﴿ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل ﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البُنُوَّة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ [ الآية : ٢١ ]، وقال هاهنا :﴿ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين ﴾ أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال! ثم قال تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان :﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾ أي نحضرهم في حال المباهلة ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ أي نلتعن ﴿ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين ﴾ أي منا ومنكم. يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم. قال ابن إسحاق في سيرته : وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى من نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من رآهم من أصحاب النبي ﷺ ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :« دعوهم »، فصلوا إلى المشرق. قال : فكلّم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم - يقولون : هو الله، ويقولون : هو ولد الله، ويقولون : هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله.
357
وليجعله الله آية للناس، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ :« أسلما »، قال : قد أسلمنا. قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى، قد أسلمنا قبلك، قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا : يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله ﷺ :« ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين »، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ :« أسلما »، قال : قد أسلمنا. قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى، قد أسلمنا قبلك، قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا : يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله ﷺ :« ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين »، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »
358
، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه.
وقال البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال :« جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال :» لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين « فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال :» قم يا أبا عبيدة بن الجراح «، فلما قام قال رسول الله ﷺ :» هذا أمين هذه الأمة « وفي الحديث عن ابن عباس » قال قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته. قال فقال :« لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً » «.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله ﷺ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. وقال أبو بكر بن مردويه، عن جابر :» قدم على النبي ﷺ العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال : فغدا رسول الله ﷺ فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال : فقال رسول الله ﷺ :« والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً » قال جابر : وفيهم نزلت :﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، ﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم * فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي عن هذا إلى غيره، ﴿ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين ﴾ أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده، ونعوذ به من حلول نقمته.
وقال البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال :« جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال :» لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين « فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال :» قم يا أبا عبيدة بن الجراح «، فلما قام قال رسول الله ﷺ :» هذا أمين هذه الأمة « وفي الحديث عن ابن عباس » قال قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته. قال فقال :« لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً » «.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله ﷺ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. وقال أبو بكر بن مردويه، عن جابر :» قدم على النبي ﷺ العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال : فغدا رسول الله ﷺ فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال : فقال رسول الله ﷺ :« والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً » قال جابر : وفيهم نزلت :﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، ﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم * فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي عن هذا إلى غيره، ﴿ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين ﴾ أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده، ونعوذ به من حلول نقمته.
359
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، ﴿ قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ ﴾، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله :﴿ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله :﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل. قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، وقال عكرمة : يسجد بعضنا لبعض، ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، فسأله عن نسب رسول الله ﷺ وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، ثم جيء بكتاب رسول الله ﷺ فقرأه فإذا فيه :
« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و ﴿ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ».
« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و ﴿ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ».
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم، أنه كان منهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنه : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى ﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية. أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ ولهذا قال تعالى :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟ ثم قال تعالى :﴿ هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ؟ هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد ﷺ لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلىعالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ﴾ أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ﴾ [ الآية : ١٣٥ ] الآية ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾، يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ﴿ وهذا النبي ﴾ يعني محمداً ﷺ والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم - أبي وخليل ربي عزّ وجلّ - ابراهيم عليه السلام »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ أي ولي جميع المؤمنين برسله.
ثم قال تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ﴾ أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ﴾ [ الآية : ١٣٥ ] الآية ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾، يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ﴿ وهذا النبي ﴾ يعني محمداً ﷺ والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم - أبي وخليل ربي عزّ وجلّ - ابراهيم عليه السلام »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ أي ولي جميع المؤمنين برسله.
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم، ثم قال تعالى منكراً عليهم :﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها، ﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد ﷺ وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه، ﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ ﴾ الآية. هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم، ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا :﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾. قال مجاهد : يعني يهوداً صلت مع النبي ﷺ صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكراً منهم، ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه، وقال ابن عباس : قالت : طائفة من أهل الكتاب إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله ﷺ من الآيات البينات، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساوونكم فيه، يمتازون به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع، يمنُّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة البالغة ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يُوصف، بما شرف به نبيكم محمداً ﷺ على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله ﷺ من الآيات البينات، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساوونكم فيه، يمتازون به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع، يمنُّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة البالغة ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يُوصف، بما شرف به نبيكم محمداً ﷺ على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم ﴿ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ أي من المال ﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ﴾ أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار، فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك. وقوله ﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾ أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأمين ( وهم العرب ) فإن الله قد أحلها لنا، قال الله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوها بهذه الضلالة، فإن الله حرّم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بُهت. عن أبي صعصعة بن يزيد أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس، قال : هذا كما قال أهل الكتاب :﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. وعن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبي الله ﷺ :« كذب أعداء الله؛ ما من شيء كان في الجاهلية إلى وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ». ثم قال تعالى :﴿ بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ﴾ أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب. اتقى محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
يقول تعالى : إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه، من اتباع محمد ﷺ وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة، بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، ﴿ أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة ﴾ أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها، ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة ﴾ أي برحمة منه لهم، يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة، ﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ أي من الذنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر.
الحديث الأول : عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم « قلت : يا رسول الله من هم؟ خسروا وخابوا، قال : وأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال :» المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان « ».
الحديث الثاني : عن عدي بن عميرة الكِندي قال :« خاصم رجل من كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رجلاً من حضرموت إلى رسول الله ﷺ في أرض، فقضى على الحضرمي بالبيّنة فلم يكن له بيّنة، فقضى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي، فقال النبي ﷺ :» من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان «، وتلا رسول الله ﷺ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال :» الجنة « قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ».
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ :« من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان »، قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال : كان في هذا الحديث، « خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله ﷺ في بئر كانت لي في يده فجحدني، فقال رسول الله ﷺ :» بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه «، قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله ﷺ :» من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان «، قال : وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ »
الحديث الأول : عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم « قلت : يا رسول الله من هم؟ خسروا وخابوا، قال : وأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال :» المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان « ».
الحديث الثاني : عن عدي بن عميرة الكِندي قال :« خاصم رجل من كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رجلاً من حضرموت إلى رسول الله ﷺ في أرض، فقضى على الحضرمي بالبيّنة فلم يكن له بيّنة، فقضى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي، فقال النبي ﷺ :» من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان «، وتلا رسول الله ﷺ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال :» الجنة « قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ».
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ :« من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان »، قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال : كان في هذا الحديث، « خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله ﷺ في بئر كانت لي في يده فجحدني، فقال رسول الله ﷺ :» بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه «، قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله ﷺ :» من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان «، قال : وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ »
364
الآية.
الحديث الرابع : قال أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :« » إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم «، قيل :» ومن أولئك يا رسول الله؟ قال :« متبرىء من والديه راغب عنهما، ومتبرىء من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم » «.
الحديث الخامس : عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الآية.
الحديث السادس : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة - بعد العصر - يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له «.
الحديث الرابع : قال أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :« » إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم «، قيل :» ومن أولئك يا رسول الله؟ قال :« متبرىء من والديه راغب عنهما، ومتبرىء من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم » «.
الحديث الخامس : عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الآية.
الحديث السادس : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة - بعد العصر - يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له «.
365
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، قال مجاهد والحسن :﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب ﴾ يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله.
عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من ( اليهود والنصارى ) من أهل نجران عند رسول الله ﷺ ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله ﷺ :« معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني »، أو كما قال ﷺ، فأنزل الله في ذلك من قولهما :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله - { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى. لهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] الآية. وفي المسند أن عدي بن حاتم قال :« يا رسول الله، ما عبدوهم، قال :» بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم «، فالجهلة من الأحبار والرهبان، ومشايخ الضلال، يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين.
فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه، في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله تعالى :﴿ ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ أي ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين، قال ابن عباس : أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن : فقهاء، وعن الحسن أيضاً : يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، تَعْلمون : أي تفهمون معناه، وقرىء تعلّمون بالتشديد من التعليم، ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً ﴾ أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ﴿ أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ ؟ أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] وقال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ وقال إخباراً عن الملائكة :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ].
فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه، في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله تعالى :﴿ ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ أي ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين، قال ابن عباس : أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن : فقهاء، وعن الحسن أيضاً : يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، تَعْلمون : أي تفهمون معناه، وقرىء تعلّمون بالتشديد من التعليم، ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً ﴾ أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ﴿ أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ ؟ أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] وقال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ وقال إخباراً عن الملائكة :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ].
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلىعيسى عليه السلام، مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته، ولهذا قال تعالى وتقدس :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ أي لَمَهْمَا أعطيتكم من كتاب وحكمة، ﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي ﴾، قال ابن عباس ومجاهد : يعني عهدي، وقال محمد بن إسحاق ﴿ إِصْرِي ﴾ أي ميثاقي الشديد المؤكد، ﴿ قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين * فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك ﴾ أي عن هذا العهد والميثاق ﴿ فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقال الحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه، وقد قال الإمام أحمد : جاء عمر إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله ﷺ، قال عبد الله بن ثابت قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله ﷺ ! فقال عمر : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، قال : فسُرّي عن النبي ﷺ، وقال :« والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ».
حديث آخر : وعن جابر قال رسول الله ﷺ :« لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بح، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني » وفي بعض الأحاديث :« لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي » فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الربّ جلّ جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاّ له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به، صلوات الله وسلامه عليه.
حديث آخر : وعن جابر قال رسول الله ﷺ :« لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بح، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني » وفي بعض الأحاديث :« لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي » فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الربّ جلّ جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاّ له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به، صلوات الله وسلامه عليه.
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله، الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً كما قال تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ [ الرعد : ١٥ ]. وقال تعالى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٩-٥٠ ] فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع، وقد قال وكيع في تفسيره عن مجاهد :﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ قال : هو كقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ]، ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله.
ثم قال تعالى :﴿ قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ أي من الصحف والوحي، ﴿ والأسباط ﴾ وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر، ﴿ وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى ﴾ يعني بذلك التوراة والإنجيل، ﴿ والنبيون مِن رَّبِّهِمْ ﴾ وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني بل نؤمن بجميعهم، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ الآية. أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، ﴿ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ».
ثم قال تعالى :﴿ قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ أي من الصحف والوحي، ﴿ والأسباط ﴾ وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر، ﴿ وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى ﴾ يعني بذلك التوراة والإنجيل، ﴿ والنبيون مِن رَّبِّهِمْ ﴾ وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني بل نؤمن بجميعهم، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ الآية. أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، ﴿ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ».
قال ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلو رسول الله ﷺ هل لي من توبة؟ فنزلت :﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - إلى قوله - فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، فأرسل إليه قومه فأسلم. ﴿ وَجَآءَهُمُ البينات ﴾ أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به من العماية؟ ولهذا قال تعالى :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾. ثم قال تعالى :﴿ أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي في اللعنة، ﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة، ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه، أن من تاب إليه تاب عليه.
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لم كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفراً أي استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات، كما قال تعالى :﴿ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت ﴾ [ النساء : ١٨ ] الآية. ولهذا قال هاهنا :﴿ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون ﴾ أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي، قال الحافظ أبو بكر البزار عن عكرمة عن ابن عباس : أن قوماً أسلموا ثمَّ ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾، أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبداً، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي ﷺ عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال :« لا! إنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »، وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ]، وقال :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. عن أنس بن مالك، أن النبي ﷺ قال :« يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول : نعم، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك ».
طريق آخر : وقال الإمام أحمد، عن أنس قال قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل، فيقول : سل وتمن، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول : أي رب نعم، فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وايسر فلم تفعل فيرد إلى النار »، ولهذا قال :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾، أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبداً، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي ﷺ عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال :« لا! إنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »، وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ]، وقال :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. عن أنس بن مالك، أن النبي ﷺ قال :« يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول : نعم، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك ».
طريق آخر : وقال الإمام أحمد، عن أنس قال قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل، فيقول : سل وتمن، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول : أي رب نعم، فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وايسر فلم تفعل فيرد إلى النار »، ولهذا قال :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون ﴿ لَن تَنَالُواْ البر ﴾ قال : الجنة، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه ( بير حاء ) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب. قال أنَس : فلما نزلت :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحب أموالي إليّ ( بير حاء )، وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي ﷺ :« بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين »، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي الصحيحين أن عمر قال :« يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال :» احبِسْ الأصل، وأسبِلْ الثمرة « ».
قال ابن عباس : حضرَتْ عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقالوا : حدثنا عن خلالٍ نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال :« سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام »، قالوا : فذلك لك، قالوا : أخبرنا عن أربع خلال، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه. فقال :« أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها »؟ فقالوا : اللهم نعم : فقال :« اللهم اشهد عليهم »، وقال :« أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله » قالوا : نعم. قال :« اللهم اشهد عليهم »، وقال :« وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ » قالوا : اللهم نعم، قال :« اللهم اشهد ». قال :« وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه »، قالوا : فعند ذلك نفارقك ولو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] الآية.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عَرْقاً، ولا يأكل ولد ما له عَرْق، فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناباً به واقتداء بطريقه، وقوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ﴾ أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فإنها ناطقة بما قلناه، ﴿ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بالبراهين والحجج، بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ صَدَقَ الله ﴾ أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن، ﴿ فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد ﷺ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم، كما قال تعالى :
وقال ابن جريج، عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عَرْقاً، ولا يأكل ولد ما له عَرْق، فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناباً به واقتداء بطريقه، وقوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ﴾ أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فإنها ناطقة بما قلناه، ﴿ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بالبراهين والحجج، بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ صَدَقَ الله ﴾ أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن، ﴿ فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد ﷺ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم، كما قال تعالى :
373
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٣ ].
374
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس، لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده ﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه، ومنهجه، ويحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله، ولهذا قال تعالى :﴿ مُبَارَكاً ﴾ أي وضع مباركاً ﴿ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾. عن أبي ذر رضي الله عنه قال :« قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال :» المسجد الحرام «، قلت : ثم أيّ؟ قال :» المسجد الأقصى «، قلت : كم بينهما؟ قال :» أربعون سنة « قلت : ثم أي؟ قال :» ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد « وعن علي رضي عنه في قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ﴾، قال : كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض، مطلقاً، والصحيح قول علي رضي الله عنه.
وقوله تعالى :﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعاً، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد، وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة، وقال مقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة ( مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والحاطمة، والرأس، والبلدة، والبنية، والكعبة ).
وقوله تعالى :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه، ثم قال تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة، وقال ابن عباس في قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي فمنهم مقام إبراهيم والمشاعر، وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وقوله تعالى :﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعاً، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد، وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة، وقال مقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة ( مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والحاطمة، والرأس، والبلدة، والبنية، والكعبة ).
وقوله تعالى :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه، ثم قال تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة، وقال ابن عباس في قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي فمنهم مقام إبراهيم والمشاعر، وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :